الوَاضِح في أصُولِ الفِقه
تأليف
أبي الوَفاء عَلي بن عَقيل بن مُحمَّد بن عَقيل
البَغدادي الحَنبلي (٥١٣ هـ)
تحقيق
الدكتور عَبد الله بن عَبد المُحسن التركي
وزير الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد
مؤسسة الرسالة
Неизвестная страница
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
مقدمة / 2
الوَاضِح في أصُولِ الفِقه
مقدمة / 3
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
جَميع الحقُوق مَحفوظة للناشِر
الطبعة الأولى
١٤٢٠ هـ - ١٩٩٩ م
مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع
وطى المصيطبة - شارع حبيب أبي شهلا - بنايه المسكن، بيروت - لبنان
تلفاكس: ٣١٩٠٣٩ - ٨١٥١١٢
فاكس ٦٠٣٢٤٣ ص. ب: ١١٧٤٦٠
AL- Resalah PUBLISHERS
BEIRUT/LEBNON - Telefax: ٨١٥١١٢ - ٣١٩٠٣٩
fax: ٦٠٣٢٤٣ - P.O.Box: ١١٧٤٦٠
Email: [email protected]
مقدمة / 4
المقدمة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونتوبُ إليه، ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يُضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلاّ الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٠٢)﴾ [آل عمران: ١٠٢].
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (١)﴾ [النساء: ١].
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (٧٠) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (٧١)﴾ [الأحزاب: ٧٠ - ٧١].
أما بعد: فإن كتاب "الواضح في أصول الفقه" لأبي الوفاء عليِّ بن عقيل بن محمد البغدادي الحنبلي- رحمه الله تعالى- يُعدُّ بحقٍّ من أمهاتِ كتب الأصول على وجه العموم، وكُتُب أصول الحنابلة على وجه الخصوص، فهو يأتي من حيث القدم في المرتبة الثانية بعد كتاب "العُدَّةِ" لشيخه القاضي أبي يعلى محمد بن الحسين ابن الفرَّاء، حيث استفاد ابن عقيل مما في كتاب شيخه، وأضاف إليه الكثير من غزير علمه وواسع معرفته.
لقد انتهج ابنُ عقيل الاستقصاء في إيراد الأقوال، وذِكرِ الاراء والاعتراضات الواردة عليها، ومناقشتها، والاستدلال على ما يراه راجحًا بالأدلة الشرعية، والتصدي للردِّ على أقوال الطوائف المنحرفة، كَالخوارج،
مقدمة / 5
والقدرية، والسالمية، وا لصالحية، والمعتزلة، وغير هم، والتوسع في تفنيد مزاعمهم، مع حرصه على استخدام العبارة السهلة، والأسلوب الواضح الميسر، كما أوضح ذلك في مقدمة كتابه حيث قال: "فإن كثيرًا من أصحابنا المتفقهة سألوني تأليف كتابٍ جامعٍ لأصول الفقه، يوازي في الإيضاح والبسط وتسهيل العبارة- التي غمضت في كتب المتقدمين، ودقَّت عن أفهام المبتدئين- كتابيَّ الجامعين للمذهب والخلاف، وأَستوفي فيه الحدود والعقود، ثم أُشير إلى الأقرب منها إلى الصِّحة، وأميز المسائل النظريات بدلائل مُستوفاة، وأسئلةٍ مُستقصاةٍ، ليخرُج بهذا الإيضاح عن طريقة أهل الكلام وذوي الإعجام، إلى الطريقة الفقهية والأساليب الفروعية، فأجبتهم إلى ما سألوا، مُعتمدًا على الله سبحانه في انتفاعي على النَّمطِ الذي طلبوا وأمَّلوا، مع بذل وُسْعي في ذلك واستِقْصائي فيه"
لقد أثرى ابن عقيل- رحمه الله تعالى- كتابه الواضح بأمور ميزته عن كتب الأصول الأخرى، حيث جمع في أوله جملةً من أصولِ الفقه، ذكر فيها الكثير من العقود والحدود وتمهيد الأصول، وأتبع ذلك بفصولٍ في الجَدَل- على غير عادة كتب الأصول- ذكر فيها حدود الجَدَل وعقودَه وشروطه وآدابه ولوازمه، وذكر من دقائقِ هذا الفن وفوائده ما لا يوجد فى كتب الجدل المتخصصة، ثم أورد في آخر الكتاب جملة من غرائب المسائل والفصول النادرة، لقطها- كما ذكر- من الكتب والمجالس، وقيَّدها ليُنتفع بها.
لقد عرض- ﵀ الآراء على اختلافها بتجرد وحياد، ورجَّحَ ما رآه منها راجحًا دون تعصبٍ وعِنادٍ، ونبَّه على غوامض المسائلِ ودقائقها، ووضَّحها أيما إيضاح، وشرح ما صَعُبَ ممها شرحًا مستفيضًا يُذلِّلُ صَعْبَها
مقدمة / 6
ويُسَهِّلُ حَزنَها، كما في فصل "الاستدلال بفساد الشيء على صحة غيره" وغيره من الفصول.
إنَّ هذه الميزات العظيمة لهذا الكتاب، والتي يندر اجتماعها لكتاب مثله، دفع المجد ابن تيمية- ﵀ أن يقول فيه: " لله دَرُّ الواضح لابن عقيل من كتاب، ما أغزر فوائده، وأكثر فرائده، وأزكى مسائله، وأزيد فضائله، من نقلِ مذهبٍ، وتحرير حقيقةِ مسألةٍ وتحقيق ذلك " (١)
وقال عنه ابن بدران الدمشقي ﵀: "الواضح لابن عقيل، هو كتابٌ كبير في ثلاث مجلدات، أبان فيه عن علمٍ كالبحر الزاخر، وفضلٍ يُفحم من في فضله يُكابر، وهو أعظم كتابٍ في هذا الفن، حذا فيه حذو المجتهدين " (٢) ..
صلتي بالواضح لابن عقيل:
لقد صَوَّرت الجزء الأول والثاني من الكتاب من دار الكتب الظاهرية بدمشق منذ ثلاثين عامًا، واعتمدتُهما مصدرًا من مصادر البحث الذي قدَّمتُه لدرجة الدكتوراه: "أصول مذهب الإمام أحمد"، ونقلت منهما فى مواضع كثيرة، وقد بيَّنتُ ذلك في مقدمةِ الطبعة الأولى من "أصول مذهب الإمام أحمد"، كما أشرتُ إلى أهمية "الواضح " وقيمته العلمية بين كتب أصول الحنابلة، ودعوتُ طُلاّب العلم إلى الاهتمام بكتب الأصول المخطوطةِ للحنابلة، ومنها "الواضح"، وكنتُ حريصًا على أن يُنشر الكتاب.
وبعد أن عثرتُ على الجزء الثالث من مكتبة برنستون بأمريكا،
_________
(١) "المسودة": ٦٥ - ٦٦.
(٢) "المدخل إلى مذهب الإمام أحمد بن حنبل ": ٤٦٢.
مقدمة / 7
تجددت الرغبةُ في نشر الكتاب، وبدأتُ العمل فيه، وأخَّرَ صدوره كثرةُ المشاغل، وعدمُ التَّفرُّغ لذلك، ثم تَبيَّنَ لي أن دراسة الكتاب وتحقيق جزءٍ منه موضوع رسائل دكتوراه لأصحاب الفضيلة المشايخ: الدكتور موسى بن محمد القرني، والدكتور عطاء الله فيض الله، والدكتور عبد الرحمن بن عبد العزيز السديس، في جامعة أم القرى، فسررتُ لذلك، وحمدتُ الله أن اتجه إلى الكتاب من لديه القدرة تحت إشراف علمي متخصص لخدمته، وقد كنت أحد المناقشين لصاحب الفضيلة الشيخ عبد الرحمن بن عبد العزيز السديس في القسم الذي تولى تحقيقه، واطلعتُ على عمل الأخوين الآخرين.
وقد، بذل الإخوة جميعًا جهدًا موفقًا في الكتاب، وكان حريًا بهم أن ينشروه جميعًا، أو ما كان منه محل دراستهم، أو يقوم كل منهم بنشر الجزء الذي تولى تحقيقه. ومرت السنون دون أن يصدر هذا الكتاب، مما دفعني إلى تجديد العزم، والاستعانة بالله تعالى في إكمالِ تحقيقه ونشره متعاونًا مع مؤسسة الرسالة، وإن لم يبلغ الصفة التي كنت أود أن يخرج عليها، إذ فيه العديد من الموضوعات تستدعي استكمالًا أو تعليقًا وبيانًا، ولعل الله يوفق الإخوة الذين درسوا الكتاب أن يخرجوه مستكملًا لجوانب التحقيق، فهم أولى وأمكن من غيرهم، أو يهىء الله له من يخدمه من العلماء المتخصصين المتفرغين.
وقد وصلتني- والكتاب تحت الطبع- نسخة مطبوعة من الجزء الأول من الكتاب أصدرها الدكتور جورج مقدسي، وكان الدكتور فؤاد سزكين قد أطلعني على مسودتها منذ سنوات عديدة، وهي على طريقة المستشرقين التي لا تضيف جديدًا على طبع النَصّ كما هو.
ومما أعان على تحقيق الكتاب ونشره وتوزيعه على طلاب العلم، ما
مقدمة / 8
تفضل به أحد المحسنين وأهل الخير في المملكة العربية السعودية من تحمل تكاليفه، ابتغاء مرضاة الله ومثوبته، فجزاه الله أحسن الجزاء، وأكرمه في دار كرامته.
وليس ذلك بغريب على أهل الخير والإحسان في المملكة العربية السعودية إذ يشاركون في تيسير كتب العلوم الشرعية، ويعينون طلاب العلم إسهامًا منهم في عمل الخير، وشكرًا لله على ما أنعم به عليهم.
نسأل الله تعالى أن ينفع بهذا الكتاب، ويجعله خالصً لوِجهه الكريم.
ويجزي كل من أسهم في إخراجه ونشره.
والحمَد الله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وآله وأصحابه.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وآله واصحابه.
عبد الله بن عبد المحسن التركي
وزير الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد
مقدمة / 9
ترجمة المؤلف
هو أبو الوفاء عليُّ بن عقيل بن محمد بن عقيل بن أحمد الظفري، البغدادى (١).
وذكر ابن أبي يعلى أنه: علي بن محمد بن عقيل (٢).
ووضع بعض من ترجم له "محمدًا" بدل "أحمد" وزادوا في نسبه: "عبد الله" فقالوا: علي بن عقيل بن محمد بن عقيل بن محمد بن عبد الله (٣) وذكر الذهبي في "السير" أن اسمه: على بن عقيل بن محمد بن عقيل بن عبد الله (٤)
والظفري- بفتح الظاء والفاء- نسبة إلى الظفرية، وهي محلة كبيرة شرقي بغداد (٥).
وُلد ابن عقيل- ﵀ في بغداد دار السلام في جمادى الآخرة سنة إحدى وثلاثين وثلاثين وأربع مئة (٦)
وقيل: سنة اثنتين وثلاثين وأربع مئه (٧).
_________
(١) المتتظم ٩/ ٢١٢، البداية والنهاية ١٢/ ١٨٤، ذيل طبقات الحنابلة ١/ ١٤٢، المنهج الأحمد ٢/ ٢٥٢.
(٢) طبقات الحنابلة ٢/ ٢٥٩.
(٣) الوافي بالوفيات ٢١/ ٣٢٦، ولسان الميزان ٤/ ٢٤٣.
(٤) سير أعلام النبلاء١٩/ ٤٤٣.
(٥) الأنساب ٤/ ١٠٢.
(٦) المنتظم ٩/ ٢١٢، البداية والنهاية ١٢/ ١٨٤، شذرات الذهب ٤/ ٣٥.
(٧) طبقات الحنابلة ٢/ ٢٥٩.
مقدمة / 10
وقيل: سنة ثلاثين وأربع مئة (١).
أسْرتُه:
يقول ابن عقيل عن أسرته: "فأما أهل بيتي: فإن بيت أبي كلهم أرباب أقلام وكتابة، وشِعرٍ وآداب، وكان جدي محمد بن عقيل كاتب حضرة بهاء الدولة، وهو المنشىء لرسالة عَزْل الطائع وتولية القادر، ووالدي أنظر الناس وأحسنهم جدلًا وعلمًا، وبيت أمي بيت الزهري، صاحب الكلام والمدرس على مذهب أبي حنيفة" (٢).
ولابن عقيل ولدان ماتا في حياته:
أحدهما: أبو الحسن عقيل، وكان في غاية الحُسن، فَهِمًا، تفقه على أبيه، وناظر في الأصول والفروع، وكان فقيهًا، فاضلًا، يقول الشِّعر، وقد توفي في حياة أبيه سنة عشر وخمس مئه (٣)، وتجلَّد والدُه عند وفاته، وظهر من صبره ورضاه بقضاء الله سبحانه الشيء العُجاب.
يقول ابن عقيل في ذلك: "مات ولدي عقيل وكان قد تفقه وناظر، وجمع أدبًا حسنًا، فتعزَّبتُ بقصة عمرو بن عبد وُدٍّ الذي قتله عليٌّ ﵁، فقالت أمه ترثيه:
لو كان قاتل عمرو غير قاتله ... ما زلتُ أبكي عليه دائم الأبد
لكنَّ قاتِلهُ من لا يُقادُ به ... من كان يُدعى أبوه بيضة البلدِ
فأسْلاها وعزاها جلالة القاتل، وفخرها بأن ابنها مقتوله، فنظرت إلى
_________
(١) مناقب الإمام احمد: ٦٣٥.
(٢) المنتظم ٩/ ٢١٣، ذيل طبقات الحنابلة ١/ ١٤٣، المنهج الأحمد ٢/ ٢٥٣.
(٣) ذيل طبقات الحنابلة ١/ ١٦٣ - ١٦٤.
مقدمة / 11
قاتل ولدي الحكيم المالك، فهان عليَّ القَتْلُ والمقتولُ لجلالة القاتل " (١).
ولم يقتصر الأمر على تَصَبُّرِهِ بل كان ينهى عن إظهار الجزع أو تهييج الأحزان، يقول ﵀: "لما أُصبتُ بولدي عقيلٍ خرجتُ إلى المسجد إكرامًا لمن قصدني من الناس والصُّدور، فجعل قارىء يقرأ: ﴿قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا﴾ [يوسف: ٧٨] فبكى الناس، وضجَّ الموضعُ بالبُكاء، فقلت له: يا هذا، إن كان قصدُك بهذا تهييج الأحزان فهو نياحةٌ بالقرآن، وما نزل القرآن للنَّوح، وإنَّما نزل ليُسَكَنَ الأحزان، فأمْسِكْ " (٢).
فتأمل ورعه ودينه ﵀، لم يمنعه حزنه على ولده من بيان الحقِّ، وإرشادِ الخلق.
الثاني: أبو منصور هِبةُ الله، حفظ القرآن، وتفقَّه، وظهر منه أشياء تدلُّ على عقلٍ ودينٍ، ثم مرض وطال مرضُه، وأنفق عليه أبوه مالًا كثيرًا في مرضه، وبالغ في ذلك.
يحكي ابن عقيل عن مرض ابنه ووفاته فيقول: "قال لي ابني لمّا تقارب أجله: ياسيدي قد أنفقت، وبالغت في الأدوية والطبّ والأدعية، ولله تعالى فيَّ اختيار، فدعني مع اختياره. قال: فوالله ما أنطق الله ﷾ ولدي بهذه المقالة التي تُشاكلُ قول ابن إبراهيم لإبراهيم: ﴿افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ﴾ إلا وقد اختاره الله تعالى للحظوة" (٣). وتألَّم- ﵀ لوفاة ابنه الثاني، إلا أنه تصبر وسلم لأمر الله، واستسلم لقضائه، وكان
_________
(١) نفس المصدر ١/ ١٦٤.
(٢) المنتظم ٩/ ١٨٨.
(٣) ذيل طبقات الحنابلة ١/ ١٦٥.
مقدمة / 12
يقول: "لولا أن القلوب توقِنُ باجتماعٍ ثانٍ لتفطرت المرائر لفراقِ المحبِّين " (١).
نشأته وطلبه للعلم:
لقد عانى ابن عقيل- ﵀ في نشأته من وطأة الفقر، وقلة ذات اليد، ومرارة العِوَزِ والحاجة، حتى إنه كان ينسخ بالأجرة، يقول عن نفسه: "وعانيتُ من الفقر والنسخ بالأجرة" (٢).
كان ذلك إلى أن هيأ الله له الشيخ أبا منصور عبد الملك بن يوسف (٣)، فتكفل برزقه، وكفاه مؤونة البحث عن الرِّزق، ليتفرغ لطلب العلم.
فتفرغ ابن عقيل إثر ذلك لطلب العلم، وشرع في تحصيله والتَزوُّد منه، ومما هيأ له الجو لينهل من معين العلم، كونه نشأ في بغداد التي كانت آنذاك تعج بالعلماء والفقهاء على اختلاف مذاهبهم وتنوُّع مشاربهم.
وساعده هذا على النهل من كافة العلوم، والاستفادة من شتى المعارف، مما كوَّن لديه حصيلة طيبة مُتميِّزة.
وكان لما حباهُ الله به من ذهنٍ وقادٍ، وذكاءٍ مُفْرِطٍ، وهمةٍ عاليةٍ أثرٌ كبيرٌ في تحصيل العلوم، يقول عنه ابن رجب: "وكان ابن عقيل ﵀ من أفاضل العلماء، وأذكياء بني آدم، مُفرط الذكاء، مُتَّسع الدائرة في العلوم " (٤).
_________
(١) نفس المصدر، والمنهج الأحمد ٢/ ٢٧٠.
(٢) المنتظم ٩/ ٢١٣، ذيل طبقات الحنابلة ١/ ١٤٣.
(٣) توفي سنة ٤٦٠ هـ، ترجمته في المنتظم ٨/ ٢٥٠، وسير أعلام النبلاء ١٨/ ٣٣٣.
(٤) ذيل طبقات الحنابلة ١/ ١٥١.
مقدمة / 13
لقد كانت هذه الهمة، مع تلك الرغبة في ارتشاف العلم، مع حفظ الله تعالى له، حائلًا بينه وبين الالتفات إلى ما عدا ذلك من نعيم الدنيا الزائل وملاهي الحياة ومفاتنها، يقول ﵀: " وعصمني الله من عُنْفوان الشبيبة بأنواع من العصمة، وقصر محبتي على العلم وأهله، فما خالطتُ لعَّابًا قط، ولا عاشرتُ إلا أمثالي من طلبة العلم " (١).
وكان ﵀ يرى أن طلب العلم أفضلُ ما يتقرَّبُ به العبد إلى ربِّه، بعد أداء الفرائض، يقول في مقدمة كتابه "الفنون" (٢): "أما بعد، فإن خير ما قُطع به الوقتُ، وشُغلت به النَّفسُ، فتُقُرِّب به إلى الرَّبِّ جلَّت عظمتُه، طلبُ علمٍ أخرج من ظُلمة الجهل إلى نور الشرع، واطلع به على عاقبةٍ محمودةٍ، يُعملُ لها، وغائلةٍ مذمومةٍ، يُتجنَّبُ ما يوصلُ إليها".
ويقول- ﵀: " إني لا يحلُّ لي أن أُضَيعِّ ساعة من عمري حتى إذا تعطل لساني عن مُذاكرةٍ ومناظرةٍ، وبصري عن مطالعةٍ اُعمِلُ فكري في حال راحتي وأنا مستطرح، فلا أنهضُ إلا وقد خطر لي ما أُسطرُهُ" (٣).
وهذا من تقديره- ﵀ لقيمة الوقت، وحرصه على عدم إهداره أو إضاعته.
شُيوخُه:
لقد ساعد جوُّ بغداد العلمي ابن عقيل على التحصيل والإفادة من
_________
(١) المنتظم ٩/ ٢١٣، ذيل طبقات الحنابلة ١/ ١٤٣.
(٢) ١/ ٧.
(٣) المنتظم ٩/ ٢١٤.
مقدمة / 14
علماء عصره، وساعده على ذلك ذكاؤه المفرط، وحُبُّه للعلم، فأخذ يتنقل بين مشايخ بغداد وعلمائها على كثرتهم، فتنوعت علومه، وتعددت معارفه، وكان هذا سببًا في كثرة مشايخه.
وكان أبو يعلى الفراء أول من أخذ ابن عقيل الفقه عنه، فقد ذكر أنه تفقَّه عليه فى حداثة سِنِّهِ، وبقي ملازمًا له، غير مُخِلٍّ بمجالسه، حتى وفاته سنة ثمان وخمسين واربع مئة (١).
وذكر ابن عقيل أن أول من لقَّنه القرآن، هو الشيخ أبو إسحاق إبراهيم ابق الحسين الخزاز، حيث قال: " كان الشيخ أبو إسحاق الخزاز شيخًا صالحًا بباب المراتب، وهو أول من لقنني كتاب الله بدرب الديوان بالرصافة " (٢).
ويقول ابن عقيل- ﵀ عن شيوخه: "شيخي في القراءة ابن شيطا، وفي الأدب والنحو: أبو القاسم بن برهان، وفي الزُّهد: أبو بكر الدّينوري، وأبومنصور ابن زيدان أحلى من رأيت، وأعذبهم كلامًا في الزُّهْد وابن الشيرازي، ومن النساء: الحرانية، وبنتُ الجنيد، وبنت الغَرَّاد المنقطعة إلى قعر بيتها، لم تصعد سطحًا قط، ولها كلامٌ في الورع، وسيدُ زُهّاد عصره وعينُ الوقت: أبو الوفاء القزويني، ومن مشايخي في آداب التصوف: أبو منصور ابن صاحب الزيادة العطار، ومن مشايخي في الحديث: التَّوَّزي، وأبو بكر بن بشران، والعشاري، والجوهري وغيرهم، ومن مشايخي في الشعر والترسُّل: ابن شبل، وابن الفضل، وفي الفرائض: أبو الفضل الهمذاني، وفي الوعظ: أبو طاهر ابن العلاف صاحب ابن سمعون، وفي الأصول: ابن الوليد، وأبو القاسم ابن التَّبان
_________
(١) ذيل طبقات الحنابلة ١/ ١٤٢ - ١٤٣.
(٢) المنتظم ٩/ ٩٨.
مقدمة / 15
وفي الفقه: أبو يعلى ابن الفراء، وأبو إسحاق الشيرازي، وأبو نصر ابن الصباغ، وأبو عبد الله الدامغاني، وأبو الفضل الهمذاني، وأبو بكر الخطيب، وأبو منصور بن يوسف وغيرهم" (١).
وثمة عددٌ كبير من المشايخ الذين تلقى عنهم ابن عقيل لم يرد ذكرهم هنا، وكثرتهم إن دلَّت، فإنما تدل على شغف ابن عقيل بتحصيل أنواع العلوم، وحرصه على ألا يفوته أي نوع منها.
وفيما يلي أهم مشايخ ابن عقيل الذين أخذ عنهم وأفاد منهم:
١ - ابنُ شيطا: أبو الفتح عبد الواحد بن الحسين بن أحمد بن عثمان ابن شيطا البغدادي، كان من كبار أئمة القُراء، ولد ببغداد سنة سبعين وثلاث مئة، وتوفي بها سنة خمسين واربع مئه" (٢).
٢ - ابنُ بَرهان: عبد الواحد بن علي بن عمر بن إسحاق بن إبراهيم ابن بَرهان العكبري، كان من علماء العربية، عالمًا بالنحو والتاريخ وأيام العرب، أخذ عنه ابن عقيل الأدب والنحو، مات سنة ستٍ وخمسين واربع مئة (٣).
٣ - أبو بكر الدينوري: ذكر ابن عقيل أنه أخذ عنه الزهد (٤).
٤ - أبو منصور ابن زيدان، وقيل: أبو بكر. ذكر ابن عقيل أنه أخذ عنه الزهد (٥)
_________
(١) المنتظم ٩/ ٢١٢ - ٢١٣
(٢) تاريخ بغداد ١١/ ١٦، والمنتظم ٨/ ١٩٩، ومعرفة القُرّاء الكبار ١/ ٣٣٣.
(٣) تاريخ بغداد ١١/ ١٧، والمتتظم ٨/ ٣٣٧، والبداية والنهاية ١٢/ ٩٢.
(٤) المنتظم ٩/ ٢١٢.
(٥) المنتظم ٩/ ٢١٢، ذيل طبقات الحنابلة ١/ ١٤٣.
مقدمة / 16
٥ - أبو الوفاء القزويني (١): وقيل: أبو الحسين القزويني (٢)، وقيل: أبو الحسن، هو علي بن عمر بن محمد بن الحسن الحربي، كان شيخًا لابن عقيل في الزهد، قال ابن عقيل: "شهدتُ جنازته، وكان يومًا لم يُر في الاسلام بعد جنازة أحمد ابن حنبل مثله" (٣).
٦ - أبو منصور ابن صاحب الزيادة العطار: هو محمد بن أحمد
ابن عبيد، المعروف بابن صاحب الزيادة. توفي سنة ثمانٍ وستين وأربع مئة (٤).
٧ - التَّوَّزي: هو أحمد بن علي بن الحسين بن محمد بن موسى، أبو الحسين، المعروف بابن التَّوزي، كان شيخ ابن عقيل في الحديث، توفي سنة اثنتين وأربعين وأربع مئة (٥)
٨ - ابنُ بِشْران: محمد بن عبد الملك بن محمد بن عبد الله بن بشران البغدادي، راوي السنن عن الدارقطني. أخذ عنه ابن عقيل الحديث، وكان ثقة، توفي سنة ثمان وأربعين وأربع مئه" (٦).
٩ - العُشاري: محمد بن علي بن الفتح بن محمد الحربي البغدادي، كان ثقة دَيِّنًا، مكثرًا من الحديث، أخذ عنه الحديث ابن عقيل وغيره، توفي سنة إحدى وخمسين وأربع مئه" (٧).
_________
(١) المنتظم ٩/ ٢١٢.
(٢) ذيل طباتات الحنابلة ١/ ١٤٣.
(٣) تاريخ بغداد ١٢/ ٤٣.
(٤) المنتظم ٨/ ٢٩٩.
(٥) تاريخ بغداد ٤/ ٣٢٤، والمتتظم ٩/ ٢١٢.
(٦) تاريخ بغداد ٢/ ٢٤٨، والمححظم ٩/ ٢١٢.
(٧) تاريخ بغداد ٣/ ١٠٧، وطبقات الحنابلة ٢/ ١٩١.
مقدمة / 17
١٠ - الجوهري: الحسنُ بن علي بن محمد بن الحسن الجوهري البغدادي، كان ثقة، صالحًا، توفي سنة اثنتين- وقيل: أربع- وخمسين وأربع مئة (١).
١١ - ابن شبل: محمد بن الحسين بن عبد الله بن أحمد بن يوسف الشِّبلي، أحد الشعراء المشهورين، كان شيخًا لابن عقيل فى الشعر، توفي سنة ثلاث وسبعين وأربع مئة" (٢).
١٢ - ابن الفضل: علي بن الحسين بن علي بن الفض، أبو منصور الشاعر، المعروف بِصُرَّ دُرّ. كان ممن أخذ ابن عقيل الشِّعر عنهم، توفي سنة خمسٍ وستين وأربع مئة (٣).
١٣ - أبو الفضل الهمذاني: عبد الملك بن إبراهيم بن أحمد الهمذانيُّ الفرضي، كان من أئمة الدين وأوعية العلم، وله اليد الطولى في العلوم الشرعية، وانتهت إليه الرئاسة في علم الفرائض والحساب، توفي سنة تسعٍ وثمانين وأربع مئة" (٤).
١٤ - ابن العلاف: محمد بن علي بن محمد بن يوسف أبو طاهر، البغدادي، كانت له حلقة في جامع المهدي، ثم من بعده في جامع المنصور، توفي سنة اثنتين وأربعين وأربع مئة" (٥).
١٥ - أبو يعلى ابن الفراء: محمد بن الحسين بن خلف بن أحمد ابن الفراء، البغدادي، القاضي، شيخ الحنابلة في وقته.
_________
(١) تاريخ بغداد ٧/ ٣٩٣، وشذرات الذهب ٣/ ٢٩٢.
(٢) المنتظم ٨/ ٣٢٨، وذيل طبقات الحنابلة ١/ ١٤٢.
(٣) المنتظم ٨/ ٢٨١، ووفيات الأعيان ٣/ ٣٨٥.
(٤) المنتظم ٩/ ١٠٠، والبداية والنهاية ١٢/ ١٥٣.
(٥) تاريخ بغداد ٣/ ١٠٣، والمنتظم ٨/ ١٤٨.
مقدمة / 18
كان فريد عصره، ووحيد دهره، ونسيج وحده، وهو أول من أخذ ابنُ عقيل الفقه عنه، توفي سنة ثمانٍ وخمسين وأربع مئة (١).
١٦ - أبو إسحاق الشيرازي: إبراهيم بن علي بن يوسف بن عبد الله الفيروزآبادي، الشافعي، كان مُقدَّمًا في الأصول والفقه والجدل، توفي سنة ست وسبعين وأربع مئة (٢).
١٧ - ابن الصباغ: عبدُ السَّيِّدِ بنُ محمد بن عبد الواحد بن محمد بن أحمد بن: جعفر، أبو نصر، الشافعي، كان مقدمًا ورعًا، تقيًا، انتهت إليه رئاسة الشافعيه في وقته، توفي سنة سبعٍ وسبعين وأربع مئة (٣).
١٨ - الدَّامغانيُّ: محمد بن علي بن محمد بن الحسين، أبو عبد الله الدامغاني، الحنفي، القاضي. كان عفيفًا، وافر العقل، كامل الفضل، مكرمًا لأهل العلم أخذ عنه ابن عقيل الفقه. توفي سنة ثمانٍ وسبعين وأربع مئة (٤).
١٩ - أبو بكر الخطيب: أحمد بن علي بن ثابت بن أحمد الخطيب، البغدادي، الحافظ، المحدِّث، المؤرخ، صاحب التصانيف الكثيرة. أخذ عنه ابن عقيل الحديث، توفي سنة ثلاثٍ وستين وأربع مئة (٥).
٢٠ - أبو إسحاق الخزاز: إبراهيم بن الحسين الخزاز، المقرىء، الزاهد، اللصالح، شيخ القراء فى وقته، توفي ببغداد سنة تسع وثمانين وأربع مئة (٦).
_________
(١) تاريخ بغداد ٢/ ٢٥٦، والمنتظم ٨/ ٢٥٣.
(٢) المنتطم ٩/ ٧، والبداية والنهاية ١٢/ ١٢٤.
(٣) المنتظم ٩/ ١٢، ووفيات الأعيان ٣/ ٢١٧، والبداية والنهاية ١٢/ ١٢٦.
(٤) تاريخ بغداد ٣/ ١٠٩، والمنتظم ٩/ ٢٢.
(٥) المنتظم ٨/ ٢٦٥، والبداية والنهاية ١٢/ ١٠١.
(٦) المنتظم ٩/ ٨٩، والمنهج الأحمد ٢/ ٢٠٣.
مقدمة / 19
تلاميذُه:
أخذ العلم عن ابن عقيل عدد غير قليل من الفضلاء، منهم:
١ - ابن ناصر: محمد بن ناصر بن محمد بن علي البغدادي، كان حافظًا ضابطًا، ثقةً، خبيرًا بالجرح والتعديل، توفي سنة خمسين وخمس مئة (١).
٢ - المغازلي: عمر بن ظفر بن حفص المغازلي البغدادي، كان مقرئًا محدِّثًا، توفي سنة اثنتين وأربعين وخمس مئة (٢).
٣ - أبو المعمَّر الأنصاري: المبارك بن أحمد بن عبد العزيز الخزرجي الأنصاري، كان ذا فهم وعلم بالحديث، توفي سنة تسع وأربعين وخمس مئة (٣).
٤ - أبو سعد السمعاني: عبد الكريم بن محمد بن منصور السمعاني، العالم، الحافظ، البارع، صاحب التصانيف، أحد من أجاز لهم ابن عقيل، توفي سنة ثلاث وستين وخمس مئة (٤).
٥ - عبد الحق اليوسفي: عبد الحق بن عبد الخالق بن أحمد بن عبد القادر بن محمد بن يوسف اليوسفي، كان شيخًا، صالحًا، متعففًا، وهو أحد شيوخ ابن الجوزي، توفي سنة خمس وسبعين وخمس مئة (٥).
_________
(١) المنتظم ١٠/ ١٦٢، وذيل طبقات الحنابلة ١/ ٢٢٥.
(٢) معرفة القراء الكبار ٢/ ٤٠٧، وشذرات الذهب ٤/ ١٣١.
(٣) المنتظم ١٠/ ١٦٠، وشذرات الذهب ٤/ ٣١٥.
(٤) المنتظم ١٠/ ٢٢٤، وشذرات الذهب ٤/ ٢٠٥.
(٥) شذرات الذهب ٤/ ٢٥١.
مقدمة / 20