فماذا فعل ابن الإنسان يا أختي لدى هذه الأمور الجافة الباردة. هل اعترض على الدين. كلا. إنه قال: «ما جئت لأنقض بل لأكمل» وإنما نفسه اللطيفة كانت لا تستطيع قبول هذا الخروج عن الشرائع الإلهية الأبدية؛ لذلك نادى أن العشار الغريب المنبوذ أفضل من الكاهن الفريسي إذا هو استقبل الله بقلب نقي، والسامري المضطهد المحتقر أفضل من اليهودي إذا هو أغاث غريبا جريحا على طريق أريحا ولم يغثه اليهودي، وبذلك وضع أساس الإخاء والمحبة بين جميع أجناس البشر على الإطلاق هادما الحواجز الاجتماعية الموضوعة بينهم وجاعلا مقياس الفضل والصلاح ومحبة القريب صنع الخير المجرد لأي إنسان كان، ولما قالت المرأة السامرية على بئر شكيم (نابلس) إن اليهود يقولون إن الصلاة لا تجوز إلا في أورشليم صاح بها قائلا: «أيتها المرأة قد جاءت الساعة التي فيها يعبد الله في كل مكان بالحق والروح» أي إن كل إنسان يجب أن يكون كاهن نفسه، وعبادته يجب أن تكون في كل مكان «بالحق والروح» أي بطهارة القلب دون شعوذة لربح المال ودون ظواهر مادية محسوسة. فيا أختي إن هذه العبارة وحدها هدمت العالم لتنشئ عالما جديدا، ووا أسفاه ليت العالم الجديد يبقى متمسكا بها.
فمن ذلك يا أختي أستير تفهمين السبب العظيم الذي من أجله ثار قومك على ابن الإنسان؛ فإن البشر لا يؤلمهم شيء مثل التعرض لمصالحهم وكبريائهم للإضرار بها، وهم أول ما يشعرون بالضرر والألم يتسترون بالدين، وينادون بأن تلك المبادئ التي تضر مصالحهم تضر الدين وتهدمه، وهذا ما جرى يومئذ. فإنه لما قويت سلطة ابن الإنسان على الشعب ورأى الكهنة والفريسيون أن تلك المبادئ الجديدة ستهدم مبادئهم ومصالحهم إذا استمروا ساكتين عنها قاموا يفترون على صاحبها بخيانة الملة والأمة والتجديف على الدين، ولكي يتمكنوا من بلوغ أربهم منه كذبوا عليه لدى والي الرومان بيلاطس بأنه يقول إنه «ملك اليهود وهم لا يريدون ملكا غير قيصر» فيا أختي، هل رأيت في زمانك قط ظلما كهذا الظلم ورياء كهذا الرياء؟ إن قومك كانوا يكرهون الرومان وقيصر كل الكراهة، ويطلبون إلى الله أن يخلع عنهم نيره، ومع ذلك لم يأنفوا من تسليم واحد منهم للصلب بحجة أنه يقاوم قيصر مع أنه هو القائل لمن استفتاه في طاعة قيصر: «أعطوا ما لله لله وما لقيصر لقيصر».
وماذا فعل ابن الإنسان يا أختي عندما رأى كل هذا الافتراء والظلم والرياء، اسمعي ماذا فعل. إنه لم يغضب ولم يحقد، وفي ليلة صلبه جمع تلامذته وودعهم وغسل أقدامهم وفي جملتها قدما جاحده وعدوه يهوذا الذي أسلمه، ولما قبضوا عليه للصلب لطموه على خده وبصقوا في وجهه ووقفوا حوله يعرضونه للناس ويستهزئون به، ومع كل ذلك بقي ساكتا هادئا، ثم أخذوه خارج المدينة، وهناك صلبوه بين لصين فسمروا يديه ورجليه واقتسموا ثيابه واجتمعوا حوله يضحكون منه، وكان قد تركه كل الناس حتى تلامذته إلا النساء يا أختي فإنهن مثال الرقة والحنان ومعرفة الجميل، ومع هذا وهذا بقي المصلوب يا أختي ساكتا هادئا، وهل تعلمين يا أختي أول كلمة قالها على الصليب بعد ذلك؟ هي هذه مخاطبا الخالق «يا أبتاه اغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يصنعون» يا أختي انظري إلى دموعي. فلقد مضت على هذه الحادثة أكثر من ستمائة سنة وقرأتها أكثر من ستمائة مرة ومع ذلك فإنني أبكي لدى ذكرها لك الآن بكاء يفتت كبدي، ويا ما أرق قلبك يا أختي وأشرف عواطفك. إنني أجثو الآن باحترام لدى هذه الدموع التي أراها نازلة من عينيك؛ لأنها دليل على طهارة الإنسانية في داخلك. نعم يا أختي، إن كل إنسان فيه ذرة من طينة الإنسانية الطاهرة يتألم لهذه الحادثة التي انتصر فيها الباطل وخذل الحق بصرف النظر عن كل مسألة دينية، والإنسان الذي يتألم لها لا يتألم فقط شفقة على عذاب الصديق، بل لمصلحة نفسه أيضا. إننا في الأرض يا أختي كلنا عرضة لاعتداء الظالمين والأشرار والمفترين. فواجب علينا أن يكون لنا مبدأ يحمينا من الظلم والافتراء؛ لنتمسك به في ظلمات هذه الحياة تمسك الغريق بخشبة في البحر، وهذا المبدأ هو (العدالة) - العدالة المطلقة لكل إنسان كبيرا أو صغيرا قويا أو ضعيفا مؤمنا أو وثنيا؛ إذ بفقدان العدالة المطلقة تفقد الحياة أساسها وأثمن ما فيها: وكل واحد من الناس يصير حينئذ في خوف على نفسه؛ لئلا تجعله التقادير المظلوم الذي لا بد من ظلمه لمصلحة طائفة أو أمة أو دولة، وهذا ما يسمونه: «بمصلحة الدولة»
1
وبهذا المبدأ يا أختي صلب الصديق؛ إذ قال قومك في مجمعهم يوم قرروا صلبه: «خير أن يموت واحد من أن تموت الأمة».
فيا أختي فلننبذن هذه القاعدة القبيحة التي تحتج بها كل أمة أو حكومة تريد الخروج عن جادة الحق، ولنتمسك بالعدالة المطلقة كما تقدم. فإن التمسك بالعدالة المطلقة هو الذي يجيز الآن مثلا لك ولقومك أن تحتجوا على ظلم المسيحيين لكم حتى لو كان في هذا الظلم مصلحة كل الأمم المسيحية، ولكن هذا التمسك بالعدالة المطلقة يوجب يا أختي الاعتراف بالجناية الهائلة التي حصلت على الجلجلة، وبدونه يكون كل تظلم رياء وكلاما فارغا ذاهبا في الهواء. فإن الحق حق لا يتجزأ، وسواء في ذلك لدى العدالة المطلقة حق فرد أو حق أمة. فيا أختي فلنعترف بالجناية الهائلة التي حصلت. لنبحث كلنا معا أمام الصليب؛ لأنه رمز أبدي لا يفنى إلى «الحق» الذي يجب أن لا يداس في العالم وإذا داسه أحد فإنه ينتصر أبدا. لنضع شفاهنا على نقط الدم التي جرت عليه لنمحوها بالقبلات والدموع. لنبك بحزن وألم أمام الذي تحمل الآلام بصبر إلهي بلا ضعف ولا شكوى، ولذلك قيل فيه: «إذا كان موت سقراط موت رجل حكيم فموت يسوع كان موت إله»
2
وفي الحقيقة يا أختي أي بشر يستطيع تحمل ما تحمله يسوع بقوة كقوته. أي إنسان وصلت فيه الإنسانية إلى هذا الحد من الكمال الإلهي. أستير أستير. هنا أرى يد الله ظاهرة كالشمس. هنا أرى الأرض تتوارى مدهوشة؛ لأن أشياءها وأشخاصها لا تستطيع أن تصل إلى هذا الحد من الكمال. فإذا أنكرنا هذا المثال الإلهي الذي شاء الله إعطاءه للأرض الناقصة التعيسة زعزعنا الكرة الأرضية كلها؛ لأنه بنفس العقل الذي ينكر به هذا المثال ينكر كل ما في الأرض من السماء. تنكر التوراة حينئذ، ويقال عنها إنها أساطير قديمة جمعت في أزمنة مختلفة بناء على شريعة منسوبة لموسى مع أن موسى لم يكن له وجود في العالم كما يقول كثيرون من أكابر العلماء
3
تنكر نبوءات أشعيا ودانيال وغيرهما في مجيء المسيح؛ لأنهم يقولون إنها صنفت تصنيفا لعدم وجود رجلين باسم أشعيا ودانيال في الأرض قط، وإن تلك النبوءات ليست إلا هذر وهذيان شيوخ كانوا مغتاظين من البابليين الذين أسروهم وسبوهم إلى بابل، ولذلك كانوا يعللون نفوسهم في أحلامهم وضيقهم بمنقذ يعيد مملكتهم إليهم. تنكر أيضا حينئذ كل ما في الأرض من آثار العناية الإلهية يا أستير، ونصير كلنا في ظلام أبدي. فما الداعي إلى كل هذه الخسارة يا أختي؟ وماذا نربح في مقابلتها؟ لا شيء.
Неизвестная страница