236
من أشرافها أشد من هذا الاستهزاء؟! وما عسى أن تقول العرب في أقصى الأرض وأدناها حين تعلم أن في جنب قريش شوكة أعيت سادتها وقادتها وذوي أحلامها، فلم يستطيعوا لها انتزاعا، وإنما ثبتت لكيدهم ومكرهم، ثم جعلت تنبت من حولها شوكا صغارا، إن لم تكن مثلها قوة وحدة وأيدا فهي تنشر الأذى وتشيع الألم، وتوشك أن تجعل جسم قريش كله عليلا لا أمل له في برء أو شفاء؟!
أغاظ هذا كله أبا جهل، أم غاظه أن الملأ من قريش رأوا أن شدته لم تغن عنهم ولا عن آلهتهم شيئا، وإنما انتهت إلى القتل الذي لا تحبه قريش، والذي لا يزيد محمدا وأصحابه إلا استمساكا بدينهم وصبرا فيه؟ أم غاظه أن عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة قد ظفرا به وظهرا عليه وشمتا بما كان يظهر من حزم وصرامة وجد، ويوشكان بعد هذا الإخفاق أن يستأثرا بسمع قريش وقلبها وحبها وقيادها؟
أم غاظ أبا جهل كل هذا مجتمعا؟ لست أدري، ولكني أعلم أنه راح إلى أهله مغيظا محنقا يظهر الغضب ويخفي انكسار النفس، وقد ساء لذلك خلقه، فلم يستطع أحد من أهله أن يقول له شيئا أو يسمع منه شيئا. لم يجلس إلى طعام ولم يسمع لحديث، وإنما خلا إلى نفسه فأنفق ليلة ثائرة حزينة كئيبا لم يذق فيها النوم إلا غرارا.
237
كذلك راح أبو جهل إلى داره، وأنفق ليلته فيها. فأما عمار، فقد حمل إلى داره، وحمل معه أبواه، حملهم قوم من قريش فيهم المسلم وفيهم غير المسلم، قد نسوا أو تناسوا ما بينهم من خصومة، وذكروا أن بينهم مكروبا يجب أن يواسى، وميتين يجب أن يواريا في التراب، وقد نهضوا بهذا كله متعاونين كأحسن ما يكون التعاون؛ فرفقوا بعمار، ولم يكن في حاجة إلى الرفق، وأعانوه على دفن أبويه، وكان إلى معونتهم على ذلك محتاجا.
وعاد عمار بعد أن وارى أبويه إلى داره، وقد تفرق عنه المشركون ، والتأمت حوله جماعة من المسلمين، وكان عمار يجد في جسمه ألم العذاب، ويجد في قلبه حلاوة الإيمان، ويجد في نفسه لذع الحزن على أبويه، يقول له عثمان بن عفان: ما يحزنك عليهما وقد استوفيا نصيبهما من الدنيا، وسبقاك إلى نعيم الله ورضوانه؟ ألم تسمع نبي الله وهو يضرب لكم موعدا في الجنة مرة، ويدعوكم إلى الصبر مرة أخرى، وهو يقول: «اللهم اغفر لآل ياسر.» وقد فعلت؟! قال عمار: صدقت أبا عمرو، ما ينبغي أن أحزن عليهما، وإنما ينبغي أن أستبشر لهما وقد سبقا إلى الجنة، وعدهما بذلك رسول الله، ووعد الله حق.
قال عثمان: فإن رسول الله قد وعدك بما وعدهما به!
قال عمار: هيهات أبا عمرو! لو مت معهما لكنت خليقا أن أرضى، ولكنهما ذهبا وبقيت، وفي الحياة فتنة وفي النفس ضعف، وإنه ليحزنني أن فاتني بهما الموت فأصبحت معرضا لما يتعرض الناس له من الإثم الذي يحبط العمل،
238
Неизвестная страница