وكأن المصائب التي وقع فيها الراهب ميخائيل في كهولته قصرت أجله مع قوة بنيته، فبعد بضعة أعوام رزح وعجز عن العمل والمشي، فلما رأى صاحب المزرعة ذلك هز رأسه وقال: قد دنا أجل أخينا ميخائيل. ثم أردف ذلك بقوله: إن هذا الرجل قديس فإنه لم يمت حتى جاءنا بشخص نافع مثله يقوم مقامه. - ثم قصد الرجل إيليا وقال له قارعا ظهره بيده: تأهب يا بني لخلافة أخينا ميخائيل فإنك ستكون كاهننا دينا وعلما أي مرشد معاولنا ونفوسنا معا.
وفي الواقع توفي الراهب ميخائيل بعد خمسة أيام فحزنت عليه المزرعة كلها، وكان إيليا تلميذه أشدهم حزنا وبكاء، وقد اجتمع رأيهم على دفنه في وسط المزرعة بين الحقول والأشجار فأقاموا له هناك قبرا بسيطا، وكان إيليا في كل صباح يأتي بشيء من الزهر الطيب الرائحة وينثره عليه باحترام وخشوع، ويقبل بلاط القبر بدموع، وقد نقش إيليا على قبره أستاذه الراهب الشيخ هذه الكلمات: «السلام على رسول الرفق والخير، وحبيب الله والناس».
وقد فاتنا أن نقول: إن أم إيليا توفيت في ذات العام الذي دخل فيه ابنها إلى المزرعة فدفنت في مقبرتها، ولكن حزن إيليا على الراهب مرشده لم يكن بأخف من حزنه على أمه الحنون.
وبعد وفاة الراهب ميخائيل رفض الشيخ سليمان قطعيا إدخال أحد من رجال الدين إلى المزرعة؛ لأنه لم يجد راهبا فاضلا كالأخ ميخائيل ليسلمه المزرعة ونفوس أهلها. إلا أن أكثر أهل المزرعة استاءوا من ذلك وخصوصا النساء، فكان الشيخ سليمان يقول لهم : لكي يكون الكاهن فاضلا، ويستطيع القيام بواجباته يجب أمران؛ الأول: ضمانة رزقه وحسن معيشته، والثاني: حسن أخلاقه وكمال استعداده النفسي؛ ليتخذ وظيفته سبيلا لنفع غيره لا نفع نفسه، ولا يفسد السلك الإكليريكي في بلاد إلا بفساد هذين الشرطين. فنحن نقدر على ضمانة الأول ولكن من يضمن لنا الثاني. فلديكم يا أولادي التوراة والإنجيل، ولكم عقول خلقها الله لتعقل فاقرءوا كتبكم في اجتماعاتكم، وطهروا قلوبكم، وأحسنوا صنعكم فالله يقبل منكم هذه العبادة؛ لأن كل إنسان يمكنه أن يكون كاهن نفسه طبقا لدعوة الإنجيل، ولكن أهل المزرعة كانوا يسكتونه بهذا الجواب: وما الحيلة بالعماد والإكليل والوفاة.
وفي ذات اليوم ألحوا عليه في ذلك بالتماس ورجاء، فقال الشيخ سليمان في نفسه: لماذا لا نسيم لهم إيليا كاهنا؛ فإنه جامع للشرطين المتقدمين.
وكان إيليا لا يزال مشتغلا بخدمة المزرعة بعقله ويده إلا أن همته كانت قد ضعفت كثيرا. ففي ذات يوم قصده الشيخ سليمان في حرش من الصنوبر في المزرعة، وأخبره بإلحاح أهل المزرعة في شأن الكاهن، وأنه يود لو يقبل هذه الوظيفة. فدهش إيليا أولا. ثم أجاب بما خلاصته: كانت لي في صباي هذه الأحلام الجميلة. أما الآن فقد تغير فكري. نعم، إنني لا «أطفئ شمعة من الشموع الموقدة، ولا أرفع إكليلا من الأكاليل» كما علمني أستاذي الراهب ميخائيل، إلا أن نفسي صارت تطلب شيئا فوق هذا، وهي إذا جثت مع جمهور الجاثين على تراب الخضوع للمواثيق البشرية والعادات الأرضية فإن روحها ترفرف فوق الجموع الجاثية - في أعالي لا تصل هذه الجموع إليها.
فترك الشيخ سليمان إيليا بعد هذا الجواب، ولم يعد يخاطبه بهذا الشأن، ولا بحث فيه مع أنه كان في نزاع دائم مع بعض الكهنة الذين كانوا يرومون الدخول إلى المزرعة رغما عنه، وفي جملتهم أخو سكرتير البطريرك الراهب متى.
ولكن ما هذه الأعالي التي ذكرها إيليا في جوابه، وكانت سببا في رفضه أن يكون كاهنا للمزرعة؟ هي السم الجديد الذي دخل إلى نفسه بعد خطبة أستاذه الراهب ميخائيل على الجبل ، واطلاعه على كتب أرسطو وأفلاطون وبلينيوس، هو الإنسانية الجديدة التي تكونت في باطنه بعد أن رفع الغطاء عن عينيه في هذه المطالعات المختلفة، وهذا هو السبب في الضعف الذي حدث في نفسه بعد بضعة أعوام من دخوله إلى المزرعة، وانكبابه على هذه المطالعة. فإنه صار أميل إلى الانفراد منه إلى الاجتماع، ولم يعد يلذ له مرافقة الفلاحين في حقولهم ومساعدتهم على حرثها؛ بل كان يلذ له بالأكثر الاستلقاء بكسل على ظهره تحت شجرة والتأمل في الفضاء الذي أمامه، وقلما كان يرى ضاحكا في هذا الطور بعد أن كان عصفور المزرعة وابتسامتها. أما صحته فتبعت أفكاره أيضا. فإنه صار نحيلا أصفر الوجه قليل الكلام كثير الضجر، فكأن النار التي كانت تتقد في نفسه لمصارعته مع مبدأ الكمال الخيالي والحقيقة المحجبة قد جففت ما كان فيها من ماء القوة والعافية، وهكذا تغير إيليا في بضع سنوات تغيرا كليا.
وكان كثيرا ما يقول في نفسه وهو سائر بين الحقول وأشجار المزرعة: ما هذه الحياة الباردة والوجود المضجر؟ لماذا خلق الإنسان في الأرض؟ وما هي الحكمة من خلقه جاهلا قاصرا محدود العقل كما هو الآن؟ إنني لما جئت من الناصرة إلى المدينة لأدخل في الخدمة الدينية كنت أسعد مني الآن؛ لأنني كنت قادما وأنا معتقد أنني سأقبض بيدي على الحقيقة والراحة والسعادة، ولكن الخطبة على الجبل غيرت فكري. فطلبت بعدها الحقيقة والراحة في العمل والكتب، وها قد مر علي بضع سنوات، وكلما تقدمت ازدادت الحقيقة بعدا عني وازددت بعدا عنها، ولقد صرت أرى كل شيء في الحياة أسود ثقيلا باردا. فالبشر بأجسادهم الضخمة الغليظة وعقولهم الجامدة وقلوبهم القاسية وأفواههم وأجوافهم المملوءة أقذارا مختلفة لا يختلفون كثيرا عن وحوش البرية، وكل ما في الأرض من مناظر طبيعية وألوان مختلفة وأشكال منتظمة لا يساوي جماله جمال حلم واحد من الأحلام الوهمية. نعم، لا أنكر جمال صنع الخير كما وصفه أستاذي الراهب، ولكن ماذا يقدر شاب ضعيف مثلي في وسط أوقيانوس العالم المضطرب. هو ذا أننا نصنع الخير الآن في هذه المزرعة وكل أهلها آمنون على رزقهم وراحتهم، ولكن ألا يوجد بشر أشقياء تعساء خارج المزرعة؟ لا ريب في ذلك؛ لأن الأرض كلها خارج هذه الدائرة في شقاء وعذاب ونزاع وخصام. فماذا تنفع حياتنا إذا كانت عاجزة عن إبطال كل ذلك، وما قيمة المعيشة التي يتنعم فيها عشرة ويشقى ألوف. حقا إن الحياة لا تسوى ما فيها من الهم والعناء والتعب، والسعداء أنفسهم لا يجدون فيها ما يروي غليلهم ويشفي نفوسهم. فالموت خير منها؛ لأنه راحة الراحات.
وهكذا تدرج إيليا في دركات الملل واليأس في مدة قصيرة، وصار يرى الخدمة الروحية والعملية عبثا ولغوا؛ لأن الفائدة التي تخرج منهما لا تساوي القوة التي تبذل فيهما، ولو كان غيره في مكانه لأفضى به هذا الأمر إلى تنبيه أنانيته، وأدى به إلى الاقتصار بعد ذلك على خدمة مصلحته الخصوصية ما دام لا شيء في الحياة يستحق أن يضحى له شيء من الذات، ولكن من احتقر الحياة والدنيا بنفس كنفس إيليا فإنه يبدأ باحتقار المصلحة الخصوصية قبل المصلحة العمومية.
Неизвестная страница