وانطلق بعير عمر ووراءه مطايا أصحابه في رمال بلاد العرب، وقفارها وسهولها وجبالها يقصد بيت المقدس، وكان عمر إذا نزل منزلا لا يبرح منه حتى يصلي الصبح. فإذا انفتل من الصلاة أقبل على المسلمين وخطب فيهم يحضهم على الاتحاد * وشكر الله على نعمه «ثم يأخذ الجفنة فيملأها سويقا ويصف التمر ويقرب للمسلمين، ويقول: كلو هنيئا مريئا. فيأكل ويأكل المسلمون معه». *
هذه كانت مائدة صاحب السلطنة العربية التي كانت آخذة بالامتداد من شاطئ البحر الأحمر إلى ما وراء الفرات. فلا طباخ ولا تأنق ولا تمتع، وإنما الطعام طبيعي وبسيط يأكله الإنسان ليعيش، بدل أن يعيش ليأكل ويفعم جوفه بالأطعمة المختلفة التي تفسد صحة النفس والبدن.
وبعد مدة وصل الإمام إلى ماء لجذام يدعى «ذات المنار» * وكان هنالك طائفة من عرب جذام. فنزل الأمير على الماء. فبعد حين جاء قوم منهم وقالوا: «يا أمير المؤمنين، إن عندنا رجلا له امرأتان وهما أختان لأب وأم. فغضب عمر وقال علي به. فأتي بالرجل إليه. فقال له عمر: ما هاتان المرأتان؟ فقال الرجل: زوجتاي. قال: فهل بينهما قرابة؟ قال: نعم هما أختان. قال عمر: فما دينك. ألست مسلما؟ قال: بلى. قال عمر: أوما علمت أن هذا حرام عليك، والله يقول في كتابه:
وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف . فقال الرجل: ما علمت، وما هما علي حرام. فغضب عمر وقال: كذبت والله إنه لحرام عليك، ولتخلين سبيل إحداهما وإلا ضربت عنقك. قال الرجل: أفتحكم علي؟ قال: إي والله الذي لا إله إلا هو. فقال الرجل: إن هذا الدين ما أصبنا فيه خيرا ولقد كنت غنيا عن أن أدخل فيه. قال عمر: ادن مني. فدنا منه. فخفق رأسه بالدرة (السوط) خفقتين وقال له: أتتشاءم بالإسلام يا عدو الله وعدو نفسه. خل يا ويلك سبيل إحداهما وإلا جلدتك جلدة المفتري. فقال الرجل: كيف أصنع بهما وأنا أحبهما، ولكن أقرع بينهما فمن خرجت القرعة عليها كنت لها وهي لي وإن كنت لهما جميعا محبا. فأمر عمر فاقترع. فوقعت القرعة على إحداهما فأمسكها وطلق الثانية. ثم أقبل عليه عمر وقال له: اسمع يا ذا الرجل، وع ما أقول لك: إنه من دخل في ديننا ثم رجع عنه قتلناه. فإياك أن تفارق الإسلام، وإياك يبلغني أنك قد أصبت أخت امرأتك التي فارقتها فإنك إن فعلت ذلك رجمتك.»
3 *
ثم انطلق عمر فمر في طريقه بحي من بني مرة «فإذا بقوم قد أقيموا في الشمس يعذبون. فقال لهم عمر: ما بال هؤلاء يعذبون؟ فقيل: عليهم خراج. قال: فما يقولون؟ قال: يقولون: ما نجد ما نؤدي. فقال عمر: دعوهم ولا تكلفوهم ما لا يطيقون.» * فخلوا سبيلهم.
ثم سار «حتى إذا كان بوادي القرى أخبروه أن شيخا على الماء، وله صديق يوده فقال له صديقه: هل لك أن تجعل لي في زوجتك نصيبا وأكفيك رعي إبلك والقيام عليها؟ قال له الشيخ: قد فعلت. فلما أخبر عمر بذلك أمر بهما فأحضرا فقال: ويلكما ما دينكما؟ قالا: الإسلام. قال عمر: فما الذي بلغني عنكما ، أما علمتما أن ذلك حرام في دين الإسلام؟ قالا: لا والله ما علمنا ذلك. فقال عمر للشاب: إن بلغني عنك شيء من ذلك بعد ضربت عنقك». *
وكان عمر قد كتب إلى أمراء الجند في بيت المقدس أن يلاقوه بالجابية
4
ليوم سماه لهم. فلما بلغ جند الشام خبر قدومه «ارتج الناس وهموا أن يركبوا لاستقباله بأجمعهم. فقال لهم أبو عبيدة: «عزيمة على كل رجل أن لا يخرج من مركزه.» * ثم سار أبو عبيدة في أناس من المهاجرين والأنصار. فلما وصل عمر إلى الجابية كان أول من لقيه يزيد بن أبي سفيان، وأبو عبيدة، ثم خالد بن الوليد، وهم على الخيول وعليهم الديباج والحرير * فنزل عمر وأخذ الحجارة ورماهم بها للبسهم ملابس الروم، وقال: «ما أسرع ما رجعتم عن رأيكم. إياي تستقبلون في هذا الزي، وإنما شبعتم منذ سنتين؟ وبالله لو فعلتم هذا على رأس المائتين لاستبدلت بكم غيركم.»
Неизвестная страница