من حضره منهم، ثمّ أمر الجميع أن يتكلّموا في الزّهد في هذا العالم الذي هو عالم الدّثور والفناء والغرور، فذكر كلّ واحد منهم ما سنح له من الأخبار عن الفلاسفة والمتقدّمين والحكماء اليونانيين كسقراط وذوجانس (١)، فقال الواثق: قد أكثرتم فيما ذكرتم، وأحسنتم الحكاية فيما وصفتم، فليخبرني مخبر منكم ما أحسن ما سمع من كلام الذين حضروا وفاة الإسكندر لما جعل في تابوت الذّهب؟ فقال بعض من حضره: كلّ يا أمير المؤمنين حسن فيما ذكره، وأحسن ما نطق به من حضر ذلك المشهد من الحكماء ذوجانس، وقد قيل إنّه لبعض (٢) حكماء الهند فقال: إنّ الإسكندر أمس أنطق منه اليوم، وإنّه اليوم أوعظ منه أمس.
وقد أخذ هذا أبو العتاهية (٣) فقال:
كفى حزنا بدفنك ثمّ إنّي ... نفضت تراب قبرك من يديّا
وكانت في حياتك لي عظات ... فأنت اليوم أوعظ منك حيّا
فاشتدّ بكاء الواثق، وعلا نحيبه، وبكى من حضره، ثمّ قام من فوره وأنشد:
_________
(١) وضعه القفطي في تاريخ الحكماء صفحة (١٨٢) في باب: حرف الذال المعجمة في أسماء الحكماء ذيوجانس. وعرّفه: ذيوجانس الكلابي مشهور في أرض يونان، وقد راض أصحابه برياضة فارق فيها اصطلاح أهل المدن في اطراح التكلّف الذي اقتضاه الاصطلاح، فكان أحدهم يتغوّط غير مستتر عن الناس، وينكح في الطريق. . . ويقول فيما يأتيه من ذلك: لا يخلو إما أن يكون ما تفعله قبيحا على الإطلاق فلا يحسن في موضع دون موضع، وعلى صورة دون صورة، وإن كان مما يحسن في موضع دون موضع وعلى صورة غير صورة فهذا أمر اصطلاحي لا ضروري فلا أقف معه، وزادوا على ذلك أنهم كانوا يحبون من قرب (زنى المحارم) ويكرهون من بعد، فقال أهل زمانهم. هذه الأفعال تشبه أفعال الكلاب، فسموهم بذلك. وقد جاء في الأصل ديوجانس بالدال المهملة.
(٢) في الأصل بعض والمثبت من المروج.
(٣) الديوان صفحة (٦٧٩).
1 / 76