قال علي: إذن تمنع من ذلك، وقال عمار: أشهد الله إن أنفي أول راغم.
وقد سكت عثمان لقول علي وغضب لمقالة عمار فشتمه، وكان هذا في بعض ما يروى أول الشر الذي انتهى إلى ضرب عثمان لعمار حتى أصابه الفتق، وغشي عليه، وفاتته صلوات الظهر والعصر والمغرب. ثم أفاق فتوضأ وصلاهن، وذكر فتنة قريش له وتعذيبها إياه في الإسلام، ومنذ ذلك اليوم خرج من صمته، وجعل يقوم ويقعد بنقد عثمان، حتى إذا أقبل الثائرون من الأمصار لم ينكر عليهم ولم يحاول ردهم، ثم قتل عثمان فلم يأس
273
على قتله، وربما جادل في أن عثمان قد قتل مؤمنا أو كافرا، وقد خاصم الحسن بن علي في ذلك. كان الحسن يرى أن عثمان مات مؤمنا، وكان عمار يزعم أنه مات كافرا، واشتد الجدال بينهما حتى ارتفعا فيه إلى علي رحمه الله، فكف علي عمارا عن مثل هذا الجدل في رفق.
ولم يشتد عمار في شيء بعد قتل عثمان كما اشتد في مناصرة علي، ولا سيما حين ثارت الحرب بينه وبين معاوية. في ذلك الوقت استبان الحق لنفس عمار وقلبه وضميره، ولم يشك لحظة في أن عليا وأصحابه كانوا على الحق، وفي أن معاوية وأصحابه كانوا على الباطل، ولم يقبل عمار على حرب خالص النية فيها لله ورسوله بعد وفاة النبي كما أقبل على حرب صفين. كانت مقالة النبي له: «تقتلك الفئة الباغية.» قد استقرت في أعماق نفسه، وكأنها ظهرت له جلية نقية ناصعة ساطعة حين خرج مع علي وأصحابه يقصدون قصد صفين. هنالك لم يشك عمار في أن معاوية وأصحابه هم الفئة الباغية، وفي أن هذه الحرب التي كانوا ينصبونها لابن عم النبي إنما كانت تشبه غيرها من الحروب التي كانت قريش تنصبها للنبي نفسه يوم بدر ويوم أحد ويوم الخندق، فخرج عمار إذن إلى حرب صفين على بصيرة من أمره، قد أخلص قلبه لله، ووهب نفسه لله، وابتغى الشهادة في صفين كما كان يبتغيها في المشاهد التي شهدها مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم .
وقد سمعه من سمعه وهو يقول ذات يوم في أثناء مسيره إلى صفين على شط الفرات: اللهم إنه لو أعلم أنه أرضى لك عني أن أرمي بنفسي من هذا الجبل فأتردى فأسقط فعلت، اللهم لو أعلم أنه أرضى لك عني أن ألقي نفسي في الماء فأغرق نفسي فعلت، فإني لا أقاتل إلا أريد وجهك، وأنا أرجو ألا تخيبني وأنا أريد وجهك. •••
وكان عمار في ذلك الوقت قد جاوز التسعين، ولكن الناس ينظرون إليه فإذا هو قد استرد من القوة والشباب والنشاط ما لم يكن لهم عهد به من قبل. كان أسرعهم إلى الحرب وأكرههم للقعود، وأحبهم للموت، وأبغضهم للحياة، وكان مستيقنا يقينا لا يعرض له الشك أنه على حق، وأنه يقاتل في سبيل الله. وقد اشتدت الحرب بين الفريقين بصفين يوما ويوما، فلما كان اليوم الثالث قال معاوية: هذا يوم تتفانى فيه العرب إلا أن تدركهم خفة العبد. يريد بالعبد عمارا، ويريد بخفته شدة نشاطه في الحرب واستخفافه بما تحتاج إليه من مكر وكيد وأناة.
وفي هذا اليوم قاتل عمار نهاره كله حتى ملأ قلوب الناس عجبا وإعجابا، وكانوا يرونه شيخا طويلا آدم،
274
Неизвестная страница