Оазисы жизни: автобиография: часть первая
واحات العمر: سيرة ذاتية: الجزء الأول
Жанры
كانت الثورة بمثابة الحدث العام الذي يرمز إلى الحدث الخاص؛ على عكس ما تعلمته فيما بعد في النقد الأدبي! فطالما كنا في رشيد نحس كأننا بمعزل عن أحداث مصر، وكنا بالتأكيد بمنجى من الكوارث التي تصيب العاصمة، مثل وباء الكوليرا الذي لم يقرب من البلد (لبعد الشقة!) أو الحركات السياسية، ومصادمات جيش الاحتلال! كان «الكامبو» وهو معسكر الجيش الإنجليزي القديم يواجه حديقة والدي «الأرض» أيام الحرب، ولكن كل من كانوا فيه، حسبما سمعت، قد تأقلموا على الحياة الريفية التي هي أقرب إلى الحياة الصحراوية، رغم أنها «تعريفا» غير بدوية! كان الذي يشرف على «الأرض» شخصا يدعى الحاج غضبان شعير (وغضبان اسم الشهرة، فاسمه الحقيقي محمد)، وكانت كنيته «أبو سميح»، ومن هنا كانت زوجته تسمى «أم سميح» التي أبلغت والدي بنبأ أكل الذئب للبطيخ. وأذكر من أولاده «سميح» (طبعا) الذي كان فارع الطول (194سم؛ وفقا لشهادة التجنيد ) وإسماعيل الذي كان يشرب اللبن من ضرع الجاموسة مباشرة، وسلومة التي كانت تكبرني بعام، وفريحة (الكبرى) ثم «روضة» التي كانت تصغرني بعدة أعوام، ثم حسن، «هرطل»، وهو تحريف «هتلر» الاسم الذي أطلقه عليه جنود «الكامبو» الإنجليز. وكان الجميع يعيشون في «الأرض» ويتقاضون أجرا مقابل الحراسة والعمل الزراعي، إلى جانب مصاريف «الأرض» التي لم تكن حساباتها تتميز دائما بالدقة والأمانة. وبمرور الأيام تزوج الكبار وتركوا الأرض، وأصبحت أم سميح تستغل المساحات فيما بين الأشجار لزراعة الخضر، وتربية الدواجن، ولم يكن والدي راضيا عن ذلك، بل كان من الأسباب التي دفعته إلى بيع «الأرض» في نهاية الأمر.
كان الهدوء الذي يخيم على رشيد ليلا ونهارا، والجو الصافي، بسبب عدم وجود مصانع حديثة أو سيارات تخرج نفايات تلوث الجو، وسقوط الأمطار في الشتاء، وقربها من البحر (بل إن مياه البحر كانت تدخل إلى النيل بعد انحسار الفيضان) كان كل هذا مجتمعا، يساهم في خلق روح سلام واطمئنان يندر أن يعكره شيء. كما أن معرفة الناس بعضهم بعضا كانت بمثابة الآصرة القوية التي يصعب فصمها، فلا مهرب لمذنب، ولا مكان لمن يريد الاختباء! ولم تشهد البلد أي لون من «الصراع الطبقي» الذي امتلأت به أجهزة الإعلام في عهد الثورة؛ فأكبر ملكية للأرض كانت سبعين فدانا، وهي أرض العمدة (غيط العمدة)، وأكبر مصانع هي مصانع الطوب الأحمر (الآجر أو القرميد) على شاطئ النيل في أقصى الشمال التي تملكها أسرة يونس وأسرة منسي. وهي حتى بمقاييس ذلك الوقت متواضعة القيمة. وكانت الحيازة صغيرة قد لا تتجاوز قراريط وقد تصل إلى 15 فدانا، وكان يوجد على بعد عشرة كيلومترات تقريبا غرب رشيد، على طريق الإسكندرية، مكان مخصص للمشاتل واستنبات البذور وإعداد التقاوي، وكان يسمى «البصيلي»، وأعتقد أن الكلمة مشتقة من بصيلة وهي التي تستخدم في إنبات الزهور. ويمتد الطريق بعدها فيما بين بحيرة إدكو والبحر المتوسط حتى المعمورة، مارا بطريق فرعي يوصل إلى «أبو قير»، وعندما تبدأ الحدائق والمزارع الكبيرة في الظهور حتى نصل إلى المنتزه حيث يوجد القصر الملكي.
ولذلك لم يكن أهل رشيد يحسون أن قانون الإصلاح الزراعي الأول الذي صدر بعد أسابيع من قيام الثورة سوف يمسهم من قريب أو بعيد، وكان مشروع تجفيف بحيرة إدكو واستصلاحها الذي بدأته حكومة الوفد يجري تنفيذه، وكان الأهالي يشترون قطعا صغيرة من الأراضي المستصلحة، مما أدى إلى نشوء قرى ودساكر على طول طريق الإسكندرية، أصبحت محطات يقف عندها أوتوبيس رشيد، فبعد كوبري الجدية، يمر «بالبصيلي» ثم «الطرح» ثم «الطلمبات» ثم «إدكو» ثم «المعدية» ثم «المعمورة» «فالمنتزه» - والإسكندرية! وكما توحي أسماء هذه الأماكن، كان معظمها متصلا بعمليات الاستصلاح، والاستزراع، وعند البصيلي يتفرع طريق يؤدي إلى قرية «الحماد» التي دارت عندها موقعة رشيد الشهيرة عام 1807م - التي سنعود إليها.
كانت الثورة إذن مسألة بعيدة عن الحياة اليومية لأهل رشيد. كنا نسمع في الراديو: «ما خلاص اتعدلت، والحالة اتبدلت، ولا حدش عاد، يشكي استبداد، من يوم ما اتعدلت والحالة اتبدلت»، أو «ع الدوار ... بالأخبار قلبك يتهنى، كنا في نار وبقينا في جنة»، ولكنك لا تلمح أثرا لإحساس بالتغيير أو إدراك لمعناه، كأنما كان الأمر يعني بلدا آخر وزمانا آخر! إلا، وهذا هو المهم، في صفوف المدرسة الوحيدة التي أصبحت ثانوية قبل فترة قليلة؛ إذ كان بها من يقرءون ويكتبون، وكان يأتيها المدرسون كل يوم من الإسكندرية في قطار الصباح ثم يعودون آخر اليوم المدرسي.
في أول يوم من أيام الدراسة وقف الناظر للترحيب بالطلبة، وكان ضخما طويلا اسمه أحمد السعيد جاد، وقال لنا إن الألقاب قد ألغيت، وعلينا ألا نقول للمدرس يا بيه، ولكن يا أستاذي أو يا حضرة الأستاذ! وكان يلقي الأمر بأسلوب بث الخوف في النفوس، فكتمنا أنفاسنا ريثما صعدنا إلى غرف الدراسة، وبدأت الهمهمة. كنا الآن في الرابعة، أي في سنة شهادة عامة هي شهادة الثقافة، وامتحاناتها تعقد في الإسكندرية، على عكس امتحانات النقل التي تعقد داخل المدرسة. ولكنها كانت سنة اختبار من نوع آخر؛ إذ كان «زردق» قد زار جميع الطلبة، ولم يعفني أنا أيضا، فاستغل ذلك بعض الطلبة في طرح أسئلة على مدرس اللغة ظاهرها محاولة الاستفادة (شروط الغسل وإزالة الحدث الأكبر)، وباطنها السخرية منه، كما كان لدينا طالب من إدكو اسمه عبد الستار عبد الغفار شرف، يزعم الإحاطة التامة بالأمور التي كانت تهم الجميع في هذه السن، ويتجمع حوله الطلبة بين الدروس وهو يصدر فتاواه وأحكامه.
ثم بدأنا دروس اللغة الإنجليزية، وكان المدرس جمال السنهوري قد تخرج لتوه في كلية الآداب، شابا وسيما زاخرا بالحيوية والنشاط، وبعد أن أخضع الجميع له بنكاته «وقفشاته»، بدأ يحدثنا عما يهمنا جميعا خارج موضوع «زردق» وإن كان يتصل به من قريب، ألا وهو الحب، أو العلاقة بين الرجل والمرأة. كان الغريب أنه يتحدث الإنجليزية المبسطة التي كان معظمنا يفهمها، وهو ما لم نشهده من قبل، بل إنه منع الحديث بالعربية أثناء الحصة تماما، مما كان له تأثير الصدمة على البعض، فإن انتهك أحد تلك القاعدة أحاله إلى الناظر، وما أدراك ما الإحالة إلى الناظر! كانت تعني - دون تحقيق في الأمر أو دفاع - بأن «يعبط» المذنب، أي أن «يعبطه» (بمعنى يحتضنه) أحد الفراشين، ثم يضربه الناظر بالخرزانة على «ذنبه» (أي على مؤخرته)! أما الفارق الوحيد بين العقوبة المغلظة والعقوبة المخففة فلم يكن عدد الضربات، بل مكان توقيع العقوبة، فالمغلظة تجري علنا أمام الطلبة، وفي ذلك ما فيه من إهانة. والغريب أيضا ألا ينتهك أحد ذلك القانون الذي وضعه السنهوري، فكان من لا يستطيع أو قل من لا تواتيه الجرأة على النطق بالإنجليزية يخلد إلى الصمت.
وحدثنا السنهوري عن عقدة أوديب، وعن فرويد، وعن داروين، وأسهب وأفاض فيما لم يخطر لنا على بال. ولم تمض شهور حتى أصبحنا نتحدث عن تحرير المرأة؛ أولا بتمكينها من التعليم، ومن العمل جنبا إلى جنب مع الرجل، وأذكر أنه عندما ذكر ذلك التعبير بالإنجليزية قلت له أسأله: تعني أن تعمل المرأة قريبا من الرجل؟ فقال
not too close ، وضحك، ولم نفهم النكتة، ولكنني ضحكت مجاراة له فظنني الطلبة قد فهمت وأقبلوا علي يسألونني بعد الدرس. وتمنعت عن الإجابة ، فالصمت منجاة في حالة الجهل.
وقرر جمال السنهوري إنشاء جمعية للتمثيل بالعربية وبالإنجليزية! كان هو رمز الثورة التي اجتاحت المدرسة، وعلى الفور بدأنا العمل، وبرز في التدريبات المسرحية مهرج بالفطرة اسمه فؤاد خضر، كان أبوه شيخا للبلد، وكان «مرحا» بالمعنى الحديث، وشخص آخر يسمى «بشخر» (واسمه الأصلي محمد جلال)، وسرعان ما قدمنا حفلا متواضعا في نصف العام يتضمن مسرحية أعدها بنفسه عن قصة قرأها في إحدى الصحف، بالتعاون مع مدرس لغة إنجليزية آخر هو عصمت والي (الدكتور حاليا)، وتولى إخراجها بنفسه. ومن الطبيعي أن تلاقي «إسلام عمر» (وهذا هو اسم المسرحية) ترحيبا شديدا من الجميع، خصوصا من أهالي البلد الذين كانوا يشاهدون المسرح لأول مرة في حياتهم، وكنت أقوم فيها بدور «أبي جهل»، ولم يكن مسموحا بتمثيل الخلفاء على المسرح، فكان السنهوري نفسه يقوم بدور الراوي الذي يملأ الفراغات (بمعنى الثغرات) في الأحداث، ويروي كلام عمر بن الخطاب بلهجة إذاعية جذابة.
وفي بداية الفصل الدراسي الثاني سمعنا أن رجال الثورة مهتمون بموقعة رشيد، التي انتصر فيها أهل البلد على حملة فريزر، وأنهم قرروا زيارة رشيد لحضور الاحتفال الذي يقام يوم 31 مارس 1953م بهذه المناسبة. ومن ثم جمعنا الأستاذ عبد المقصود الطيباني مدرس التاريخ، وهو من أبناء رشيد، من أسرة تعمل بتجارة الحبوب؛ ليقص علينا قصة هذا الانتصار كما وردت في الجبرتي وعبد الرحمن الرافعي (باختصار) وليلهب مشاعرنا التي كانت قد بدأت تستجيب للروح الوطنية التي كانت تسود الجميع.
Неизвестная страница