Оазисы жизни: автобиография: часть первая
واحات العمر: سيرة ذاتية: الجزء الأول
Жанры
5
عندما عدت إلى المدرسة (الثالثة الثانوية) كانت قراءاتي قد تشعبت واتضح تأثير لغة الصحافة في معظم ما أكتب، فقلت الزركشة اللفظية بعض الشيء، وقل الاستشهاد بالشعر، وكان ذلك يجري دون وعي كامل مني، ولكنني اكتشفته فيما بعد عندما قرأت الخطابات التي كنت أرسلها إلى صلاح الخطيب ابن خالتي، في الجيزة. وكان أهم كنزين في حوزتي هما ديوان «الهوى والشباب» للأخطل الصغير، وديوان «شرق وغرب» لعلي محمود طه، وكان يجلس إلى جواري في الفصل تلميذ نابه اسمه طلعت لبيب عزيز، وكان هو مندوب مجلة «سندباد» في رشيد، وكانت صورته تظهر كثيرا في تلك المجلة، والغريب أنني لم أكن أغار منه مطلقا؛ ربما لأنني أتصور أن تلك المجلة هي حقا «مجلة الأولاد في جميع البلاد» كما كان سعيد العريان يكتب على غلافها، وربما لأنني لم أكن أولي النثر احتراما شديدا، ومع بداية العام حدث تطور لم أكن مستعدا له.
كنت واقفا في الفصل أهزل مع بعض الطلبة حين اقترب مني «طلعت الكسار» رحمه الله، وكان يجلس في الصف الأول وقال لي بلهجة جادة تكاد تكون مخيفة: «إياك والضحك؛ فإنه يميت القلب»، فسألته عما يعني، فقال إنك الآن تنتمي لجماعة جادة ولا بد أن تتسم بالرزانة والرصانة في كل سلوكك. فأنت مراقب. وسكت. وفي ساعة الغداء سألته عما يعني، فقال إن الزملاء في جماعة الإخوان لاحظوا أنني أحب الضحك والتلاعب بالألفاظ، وهذا لا يليق بعضو الجمعية. وأضاف قائلا احضر اليوم إلى الشعبة بعد صلاة العصر لتعرف ما أعني.
وذهبت إلى الشعبة فوجدت لفيفا من تلاميذ المدرسة، لا تزيد أعمارهم عن الخامسة عشرة، ولم أكن أنا قد بلغت الثالثة عشرة، جالسين في حلقة كأنما ليتدارسوا أمرا ما، وكان بينهم أحمد مطش، وطلعت الكسار، وعدد آخر من الصغار؛ بعضهم من الفصل نفسه، والبعض الآخر توقف عن الدراسة، وإن استمرت معهم الصداقة، وشخص آخر يدعى عزت شحاتة، وكانوا ينادونه باسم الشيخ شحاتة؛ لأن والده كان أزهريا، وقد ورث اللقب عن والده. وبعد أن حدثنا طلعت عن تعليمات الإمام الشهيد بالتزام الجد والوقار، وأن ذلك أساس قهر أعداء البلد، وضرورة استكمال التدريب العسكري للذهاب إلى القناة، وكنا قد بدأنا نتدرب فعلا على مبادئ استعمال الأسلحة، ونحلم بالشهادة، قال إن الكتائب هي عصب الإخوان، والقتال لا يكون أبدا مع الهزل والسخرية، وخصوصا من الإخوان، وأشار إلي وقال: «مثلما يفعل الأخ عناني». وحاولت الرد ولكن الشيخ عزت أسكتني وقال لي لا تقاطع ولا تعترض. واستمر طلعت يقول إن محمد الفرس (الذي أصبح فيما بعد أستاذا في كلية العلوم، جامعة الإسكندرية) أخطأ في اللغة، فإذا بعناني بدلا من أن يؤيده، يقول «إن الفرس كسر العربية»، مما أدى إلى سخرية الفصل منه، واهتزاز صورة الجماعة بين الناس.
ودخل في هذه اللحظة قطبان من أقطاب الجماعة؛ هما عبد المنعم شتا الذي كان يدرس بالمعهد الأزهري في الإسكندرية، وأخوه عبد السلام الذي كان يشاركنا الفصل نفسه. وسلما وجلسا، ولا شك أنهما كانا يعلمان بما دار، فقال الأكبر: «هل وصلتم إلى قرار؟» وقال الشيخ عزت: «لقد وعد عناني بعدم العودة للهزل مطلقا، وعدم قزقزة اللب والأكل في الشارع، وهو يعرف جيدا أن تكرار ذلك سيؤدي إلى فصله.» وسرت همهمة بين الجميع تبينت فيها حروف «لا لا .. لا قدر الله!» ووجدتني أتصبب عرقا من فرط الحرج والدهشة. كنت كلما هممت أن أتحدث أسكتني عزت، وغمز لي من تحت منظاره السميك غمزة معناها «اصبر .. أنا معك!» وبدا كأن عبد المنعم شتا يتنفس الصعداء حين قال: «الحمد الله! هذا ما قاله لي حرفوش (الذي كان يدرس الطب في الإسكندرية)، وأحمد قنديل (الذي دخل الطب بعده بسنة) فهما يثنيان على ما يحفظه عناني من القرآن وعلى تفوقه». وفجأة نهض الجميع. كنت ذاهلا غير مصدق! إدانة بغير دفاع؛ والأدهى من ذلك أنهم كانوا يتحدثون في الموضوع دون علمي ويتخذون القرارات الملزمة لي خلف ظهري. لا أضحك؟ ولا أقزقز اللب؟ وذهبت من فوري إلى السيد بلال (واسمه الحقيقي عبد الفتاح يوسف بلال) وهو زميل في نفس السنة، ولكن في فصل آخر حيث كان يجلس في وكالة الفاكهة بشارع السوق، وكنت مهموما وأريد الحديث ، وقصصت عليه ما جرى.
استقبلني السيد بلال بترحاب شديد وفرح لنجاتي من براثن هؤلاء، وقال دون مبالاة: «هل يظنون أنهم قادرون على التحكم في عباد الله؟ لا تأبه لهم!» وعندما رآنا عبد الفتاح أمان (بتفخيم الألفين مثل الكلمة التركية) جاء يستطلع الخبر، وكان يجلس في دكان أخيه سعيد الكاتب العمومي، وكان تعليقه «ولا يهمك!» وأضاف: «ما الذي يجعلك تذهب إلى الشعبة؟ للعب البنج بونج؟ العب في المدرسة يا أخي! أم من أجل النزهة في القارب والسباحة في البحر؟ دعهم يتمتعون بعبوسهم! لم لا تعود إلى كرة القدم؟» وكأنما أتى الفرج بعدة الشدة، فقررت ألا أفصح عما دار في تلك الجلسة، ولا أعتقد أن أحدا أفصح عنها قبل اليوم، وأن أتظاهر بأنها لم تحدث، مع الامتناع عن زيارة الشعبة والعودة إلى فريق كرة القدم الخاص بنا في «المنشر»!
كان لبلدية رشيد فريق رسمي أذكر من أعضائه حارس المرمى واسمه عبد المنعم (وكنيته «الناعم» وهو ميكانيكي) وعلي عرفة وسعد عرفة (توءمان) وعبد المنعم السنوسي، وإبراهيم عثمان وأخاه الأصغر علي عثمان، وكان يشترك معهم بصفة غير منتظمة بعض طلبة المدرسة النابهين مثل صلاح جلال (الأستاذ حاليا في زراعة القاهرة) وعبد الحميد الجندي، وغيرهم. ولكننا كنا متواضعين في طموحاتنا فلم نهزم أبدا مدرسة دمنهور الثانوية، وعندما جاءنا مدرس لغة فرنسية اسمه حسان المغربي الذي كان يلعب لفريق الأوليمبي السكندري، قررنا ضمه للفريق رغم فارق السن؛ إذ كان قد تجاوز العشرين وكلنا دونها كثيرا.
وفي 26 يناير 1952م، وكنا في عطلة نصف العام، وقع حريق القاهرة، وكثرت الهمهمات في رشيد عن أسباب الحريق ومن وراءه، وتضاربت الروايات، ثم تعطلت الدراسة من جديد، وعندما عدنا للدراسة كان عزمي قد استقر على ممارسة الكتابة. وسمعت إعلانا في الإذاعة عن مسابقة لكتابة قصة بين الشباب «تعالج مشكلة الطلاق» وتصورت أن «معالجة» تعني إيجاد علاج، فجعلت أفكر في حل لمشكلة لا أعرفها؛ فكل ما عرفته عن الطلاق مستقى من روايات عصمت بدر الدين، التي تربطنا بها صلة قرابة بعيدة، وكانت تأتي لزيارتنا وتقص على والدتي قصصا ممتعة عن علاقاتها المتعددة مع أزواجها. كانت تروي ما يحدث بينها وبين كل زوج بأسلوب يمزج بين الحوار والسرد، وخصوصا ما نسميه البلاغة بالالتفات أي تغيير ضمير المتحدث من متكلم إلى غائب وهكذا. وما زلت أذكر استعمالها لصيغة الأمر في رواية خناقة زوجية: «حست زينب إن جوزها مزمزأ. بس! قومي يا زينب حطي حلة الملوخية في الحوض، وادلقيها وفوقها الدمعة، وقولي لي مطرح ما تحط راسك حط رجليك، وخدي هدومك وعلى ماما. وعنها لحد الوقت غضبانة.»
وكتبت إحدى روايات عصمت، ولكنها كانت تصف وتسرد دون أن تشفي الغليل، فلجأت لخالتي الحاجة لطيفة التي لم تكن تكبرني كثيرا وكانت قارئة ممتازة، وسرعان ما عثرت على نقاط الضعف في القصة، وجاءتني في اليوم التالي بقصة بارعة مثل قصص المحترفين جعلتني أمزق قصتي وأنسى موضوع المسابقة. كانت تصف وتسرد أيضا، دون حل للمشكلة بمفهومي الساذج، ولكنها كانت تنبض بالحياة، وتخلو تماما من الزركشة اللفظية التي لم أكن قد برئت منها، وتصور قداسة العلاقة الزوجية بسخونة لم أعثر على مثيل لها إلا في كتابات «هنري جيمس» بعد ذلك بسنوات طويلة.
النثر إذن صعب. كنت في الشعر أجد شكلا ثابتا على الأقل. فوجود قافية ووجود وزن يهبان الكتابة شكلا مميزا، أما كتابة النثر فلم أكن أدري لها شكلا. وذات يوم عثرت على كتاب مبسط بالإنجليزية يحكي قصص ألف ليلة وليلة، ومكتوب عليه ترجمة «ريتشارد بيرتون» واختصار وتبسيط «مايكل وست». كان ينتمي لأحد أخوالي ولا شك. وعندما شرعت في قراءته لم تستوقفني كلمات جديدة (مما نسميه الكلمات الصعبة) فإذا بي أسير فيه حثيثا إلى آخره. وتساءلت إذا كان الملخص المبسط بهذا الجمال فما بالك بالأصل! وأين عساه يكون الأصل؟ كانت الحكايات شائقة وممتعة. وتذكرت الحكايات التي كانت تحكيها لي أم سعد وأم إبراهيم، اللتان كانتا تقومان بخبز «العيش البيتي» لنا مرة كل ثلاثة أسابيع في فرن المنزل القديم، والقصص التي حكتها لي والدتي وجدتي، وحاولت أن أكتب إحداها، وكانت تتعلق «بأمنا الغولة» ومحاولتها التهام الأطفال، وخرجت المحاولة مضحكة، وحاولت كتابة قصة أخرى اسمها «القصر المنشي في الهوا يمشي» تتضمن أكل لحوم الأطفال، ووضع أرواح الأحياء في زجاجات وتعليقها على الشجر في الحديقة، ولم تكن النتيجة أفضل. وحاولت مرة أخرى؛ قصة «ماء الحياة» عن أميرة تحبس خطابها وتذيقهم مر الهوان، وأخرى عن «الطائر الذهبي» (الطيرة الدهب) وأبناء السلطان وسياحتهم في الأرض وما شاهدوه من ألوان السحر، وأخرى بعنوان «مطاوع أمه» الذي تزوجت أخواته من أسد وضبع وثعبان، وجاءت جيوش النمل لمساعدته، والكلاب وسحلية بارعة في صناعة الملابس، وكنت كلما أحاول الكتابة أصدم بالعقبة الكبرى وهي تحويل العامية إلى فصحى. لم تكن العقبة تتمثل في إيجاد المقابل، فالمقابل يسير - مثلا «مزمزأ» في عبارة عصمت في الفقرة الأخيرة قد تساوي كلمة متبرم أو ضجر، أو يوشك أن يبدأ شجارا، ولكن أيا من هذه المقابلات لن تكون في قوة «الزمزأة»، و«يدلق» تساوي يسكب، ولكن شتان، أما المثل الشعبي «مطرح ما تحط راسك حط رجليك» فلن يساوي أبدا مقابله بالفصحى «حتى لو انقلبت رأسا على عقب!» لا. ليست المشكلة في موازاة المعنى، بل في شيء آخر فشلت في تحديد كنهه، ولم أكن أجرؤ على تفادي المشكلة برمتها بأن أكتب الحكاية العامية! كانت العامية آنذاك أبعد ما تكون عن منزلة الأدب!
Неизвестная страница