وبقي شيء‏

وإن كنت تعبت‏

لم يتسع الوقت‏

سيزيف والصخرة‏

الحصان الذي نفق‏

لحظة سعادة‏

وبقي شيء‏

وإن كنت تعبت‏

لم يتسع الوقت‏

سيزيف والصخرة‏

الحصان الذي نفق‏

لحظة سعادة‏

وبقي شيء

وبقي شيء

تأليف

ثروت أباظة

وبقي شيء

أخذ طريقه في الحياة وهو يعلم أن لا سبيل له غير اجتهاده. كيف استقر هذا المعنى في نفسه؟ إنه لا يدري. كان الشباب يتفجر في داخله وكان إخوانه يمزقون الحياة بشبابهم، ولم تكن نفسه عازفة عما يصنعون وإنما كان يتوق إلى ملاعبهم وتهفو إليها خواطره ورغباته، وكان يريد أن يكون خنجرا في صدر الليالي يعتصر رحيقها أحمر في لون الخمرة الحمراء أو في لون دماء العذراء، وكانت نفسه تحن إلى الليالي التي لا تعرف بداية أو نهاية؛ ولكنه كان يقمع كل ما تمور به رغباته وينصرف إلى الدرس والمذاكرة. شيء واحد ضعف أمامه ولم يستطع أن يرد نفسه عنه هو المسرح.

وقد جعل ذهابه إلى المسرح في كل يوم خميس هو جائزته عما بذله من جهد في أيام الأسبوع الستة الأخرى. وقد كان منتظما مع المسرح كما كان منتظما مع المذاكرة.

أخلف موعده مع المسرح في مرات قلائل ذهب فيها مع رفاقه، وتمتع بما يتمتعون به وبهرته حياتهم، ولكنه مع ذلك استطاع أن يمنع انبهاره أن يميل إلى طريق الرفاق.

فالحياة التي كان يشاركهم فيها يوم الخميس كانوا هم يعيشون فيها كل أيام الحياة، وربما استثنى بعض منهم شهرا أو شهرين قبيل الامتحان، ولكن الحياة الطبيعية كانت هذه المتعة التي يعيشون بها ولها، والتي خاف بهجت أن يشاركهم فيها بأيام الخميس فتصبح كل أيامه خميسا.

ليس يدري من أين واتته هذه الحكمة التي لا تتفق مع طبيعة الشباب، والتي تختلف بالذات مع طبيعته هو؛ فقد تنسجم مع فتى غير راغب في العربدة، أما هو فيعبد هذه العربدة، ومع ذلك استطاع أن يكون هذا الفتى المثابر في المذاكرة والحريص على النجاح.

ولا يدري أيضا من أين جاءه حبه للتمثيل؛ هذا الحب الذي جعله يواظب على حضور المسرح كل خميس في أيام المذاكرة وكل يوم في أيام الإجازة.

وقد حاول أن يحلل هذا الشغف بالمسرح، فعجز وأسلم نفسه إليه في نشوة وبغير تحفظ.

ربما كان حرصه على المذاكرة وليد ما كانت أمه تنبهه إليه؛ فقد مات أبوه وهو بعد في المراحل الأولى من الدراسة. وقد كان أبوه غنيا واسع الغنى، ولكنه كان يريد هذا الغنى أن يتسع ويزداد ولا تقف به نهاية، فكان يدخل في مشروعات مالية لا آخر لها. ونجحت بعض هذه المشروعات فكان جنون المال عنده يزداد. وهكذا أصبح المال عند أبيه غاية لا وسيلة؛ فكان عنده ما يستطيع أن يحيا به في خفض من العيش وفي بحبوحة ورغد. وكان عنده ما لو تركه لولده لأصبح من الأغنياء الذين تذكر أسماؤهم إذا ذكر الغنى. ولكن لم يكن هدف شاكر أن يصيب المال ليأمن الفقر، ولا أن يصيب المال ليهيئ لابنه أمانا من الحياة. لقد أصبح جمع المال في ذاته هو الغاية والهدف. وحين يصبح الأمر كذلك يصبح من الطبيعي أن يندفع شاكر منتهبا أيام عمره في تحقيق هذا الهدف، وهو لا يدري ما يدريه كل الناس أن هذا هدف لا يمكن أن يتحقق؛ فإنه لا نهاية للأرقام.

ومثلما تستطيع هذه الأرقام أن ترسل الأمن والنشوة الطاغية المتفجرة إلى النفوس، تستطيع أن ترسل الألم المرير واليأس القاتل، وتستطيع أن تصبح ركاما من الثلوج بلا دفء ولا رحمة، فالأرقام التي لا تعرف النهاية لا تعرف الرحمة أيضا.

وحين مات الأب كانت ثروته كلها قد استنزفت في محاولة إنشاء ثروة أضخم، وبقي لزوجته بعض مال يشكل فقرا أكثر مما يشكل سترا، وبقي لها أيضا بهجت في أول حياته، فمستقبله جميعا عبء على أكتافها، وعلى أكتاف هذه الصبابة الضئيلة التي بقيت لها من أموال زوجها.

وكانت تفيدة تعلم أنه لا أمل لها في أن تنال شيئا من عون خيري عم بهجت وأخي زوجها؛ فقد كان الأخوان متنافرين، وربما كان سعار شاكر في جمع المال يرجع إلى غنى أخيه الفاحش؛ فقد كان تاجرا يحسن العمل في تجارته، ولم يكن يتجاوز مجال نجاحه هذا إلى أي مجال آخر؛ فقد كان يتاجر في الفاكهة، والموز بوجه خاص، وقد اشترى من تجارته أرضا زراعية واسعة ولم يزرع فيها إلا الموز؛ فهو في زراعته وتجارته خبير قل أن يلحق به لاحق. وقد حاول شاكر أن يشاركه ولكنه أبى عليه هذا، مدعيا أنه تعود أن يكون منفردا بتجارته وبرأيه فيها، ويخشى إذا شارك أحدا حتى ولو كان أخاه أن يتعثر به الرأي. ولم يكن هذا الطلب من شاكر وهذا الرفض من خيري هو أول الخلاف ولا كان آخره، وإنما هو خلاف نشب بينهما منذ الطفولة، ونما معهما واشتد مع الزمان، وكأنه كائن حي تزيده الأيام قوة وصلابة. وكانت تفيدة على ثقة من أن شاكر لو كان قدر له أن يعيش حتى يبلغ الشيخوخة، لما استطاع وهن الشيخوخة أن ينال من عنف الخلاف بين الأخوين؛ فهو خلاف من ذلك النوع الذي تغذيه الأيام وتزيده مرارة وشرا وقتامة.

أدركت تفيدة منذ بدأت تفكر بعد موت زوجها وهو مفلس، أن ليس لها إلا هذا المال القليل الذي خلفه لها ولابنها. وحين زارها خيري لينبئها أنه تحت أمرها لم تحاول أن تطلب منه شيئا؛ فهي تعرف أن الأخ الذي يريد أن يقدم عونا لا يعرض قولا وإنما عملا، وما دام لم يفعل فالأمر إذن كما توقعته.

واجهت الأيام، ونشأ بهجت في هذه الضائقة، وكان يعرف ما تعانيه أمه وما كان له ألا يعرفه، وكيف وهو لا يسمع من أمه إلا عن هذا العناء. ولعله في نفسه البعيدة كان يرد نفسه عما تشتهيه حتى لا يزيد عبء أمه أعباء.

وحيث إنها سمحت له بالذهاب إلى المسرح، إلا أنه لم يكن يقول لأمه إنه في أغلب الأيام التي يذهب فيها إلى المسرح كان يشاهد روايات سبق له أن شاهدها مرات ومرات، وكان في أول هوايته يعجب من نفسه ومن جنونه هذا الذي يجعله يذهب ليرى شيئا شاهده وعرف كل أسراره، بل إنه في بعض الروايات كان يسبق الممثلين بجمل الحوار، وراح يمعن النظر في شأن نفسه، فتخادعه نفسه عن نفسه ولا يدري سر هوايته. ولكن سرعان ما تكشفت له الحقيقة؛ إنه يحب التمثيل أكثر مما يحب المسرح. إنه يتمنى أن يكون ممثلا، ولا شك في هذا. كانت نفسه تطوي عنه هذه الحقيقة، ولم تكن تعترف بها حتى حين يعود من المسرح، ويقف أمام المرآة ليمثل الأدوار، حتى أدوار النساء والخدم.

أمل لا سبيل إلى تحقيقه؛ فهذه مهنة قد يعترف بها مثقف، ولكن هيهات أن تقبلها أمه له، لقاء ما عانت من حرمان وشظف عيش.

إنها ستقول: أهذا جزائي؟! وفكر أن يحاول، وخاف واستجمع بعض شجاعته ثم لم يستطع. كان امتحان الثانوية العامة قد اقترب وكان قد اختار القسم الأدبي؛ لأنه كان يعرف أنه أقوى في المواد النظرية. وكانت أمه دائما تقول إنها تحب أن تراه وكيل نيابة وقاضيا، فلم تكن تسأله عن الكلية التي يريد الالتحاق بها مفترضة أنها الحقوق؛ فما تعود أن يخذل لها رغبة فكيف إذا كانت أمنية!

للأمومة عند تفيدة لحظات تفيض فيها وتنسى أن ابنها أصبح شابا، وتحب أن تحتوي هذا الابن وتجلسه على ركبتيها وتهزه بهما، وكأنه ما زال ذلك الطفل الوليد. وكانت تفيدة في كثير من الأحيان تحب أن تزيل عن ولدها ما كانت ترسبه في نفسه من مشاعر فقر وحاجة، تربت ظهره وتقبله وتنظر إليه، ويسمع من عينيها أن هذه النظرة حبها من الدنيا، وأنها تجد فيها أعظم مكافأة على ما بذلت من سنوات عمر شداد.

في مرة من المرات ظن بهجت أن الأمومة تستطيع أن تقبل منه أي شيء حتى رغبته في أن يكون ممثلا. - هل أعجبك الفيلم الذي شاهدناه؟ - متى؟ - الشهر الفائت. - ولماذا تذكرته؟ - فقط أسأل. - لقد قلت لك إنه أعجبني ساعتها. - ألم يعجبك الممثل؟ - وكيف لا يعجبني؟! إنه أحسن ممثل في مصر وربما في الشرق الأوسط. - أريد أن أكون مثله. - لقد كان يمثل دور طبيب، وأنت أدبي . - أريد أن أكون ممثلا.

لو كان قد أخرج مسدسا ووضع فوهته أمام عينيها، ما أصابها هذا الذي طفح على وجهها. أخذت، صمتت، انفتحت عيناها حتى أوشكتا أن تنفجرا، إنهما بركانان صغيران بل كبيران هاتان العينان. وجهها صفرة، جبهتها غضون، الابتسامة صارت يأسا، الحنان أصبح هلعا، نور الصباح انقلب في سمتها ظلاما قاتما. لحظات، وطفرت دموع أمسكت بها لن تسيل، فيرتد البكاء إلى صوتها لتقول، فينحبس القول وتبتلعه فيستعصي، وبهجت يتمنى لو لم يكن قال ما قال، ويهم بأن يدعي شيئا يزيل هذا الهول الذي ألم بها فتردعه نفسه. لقد قال، فلينتظر إلى أي مدى تصل به تجربته. واستجمعت الأم نفسها آخر الأمر، وصرخت في صوت مكبوت لا ترتفع نبراته، وإن كان الصياح منه يطرق أبواب السماء. - لو عرفت الأيام التي عشتها أو التي متها من أجلك! الذعر من الغد، واليأس يمسك به بعض الأمل، فإننا بينهما خرقة ممزقة متهرئة لا ترتاح إلى اليأس فتسقط وتنتهي، ولا تتعلق من الأمل بأسباب تتيح لها أسباب البقاء. حياتي خوف راجف بعض منه يزلزل الجبال، والحياة حولي متاهة كبيرة لا أجد أحدا أسأله الطريق، بل لا أجد أحدا أشكو له التيه. أخاف عليك الشتاء يأتي فلا أكسوك، وأخاف عليك أن يجرحك زميل بامتهان. طفولتك شيخوختي وأنا في ربيع الشباب، وشبابك أعبائي وأنا في خريف من الكهولة.

أكل الذي بذلت لتكون ممثلا؟! آمالي ونفسي وطمأنينتي من أجل ... - كفى، كفى، وهل أصبحت ممثلا فعلا؟! - يكفي أن تريد. - كلمة جرها حديث. - بل أنت الذي خلقت الحديث. - ربما أردت أن أمزح. - ليس في القتل مزاح.

طوى أمله في ذلك المكان من نفسه الذي تعود فيه أن يكبح رغباته. ولو أن هذا الأمل كان جامحا لا يتيح له أن يهدأ أو يرتاح إلى يأس.

دخل كلية الحقوق وسار حياته كما تعود أن يسيرها، واطمأنت أمه فلم تصبح تخشى عليه أن يذهب إلى المسرح في كل أسبوع كما تعود. وانتهت السنوات حتى صار إلى السنة النهائية، ثم حدث حادث.

كان عمه يزور مزرعته ومعه زوجته وابنه الوحيد عاصم، وكان لا بد للعم أن يعود إلى القاهرة في المساء، وكانت السماء تمطر ذلك المطر المصري الهين، الذي يجعل الطريق صعيدا زلقا، والذي يجعل السيارات معرضة لخطورة بالغة. ولولا أن خيري كان واثقا من مهارة سائقه لاتخذ في السفر وسيلة أخرى غير السيارة. ولكن كيف إذن تنقلب حياة بهجت؟! انقلبت سيارة خيري في النيل ومات الأربعة جميعا، وفجأة أصبح بهجت الوارث الوحيد لعمه.

لو لم يكن في نهاية الطريق في كلية الحقوق لكان فكر أن يكتفي، ولكن لم ير بأسا من أن يكمل دراسته، وانتهز الفرصة من هذه الأشهر التي كانت تفصل بين الثروة المفاجئة التي هبطت عليه، وبين الامتحان ليعد الخطة التي يريد أن يختطها. في أناة وروية أعد خطته وبغير أي تسرع، ونجح بهجت في الامتحان. - هل تصرين أن أكون وكيل نيابة؟ - هذا شيء أحبه لك، ولكن أنت في ذلك حر؛ فما دمت قد نلت الليسانس فأنت ... - إذن فاسمعي ما أقوله لك جيدا ولا تغضبي. - قل. - المال الذي تركه لي عمي. - ما له؟ - أولا أنا سأصفي التجارة. - ولماذا؟ - أتريدين أن أصبح مثل أبي؟ - وكيف؟ - لو تاجرت فسأصبح مثله كما تعرفين؛ لا أدري من شأن الموز شيئا إلا أنه فاكهة يأكلها الناس بعد أن يقشروها، وتقول الأمهات لأولادهن لا ترموا القشر في الطريق، حتى لا يتسبب في وقوع الناس، وإلى هنا وتنتهي معلوماتي عن الموز. - هذا عن التجارة، فماذا عن الزراعة؟ - إن عرفت عن الموز جملة، فأنا لا أعرف في الزراعة حرفا. - فستبيع الأرض إذن؟ - لا، وصلت إلى طريق. - ما هو؟ - سأؤجر الأرض إلى خبراء، وقد سألت فعرفت القيمة المناسبة، ولن أكون مظلوما في الإيجار. - تفكير لا بأس به. - وعلى هذا فرأس المال سيبقى ولن يمسه أحد، حتى ولو انتحرت؛ فلا شك أنني سأتزوج، ولا أحب لزوجتي أن تعاني ما عانيت أنت معي. - عين العقل. - وأيضا سأعتبر ما أحصل عليه من تصفية التجارة من ضمن رأس المال، وسأشتري به أسهما باسمك حتى لا أمسها. - أنا لا أريد شيئا. - أنا الذي يريد أن يكبل نفسه. - وهو كذلك. - المال السائل بعد ذلك أنا حر فيه. - وماذا ستفعل؟ - هذا شأني؟ - ألا تقول لي؟ - ستعرفين.

وعرفت. كانت آمال المتعة ما زالت تداعب نفسه، ولكن الأمل في أن يكون ممثلا كان أكبر. ليس من السهل أن ينشئ مسرحا؛ فهو يعلم أن أحدا لم يسمع به، وأن أحدا لن يرى مسرحه، وستكون التجربة غير مقنعة بالنسبة إليه.

فهو يريد أن يعرف رأي الناس، ولن يأتي هؤلاء الناس للمسرح أبدا ما دام هو منشئه.

كان قد أعد الخطة: سيعتمد في أول الأمر على مشاهير الممثلين، وسيمثل إلى جانبهم الروايات العالمية؛ إنه يريد أن يمثل عطيل ويسأل ديدمونة عن المنديل.

وفيدرا.

وأوديب الملك، ويخرج عينيه ويصبح أعمى.

وصلاح الدين، ويحارب.

وأنطونيو وكليوباترا ويحب ويخون بلاده ثم يموت في سبيلها.

أهل الكهف لتوفيق الحكيم.

وكل الأدوار.

يريد أن يكون ممثلا كوميديا أيضا، فيجمع إلى بطولة المأساة بطولة الإضحاك. وهو يعلم أن موهبته بقدر ما يريد.

أنشأ المسرح.

وبدأ التمثيل، وكان لا بد من البروفات، وكان المخرج أمينا، ولكنه وجد نفسه وجها لوجه أمام رجل صاحب مال، ولكنه يقف لأول مرة على المسرح فانتحى به جانبا. - أستطيع أن أقول لك إنك أعظم ممثل في العالم. - غير معقول! - أنت صاحب المال، والمفروض أن صاحب المال هو أعظم كل شيء في العالم. - ولكنك أمين. - ليس فقط لأنني أمين، ولكن أيضا أعلم أن كذبي سينكشف منذ اللحظة الأولى التي سيرفع فيها الستار عنك. - وماذا ترى؟ - ماذا ترى أنت؟ - أمرك. - أمري أن تؤجل افتتاح المسرح عاما كاملا. - عاما كاملا؟ - أعلمك فيه التمثيل. - وهل عندي موهبة؟ - أكذب أيضا لو قلت إنني أعرف؛ فكثيرا ما انتظرنا أن يصبح تلميذ من تلاميذنا أحسن ممثل في العالم، ثم لا يقبله الجمهور. والعكس صحيح؛ نجح من كنا نتوقع لهم الفشل الذريع. - ولكني أعبد المسرح. - المسرح لا يهتم كثيرا بمن يعبدونه أو لا يعبدونه. - وكيف أعرف؟ - أستطيع بعد فترة من تمرينك أن أخبرك، ولكن الحكم ليس لي. - للجمهور. - إنه لا يهمه أن تكون صاحب مال أو لا تكون، ولا يهمه أن تكون صاحب موهبة أو لا تكون، هو يقبلك وهو لا يقبلك، دون سبب، وهو لا يحتاج أن يبدي أسبابا. - والنقاد؟ - لا شأن للجمهور بالنقاد؛ فقد يصفقون ويشقون حناجرهم بالهتاف للرواية أو للمسرحية أو للمؤلف أو للممثل، ولا يقبل الجمهور، وقد يكيلون الصفعات ويقبل الجمهور. - إذن! - الأمر لك. - ليكن ما تريد.

وبدأ العام واستطاع صحفي ذكي أن يتعرف على بهجت، واستطاع أن يجعل من تجربته هذه مادة صحفية فيها طرافة وفيها جد، وفيها أيضا شهرة سبقت بهجت إلى المسرح، وأقبل عليه مصورو الصحف يلتقطون صورته وهو يتعلم التمثيل، ويجرون معه الأحاديث فيخبرهم عن الكتب التي يقرؤها في هذا الفن، واستطاع المخرج فعلا أن يجمع له برنامج المعهد العالي كله في عام واحد. أما الامتحان فهو لم يكن في حاجة إليه. وكانت المجلات والصحف تضع عناوين مثيرة للتجربة: المحامي يترك ساحة القضاء إلى خشبة المسرح، بهجت شاكر لا يستعجل الشهرة وإنما يعد نفسه للفن الصحيح ... والمجال واسع والصحفيون في إنشاء العناوين لا مثيل لهم.

وانقضى العام، وكان بهجت ذكيا، فلا يقبل أن يكون هو بطل الرواية، وإنما قدم أحد عمالقة المسرح، ونخبة متألقة من نجومه ليقف في ظله وظلها.

ونزلت الإعلانات في بذخ الأسماء الكبيرة: أحمد فؤاد، وسهام سامي، وبالخط الكبير الضخم، وتحتها في تواضع: بهجت شاكر.

أحمد فؤاد، ممثل أصبحت شهرته تملأ العالم العربي أجمع، واستطاع من خشبة المسرح أن يكون نجما سينمائيا شهيرا.

وسهام سامي فتاة في ريعان العمر متألقة الجمال، قفزت هي الأخرى إلى السينما، وأصبح تمثيلها على المسرح حدثا فنيا من شأنه أن يحقق النجاح.

وكانت الليلة الأولى.

ويرى الجمهور لأول مرة في حياته ويراه الجمهور.

كانت الليلة ناجحة نجاحا باهرا؛ فالمدعوون يملئون المسرح وليس الجمهور، والمدعو فرح دائما؛ لأنه تفلت إلى المسرح مجانا؛ فهو كثير التصفيق. ولم يدر المصفقون ماذا صنعوه بتصفيقهم هذا لبهجت. لقد جن به الجنون وراح يجوب الطرقات ماشيا، تاركا سيارته أمام المسرح. لقد حقق الأمل الأكبر في حياته ولقد أصبح ممثلا.

وفي الليلة التالية عرف المخرج وعرف الممثلان الكبيران أن المسرحية فشلت. ولم يدرك بهجت هذه الحقيقة إلا في اليوم الخامس، حين تقلص المدعوون وأصبحت الصالة لا تحوي إلا المشترين. لم يفكر في خسارته المادية ولكنه أحس أن أمله بعيد، وأنه ما زال بينه وبين هذا الأمل مدى بعيد، كان هذا أمله الوحيد بعد سوسن وقد ضاع أيضا.

أدرك هذه الحقيقة على رغم مقالات النقاد، التي أمطرته بوابل من المديح والتمجيد.

كان قبل تجربته يظن أن أقلام النقاد هي رأي الجماهير، ثم روعته الصالة الخاوية التي تمثلت له هوة من الفراغ واليأس، وأدرك أن النقاد جمهور مستقل بذاته، لا صلة بينه وبين الجمهور الذي يصنع النجوم. إن هذا الجمهور يحكم بلا حيثيات، ويصدر حكمه في قسوة واضحة بلا رحمة، وبلا محاولة للتلطف في التعبير أو إبداء الرأي. إنه ببساطة لا يشتري التذكرة؛ وبهذا التوقف عن الشراء يصدر الحكم.

حاول الصحفي ذكري لطيف: ليست التجربة الأولى هي كل شيء. - بل هي كل شيء إذا لم أعرف العيب حتى أصححه. - الرواية أرفع من مستوى الجمهور. - إن عدم إقبال الجمهور لا يعطينا الحق أن نشتمه. لقد أقبل على روايات أعلى مستوى مما قدمت. - مسألة حظ. - حجة عاجز. لماذا يخدم الحظ غيري ولا يخدمني، وقد هيأت له كل الفرص ليمشي في ركابي؟ - الحظ لا يسأله أحد. - ألا تجرب مرة ثانية؟ - أوأدري فيم أخطأت في الأولى؟

ولم يجد ذكري شيئا يقوله، ورن جرس التليفون في بيت بهجت. - آلو، من؟ - أنا سهام. - سهام سامي؟ - هل تعرف غيرها؟! - أهلا. - ماذا تفعل الليلة؟ - أمثل. - أقصد بعد التمثيل. - أنام. - بل لا تنم. - خير؟ - أريدك أن تتعشى عندي. - أمرك.

وسألته أمه عما تريده منه سهام فأخبرها. - ما المناسبة؟ - لا أدري، يبدو أنها تريدني في شيء مهم. - وماذا بينك وبينها؟ - زملاء. - هل أصبحت مثلها؟ - على كل حال هي تعمل عندي الآن. - ليست هذه لغة فنون ولكنها لغة صاحب مال. - يبدو أن هذه هي الحقيقة. - فلماذا لا تقتنع بها؟ - حين أتأكد سأقتنع. - أتريد أن تتأكد؟ - لقد علمني الفقر كثيرا. - مثل ماذا؟ - مثل أن أواجه الحقيقة مهما تكن مرة. - فواجهها. - حين أراها بعيني سأواجهها. - ألم ترها؟ - ليس بعد. - سأتركك حتى تراها. - لو كنت رحبت بفكرة أن أكون ممثلا يوم عرضتها عليك أيام الفقر، لأخذت رأيك اليوم بلا أي تفكير، ولكنك لو رأيت نفسك يومذاك وإلى أي حد ذعرت، لعلمت أنني على حق حين أرفض رأيك، أو على الأقل أتحفظ في الأخذ به. - أرجو أن أكون مخطئة وتكون محقا.

وفي العشاء وجد بهجت نفسه مع سهام سامي وأحمد فؤاد، ووجد معهم ثالثا يعرفه بالشهرة ولم يكن قد التقى به قبل ذلك؛ إنه سالم خليل المخرج السينمائي.

قال أحمد: عدم نجاح تجربة المسرح يجعلنا نبحث عن الطريق السليم. - وما هو؟ - ما رأيك في الإنتاج السينمائي؟ - لا خبرة لي فيه. - ولم تكن لك خبرة بالمسرح. - لقد أخذت أحسن العناصر التي تعمل في المسرح. - وستختار أحسن العناصر التي تعمل في السينما. - لم أنجح في التجربة الأولى. - وقد تنجح في التجربة الجديدة. - هل عندك قصة؟ - سالم خليل هو الذي اختارها. - هي قصة لكاتب معروف لم يسقط له عمل قبل اليوم. - هل أنت واثق منها؟ - أستاذ بهجت، إن لي اسما لا بد أن أحافظ عليه. - هل معك القصة؟ - معي. - أقرؤها. - إذا شئت؛ فأنت رجل مثقف وتستطيع أن تحكم. - لم أستطع أن أصل في المرة السابقة. - كم من فشل أعقبه نجاح. - أستاذ سالم، أتعرف لماذا قدمت هذه المسرحية؟ - حبا للفن. - أنا أريد أن أمثل، لا أريد مالا فعندي ما يكفيني، ولكنني أريد أن أمثل. - وهذا وحده سبب معقول. - وأحب المسرح. - لعلمك إذا نجحت في السينما تستطيع أن تنتقل إلى المسرح. - آخذ الطريق من آخره. - المهم أن تصل. - أجرب. ولكن هل رأيت المسرحية؟ - نعم، نعم. - لماذا فشلت؟ - لا أدري، كثيرا ما تكون الأعمال جيدة ولا تنجح. - لا شك فيها. - وأنت يا أستاذ أحمد؟ - فعلا . - وأنت يا سهام؟ - ألم تلاحظ أنني لم أتكلم من أول الليلة؟ - لاحظت. - فاسمح لي إذن أن أكمل الليلة بالأحلام. - ألا تخبريني على الأقل برأيك في موهبتي؟ - لو قلت رأيي لقلت كل شيء، إن لي معك كلاما آخر. - أمرك. - متى ستقرأ الرواية؟ - سأتصل بك في مدى يومين. - أحمد يعرف كيف يجيء بي؛ فهو يمثل معي الآن، حين تنتهي من القراءة قل له وأنا تحت أمرك. - وهو كذلك.

ليس يدري لماذا فكر وهو في السيارة في قصة حبه الكبيرة، إنها تلح عليه، منذ اللحظة الأولى التي عرف فيها سوسن، منذ هما يتقدمان معا للجامعة، وهي بجمالها الهادئ القوي تقف عاجزة، لا تدري ماذا تفعل وكأنما توسمت أن تجد عنده عونا، وقام عنها بالإجراءات. لقد كانت في طريقها إلى كلية الحقوق مثله، وتعارفا وأحبها حبا عنيفا جارفا، حتى لقد قرر فجأة: لا بد أن أتركك. - المفروض ألا أسألك لماذا؛ فتركك لي امتهان وسؤالي إمعان في هذا الامتهان؛ ولهذا فأنا أسالك: لماذا؟ - لأنني أكبرك وأحبك وأحبك. - تخاف من المستقبل. - فقر وضياع وذل وهوان، وأنظر إليك فأجد أنك ليس لهذا خلقت. - أنت في السنة الثانية من كلية الحقوق، ومن يدري ماذا سيحدث حتى نتخرج بعد سنتين. - أما ما سيحدث لي فلا شك فيه، وأما ما يحدث لك فإن أمره إذن سيكون بلا شك خيرا من حياتك إذا ما ارتبطت بي. - ومن يدريك؟ - طبائع الأشياء. - ألا يكفي أن تحبني وأن ... أحبك؟ - يكفي لو كنا سنؤلف قصة لا بيتا. - وماذا تريد مني؟ - إذا جاءك خاطب فلا ترفضي. - هذا أمر؟ - هذا انتحار. - ومن أنبأك أنني أقبل لك هذا؟ - لا بد أن تقبليه، أرجوك. - وتلح أيضا؟! - سعادتك عندي تستحق هذا الإلحاح. - كلام عجيب لم أسمع مثله من قبل! - لأنك عرفت الحب من كتاب سخفاء يكتبون القصص ولا يكتبون الحياة. - لهذا السخف تحب أن تعيش؟ - ولكن الحياة لا تحب أن تعيش به. - لو لم أكن أدري مقدار حبي لك الذي يجعلني أثق بمقدار حبك لي، لظننت أنك تريد أن تتخلص مني. - سوسن، الحياة التي تنتظرني شاقة، والعبء فيها ثقيل إذا تزوجتك. - سأعمل ولن أكون عبئا عليك. - إنك تستحقين خيرا من هذا. - لماذا تضحي أنت ولا أضحي أنا؟! - ولو كنت أستطيع الزواج بعد تخرجي لضحينا معا ولكن لا أستطيع. - وفيم العجلة؟ - ستكون حياتي جحيما وأنا أعرف أنك تنتظرين موعدا لا أدري متى إنجازه. - لقد جاءني الخاطب. - ورفضته؟ - أنا رفضته. - ولكن أباك لم يبلغه الرفض. - لم يبلغه؛ فهو معجب به. - أغني هو؟ - وهل ينظر أبي إلى غير هذا؟ - اقبليه. - هل أنت واثق؟

ولم يجب، وإنما سارع يبتعد مخفيا دمعاته. كانت قد تعودت أن تعنف به ويقبل عنفها. امتنع عن الصخب مع الرفاق وامتنع عن ملذات الشباب، وامتنع عن متع كثيرة يعلم أن فقره لا يتيحها له، ولكن ما فرضه على نفسه مع سوسن كان أبعد الجراح غورا. وحين جاءت ثروة عمه كانت سوسن قد أنجبت طفلها الأول.

وحين التقى بها في الكلية بعد أن سمعت بغناه المفاجئ نظرت إليه نظرة طويلة، ولم يجد شيئا يقوله أو يعمله إلا أن يغمغم: لم أكن أدري.

وابتسمت في مرارة: لقد أصدرت حكمك على المستقبل دون أن تقرأ صحيفة الدعوى. - لا تزيدي آلامي. - إنها بعض آلامي. - أسعيدة أنت؟ - تريد أن تطمئن على تضحيتك؟! - أريد أن أطمئن عليك. - لا تطمئن. - اتركيه. - وماذا أقول لابني حين يصبح في مثل عمرنا؟ - ألا سبيل؟ - الأحكام التي تصدرها الحياة لا يجوز إعادة النظر فيها لسابقة الفصل في الدعوى. - بلا استئناف؟ - فات موعده. لا تطعن. أنت لم تخطئ في تطبيق القانون، ولكنك أخطأت في وجهة النظر. لا نقض ما دام القانون قد طبق. - تسدين علي المسالك. - أنا فقط أبقي عليها مسدودة كما أردتها. - أهذا ما كنت أريد؟ - أحببت أن ترى نفسك بطلا، افرح لقد أصبحته. - أحببت أن تعيشي في سعادة. - هيهات؛ أتعرف أنت أين سعادتك أو أين سعادتي. - خيل إلي، ظننت. - الأحكام في الحياة لا تبنى على ظنون. - ألا ترحمين؟ - إني راحمة لأني أعرف دوافعك. - لعلها تغفر لي عندك. - لقد غفرت لك عندي منذ دمعاتك التي أخفيتها.

وانصرف عنها إلى الأبد وهو يخفي دموعه عنها مرة أخرى.

ما الذي جعله يذكر هذا؟ لا يدري أفي نفسه حب جديد؟ ربما. حين ذهب إلى البيت أمسك بالرواية ونظر إليها بضع دقائق، قلب صفحاتها، كانت المرة الأولى التي يقرأ فيها سيناريو، كان الوقت متأخرا فألقى بها إلى جانبه، وانصرف يهيئ نفسه إلى النوم.

في الصباح كان أول شيء سمعه دعوى تليفونية من سهام سامي. - هل قرأت الرواية؟ - لم أبدأ بعد. - هل يمكن أن أقول لك رأيا؟ - واضح أنك دعوتني من أجل هذا. - أنت رجل مستقيم. - أرجو أن أكون كذلك. - ولكن أتحب الرأي المستقيم؟ - كنت أرجو أن تكوني عرفتني أكثر من هذا. - إذن اسمع. - أنا أسمع. - حرام أن تضيع مالك ووقتك. - هواية؛ أنا أعبد التمثيل. - اعبده كما تشاء ولكنك بلا موهبة. - هكذا مرة واحدة؟! - اسمع، أنا لست أستاذة في المعهد ولا تسمح لي سني أن أكون خبيرة، ولكن لي حاسة، وقد تدربت هذه الحاسة فأصبح لها حكم في هذا الوحش الذي يسمى التمثيل، ولي أيضا أصدقاء قالوا لي ما لا يستطيع أحد أن يقوله لك، أو ما يحب الكثيرون أن يخفوه عنك لمصالحهم الخاصة. ابتعد عن هذا الوحش إنه فتاك يمتص فريسته ويخدعها، ويسلط عليها غرورها حتى تصبح نفاية بشرية. - الحكم غاية في القسوة. - بعد سنوات قلائل ستدرك أنه غاية في الرحمة. - ولماذا تقولين لي هذا؟ - لو كان غيرك ما قلت له شيئا؛ فهذا الفن يجعل بعض العاملين فيه يتحاسدون. ولو كنت أعلم أنك من هذا الصنف لمنعت نفسي أن أصارحك؛ خشية أن تظن أنني أخشى على مستقبلي منك. - ما هذا الكلام الفارغ؟! أنت في مجدك هذا تخشين ناشئا؟!

قل أن يدرك ناشئ أنه ناشئ. وهو يبحث دائما عن سبب مثل هذه النصيحة غير أن تكون خالصة. فليطمئن نفسه أن الممثلة التي بلغت من شهرة تخاف على نفسها منه؛ ولهذا تنصحه أن يبتعد عن التمثيل.

وإذا تخلصت منه أليس من الطبيعي أن يأتي آخر يكون صاحب موهبة حقا؟

الفاشلون يعمون عن كل الحقائق، فلا يدركون مثلا أن لكل نجم في التمثيل فترة، وأن النجم لا بد له من نجوم حتى يؤكدوا وجوده، وكل هذا يغيب عن تفكيرهم ليؤكدوا لأنفسهم أنهم أصحاب مواهب. - وما رأيك في الإنتاج السينمائي؟ - مربح جدا لمن يفهمه، وخراب للهواة أمثالك. - ولكنك مع ذلك لم تجيبي على سؤالي. - لقد نسيته. - لماذا تقولين هذا لي؟ - أخشى على نفسي منك. - هذه فهمناها، وماذا أيضا. - أخشى عليك من نفسك. - هل تقدمين نصيحتك لأي إنسان تخشين عليه من نفسه. - لا شأن لك بهذا.

إنهم يحتفلون بعيد ميلاده الستين، تحتفل به ابنته إخلاص وابنه فتوح، ويحتفل أيضا به زوج ابنته سعيد مجدي المحامي، ويحتفل أيضا أبناء ابنته إلهام وبهجت، والجميع يلتفون حول الممثلة السابقة والجدة الحالية سهام سامي.

سنوات مرت وسنوات، وقطع من العمر طريقا طويلا، ومن النجاح طريقا أطول، فلم يكن أمامه أن يعود إلى المحاماة، وكان قد تعود الجد الذي أرغم عليه في أول حياته، فنجح نجاحا ساحقا.

وأصبحت شهرته تشمل العالم العربي أجمع، بل إنه تولى قضايا دولية خارج العالم العربي.

ولكن العجيب أنه مع كل هذا النجاح بقي له شيء هام من هوايته القديمة؛ فهو يمثل في كل تصرف يعمله، يمثل في المحكمة، يمثل مع أبنائه، يمثل مع أحفاده، والغريب الغريب أنه يمثل مع الممثلة الشهيرة زوجته، وكانوا جميعا يضحكون فيما بينهم على طريقة تمثيله، ويزدادون له حبا من أجلها، لم تمر به هوايته عبثا.

لقد بقي منها شيء، بقي منها شيء كثير.

وإن كنت تعبت

- لا أرى أي فائدة في التجديف. - ومع ذلك لا بد أن تجدف. - الأمواج تتصرف بالقارب غير عابئة بهذا التجديف. - ومع ذلك لا بد أن أجدف. - لماذا؟ - هذا عملي. - وإن كان بلا فائدة؟ - ليس هناك عمل بلا فائدة. - أتراك توجه القارب بتجديفك هذا؟ - أنا لا أدري ولكن لا بد أن أجدف. - فإذا كنا تحت رحمة الأمواج؟ - ولكن لا يستوي من يجدف ومن لا يجدف. - كيف عرفت؟ - انظري حولك الجميع يجدفون. - أترى الجميع؟ - أرى من حولي. - ربما كان هناك آخرون لا يجدفون. - أولئك لا شك قد توقفوا في الطريق. - أنت تستنتج؟ - بل أنا أعرف. - كيف عرفت؟ - وعرفت معي. - تقصد هذا الذي يقوله لنا الآخرون؟ - نعم. - أتصدقه؟ - ولماذا أكذبه؟ - أنا لا أصدق شيئا لا أراه. - ومع ذلك فأنت تعرفين أن ابنك يجدف هو الآخر مع زوجته، وأنت وابنتك في قارب زوجها الذي يجدف هو بها ويطفيه. - ما شأن هذا بما قلت؟ - أنت لا ترينهم دائما ومع ذلك تعرفين أنهم موجودون. - موجودون طبعا. - أن تصدقي ما تريدين أن تصدقيه وترفضي ما لا تحبين. - ربما كان تجديفهم عبثا هم أيضا. - وليكن ولكن لا بد أن نجدف. - ربما إذا توقفت عن التجديف بعض الشيء يتواثب السمك إلى قاربنا. - بل السمك لا يثب إنما ينبغي أن نقتنصه بالشباك، وأنت تعلمين ذلك. - ومع ذلك فهو يثب أحيانا. - الاستثناء ليس القاعدة. - ألا تذكر السمكتين اللتين وثبتا معا إلى قاربنا دون جهد؟ - مرة. - ولكن السمك يثب إلى قوارب أخرى أفواجا. - ومع ذلك فأصحاب هذه القوارب يصيدون بالشبك هم أيضا. - هواة متاعب. - يفعلون ما يجب أن يفعلوا. - لو كنت مكانهم لاكتفيت بالسمك الذي يثب إلى القارب. - من يدري ربما إذا توقفوا عن الصيد توقف السمك عن الوثوب إليهم. - فليجربوا. - ليس لدينا وقت للتجارب. - من تقصد؟ - نحن جميعا، جميع الذين يجدفون يجربون أن يتوقفوا. - ما الذي يخيفهم؟ - الذي يخيفنا. - وما الذي يخيفنا؟ - الذي يخيفهم. - وما آخرة هذا التجديف؟ - أظن أننا سيأتي علينا وقت ونستريح. - من أين عرفت؟ - لا شيء يظل كما هو. - طبعا. - كانتا ضعيفتين أول الأمر ثم أخذتا تشتدان شيئا فشيئا، ثم أخذتا تضعفان شيئا فشيئا. - فكف عن التجديف إذن. - سيأتي وقت أكف فيه على رغم أنفي، لا تستعجلي. - لقد جئت إلى قاربك وذراعاك قويتان. - أعرف ذلك. - لم تشك إلي ضعفهما إلا الآن. - ومع ذلك فقد عرفت أنهما ضعفتا. - نعم. - ولم تقولين؟ - كنت أيضا أحس بالضعف. - أعرف ذلك. - ولم تقل؟ - الأشياء البدهية لا داعي لذكرها. - ولكننا مع ذلك نقولها . - إن تجنبنا البدهيات في كلامنا، ما زاد كلامنا عن جملة كل سنة. - أخاف على ابنتي. - لماذا؟ - إنها تجدف مع زوجها. - وأي غريبة في ذلك؟ - لم نعودها على ذلك. - كنا مخطئين. - أخشى أن تتعب. - ولماذا لا تخافين على زوجة ابنك؟ - إن من واجبها أن تجدف مع زوجها. - أليس هو نفس الواجب بالنسبة لابنتك؟ - صحتها ضعيفة. - أرى صحتها أحسن من صحة زوجة ابنك. - أيامنا لم نكن نجدف. - الأيام تتغير، أين نحن وأين هم؟ - نعم، بيننا مسافة بعيدة. - والمسافة بيننا وبين آبائنا أبعد. - بل يخيل إلي أننا نقترب منهم. - ليس إلى الحد الذي تتصورين. - إلى أين نحن ذاهبان؟ - إلى أبي وأبيك وأمي وأمك. - منذ زمن بعيد لم نرهما. - كلما اقتربنا إليهما زاد شوقنا لرؤيتهما. - تعبت، فتوقف. - لا أستطيع. - ألا ترى الموج يسير بنا حتى وإن لم تجدف. - لا بد أن أساعده. - يخيل إليك أنك تساعده. - بل يعرف أنني أساعده، على الأقل حين أجدف أحس أنني أتقدم. - وهم. - بل الوهم أن أتوقف وأترك للموج كل شيء. - إن كل شيء في يده. - ولكنه مع ذلك يريدني أن أجدف. - أقال لك هذا؟ - كثيرا. - أبينك وبينه حديث؟ - لا تسمعينه. - حسبت أنني وحدي التي أكلمه. - وإنما نظن أننا ننفرد بأشياء. - غرور. - لا بد منه. - لماذا؟ - لنتحمل الرحلة الطويلة. - ألا تحتمل إلا بالغرور؟ - وبأشياء أخرى. - مثل ماذا؟ - مثل التجديف. - وماذا؟ وهذا الكلام الفارغ. - ولا أدري، ربما أيضا بشعورنا أننا لا بد أن نحتمل. - وإن لم؟ - لا يهم، سواء عند الموج أن نحتمل أو لا نحتمل، فالرحلة ستتم. - أعلم، أتذكر متى بدأنا الرحلة؟ - لم أعد أذكر شيئا. - ولا أنا. - هذا حسن. - لماذا؟ - ربما معناه أننا اقتربنا. - أتريدنا أن نقترب؟ - لا. - ولا أنا. - مع أنك تعبت؟ - مع أني تعبت.

لم يتسع الوقت

حين تقرر أن يسافر إلى السعودية لأعمال الشركة البولندية التي يعمل بها، لم يفكر في شيء آخر إلا أن يزور الأراضي المقدسة، ويطوف حول الكعبة المكرمة ويقف أمام شباك النبي.

ولم يكن توقه إلى العمرة عن أي شعور بالإيمان ، بل كان كل ما يفكر فيه هو تحدي هذه الرواسب، التي تسيطر على أفكار المسلمين، والتي يرى أن انصياعهم لها ما هو إلا تعلق ببقايا الأبوة وعهود الصبا والطفولة. وكان واثقا أن الإنسان لا يمكن أن يؤمن بفكرة الدين أو التعلق بأوهامه.

هو واثق من نفسه ومن أفكاره، وقد ازداد بها وثوقا حين اختار المذاهب الشيوعية مذهبا، وانسلك في قالبه وواجه كل ما واجهه أصحاب المذاهب من عقاب، كما نال كل ما ناله هؤلاء من ثواب.

والوظيفة التي يرتع فيها الآن ما هي إلا نهر من فيض البحر، الذي انسكب على أبناء مذاهبه؛ فما كانت الشركة البولندية لتعينه لو لم يكن شيوعيا غارقا في الشيوعية، يهب لها نفسه وإلحاده، ويقدم إليها أيضا فقره لترده عليه غنى ووفرة ورفاهية ورخاء.

وقد استطاعت الشيوعية أن توفر له ما لم تستطع الرأسمالية أن توفره لأحد من أمثاله؛ فسيارته كاديلاك من آخر طراز. نعم السيارة رأسمالية، ولكن ما دام الشيوعي قد استخدمها فإن سيارته هذه الكاديلاك بالذات تصبح شيوعية بالتخصيص.

ومنزله من أفخم منازل الزمالك، وأثاث بيته غالي الثمن غلاء فاحشا. لا يهم من بعد إن كان يتسم بالذوق السليم أو لا يتسم؛ فكل ما يهمه أن يكون غالي الثمن.

أما ملابسه فهي في الحق مضحكة؛ لأنه فيما يبدو مصاب بعمى الألوان؛ فتراها تختلط على جسمه كقصة غير معقولة، أو كموسيقى صاخبة يعزفها قوم لا قائد لهم ولا نوتة تجمع بينهم. ولكن كل وحدة من وحدات ملابسه ثمينة في ذاتها، واضح أنه بذل فيها المال الكثير؛ فقد كان يعنيه دائما أن يبذل المال الكثير فيما يركب أو يسكن أو يلبس.

وكان يتيه دائما بين الناس بأنه لا يمد يده لأي دولة شيوعية، وأنه شيوعي بالمبدأ لا بالجيب، وهو بطبيعة الحال يرى أن وظيفته هذه التي يشغلها، والتي تسكب عليه هذا المال، حق طبيعي له لا صلة لها بالشيوعية، هو يرى ذلك أمام الناس وحين يخاطبهم، ولكنه في دخيلة نفسه يعرف تماما، أنه لو لم يكن شيوعيا لما زاد دخله عن دخل زملائه الذين تخرجوا معه، والذين يعملون في الوظائف العادية والذين يعجز مرتبهم أن يطاول عشر مرتبه.

هو واثق كل الوثوق أن ذلك الخير الذي يمرح فيه سببه الوحيد الذي لا سبب غيره أنه شيوعي، ويعلم أن الكلية التي تخرج فيه قد منحت الحياة الآلاف من أمثاله، أغلبهم أكثر منه علما ودربة على العمل وإتقانا له.

ولكن الشيوعيين وحدهم من هؤلاء الآلاف الذين يستطيعون أن ينالوا ما تهبه لهم الحياة من حظوة، وأصحاب الجرأة فيهم هم الذين يستطيعون أن يواجهوا الناس. إنهم لا يمدون يدهم لأي بلد أجنبي. وهو من أصحاب الجرأة هؤلاء.

حين نزل إلى جدة قصد إلى فندق الرياض، حيث كانت شركته قد حجزت له حجرة فاخرة ذات غرفة ملحقة وتليفزيون، وبعد أن أودع الحجرة حقيبته ونظر إلى المرآة، واطمأن على القصة غير المعقولة التي يضعها على نفسه، نزل إلى بهو الفندق ينتظر أصحاب العمل الذي جاء من أجله.

ولكنه فوجئ بصديقه رفعت جالسا في البهو. - أنت، أنت في السعودية؟ - عمل. - فقط؟ - طبعا سأعمل هذه العمرة التي تحكون عنها في دينكم. - وأنت، ألك دين آخر؟ - أنت تعرف. - فعلا، أنت مسكين، أنت بلا دين على الإطلاق. - أحمد الله على ذلك. - بل احمد الشيطان إن شئت. - المهم أنت ماذا تفعل هنا؟ - أنا جئت من أجل هذه العمرة التي نؤمن بها نحن المسلمين. - وهل قمت بالعمرة؟ - ليس بعد، أنا على موعد مع الأصدقاء أن نقوم بها. - أذهب معكم. - ألا تخاف؟ - أخاف مم؟ - ألا تخاف أن تؤمن؟ إن للكعبة روعة وإن لقبر الرسول ضياء لا تراه العين، وإنما ينفذ إلى القلب وإلى حنايا المشاعر، فيرج الإنسان رجا عميقا، وترى روحك محلقة إلى عليين، تطوف مع النبي في رحلة آخر دين أرسل إلى الناس، وتراه معذبا في سيبل عقيدته، ثم تراه في خطبة الوداع أتم دينه وبشرنا أن الله رضي لنا الإسلام دينا. يخطب في أصحاب عام حجه: «إن دماءكم وأموالكم حرام بينكم، حرمة يومكم هذا في شهركم هذا في عامكم هذا»، ويهتف بهم وهو يختم رسالته إلى البشرية: «اللهم هل بلغت؟» ويصيحون: نعم، ويهتف مرة أخرى: «اللهم فاشهد.»

أتحتمل هذا جميعه؟ - قد لا يحتمله السذج من أمثالك، أما أنا فأحتمله وإني واثق.

لكم أخشى أن أجدك أكثر سذاجة مني ومن أصحابي المؤمنين. - لقد جربت نفسي مع الإيمان. - حقا؟ - ووجدت نفسي غير قابل للإيمان على الإطلاق. - هل أنت واثق؟ - كل الثقة. - وكيف عرفت؟ - تعرضت لمحنة فلم أذكر الله. - ما نوع المحنة؟ - هل يهمك هذا؟ - كل الأهمية. - كنت راكبا سيارتي وغفت عيني، لأجد نفسي غائصا بسيارتي في الماء، حاولت أن أفتح باب السيارة فاستعصى علي، ورحت أحاول وأنفاسي تختنق بي، وتشدني إلى الموت في جذب آسر عنيف، ولم أجد أمامي إلا أن أحاول الخروج من شباك السيارة، فرحت أدفع جسمي خلالها دفعا، ثم لم أع بعد ذلك من أمر نفسي شيئا. - أنقذت وأنت مغمى عليك؟ - نعم. - ومتى كنت تريد أن تذكر الله؟

إننا، نحن المؤمنين، نذكر الله حين نصبح عاجزين؛ فإن الله يأمرنا أن ندبر نحن أمر أنفسنا، ونتوكل عليه ولا نتواكل.

وقد كنت أنت مشغولا بإنقاذ نفسك، وحين جاءت اللحظة التي يجب أن تقول فيها: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، كان مغمى عليك. يا صديقي إن هذه تجربة لا تصح دليلا تطمئن إليه أنك محصن ضد الإيمان. - أترى ذلك؟ - لا شك في ذلك، هيه، أتأتي معنا؟ - لا، سأذهب وحدي.

وأثار الحديث الكثير من الوساوس في ضميره: ما مصيري إذا اهتزت مشاعري من الإيمان، واستيقظت من سباتها تلك البذرة القديمة، التي ألقى بها في نفسي أبواي، وسقتها البيئة والتقاليد وتاريخ أجدادي الطويل في ظل العقيدة؟!

وما البأس أن أومن وأظل في عملي؟! هراء؛ إن عملي متوقف على إلحادي. ولماذا ألقي بنفسي إلى صراع أنا في غنى عنه؟! وما لي لا أبعد مشاعري عن هذا الامتحان؟ قد أجوزه وأظل على إلحادي، أو قد أرسب وأدعو إلى الإيمان، ويومئذ وداعا للكاديلاك والملابس الأنيقة والعيش السعيد .

وبعد أيام التقى الصديقان في بهو الفندق. - أراك تنهي إقامتك بالفندق. - عائد إلى بيتي. - هل أديت العمرة؟ - لم يتسع الوقت.

سيزيف والصخرة

جاء في الأساطير أن الآلهة قضت على سيزيف بالصعود إلى أعلى الجبل وهو يدفع أمامه صخرة، وقضت الآلهة ألا تستقر هذه الصخرة في أعلى الجبل أبدا، فكلما صعد بها سيزيف تعود فتنزل إلى السفح، ويعود سيزيف فيدفعها أمامه إلى أعلى الجبل.

وفي يوم صعد سيزيف إلى أعلى الجبل دافعا أمامه الصخرة، وتركها وعاد لينام، وكان قد تعود أن يستيقظ مع فجر كل يوم، ليجد الصخرة التي وضعها على القمة في أمس، قد عادت إلى السفح مع الفجر. ومع انبثاق النور يعود سيزيف فيدفع الصخرة إلى أعلى الجبل، ويستغرق منه هذا الجهد اليوم جميعه حتى الهزيع الأول من الليل.

وفي هذا اليوم صعد كشأنه وترك الصخرة، ونزل لينام ولينتظر لتعود فيدفعها في باكر الصباح.

وأشرق الفجر. ولا يدري سيزيف لماذا راح ينظر حواليه، فوجد أنه يعيش في أجمل مكان في العالم؛ فحوله الجداول الرقراقة والأشجار اليانعة والحدائق الغناء، والطيور تستقبل النهار بموسيقى سماوية، وتودعه بمواكب حافلة من الأنغام. وتعجب سيزيف أنه لم يلتفت إلى هذه الجنان حواليه إلا في يومه هذا، وأسف لهذا القضاء الذي فرضه عليه قدره، وتمنى أن تتاح له الفرصة أن يستمتع بهذا الهناء، الذي يرف حواليه ولا يصيب هو منه شيئا حتى ولا متعة النظر. كان قد مر عليه عشر سنوات وهو راضخ لقدره، طائع له مستسلم غير متبرم به ولا هو ضجر، ولكنه في يومه هذا كان يتمنى لو كان قدره أكثر رفقا به.

قام إلى الصخرة ومد يديه دون أن يكلف نفسه عناء النظر، ولكن يديه بالهواء استقبلتا، ونظر فإذا الصخرة ليست في السفح، وتشوف القمة فإذا الصخرة راسخة هناك لم تنزل. جن جنونه من الفرح وصعد الجبل وثبا، وفي مثل اللمحة الخاطفة كان واقفا هناك، الصخرة ثابتة حيث تركها في الأمس، إذن فقد أفرجت عنه الآلهة.

جرى إلى الجدول الرقراق وراح ينقع نفسه فيه ويصب ماء صبا، وغسل ثوبه فإذا هو يعود جديدا كأنما لم تعمل فيه السنون بيديها، وبحث عن حجر وراح يسنه حتى أصبح قاطعا، وراح يحلق ذقنه فهي ناعمة، ثم استقبل الجنة التي حواليه، وراح يأكل مما بها من فواكه رائعة.

وما إن غذ في السير حتى وجد أطفالا يلعبون، عليهم ثياب نظيفة وفي وجوههم مرح ونعيم، وسألهم: ماذا تعملون هنا؟ - نلعب. - ألكم بيت؟ - طبعا. - أين؟ - في هذه القرية هناك. - إذن فبجانبه قرية أيضا.

قصد إليها، فإذا من بها يلتفون حوله: من أنت؟ - سيزيف. - صاحب الصخرة؟ - نعم. - لست به. - بل إنني هو. - سيزيف أشعث أغبر قذر الثياب طويل اللحية، مكشر لا يعرف الضحك طريقا إلى وجهه. - لقد عفت عني الأقدار. - والصخرة؟ - في أعلى الجبل. - ولم تنزل؟ - بل هي باقية حيث أرسيتها بالأمس. - إذن لنقيمن لك عيدا. - ولكنكم لا تعرفونني. - بل نعرفك، كنا نرقبك طوال السنوات الماضية. - لم أر أحدا منكم. - كنت مشغولا عن الدنيا جميعا. - إذن فهل أطمع أن أكون واحدا منكم؟ - كن.

وأقيم العيد، وضج المكان بالموسيقى والرقص، وفي أثناء الرقص وقعت عينا سيزيف على فتاة، كانت تبدو أمامه كنجمة مجنحة هبطت من السماء، فيها إشعاع حلو ريان، ينساب جسمها كحلم وسنان، وهي ترقص كملاك وتبتسم كأمل، وتغني وكأنها أمنية تتحقق. - ما اسمك؟ - سيفيليا. - زوجة أنت لا شك؟ - بل لست زوجة. - كيف، أهذا الجمال جميعه لم يجد الزوج؟! - يبدو أن السماء تريدني لغير من طلبني. - ترى أترضى بي السماء زوجا لك؟ - إني أرضى. - إذن فالسماء ترضى.

وكان الزواج، وعاش سيزيف أجمل فترات حياته، وأنجب من سيفيليا ابنا وابنة، وكان دائما يسأل أهل قريته عملا. - ولكن لا عمل لك. - أبدا؟ - لقد وزعنا الأعمال من قبل مجيئك.

وهكذا ضاق سيزيف بالفراغ، ووجد نفسه يذهب إلى الصخرة يدفعها عن الجبل، ولكنها كانت ثابتة، لا تريد حراكا، فأتى بفأس وراح يضرب حواليها حتى وهنت جذورها، ودفعها فسقطت إلى السفح، ومنذ ذلك اليوم أصبح عمله كل يوم أن يدفع الصخرة إلى القمة طوال اليوم، وفي اليوم الثاني يدفعها إلى أسفل، ثم يعود فيصعد بها إلى أعلى.

وعجب ابنه وابنته، فتشجع ابنه وسأله: أبي، ماذا تفعل؟ - أعمل. - ولكن بلا فائدة! - وكيف تقول هذا؟ - لا أرى نتيجة لعملك! - النتيجة الوحيدة أنني أعمل. - أليس لكل عمل فائدة؟ - أريد أن يوجد العمل أولا. - يوجد العمل أولا؟! حتى ولو كان بلا هدف؟ - لو فكرت يا بني قليلا، لو فكرت لوجدت الهدف. أتراك وجدته؟ لا يهم، سوف تجده.

الحصان الذي نفق

لم يكن يسري فقيرا في القرية ولكنه كان تائها في زحامها، محتقرا بين أهلها لا يشعر به أحد، رغم جهده الجهيد أن يشعر الناس به؛ فقد كان لا يترك وسيلة يذكر بها الناس أنه حي، وأنه يسعى بينهم، وأنه ليس نكرة من النكرات، إلا سعى إليها حثيثا، وقد كان يحصل دائما على هزء الناس والسخرية به، إلا أنه لم يستطع قط أن يحصل منهم على ما يريد من شعور بوجوده وأنه حي.

ولم يكن غناه فادحا، ولكنه، مع ذلك، كان يدعو إلى الولائم في كثير من الأحيان، وكان الناس يلبون دعوته، ولكنهم ما إن يأكلوا ويتركوا بيته، حتى ينسوا أمره، وكأنه لم يكن.

ولم يكن يسري مؤمنا بالله، وما كان يصلي، ولكنه مع ذلك حريص على أن يشهد صلاة الجمعة، مرتديا أجمل ما عنده من الملابس، لا ينسى أن يلبس رباط عنقه الأحمر، مقتنعا أن اللون الأحمر أكثر الألوان استرعاء للأنظار، لكن الأنظار، مع ذلك، كانت تأخذه؛ فهو موجود بغير وجود، حاضر خير منه الغائب.

وكان يسري يحرص أيضا على أن يخطب الناس بعد كل صلاة جمعة، ولم يكن طبعا يستطيع أن يحدثهم عن عدم إيمانه؛ فهو مع كل حرصه على أن يذكر الناس بوجوده، أكثر حرصا على أن يظل على قيد حياة، أية حياة. ولو أنه أطلع الناس على ما يعتمل في نفسه من عدم إيمان، لأصبح موته بأيديهم أمرا محققا.

وإنما كان يسري يخطب الناس في وجوب إعطاء الفقراء والمساكين والإحسان إليهم، ولكن لم يقدر له أبدا أن يكمل خطبة إلى النهاية التي يريد أن ينتهي إليها؛ فما هي إلا جملة وأخرى، حتى يصبح المسجد فارغا من الناس أجمعين.

فما كان أحد من أهل القرية ليلقي إليه سمعا، وهم يعلمون أن الإحسان عنده كلام، والشفقة بالمساكين عنده شقشقة. وكفاهم دليلا على ذلك ما يعانيه منه عبد السميع ومحمدين وشفيق الذين يستأجرون أرضه؛ فإن أحدا في القرية لا يعاني من الفقر والذلة والهوان والقهر، ما يعانيه هؤلاء الثلاثة الذين قدر لهم أن يكونوا أجراء عنده. ويا طالما عرضوا أنفسهم على الملاك الآخرين، ولكن أحدا لم يستطع أن يغيثهم؛ فالمستأجرون في القرية يرثون الأرض عن آبائهم، ولا يستطيع مالك - بل ولا يجب - أن يخرج أحدا من أرضه ليعطيها إلى آخر.

وقد ضاق محمدين بمالك أرضه يسري، وضاق بالقرية جميعا فتركها إلى أرض الله، ولم تعد القرية تعلم عنه شيئا.

وظل عبد السميع وشفيق يستأجران أرض يسري وحدهما، بعد أن حاول أن يجد مستأجرا آخر بدلا من محمدين فذهبت محاولاته سدى.

فالكلام منه إذن عن وجود الإحسان خليق أن يجعل أهل القرية ينصرفون عنه. حتى إن لم يتوافر هذا السبب؛ فقد كان أهل القرية سينصرفون عنه أيضا؛ لأنهم لا يشعرون أن له وجودا أو مكانا.

كان هذا الشعور بالضياع والإهمال يملأ نفس يسري، ويجعل نفسه تفيض مرارة وحقدا؛ فهو حاقد على كل غني له بين القرية توقير واحترام، وهو حاقد على كل متعلم يقول فيسمع الناس في اقتناع واحترام، وهو أشد حقدا على المحترمين في القرية، دون أن يكون لاحترامهم سبب ظاهر إلا أنهم محترمون. فقراء هم ولعل بعضهم لم يصب من العلم إلا قليلا، ولكن أهل القرية يحترمونهم، ويقصدون إليهم إن طلبوا الرأي، وينزلون عندما يشيرون به.

نار من الحقد تفتك به، نار من داخله، لا سبيل أن يصل إليها شيء إلا ما يزيدها أوارا واشتعالا.

يخرج يسري في كل يوم إلى ظاهر القرية، وينظر إليها في كره شديد، وألم عميق، ومرارة قاتلة، ويظل قابعا منزويا كوحش كسير ، يحاول أن يتربص بأعدائه المصائب، فتخذله الذلة، ويقعد به الهوان.

وبينما هو كذلك، سمع جوادا يركض، ويهز الأرض بأقدامه، واقترب الصوت واقترب، حتى تكشف عن الحصان وراكبه، أما الحصان فمجنون أرعن، وأما صاحبه فخائف هالع. - أين أنا؟ - لا أدري. - ألا تعرف اسم القرية التي أنت منها؟ - المنشية، من أين أنت قادم؟ - لا شأن لك، أتشتري هذا الحصان؟ - ماذا؟ - ألم تسمع، لا وقت عندي للدلع.

حصان! أيشتري هو حصانا؟

وما البأس؟! وأي شيء سيجعل أهل القرية يحسنون به خيرا من هذا الحصان؟! الحصان جاء، الحصان ذهب. ليس في القرية من يملك حصانا، ولكنهم لن يقولوا يسري جاء أو ذهب، الحصان فقط. لا بأس أيضا، يكفي أن يذكرهم الحصان به. - ولكن هذا الحصان مخيف، أراه لا يكف عن الحركة العنيفة! - هذا دليل الحيوية. - الكثير منها يقتل! - أنت صاحبه، اخدمه يخدمك. - ولكن لماذا تريد أن تبيعه؟ - أهو تحقيق؟ - لعلك سرقته. - وافرض. - قد يراه صاحبه فأخسره. - اسمع، الأمر المؤكد أن صاحبه لن يحاول أن يسترده. - ها أنا ذا، أركبه أمامك، وأعرضه عليك، ولا وقت عندي للكلام الكثير، أتشتري أم أمشي؟ - كم تريد فيه؟

واشترى يسري الحصان، وحاول أن يركبه فنفضه الحصان نفضة عنيفة إلى الأرض، أحس معها أن عظامه تنسحق، فسحب الحصان ومشى يتكفأ حتى بلغ منزله في عتمة من الليل.

وأدخل الحصان إلى حجرة نومه الخاصة، وذهب إلى حيث السكر، فأحضر جميع ما في البيت منه.

وبعد أسبوع استطاع يسري أن يركب الحصان، بعد أن أنس إليه.

وفعلا بدأت القرية تتكلم عن الحصان، ولكنها - كما توقع يسري - لم تتكلم عن يسري.

كان يسري يربط الحصان في الغيط مع جاموسته، ويذهب إلى ما يبتغي من أعمال. وبينما هو جالس في بيته، إذا بشخص يعدو إليه. - يسري. - نعم. - حصانك قتل عبد السميع. - ماذا؟ - حاول عبد السميع أن يركبه فجرى حتى ألقاه في الترعة وأغرقه.

وأصبحت الحكاية أحدوثة في القرية لفترة طويلة، ويسري سعيد كل السعادة بموت عبد السميع، الذي جعل الناس يتحدثون عن حصانه كل هذا الحديث.

كان الحادث في القرية شيئا عظيما؛ فهو ريح شديدة العصف تمر على الماء الراكد من أثر الملالة؛ فالناس لا يجدون في القرية ما يتحدثون عنه، فإذا مر بحياتهم حدث كهذا أصبح تاريخا يعتبر الذين عاصروه خالدين في حياة القرية وتاريخها.

ولكن حصان يسري لم يترك لهم فرصة طويلة يلوكون فيها حادث القتل الذي ارتكبه، بل هو يعاجلهم. - يسري. - نعم. - حصانك. - ما له؟ - فقأ عين عبد الشافعي بن سعيد أبو عرابي. - ماذا؟

وفي هذه المرة يذهب سعيد إلى يسري، ويمسك بخناقه، مقسما بأغلظ الأيمان أنه قاتل الحصان، أو قاتل يسري، ويتجمع الناس ويحولون بين سعيد ويسري، وتبدأ المفاوضات، ويسري سعيد؛ فقد أحس الناس به هو أخيرا، وها هم أولا يجتمعون حوله، ويفاوضونه ويفاوضهم.

وتتوالى أحداث الحصان؛ فهو يقطع حبله، ويعتدي على برسيم الآخرين، وهو ينطلق في القرية في جنون أحمق يكسر أرجل الناس وأبوابهم، أو يوقع ما يعرشون به على بهائمهم، أو يعتدي على هذه البهائم فيجعل أصحابها يعودون بها إلى المسكن. ولعل أشد ما آلم الناس من الحصان وصاحبه، ما فعله الحصان بالمصلى التي أقامها أجداد أجدادهم هناك عند مجرى النيل؛ فقد دخلها الحصان، فهدم قواعدها، ومزق الحصير فيها. ولعل هذا الحادث بالذات هو أسعد ما سعد به يسري، حتى لقد أغدق في مساء هذا الحادث على حصانه من السكر قدرا لم يشهده الحصان من قبل.

أصبح يسري هو شغل القرية الشاغل، وأصبح الناس يبتعدون عن مكان الحصان قدر جهدهم. وألقى الحصان على القرية ظلا من الرعب ثقيلا. وليس أفتك بالإنسان من الخوف، ولا يزري بالإنسان شيء قدر شعوره أن الذعر والهلع يحيطان به من كل جانب. وما أشد الهول حين يكون العدو حيوانا أعجم، لا يعقل ولا يفهم، وإنما يخرب لوجه الخراب، بلا هدف ولا فكرة ولا غاية ينتهي إليها! ويسري سعيد. فليمت الناس من الخوف أو من الغضب؛ فلقد أصبح هو شيئا يذكر، ومقصدا يسعى إليه.

وفي يوم صحا يسري من نومه، وذهب مسرعا إلى حصانه ؛ مجده وعزه وأمله الذي تحقق، وذكره الذي ذاع واسمه الذي انتشر. ماذا؟ ما الذي جعل الحصان في هذا الشكل الذي هو عليه؟! لا يمكن، غير معقول! لقد مات الحصان، مات؟! كيف؟ لا يهم. أمسموما مات؟ لا يهم. هل مات من كثرة السكر؟ لا يهم. لقد مات. أحس يسري أن اسمه هو هذا الممدد جسدا من غير روح، وعما قريب يصبح عدما بلا جسد ولا روح. لا يمكن، غير معقول. إن حصاني لا يموت، إنه لا يموت، لا يموت.

وفجأة انتفضت في جسم يسري المرارة التي اختزنها قبل أن يعرف الحصان، وانتشر في جسده الحقد الذي دفنه فيه طوال عهد الحصان، ووجد نفسه يحمل الحصان الميت، ويخرج به من البيت، محطما باب البيت، صارخا في الناس، وهو يعدو في كل متجه: إنه لم يمت، إن حصاني لم يمت، إن حصاني لا يموت، لا يموت، لا يموت.

وما هي إلا صرخات قليلة، وخطوات أقل من العدو الأحمق العربيد المجنون، حتى انهار يسري ومن فوقه الحصان يكتم أنفاسه القليلة الباقية.

واختلط الجسدان حتى لا يستطيع أحد أن يستبين أحدهما من الآخر. وقبل أن يدركه أحد تلحق روحه روح الحصان الذي نفق، ويتجمع حوله أهل القرية، ولا تلتقي نظرات ولا كلمات، وإنما يشيع أمن إنساني فارق الإنسان فيهم حينا ثم عاد.

لحظة سعادة

كان سعيدا منشرح الصدر وهو يفكر. كانت لحظة من هذه اللحظات القليلة التي يشعر فيها الإنسان أن الحياة تعطيه بقدر ما يريد منها أن تعطيه. ودون أن يدري السبب راح يفكر في السبب الذي بث في نفسه هذه السعادة التي يشعر بها. وما لبثت هذه الفترة أن بعدت عن مسار تفكيره، وما لبث أن قال لنفسه: إني سعيد لأني سعيد. وأخشى ما أخشاه أن أبحث عن أسباب سعادتي وأنقلب بفعل يدي تعيسا. وأسباب التعاسة دائما أكثر وفرة من أسباب السعادة. وهل هذا كلام رجل سعيد؟! إنه كلام أي إنسان. ولكنك لست أي إنسان. إنك رجل سعيد. حسنا فلأظل سعيدا إذن دون محاولات سخيفة لتعميق أسباب السعادة. هل هي قليلة لحظات السعادة هذه إلى هذا الحد؟ هل هي قليلة لدرجة أنني أقتنصها من الحياة اقتناصا، ولا أحاول حتى أن أبحث أسبابها وما دعت إليه؟ إني سعيد بزوجتي. ولكن سعادتي بها لا تكون لي لحظات سعادة، أنا أحبها وأعلم أنها تحبني، وهي شريفة بحكم تكوينها، وهي تعمل دائما على إسعاد بيتها، وليس بيني وبينها إلا هذه المشاجرات التي تدل على أننا أحياء، ولو أنها مشاجرات كثيرة وعنيفة في بعض الأحيان؛ مما ينبئ على أننا أحياء جدا، ولكنها جميعا مشاجرات طبيعية لا بد أن تنشأ بين اثنين نشأ كل منهما في بيت ثم جمعهما بيت واحد، يعلمان أنهما سيقضيان فيه ما بقي لهما من حياة. قد تشعر هي بالضيق أحيانا، أو قد يشعر هو بالضيق أحيانا، وقد تكون هذه الأحيان كثيرة، وقد تتلاقى هذه الأحيان من الضيق فتكون مشاجرة، لو بحث كلاهما عن سببها لاتضح على الفور مقدار سخافتها.

لماذا أفكر في كل هذا؟ من أجل لحظة سعادة؟ ألم تكن لي لحظات سعادة كثيرة وأنا طفل؟ لماذا يقول الناس: طفولة سعيدة؟ أظن السعادة هنا يقف وراءها الجهل؛ إنهم سعداء لأنهم لا يعرفون كيف يكونون تعساء. ولكني مع ذلك أذكر في طفولتي لحظات سعيدة، والآن فقط أدرك أنني كان يجب أن أعتبر طفولتي سعيدة، يبدو أن الأطفال يعتبرون سعادتهم قضية مسلما بها لا تقبل النقاش؛ فحياتهم مهما تكن سعيدة يعتبرونها هم عادية، ولا يذكرون منها إلا لحظات السعاة الخارقة للعادة ولحظات التعاسة العادية. كانت لحظات سعادتي هي تلك الأوقات التي أقضيها في قراءة القصص، قصص الأطفال، كنت أحس أنني أعيش في عالم آخر غير هذا الذي أعيش فيه.

لماذا يعتبر البعد عن العالم الذي أعيش فيه سعادة؟ لماذا يقول الناس هذا دائما كلما أحبوا أن يعبروا عن سعادتهم؟ هل العالم الذي نعيش فيه سيئ إلى هذا الحد؟ وإن كان سيئا أهو هكذا بالنسبة للأطفال؟ لماذا يحبون أن يعبروا إلى عوالم أخرى من قصص علاء الدين والسندباد، وعلي بابا والأربعين حرامي وقصص الجان وغيرها وغيرها.

والكبار، ألا يتشبثون بعالم آخر؟ ما الحياة عندنا إذا كانت هي هذه الحياة فقط؟ سبحان خالق الناس! عرف نفوسهم وعرف حياتهم فوعدهم بحياة أخرى، يلقون فيها السعادة التي لم يعرفوها من الدنيا. ولكني الآن سعيد، لحظة، أو لحظات ثم تعود الحياة حياة، أقصى ما أطمع فيه منها ألا ترزأني بلحظات تعاسة، وتصبح أيام الملل والوتيرة الواحدة سعيدة، سعيدة لأنها ليست تعيسة.

إننا نبحث في حياتنا هذه عن السعادة من أي سبيل، نرى السعادة في نظرة إلى أبنائنا، في أبنائنا، في ابتسامة على شفة لهم، في ضحكة، في مجرد جلوسهم أمامنا مشغولين عنا بالنظر إلى التليفزيون.

ما السعادة التي يهبها لنا أطفالنا؟ هي ما قبل الرعب الذي يلقون به في نفوسنا، الهول المبين، الذعر الأخاذ الوبيل؛ إذ مرض أحدهم أو إذا وهمنا أن مرضا يهدد واحدا، وحين يزول المرض وحين يزول الوهم، تعود نفوسنا إلى الصفاء وتعود إلينا السعادة. ما أعظم الثمن الذي ندفعه لقاء السعادة من أطفالنا!

ويل لي! لحظة سعادة واحدة تفعل بي هذه الأفاعيل؟! ماذا أحاول أن أعرف؟ هل فرض علي فرضا أن أبحث عن سبب هذه السعادة؟! ألا يكفيني أني سعيد؟!

لنبحث أولا، ما هي أعراض السعادة التي أعانيها. ويلي؟! ألا أعرف أعراض السعادة؟! أهذه أيضا تحتاج إلى شرح؟! ألا أعرف هذه الإشراقة التي تشيع في النفس، فإذا النفس بهجة وإذا هي متطلعة إلى المستقبل الوردي الصافي وإلى الحاضر، وكأن سعادة العالم تجمعت فيه! هذه هي حالي الآن، لماذا؟ وما يهمك لماذا ما دمت سعيدا؟ ألا تخشى أن تفقد سعادتك وأنت تبحث في هدوء دون هذا البحث السخيف؟ وتتفلسف أيضا وتريد أن تظل سعيدا! يقولون: إن الفلاسفة هم السعداء. بل يقولون: إن السعداء هم الجهلاء. كلا القولين غير صحيح؛ فأنت سعيد ولست جاهلا إلى درجة أن يقال عنك جاهل، ولست فيلسوفا إلى درجة أن يقال عنك فيلسوف. ولكنني لست سعيدا ... ماذا؟ هل فقدت السعادة؟ أقصد أنني لست سعيدا سعادة الفلاسفة ولا الجهلاء؟ كل ما في الأمر أنني أشعر بلحظة سعادة.

لعل لقاءك بالأمس مع سهام أمدك بهذه السعادة؟ لقد أحسست بالسعادة فعلا في لقائي معها، ولكن اللقاء كان يشغلني عن الشعور بالسعادة. وانتهى اللقاء وعدت إلى حياتي اليومية، ومرت بي لحظات رضا ولحظات ضيق. فلا شأن لسعادتي الراهنة بلقائي مع سهام. هي حبي، وهي الوحيدة في هذا العالم التي تستطيع أن تمسح عن نفسي خمولها وآلامها، وأنا أسعد بلقائها وأهب لها كل ما تريد. ولكن الحياة تلاقيني بعد ذلك، وأرى فيها الخير وأرى فيها الشر، وأحيا كما يحيا الناس حتى ألتقي مرة أخرى بسهام. فهذه السعادة التي أحسها إذن سعادة جديدة من نوع آخر، ينتابني بلا مقدمات؛ ولهذا أبحث عن أسبابه. ألا بد أن تبحث؟! خالصة! رجعنا ثانية إلى هذا الحديث! وهل السعادة مع سهام خالصة؟ أتحبني لنفسي أم لما أقدمه لها من مال؟ إنني أقدم المال وأسعد، لا شيء يهم بعد ذلك. أم تراه يهم؟!

لعلك سعيد لهذه المرافعة التي قدمتها في قضية الأمس! أهي المرافعة الوحيدة التي رضيت عن نفسي فيها، إنني أعمل في المحاماة منذ سنوات طويلة، ويقولون إنني محام ناجح، وأعرف انني ناجح، ومعرفتي هذه تجعلني ألتقي بأي قضية وأنا أحتشد لها، وكأنني محام ناشئ ثم أحتشد لها وورائي تاريخي الطويل في ساحة القضاء. أرى أنك بدأت تترافع؟! طبيعة، ماذا أفعل فيها؟! المهم لحظة السعادة التي أمرح فيها الآن لا صلة لها بمرافعتي.

اسمع، ألا يجوز - مجرد فكرة لا تسخر منها - ألا يجوز أن يكون حديثك التليفوني مع صديقك إسماعيل، قد أرسل إليك بهذه اللحظة السعيدة؟ أرى أنك بدأت تخرف، إنني كثيرا ما أحادث الأصدقاء، ولا شك أنهم يرسلون الدفء إلى قلبي، ولكن لو أنني شعرت بهذه لمجرد حديث مع صديق لأصبحت حياتي كلها سعادة بلهاء، سعادة لا قيمة لها؛ لأنها ستصبح سعادة غبية سخيفة.

اسمع، طالما سمعت. اسمع ولا تعقب. إنك سعيد لأنك سعيد. أهذا آخر ما وصلت إليه؟ ما أشد سخفك! بل أنت السخيف. أرأيت؟ إنك تريد أن تفسد علي سعادتي.

اسمع إنني لن أبحث عن السبب. إنني الآن سعيد ولا يهم لماذا، إني سعيد وكفى.

Неизвестная страница