Оазисы жизни: автобиография: часть первая
واحات العمر: سيرة ذاتية: الجزء الأول
Жанры
وذات يوم، وكانت الساعة قد قاربت العاشرة في صبيحة أحد أيام يونيو عام 1959م، وصل عمرو برادة يقود سيارة الأسرة (فورد 56)، وطلب مني الخروج معه على عجل. وارتبت في الأمر ولكنني خرجت معه حتى انتهت بنا السيارة إلى شارع الشريفين حيث مقر الإذاعة، وقال لي هذا هو مقر الامتحان .. ادخل! واتضح أن الإذاعة كانت أعلنت عن مسابقة في الترجمة والتحرير للمذيعين الجدد، ولم يكن أحد قد اهتم بها (بل لم نسمع عنها)؛ لأن الحصول على مؤهل جامعي شرط من شروط التقدم للامتحان. وعندما لمح عمرو ترددي قال لي بثقة إنه اتفق مع رمسيس عبد الباري (رحمه الله) أن يسمح لي بالدخول. وفعلا أديت الامتحان، مع أنني وصلت متأخرا، وعندما سلمت الورقة وهممت بالرحيل استوقفني رمسيس وقال: «عناني! استنى!» وخفت أن تكون الحيلة قد انكشفت فترددت، ولكن صوته كان حاسما، فعدت إليه فاصطحبني إلى الدور الثاني حيث مكتب الأخبار، وتهامس مع إسحق حنا رئيس المكتب، ثم أومأ إلي أن تعال. وتركني مع إسحاق وخرج. وقال لي إسحاق بلهجة ضاحكة: سوف نستعيرك من قسم الأخبار الأجنبية مؤقتا بسبب حاجتنا الشديدة إلى من يعرف العربية! اتفضل! وجلست إلى مكتب في زاوية القاعة، ووضع إسحاق أمامي بعض البرقيات التي حملتها وكالات الأنباء العالمية، فانتهيت من ترجمتها على الفور وأعدتها له، فقرأ الخبر الأول وألقاه جانبا بعد أن شطب عليه بخط مائل، ثم قرأ الثاني وصاح غاضبا «تقارير إيه؟ الأنباء يا أستاذ! والا حتعمل زي ميلاد؟» وأدركت أنه يصحح خطأ كاد أن يشيع في ترجمة (
reports ) بتقارير بدلا من أنباء، وكان محقا، فالفعل معناه «يبلغ» أو «يخبر»؛ ومن ثم فالاسم لا بد أن يكون «الأخبار» أو «الأنباء»، ولكن الإشارة إلى ميلاد حيرتني!
وسرعان ما تعرفت بالقدماء في غرفة الأخبار العربية، مثل سعيد عثمان الذي انتقل إلى صحيفة المساء فيما بعد، وميلاد بسادة، وسنية ماهر، وحسين الحوت، وحنا إلياس. أما «ميلاد» فكان أصلا من قسم الأخبار الأجنبية ولكن نقص الموظفين استدعى استعارته، وكانت له بعض «اللوازم» التي أصبحت علما عليه. وكان يقدم في البرنامج الأوروبي برنامجا من الأغاني الأجنبية اسمه «جامبوري» ويشكو لي أنه على شهرته لا يحس بآثار هذه الشهرة، فلا يعرف أحد شكله ولا يحظى بإعجاب الفتيات كما ينبغي! وقد هاجر من مصر فيما بعد وأصبح مخرجا سينمائيا عالميا. أما حسين الحوت فكان الكهل المخضرم، وكان مسئولا عن مراجعة جميع الترجمات ، وكان سعيد عثمان يتمتع بثقة كبيرة في نفسه، لطيف المعشر، وهمس لي أحدهم أنه زوج آمال مكاوي أخت سعد لبيب - وهو من هو! أما حنا إلياس فكان دائم التفاخر بأنه يترجم كتاب «المأساة الشيكسبيرية» من تأليف أ. س. برادلي ، وأن الذي يتولى المراجعة أعظم أستاذ متخصص - الدكتورة سهير القلماوي! ولم تكن سنية ماهر تتكلم كثيرا ولكنها كانت دائما تشير إلى الرقابة على المصنفات الفنية، وهمس لي الهامس بأنها زوجة مصطفى درويش رجل الرقابة المرموق، وإن كانت اعتدال ممتاز هي الرقيبة التي يظهر اسمها في السينما؛ لأنها - همس الهامس - زوجة «أحمد» رشدي صالح!
وفي الأيام التالية أعلنت نتيجة المسابقة، وكان من بين الناجحين سمير صبري، خريج الإسكندرية، وعبد الفتاح العدوي، خريج القاهرة، الذي كان يقيم في شارعنا ويتفاخر محقا بتمكنه من اللغة العربية. ولكن رئيس قسم الأخبار الأجنبية محمد إسماعيل محمد، المتخصص في اللغة الإيطالية والذي كان يعاني من حدب في ظهره أصر على استدعائي من القسم العربي، إلى جانب سمير صبري؛ فالقسم في حاجة ماسة «إليهما»! وانتقلت في أوائل يوليو إلى القسم الأجنبي، فتعرفت على أليك (أي إسكندر) مجلي صاحب برنامج ما يطلبه المستمعون من الأغاني الغربية، وسليم رزق الله، المترجم الخاص لرئاسة الجمهورية، وقريصاتي، المترجم إلى اللغة الفرنسية، وزميله ماريو الذي تخصص في النشرات الإيطالية، وأميمة عبد الفتاح (الفرنسية). وتوثقت صداقتي مع شخص يدعى نابليون طنوس جاء باختراع عجيب إلى دار الإذاعة، وهو راديو «محمول» يسمى ترانزستور! وكان نابليون يترجم العمود اليومي من الأهرام (وكان اسمه رأي للأهرام، ثم أصبح رأي الأهرام)؛ مما كان يقتضي منه أن يحضر في الفجر كي ينسخه على الآلة الكاتبة ويوزعه على أقسام اللغات الأجنبية الأخرى، وكان يتقاضى عن كل «عمود» جنيهين اثنين، لكنه كان قد مل العمل المبكر، وأصبح يعمل في وكالات الأنباء الأجنبية بأجر أكبر (أضعاف أضعاف هذا المبلغ)؛ ومن ثم دربني على ترجمة «العمود»، وزكاني لدى محمد إسماعيل محمد، فإذا به ينفجر قائلا: «انتو بتشتغلوا من ورايا؟ اسمع يا عناني! أنا موش ملتزم بأي شيء لك! وأنت كنت عايز تعمل العمود حتاخد تلت الأجر؛ لأنك موظف هنا! عايز تاخد الفية كلها استقيل!»
ويبدو أنه أدرك، رحمه الله، أنه أخطأ في حقي، أو ربما أراد التحقق وحسب من موقفي القانوني، فأرسل إلى قسم العقود بالشئون القانونية يستفتيهم، فإذا بهم يقولون إنهم لا يعرفون شيئا عني! ولذلك وجدته في اليوم التالي يسألني إن كنت قد استكملت مسوغات التعيين! فلما أنكرت صاح قائلا: «أمال بتشتغل بصفة إيه؟ روح كمل مسوغاتك وتعال!» لم تكن نتيجة الليسانس قد أعلنت، فعدت حزينا كاسف البال إلى الجامعة وأنا أعجب كيف ضاعت هذه الفرصة الثمينة، وطفقت أسأل عن موعد النتيجة، فأخبروني أنها على وشك الظهور، فذهبت إلى مبنى الكلية الرئيسي أتشمم الأخبار، فقابلت الدكتور شكري عياد على السلم، ودعاني إلى غرفة أساتذة قسم اللغة العربية وقال لي دون مقدمات: اتصل بالدكتور عبد الحميد يونس لأنه يريد من يساعده في ترجمة شيء ما، واتصل بسامي داود في صحيفة الجمهورية. فلك لديه عمل. ولاح الأمل من جديد!
اتصلت بالدكتور يونس فقال لي إنه مكلف من قبل جامعة الدول العربية، بترجمة مسرحية «طرويلوس وكريسيدا» لشيكسبير بعد أن رفضت لجنة المراجعة ترجمة أخرى كان طه حسين قد كلف بها عراقيا لا يلم الإلمام الكافي باللغة الإنجليزية. وقال إنه لن يعطيني راتبا بل 10 في المائة من «الأرباح»، ولما كانت «الأرباح» (أي أجر الترجمة) في حدود مائتي جنيه، رأيت أن النسبة معقولة، وبدأنا العمل. وعندما ذهبت إلى سامي داود سألني عن تخصصي فقلت له الأدب، فأحالني إلى رشدي صالح الذي كان يحرر بابا أسبوعيا عن أخبار الأدب. وكلفني رشدي صالح بجمع «الأخبار» الأدبية، ولكنني عندما جمعت الأخبار وجدت صحفية أخرى اسمها زينب حسين، ذات ملامح آسيوية، تسيطر تماما على ذلك الباب، وتأتي بكل ما يثير شهية القارئ؛ إذ أجرت تحقيقا صحفيا مع الشاعر السوري عمر أبو ريشة، هاجم فيه المدرسة الجديدة هجوما شديدا، وكان أحق بالنشر من أي أخبار!
لم أذهب إلى الإذاعة يومين متتاليين ، لا لأنني كنت غاضبا بل لأنني كنت حزينا، وفي مساء اليوم الثاني من انقطاعي وجدت رسالة تليفونية من نابليون طنوس يستنجد فيها بي، وترك رقم تليفونه فاتصلت به وقال لي إن إسحاق حنا ينتظرك غدا في العاشرة صباحا؛ لأن جمال عبد الناصر في سوريا وهو لا يتوقف عن إلقاء الخطب بمناسبة عيد ثورة يوليو، ولا يوجد العدد الكافي من المترجمين «إلى الإنجليزية» لديه. وذهبت إلى إسحاق في اليوم الثالث، ولاقاني بنكاته وقفشاته، بالإنجليزية والعربية مثل «يومين في السكة؟ انت جاي من «رشيد» مشي؟» دون أن يفتح موضوع «الزعل»! وكان معه زميله في رئاسة التحرير إبراهيم وهبى، فتولى الأخير مفاتحتي في أن أعمل معهم في القسم العربي حتى يتم التعيين، وقال إنه سوف يكون بتاريخ سابق، يحفظ لي أقدميتي. ولم أعقب. وقد لاحظت ذلك دائما في سلوكي عند الأزمات. إذ إن الصمت أبلغ من الحديث. وبدأت العمل فورا، وانتهيت في نحو الثالثة بعد الظهر من الخطاب الذي كان عبد الناصر قد ألقاه في الصباح، وكان ميلاد بسادة يراجع النص الإنجليزي صفحة صفحة، ويعطيه لعم محمد «الساعي»، الذي يحمل الصفحات ويختفي.
لم يقل أحد شيئا. وكنت أعمل «وردية» المساء في اليوم التالي، وكان البرنامج اليومي لعملي مع الدكتور يونس هو أن أقوم في الصباح «بتحضير» النص الذي سيترجمه هو بعد الظهر (معاني الكلمات «الصعبة» وشرح العبارات الشيكسبيرية الغامضة ومقارنة الطبعات المختلفة؛ لعقد المقارنات بين آراء النقاد وتفسيراتهم) ثم أذهب في الثالثة إلى فيلا يونس حيث نعمل حتى السادسة أو السابعة، ومنه إلى الإذاعة. وعندما وصلت إلى الإذاعة في مساء ذلك اليوم وجدت في انتظاري يحيى أبو بكر. كان يعمل مديرا لمكتب القائمقام عبد القادر حاتم الذي ترقى من مدير مصلحة الاستعلامات إلى مدير مكتب قائد الجناح علي صبري وزير شئون رئاسة الجمهورية. وقال لي يحيى أبو بكر إنه سمع كلاما طيبا عني، ويريدني أن أقرر إذا ما كنت سوف أستمر في الإذاعة أم أفكر في تغيير «المستقبل العملي» - أي الوظيفة! ودهشت. وتساءلت هل ساءه ما قرأ من ترجماتي فقال فورا: «بالعكس! لكنني أريدك معي!» ورد إسحاق حنا على الفور ضاحكا: «فوق!» وقال يحيى أبو بكر: «يعني في الدور الخامس!» وقلت له: إنني أريد العمل معيدا في قسم اللغة الإنجليزية إذا سنحت الفرصة، وإن كنت لن أتوقف عن الترجمة والكتابة؛ فأنا أحب الأدب حبا جما! وقال لي دون انفعال: «فكر وقل لإسحاق!»
وذات يوم وكنا في أوائل أغسطس قال لي إسحاق حنا إن الامتحان الشفوي للمذيعين (الناجحين في الامتحان التحريري) سوف يعقد يوم السبت، وهو من الشكليات التي لا بد منها، وأن الذي سيمتحن للمتقدمين لصوت العرب شخص اسمه أحمد طاهر، على ما أذكر، ولم يكتب لي أن أراه. وأما لجنة البرنامج العام ففيها وجوه مألوفة، ولم يفصح. وعقد الامتحان وكان على رأس المنضدة الدكتور مهدي علام، عميد آداب عين شمس، ومعه محمد محمد عبد القادر، رئيس الأخبار، وعبد الحميد الحديدي، نائب مدير الإذاعة، وإسحاق حنا وإبراهيم وهبى! وبمجرد جلوسي أعطيت نصا أقرؤه فقرأته دون تلعثم، محاكيا كبار المذيعين آنذاك (جلال معوض وصلاح زكي وفاروق خورشيد وأحمد فراج) فاستوقفني مهدي علام ليسألني عن معاني بعض الكلمات وتصريفها بالعربية، وعن بعض معاني الكلمات الإنجليزية، وكان طلق اللسان بالإنجليزية! فأجبته محاكيا نبرات الدكتور مجدي وهبة، ثم تلاه عبد القادر فسألني عن حائط برلين، فقلت له إن المشكلة هي أن برلين الغربية تقع داخل ألمانيا الشرقية، فأوقفني مكتفيا بنصف الإجابة، بينما كان إسحاق حنا - حتى في هذا الموقف الجاد - يميل إلى الضحك، فسألني كيف تترجم
reports ؟ وشككت في مدى جدية السؤال، فقلت له: في لغة الإعلام لها معنى وخارجها لها معنى آخر، فقال لي إبراهيم وهبى: خلاص! ونظرت إلى عبد الحميد الحديدي منتظرا سؤاله فلم يسأل، وانصرفت خارجا.
Неизвестная страница