فانشقت الإمبراطورية الرومانية إلى شطرين: شرقي وهو هذا، وغربي وهو شطر رومة، وبما إن العنصر اليوناني كان حفظ نفسه في المستعمرات الرومانية أثناء الحكم الروماني فقد نمت إمبراطوريته الشرقية نموا سريعا، وكان سلاطين هذه الإمبراطورية يسمون أنفسهم: «إمبراطرة الرومان»، ويجعلون اللغة اللاتينية لغة رسمية إلا أن السلطنة مع ذلك كانت يونانية الباطن، وهذا ما كان من أسباب قوتها، وهكذا بينما كانت رومة والأمم التابعة لها تخضع لملك القوط، وتصير أمما بربرية كانت سلطنة الشرق بمركزها البزنطي الجامع بين يونان الغرب ويونان الشرق زاهية زاهرة لا سلطة لأحد عليها.
ولكن في مقابلة ذلك كان بين كنيستي رومة والقسطنطينية فرق كلي. فإن الأولى كانت تهتم بالمسائل العملية المفيدة فائدة اجتماعية، وتطبق عليها المبادئ الدينية، وأما الثانية: فإنها انصرفت من سوء الحظ إلى مجادلات عقيمة في لاهوت المسيح
9
كما سيجيء.
ولما قام الإمبراطور جوستنيانوس المشهور عدل عن السياسة اليونانية إلى سياسة عمومية. فبدل أن يهتم ببلاده وأهلها اليونان، فيقويها ويقويهم، ويصلح شئونها وشئونهم، انصرف إلى إعادة السلطنة الرومانية إلى ما كانت عليه من الاتساع. فبعث لاسترداد أفريقيا من أيدي الفنداليين الذين أنشئوا فيها مملكة واسعة، وناصب القوطيين الحرب في إيطاليا حتى مزقهم تمزيقا، وكان ساعده في ذلك القائد بليزار المشهور بأنيبال العصر الجديد، ولكن الإمبراطور لم يستفد من ذلك كثيرا؛ لأن السلطنة كانت تعجز عن حكم بلاد واسعة الأطراف إلى هذا الحد، فكان كأنه أفنى قواه في الغرب، وأهمل الشرق مع أن فيه حياة سلطنته، ولذلك كان يترضى الفرس بما يسكتهم ويلهيهم عنه بينما البرابرة في شمال القارة الغربية يخربون الولايات والهونيون يبلغون حتى أسوار القسطنطينية.
10
هذا من جهة الخارج، أما جهة الداخل فإنه اضطهد العنصر اليوناني الذي هو قوة الإمبراطورية وعضدها؛ فقاوم المشتغلين بالعلوم القديمة، وحذف درس الفلسفة والحقوق في آثينا، وأوجب اتخاذ اللغة اللاتينية لغة رسمية. هذا فضلا عن تضحيته لكنيسة رومة الاستقلال الذي كان يطلبه بطاركة الشرق منذ القرن الرابع.
11
وبعد وفاته ثار مغاربة أفريقيا، واستولى اللومبارديون على شمالي إيطاليا، واستمروا يحاربونها للاستيلاء على شبه الجزيرة كلها. ثم تحرك الفرس يتهددون حياة المملكة في آسيا، والسلافيون يتهددون حياتها في أوروبا. فلما قام الإمبراطور هراقليوس كما تقدم الكلام وجد المملكة بين هذه الأمم التي كانت تنازعها البقاء نزاعا شديدا، وقد فصلت لكم ماذا فعل بالفرس وكيف سحق سلطنتهم. أما السلافيون فإنهم لا يزالون يهاجمون سلطنته.
فمن كل ما تقدم يظهر سببان عظيمان من أسباب ضعف السلطنة. «الأول» رغبتها في أن تحكم العالم أجمع، ولذلك تفني قواها عبثا ولا تحسن حكم نفسها. «والثاني» أعداؤها المحيطون بها ينازعونها الحياة دائما.
Неизвестная страница