16

تعرف الجمع على كلود وأشركوه في الحديث معهم عن المباراة. ولما ذهب الضيوف، قدم يوليوس إخوته إليه. اعتقد كلود أن جميعهم فتيان لطفاء، وأنهم مؤدبون ومرحون. كان الثلاثة الكبار يعملون، ولكنهم أيضا ذهبوا إلى المباراة التي أقيمت بعد ظهر ذلك اليوم. لم يسبق لكلود أن قابل إخوة يتحدثون هكذا بصراحة وانفتاح شديدين بعضهم مع بعض. لقد وجدهم ودودين جدا؛ تقدم إليه الأخ المضطجع كي يصافحه، وحافظ على المكان الذي توقف عنده في الكتاب بإصبعه.

كان يوجد على طاولة في منتصف الغرفة غلايين وصناديق تبغ، وسيجار في جرة زجاجية، ووعاء صيني كبير ممتلئ بالسجائر. بدا هذا الأمر هو الأبرز بالنسبة إلى كلود؛ لأنه في منزله كان يضطر إلى التدخين في حظيرة الأبقار. أذهله عدد الكتب تقريبا بالقدر نفسه؛ فجميع المنجورات في الغرفة كانت مصممة بحيث تكون أرفف كتب مفتوحة، وكانت ممتلئة بالمجلدات الكبيرة والصغيرة، التي بدت جميعها مثيرة للاهتمام ومستخدمة بكثرة. كان أحد الإخوة في حفل الليلة الماضية، ولما عاد إلى المنزل وضع ربطة عنقه حول رقبة تمثال صغير من الجص للشاعر بايرون الذي كان يقبع على رف الموقد. لم ينجذب انتباه كلود إلى شيء في الغرفة أكثر من ذلك الرأس، وربطة العنق تلك الموضوعة على نحو جذاب، ولسبب ما جعلاه على الفور يتمنى لو كان يعيش هناك.

أحضر يوليوس والدته، وعندما ذهبوا لتناول العشاء أجلس كلود بجانبها على أحد طرفي الطاولة الطويلة. بدت السيدة إرليش صغيرة السن جدا على أن تكون على رأس تلك العائلة. لم يفقد شعرها البني لونه، وكان ينساب على أذنيها ويلتف في ضفيرتين صغيرتين مثل السيدات التي تظهر في الصور الداجيرية القديمة. وجهها كذلك كان يوحي بأنها سيدة من عصر تلك الصور؛ إذ كان به شيء غريب وعتيق الطراز. بشرتها كانت بيضاء ناعمة مثل الزهور البيضاء التي بللها المطر. كانت تتحدث بإيماءات سريعة، وكانت إيماءتها البسيطة المقصودة غريبة وغير مفهوم كنهها. كانت تنظر بترقب بعينيها ذات اللون البندقي من فوق النظارة المستقرة على أنفها، وتراقب دائما الأمور حتى تتأكد من سيرها على نحو جيد، وتبحث دائما عن جنية ألمانية طيبة في الخزانة أو وعاء الكعك، أو في البخار الصاعد في يوم الغسيل.

كان الأولاد يناقشون أمر خطبة أعلن عنها للتو، وبدأت السيدة إرليش تحكي لكلود قصة طويلة عن الطريقة التي أتى بها ذلك الشاب الألمعي إلى لينكن وقابل تلك الفتاة الجميلة التي كانت مخطوبة بالفعل لشاب متبلد المشاعر وتقليدي، وكيف فسخت الفتاة خطبتها من الرجل الخطأ بعد عديد من الخلافات الشديدة، وخطبت إلى الرجل المناسب، وباتت السعادة تغمرهما الآن، وطلبت من كلود أن يصدقها في أن الجميع كانوا سعداء بالقدر نفسه! في منتصف القصة، ذكرها يوليوس مبتسما أنه ما دام كلود لا يعرف هذين الشخصين، فلا يرجى اهتمامه بقصتهما الرومانسية، ولكنها نظرت إليه من فوق نظارتها الأنفية، وقالت: «هكذا إذن، يا سيد يوليوس!» لا ريب أنها كانت ندا لهم.

أخذ الحوار ينتقل من موضوع إلى آخر. وبدأ النقاش يحتد بين الأولاد حول فتاة جديدة كانت تزور المدينة؛ هل هي جميلة، وما مقدار جمالها، وهل هي ساذجة؟ رأى كلود الحديث وكأنه مشهد في مسرحية. إذ لم يسبق له من قبل أن سمع إنسانا يتم تناوله وتحليله بتلك الطريقة. لم يسبق أن سمع حوارا عائليا بهذا القدر، أو بهذا القدر من الحماسة. هنا اختفى كل التحفظ البغيض الذي دائما ما كان يكتنفه في التجمعات العائلية، ولم يكن هناك حرج من أن يجلس أفراد العائلة واضعين أيديهم في حجرهم، وينظر بعضهم إلى بعض، ولا يحاول أي منهم أن يخفي مكنونات قلبه، سواء من سر أو شك، مع السعي إلى الانتقال إلى موضوع لا يثير البلبلة. ذهل أيضا من وفرة الكلام؛ فكيف لأناس أن يجدوا هذا الكم من الكلام عن فتاة واحدة؟ لا ريب أن قدرا كبيرا منه بدا بعيد الاحتمال بالنسبة إليه، ولكنه اعترف آسفا أنه ليس حكما في تلك المسائل. ولما عادوا إلى غرفة المعيشة، بدأ يوليوس في العزف على الجيتار، وبدأ أخوه الملتحي في القراءة. ولما رأى أوتو - الأخ الأصغر - مجموعة من الطلاب يمرون من جانب المنزل، هرع إلى الحديقة ونادى عليهم كي يدخلوا؛ كانوا فتيين وفتاة متوردة الخدين ترتدي شالا من الفرو. عمد كلود إلى زاوية، وكان سعيدا بشدة بأن يكون في موقف المشاهد، ولكن سرعان ما أتت السيدة إرليش وجلست بجانبه. ولما فتحت الأبواب المؤدية إلى الصالة، لاحظت أن عينيه كانت تشردان إلى صورة منقوشة معلقة أعلى البيانو لنابليون، ودفعته إلى الذهاب عندها والنظر إليها. أخبرته أنها صورة منقوشة نادرة، وأرته بورتريه لجدها الأكبر الذي كان ضابطا في جيش نابليون. أما عن قصة كيفية الحصول على هذه الصورة، فيطول شرحها.

بينما كانت تتحدث السيدة إرليش إلى كلود، اكتشفت أن عينيه ليستا شاحبتين في حقيقة الأمر، ولكنهما كانتا تبدوان كذلك بسبب رموشه ذات اللون الفاتح. كان بإمكانهما قول الكثير عندما كانتا تنظران مباشرة إلى عينيها، وهي أحبت ما كانتا تقولانه. وسرعان ما اكتشفت تعاسته؛ مدى كرهه لكلية تمبل، ولماذا رغبت والدته في أن يلتحق بها.

لما غادر الطلاب الثلاثة الذين دعوا إلى الدخول وهم يمرون من جانب المنزل، نهض كلود هو الآخر. من الواضح أنهم كانوا معتادين على ارتياد المنزل، وخروجهم غير المكترث وأسلوبهم المرح لما قالوا «ليلة سعيدة على الجميع!» لم يعطياه أي اقتراحات عملية بشأن ما ينبغي له قوله الآن أو الطريقة المثلى للخروج. يوليوس صعب الأمور أكثر لما طلب منه أن يجلس لأنه لم يحن وقت الذهاب بعد. ولكن السيدة إرليش أخبرته أن هذا الوقت قد حان لأن المسافة إلى كلية تمبل بعيدة.

كان الأمر في الواقع غاية في البساطة. مشت معه إلى الباب، وأعطته قبعته وربتت على ذراعه على نحو مودع. وقالت: «ستأتي كثيرا لزيارتنا. وسنصبح أصدقاء.» اقتربت جبهتها التي تنسدل عليها خصلات شعرها البني المنمق من أسفل ذقن كلود، وحدقت فيه وفي عينيها هذا التعبير الغريب المفعم بالأمل، وكأن ... وكأنه قد يحقق نجاحا في حياته! بالتأكيد، لا أحد رمقه بنظرة كتلك من قبل.

تمتم إليها من دون حرج تماما: «كانت أمسية جميلة»، وفي سعادة لف مقبض الباب الزجاجي وخرج منه.

بينما كان قطار الشحن يمشي متباطئا في الريف ذي الجو الشتوي، مخلفا وراءه خطا أسود معلقا في الهواء الساكن، استرجع كلود تلك التجربة بكل ما فيها، وكأنه كان يخشى أن ينسى شيئا منها عندما يصل إلى منزله. كان بإمكانه أن يتذكر بدقة كيف عاملته السيدة إرليش والأولاد في تلك الليلة الأولى، وأن يكرر تقريبا كل كلمة وردت في الحوار الذي كان يعد جديدا للغاية بالنسبة إليه. ظن حينها أن آل إرليش أثرياء، ولكنه اكتشف بعد ذلك أنهم فقراء. لقد توفي الأب، واضطر كل الأولاد إلى العمل، حتى الذين لا يزالون في المدرسة. اكتشف أنهم كانوا يعرفون كيف يكسبون عيشهم، وأنهم كانوا ينفقون أموالهم على أنفسهم بدلا من الآلات التي تنجز الأعمال والآلات التي تروح عن الناس. كان يرى كلود أن الآلات لا تستطيع أن تصنع السعادة مهما كانت الأمور التي كانت تنجزها. كما أنها لا تستطيع خلق أناس لطفاء. وبحسب ما كان يرى، فإن الأمر الأخير يتحقق من خلال الممارسة الحصيفة تقريبا لكل شيء تعلم أن يتجنب الخوض فيه.

Неизвестная страница