قال علماؤنا: القضاء يؤمن به ولا يحتج به. وأما كيفية سيره إلى الصيد فلا يبعد عن أوطانه إلا إذا تحقق من خواصه الشفقة والنصيحة وأن يستصحب الثقاة من أكابر دولته ذوي المحبة، ولا يقدمّن صغيرًا على كبير، فإن ذلك آفة على المملكة، ولا يمدحنّ صغيرًا بحضرة كبير، فإن للنفوس حظوظًا وكمائن وعلاقات عرضية وعرضية فالحذر من ذلك. ولا يصلح للسلطان حين السير الامتلاء من الطعام والشراب ولا لغيره أيضًا، فإن السلطان كالرأس للبدن ولا ينبغي الدعاء عليه وإن جار، بل يدعى له بالصلاح ويهدى له كل نصيحة على تنوعاتها، فإن شئت قلت "والدًا"، وإن شئت قلت "أستاذًا" وإن شئت قلت "أخًا في الله"، فمن حيث الجملة وجب نصحه وموالاته وإتحافه بكل ما يقدر عليه، اللهم أصلح سلطاننا ووفق أمراءنا وعلّم علماءنا، وارزقنا طاعتهم فيما تحبه وترضاه آمين.
نكتة
وقالوا إن أول الفروسية الصيد، وإنه أحوج ما يكون إليه الملك ومن دونه، فإن فيه عشر خصال، أولها: تمرين الخيل، الثانية: رياضة النفس، الثالثة: لذة في غير محرّم، الرابعة: اكتساب الشجاعة، الخامسة: معرفة ذوي الألباب، السادسة: أن ينكفّ عن الذنوب في وقت صيده، السابعة: أنه يستغني بالصيد عن أن يأكل في غير وقت الحاجة، الثامنة: أنه يداوي ما به من الغموم والهموم، التاسعة: إن الصيد يزيل عن الجسد بالحركات ما يولد من الأوجاع ومن الفضلات والرطوبات ما يحركه تعب الصيد من الملاذ، العاشرة: أنه يزيل الفكر ويحد النظر.
وروى ابن عباس، ﵄، أنه قال: إنما سمي أصحاب المسيح الحواريين لبياض ثيابهم وكانوا صيادين.
وقال أرسطو طاليس: أول الصناعات الضرورية الصيد ثم البناء ثم الفلاحة. وقيل لبعض الملوك المدمنين على الصيد، إنك قد أدمنت على الصيد، وفيه مشغلة عن مهمّ الأمور ومراعاة الملك.
فقال: إن للملك في مداومة الصيد حظوظًا كثيرة، أولها، تبينه في الصحاري مواقع العمارة في بلاده من الزيادة والنقصان. فإن رأى في ذلك ما يسره بعثه الاغتباط على الزيادة فيه، وإن رأى ما يكره جرد عنايته ولم يستتر عنه ذلك، فرأس الملك العمارة، ولم يخرج ملك قط لصيد إلا رجع بفائدة، أما جسمه فيروّضه، وإما أن يكون قد طويت عنه حالة مظلوم فيتمكن من السماع منه، ورفع ظلامته فيسلم من ماثمة وقد ورد عن بعض علماء الأكاسرة في سيرهم، وما كان من الانبساط والأريحية سيما مع الظفر وإدراك البغية يعني تحصيل الصيد، وإن المرء يكون في تلك الحال أطرب منه عند سماع شقائق الألحان، وربما قويت النفس حينئذٍ وانبسطت الحرارة الغريزية فعملت في كثير من العلل.
قال عيسى الأسدي، وكان عالمًا بأمور الصيد لم يكن مثله: إنه حدث عن من شاهد من غدا إلى الصيد، وكان به صداع مزمن، فركض فظفر بصيد، فلحقه الرعاف من ذلك الركض، فحلّل ما كان به من لصداع عند حركة الصيد.
وآخر كانت به سَلْعة يجبن عن بطها، فلما ركض خلف الصيد قويت الطبيعة، فانفتحت السلعة وهو لا يعلم.
وآخر كانت في يده خراجة مندملة على نصل سهم، فاحتدّ في الركض خلف الصيد، فبرز النصل عند تكامل احتداده.
وأخبر عن بعض الأدباء حكاية ظريفة، أنه قصد بعض الأكابر فتعذر عليه ما أمله عنده وحجب عنه، وكان المقصود كثير الطرب بالصيد، مغرمًا به، فعمد الشاعر إلى رقاع صغار، وكتب فيها مدحه، وصاد عشرة من الظباء والثعالب، وشد تلك الرقاع في أذنابها، ووقت خروجه إلى الصيد كمن الشاعر في مظانّة وأرسلها واحدة بعد واحدة، كلما صاد الملك شيئًا أرسل الشاعر بعده شيئًا آخر إلى أن صاد الملك الجميع، وقف على الرقاع، فسر وزاد طربه واستظرف ذلك، وطلب صاحب الرقاع، ففرح به ونال منه حاجته.
والمقصود من حركات الملوك في الخروج إلى الصيد، أنهم لا يرجعون إلا عن إتمام معروف أو نصرة مظلوم، فهذه والله هي النتيجة الباقية والهمة العالية، ويتنزهون عن دوس الزروع إذ هممهم أمنع من الدروع. ولو بسط القول في ما وقع للملوك حين صيدهم من المآثر الجميلة والآثار الجسيمة لخرجنا عن المقصود.
1 / 7