Unknown
الوقت أنفاس لا تعود
Издатель
دار القاسم
Жанры
المقدمة
الحمد لله القائل: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ﴾ والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وبعد:
فإن رأس مال المسلم في هذه الدنيا وقت قصير .. أنفاسٌ محدودة وأيام معدودة .. فمن استثمر تلك اللحظات والساعات في الخير فطوبى له، ومن أضاعها وفرط فيها فقد خسر زمنًا لا يعود إليه أبدا.
وفي هذا العصر الذي تفشى فيه العجز وظهر فيه الميل إلى الدعة والراحة .. جدبٌ في الطاعة وقحطٌ في العبادة وإضاعة للأوقات فيما لا فائدة ..
أُقدم هذا الكتاب .. ففيه ملامح عن الوقت وأهميته وكيفية المحافظة عليه وذكر بعض من أهمتهم أعمارهم فأحيوها بالطاعة وعمروها بالعبادة.
وفقنا الله إلى استثمار أوقاتنا وجعل ما في الكتاب إحياءً للقلوب وتذكيرًا بعدم التفريط واستدراكًا لما بقي من الأيام وصلى الله على نبينا محمد.
عبد الملك بن محمد بن عبد الرحمن القاسم
1 / 3
بسم الله الرحمن الرحيم
قال تعالى: ﴿وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾
أقسم تعالى بالعصر وهو الدهر الذي هو زمن تحصيل الأرباح والأعمال الصالحة للمؤمنين وزمن الشقاء للمعرضين، ولما فيه من العبر والعجائب للناظرين (١).
وقد عرض القرآن الكريم والسنة المطهر للزمن، قيمةً وأهميةً وأوجه انتفاع وأثرًا، وأنه من عظيم نعم الله التي أنعم بها سبحانه ...
يقول الله تعالى في بيان هذه النعمة العظيمة التي هي من أصول النَّعم: ﴿وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ [النحل: ١٢].
ويقول جل وعلا: ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا﴾ [الفرقان: ٦٢].
ولبيان أهمية الزمن وأثره، نجد أن المولى سبحانه يُقسم بأجزاء منه في مطالع سورٍ عديدة:
فيقسم بالفجر: ﴿وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ﴾ [الفجر ١ - ٢].
ويقسم بالليل والنهار ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى﴾ [الليل ١ - ٢].
_________
(١) حاشية ثلاثة الأصول صـ ٧.
1 / 4
ويقسم بالضحى ﴿وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى﴾ [الضحى ١ - ٢].
وقَسمُه سبحانه بأجزاء الزمن تلك كان لفتًا للأنظار نحوها، لعظيم دلالتها عليه، ولجليل ما اشتملت عليه من منافع وآثار (١).
فلا شيء أنفس من العمر، وفي تخصيص القسم به إشارة إلى أن الإنسان يضيف المكاره والنوائب إليه، ويحيل شقاءه وخسرانه عليه، فإقسام الله تعالى له دليل على شرفه، وأن الشقاء والخسران إنما لزم الإنسان لعيب فيه لا في الدهر، ولذلك قال ﷺ: " لا تسبوا الدهر، فإن الله هو الدهر" (٢).
وعمر الإنسان القصير والذي لا يتجاوز عشرات معدودة من السنين سيُسأل عن كل لحظة فيه وعن كل وقت مر عليه وعن كل عمل قام به.
قال ﷺ "لا تزول قدما عبدٍ يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع خصال: عن عمره فيم أفناه؟ وعن شبابه فيم أبلاه؟ وعن ماله من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟ وعن علمه ماذا عمل فيه؟ ".
لن تزول قدما العبد في هذا الموقف العظيم حتى يحاسب عن مدة أجله فيما صرفه .. وعما فعل بزمانه ووقت شبابه بخاصة فإنه أكثر العطاء وأمضاه، وهو تخصيص بعد تعميم، لأن تمكن الإنسان
_________
(١) سوانح وتأملات ١٥.
(٢) تفسير غرائب القرآن.
1 / 5
من الزمن في وقت الشباب أعظم وآكد وأثمر من طرفي العمر حيث ضعف الطفولة وضعف الشيخوخة .. (١)
عن ابن عباس رضى الله عنهما قال: رسول الله ﷺ " نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ"
قال ابن الخازن: النعمة ما يتنعم به الإنسان ويستلذه، والغبنُ أن يشتري بأضعاف الثمن، أو يبيع بدون ثمن المثل.
فمن صح بدنه، وتفرغ من الأشغال العائقة، ولم يسع لصلاح آخرته، فهو كالمغبون في البيع، والمراد بيان أن غالب الناس لا ينتفعون بالصحة والفراغ بل يصرفونهما في غير محالهما، فيصير كل واحد منهما في حقهم وبالًا، ولو أنهم صرفوا كل واحد منهما في محله لكان خيرًا لهم، أي خير (٢).
وأكد على ذلك رسول الله ﷺ بقوله " اغتنم خمسًا قبل خمس، شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شُغلك، وحياتك قبل موتك (٣) "
عمر الإنسان هو موسم الزرع في هذه الدنيا وحصاد ما زرع يكون في الآخرة .. فلا يحسن بالمسلم أن يضيع أوقاته وينفق رأس ماله فيما لا فائدة فيه.
_________
(١) سوانح وتأملات ٧.
(٢) سوانح وتأملات ١٨.
(٣) رواه الحاكم في المستدرك.
1 / 6
ومن جَهِل قيمة الوقت الآن فسيأتي عليه حين يعرف فيه قدره ونفاسته وقيمة العمل فيه، ولكن بعد فوات الأوان، وفي هذا يذكر القرآن موقفين للإنسان يندم فيهما على ضياع وقته حيث لا ينفع الندم.
الموقف الأول: ساعة الاحتضار، حيث يستدبر الإِنسان الدنيا ويستقبل الآخرة، ويتمنى لو منح مهلة من الزمن، وأُخر إلى أجل قريب ليصلح ما أفسده ويتدارك ما فات.
الموقف الثاني: في الآخرة حيث توفى كل نفس ما عملت وتُجزى بما كسبت ويدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، هناك يتمنى أهل النار لو يعودون مرة أخرى إلى حياة التكليف، ليبدءوا من جديد عملًا صالحًا ..
هيهات هيهات لما يطلبون فقد انتهى زمن العمل وجاء زمن الجزاء.
ونلحظ في زماننا هذا الجهل بقيمة الوقت والتفريط فيه .. هذا الزمن زمن العجز .. زمن الدعة والراحة والكسل، ماتت الهمم وخارت العزائم
تمر الساعات والأيام ولا يحُسب لها حساب
بل إن هناك من ينادي صاحبه
تعال .. لنقضي وقت الفراغ .. ! !
أخي .. هل لدى المؤمن وقت فراغ؟
1 / 7
اسمع قول الله تعالى ﴿فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ﴾
إذا فرغت من شغلك مع الناس ومع الأرض ومع شواغل الحياة ..
إذا فرغت من هذا كله فتوجه بقلبك كله إذن إلى من يستحق أن تنصب فيه وتكد وتجهد العبادة والتجرد والتطلع والتوجه (١)
هذا مع أن المسلم باحتسابه وإخلاصه في أعمال الدنيا في عبادة، وهو في جهاد في حياته ..
ولقد أجمل جلّ وعلا ذلك كله في آيات محكمات. ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ﴾
وقال جل وعلا في آية أخرى. ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ﴾.
أخي الحبيب ..
لنعد قليلًا .. في سطور مضيئة وكلمات صادقة إلى حال من سبقنا لنرى كيف نظروا إلى هذه الأوقات .. وماذا عملوا فيها .. وكيف استفادوا منها ..
قال عبد الله بن مسعود: - ما ندمت على شيء ندمي على يوم غربت شمسه نقص فيه أجلي ولم يزد فيه عملي.
_________
(١) في ظلال القرآن ٦/ ٣٩٣.
1 / 8
تسافر بالراكب الأيام وتسير به الليالي .. في وضح النهار وفي غسق الدُجى .. آناء الليل وأطراف النهار .. رحلة متواصلة .. وسيرٌ حثيث .. حتى تحط به الركاب.
فالناس منذ خلقوا لم يزالوا مسافرين، وليس لهم حَطٌّ عن رحالهم إلا في جنة أو نار، والعاقل يعلم أن السفر مبني على المشقة وركوب الأخطار، ومن المحال عادة أن يُطلَب فيه نعيم ولذة وراحة. إنما ذلك بعد انتهاء السفر، ومن المعلوم أن كل وطأة قدم أو كلّ آن من آنات السفر غير واقفة، ولا المكَّلف واقف، وقد ثبت أنه مسافر على الحال التي يجب أن يكون المسافر عليها من تهيئة الزاد الموصل، وإذا نزل أو نام أو استراح فعلى قدم الاستعداد للسير (١)
إن الليالي للأنام مناهل ... تطوى وتنشر دونها الأعمار
فقصارهن مع الهموم طويلة ... وطوالهن مع السرور قصار
(٢)
أن الساعات ثلاث: ساعة مضت لا تعب فيها على العبد كيفما انقضت في مشقة أو رفاهية، وساعة مستقبلة لم تأت بعد لا يدري العبد أيعيش إليها أم لا؟ ولا يدري ما يقضي الله فيها،
_________
(١) الفوائد لابن القيم ٢٤٥.
(٢) مكاشفة القلوب ٢٢١.
1 / 9
وساعة راهنة ينبغي أن يجاهد فيها نفسه ويراقب فيها ربه، فإن لم تأته الساعة الثانية لم يتحسر على فوات هذه الساعة، وإن أتته الساعة الثانية استوفى حقه منها كما استوفى من الأولى. ويطول أمله خمسين سنة فيطول عليه العزم على المراقبة فيها، بل يكون ابن وقته كأنه في آخر أنفاسه فلعله آخر أنفاسه وهو لا يدري، وإذا أمكن أن يكون آخر أنفاسه فينبغي أن يكون على وجه لا يكره أن يدركه الموت وهو على تلك الحالة. وتكون جميع أحواله مقصورة على ما رواه أبو ذر ﵁ من قوله ﵇ "لا يكون المؤمن ظاعنا إلا في ثلاث: تزود لمعاد أو مرمة لمعاش أو لذة في غير محرم" (١)
أخي الحبيب ...
إن الصحة والفراغ والمال هي الأبواب الذي تلج منها الشهوات المستحكمة، ويتربع في فنائها الهوى الجامح فيأتي على صاحبه، وقد صدق من قال: من الفراغ تكون الصبوة.
وقد تميز المؤمن عن ذلك كله فهو كما قال قتادة بن خليد ... المؤمن لا تلقاه إلا في ثلاث خلال .. مسجد يعمره، أو بيت يستره، أو حاجة من أمر دنياه لا بأس بها (٢)
فإن العاقل الموفق من أدرك حقيقة ذلك، فاغتنم عمره في علم نافع يحفظه ويحفظ الأمة من نفسها ومن عدوها، ويجعلها أمة يدها
_________
(١) الإحياء ٤/ ٤٢٧.
(٢) صفة الصفوة ٣/ ٢٣١.
1 / 10
هي العليا وليست هي السفلى، في جهاد مبارك .. قلمًا ولسانًا وسنانًا، في أمر بمعروف ونهي عن منكر، في تربية لعقول وأفئدة وأحاسيس تنفع الناس وتمكث في الأرض لتؤتى أكُلها كل حين بإذن ربها.
إن أمضى يومه في غير حق قضاه، أو فرض أدّاه، أو مجد أثله، أو حمد حصَّله، أو خير أسسه، أو علم اقتبسه فقد عق يومه وظلم نفسه وظلمه.
هذا يتحسسه أشد ما يكون عند ساعة احتضاره، عندما يراه قد أودى به إلى الخسران المبين، فيتمنى على الله أن يؤخره حتى يُصلح ما أفسده، ويتدارك ما فات، وأنى له أن يُمْهلَ وقد تحتم الأجل ونزل الموت في ساحته.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * وَأَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ (١)
ولهذا حرص الموفقون على الاستفادة من كل دقيقه وثانية بالعمل الصالح وعدوا ذلك مغنما .. وعلموا أن ضياعها بدون فائدة
_________
(١) سوانح وتأملات ٢٢.
1 / 11
مغرما.
قال عمر بن ذر .. قرأت كتاب سعيد بن جبير .. إن كل يوم يعيشه المؤمن غنيمة (١)
وهذا المغنم إنما هو حصيلة أعمال صالحة قُدمت .. صلاةٌ وصيام وتسبيح وغيرها.
فالأوقات والأزمنة عمرٌ قصير وأجل محدود كما قال عنها طيفور البطامي .. إن الليل والنهار رأس مال المؤمن، ربحها الجنة، وخسرانها النار (٢)
فإن السنة شجرة، والشهور فروعها، والأيام أغصانها، والساعات أوراقها، والأنفاس ثمارها. فمن كانت أنفاسه في طاعة فثمرته شجرة طيبة، ومن كانت أنفاسه في معصية فثمرته حنظل (٣)
ومن جهلنا بقيمة الوقت .. نفرح بمغيب شمس كل يوم ونحن لا ندرك أن هذا نهاية يومٍ من أعمارنا لن يعود أبدًا .. صحائف طويت وأعمالٌ أحصيت وأنفاسٌ توقفت.
إنا لنفرح بالأيام نقطعها ... وكل يوم مضى يُدني من الأجل (٤)
قال الحسن .. من علامة إعراض الله عن العبد أن يجعل شغله
_________
(١) الإحياء ٤/ ٢٧٦.
(٢) الزهد للبيهقي ٢٩٧.
(٣) الفوائد لابن القيم ٢١٤.
(٤) صفة الصفوة ٣/ ٣٩٠.
1 / 12
فيما لا يعنيه خذلانًا من الله ﷿ (١)
فإنما الليل والنهار مراحل ينزلها الناس مرحلة مرحلة حتى ينتهي ذلك بهم إلى آخر سفرهم، فإن استطعت أن تُقدّم في كل مرحلة زادًا لما بين يديها فافعل، فإن انقطاع السفر عن قريب ما هو والأمر أعجل من ذلك، فتزود لسفرك واقض ما أنت قاض من أمرك، فكأنك بالأمر قد بغتك (٢)
إنما الدنيا إلى الجنة والنار طريق ... والليالى متجر الإنسان والأيام سوق (٣)
أخي الحبيب ...
كان شميط بن عجلان يقول .. الناس رجلان، فمتزود من الدنيا ومتنعم فيها، فانظر أي الرجلين أنت؟
إني أراك تحب طول البقاء في الدنيا فلأي شيء تحبه؟ إن تطع الله ﷿ وتحسن عبادته وتتقرب إليه بالأعمال الصالحة ..؟ فطوبى لك.
أم لتأكل وتشرب وتلهو وتلعب وتجمع الدنيا وتثمرها وتنعم زوجتك وولدك ..؟ فلبئس ما أردت له البقاء (٤)
فالواجب على المؤمن المبادرة بالأعمال الصالحة قبل أن لا
_________
(١) جامع العلوم والحكم ١٣٩.
(٢) جامع العلوم والحكم ٤٦٣.
(٣) الزهد للبيهقي ٢٩٨.
(٤) صفة الصفوة ٣/ ٣٤٣.
1 / 13
يقدر عليها ويحال بينه وبينها، إما بمرض أو موت أو غير ذلك من العلل والآفات.
قال أبو حازم: إن بضاعة الآخرة كاسدة يوشك أن تنفق فلا يوصل منها إلى قليل ولا كثير، ومتى حيل بين الإنسان والعمل ولم يبق له إلا الحسرة والأسف عليه ويتمنى الرجوع إلى حال يتمكن فيها من العمل فلا تنفعه الأمنية (١)
ولنر الإمام الشافعي كيف استفاد من وقته فقد جزأ-﵀ الليل إلى ثلاثة أجزاء: الثلث الأول يكتب والثلث الثاني يصلي والثلث الثالث ينام (٢)
وكان الحسن يقول: ما مر يوم على ابن آدم إلا قال له: ابن آدم، إني يوم جديد، وعلى ما تعمل فيَّ شهيد، وإذا ذهبت عنك لم أرجع إليك، فقدم ما شئت تجده بين يديك، وأخر ما شئت فلن يعود أبدًا إليك (٣)
تؤمل في الدنيا طويلًا ولا تدري ... إذا جن ليل هل تعيشُ إلى الفجر
فكم من صحيحٍ مات من غير علةٍ ... وكم من مريض عاش دهرًا إلى دهر (٤)
كثير باتوا ولم يروا ضوء الفجر التالي وكثير أشرقت عليهم
_________
(١) جامع العلوم والحكم ٤٦٨.
(٢) صفة الصفوة ٢/ ٢٥٥.
(٣) الحسن البصري ١٤٠.
(٤) موارد الظمآن ٢/ ٢٤٥.
1 / 14
الشمس ولم يدركوا مغيبها .. وهل الإنسان إلا هكذا ميت بليل أو نهار، ينتظر الموت من أين يُقبل! !
إن توقفت أنفاسه نهارًا لم ير الليل وإن سكنت أطرافه بالليل أصبح محمولًا إلى القبر ..
ألا إنها أوقاتٌ محسوبة ولحظاتٌ مقسومة وأنفاس معدودة .. تمر مر السحاب، طوبى لمن عمل بها واستزاد من الخير وقدم ليوم المعاد.
* كان أبو مسلم الخولاني يقول .. لو رأيت الجنة عيانًا ما كان عندي مستزاد، ولو رأيت النار عيانًا ما كان عندي مستزاد (١)
وهذه المحافظة على الأوقات من علامات النفوس الكبيرة والهمم القوية ..
قال أبو النصر أباذي .. مراعاة الأوقات من علامات التيقظ (٢)
ومن أضاع أوقاته فيما لا فائدة منه فيرسم لنا حاله مورق العجلي بقوله .. يا ابن آدم تودى كل يوم برزقك وأنت تحزن، وينقص عمرك وأنت لا تحزن، تطلب ما يطغيك، وعندك ما يكفيك
وللمرء يوم ينقضي فيه عمره ... وموت وقبر ضيق يُولجُ (٣)
_________
(١) صفة الصفوة ٤/ ٢١٣، والسير ٤/ ٩.
(٢) الزهد للبيهقي ١٩٧.
(٣) إرشاد العباد ٤٨.
1 / 15
قال الحسن .. لم يزل الليل والنهار سريعين في نقص الأعمار وتقريب الآجال، هيهات قد صحبا نوحًا وعادًا وثمودًا وقرونًا بين ذلك كثيرًا، فأصبحوا قد أقدموا على ربهم ووردوا على أعمالهم، وأصبح الليل والنهار غضين جديدين لم يبلهما ما مرّا به، مستعدين لمن بقي بمثل ما أصاب به من مضى .. (١)
نهارٌ طويل ماذا كان يعمل فيه؟ وماذا يستفاد منه؟ قال حماد بن سلمة: ما أتينا سليمان التيمي في ساعة يطاع الله ﷿ فيها إلا وجدناه مطيعًا .. إن كان في ساعة صلاة وجدناه مصليًا، وإن لم تكن ساعة صلاة وجدناه إما متوضأ أو عائدًا مريضًا، أو مشيعًا لجنازة، أو قاعدًا في المسجد، قال: فكنا نرى أنه لا يحسن أن يعصي الله ﷿ (٢)
أخي الحبيب: ينبغي للمؤمن أن يتخذ من مرور الليالي والأيام عبرة لنفسه، فإن الليل والنهار يبليان كل جديد، ويقربان كل بعيد، ويطويان الأعمار، ويشيبان الصغار، ويفنيان الكبار كما قال الشاعر:
أشاب الصغير وأفنى الكبير ... كرُّ الغداة ومرُّ العشي
إذا ليلة أهرمت يوَمَها ... أتى بعد ذلك يومٌ فتي
إن مضي الزمن واختلاف الليل والنهار لا يجوز أن يمر بالمؤمن
_________
(١) جامع العلوم والحكم ٤٦٤.
(٢) حلية الأولياء ٢/ ٨٢.
1 / 16
وهو في ذهول عن الاعتبار به، والتفكير فيه، ففي كل يوم يمر، بل في كل ساعة تمضي، بل في كل لحظة تنقضي، تقع في الكون والحياة أحداث شتى، منها ما يُرى وما لا يُرى، ومنها ما يُعلم ومنها ما لا يُعلم ..
من أرض تحيا، وحبة تنبُت، ونبات يُزهر، وزهر يثُمر، وثمر يقطف وزرع يصبح هشيمًا تذروه الرياح، أو من جنين يتكون، وطفل يولد، ووليد يشب، وشاب يتكهل، وكهل يشيخ، وشيخ يموت .. (١)
إذا كنت في الأمس اقترفت إساءة ... فثنَّ بإحسانٍ وأنت حميد
ولا ترج فعل الخير يومًا إلى غدٍ ... لعل غدًا يأتي وأنت فقيد
ويومك إن عاتبته عاد نفعًا ... إليك وما ضُحى الأمس ليس يعود (٢)
دخل رجلٌ على داود الطائي يومًا فقال: إن في سقف بيتك جذعًا مكسورًا .. فقال: يا ابن أخي .. إن لي في البيت منذ عشرين سنة ما نظرت إلى السقف (٣)
﵀ .. ماذا عن واقع حياة عامة الناس اليوم .. حديث بدون فائدة وأسئلة بلا نهاية .. متى كُسر هذا ..؟ ومتى فُتح هذا ..؟ ومتى أخذ هذا ..؟ ثم تفصيل طويل لا يُفيد مستمع ولا ينفع
_________
(١) الوقت للقرضاوي ١٨.
(٢) ديوان الإمام الشافعي ٧٣.
(٣) الإحياء ٤/ ٤٣٤.
1 / 17
متحدث ..
وبالإمكان الغُنية عن هذا كله لو تحررنا في أحاديثنا وأمسكنا بزمام ألسنتنا .. مجالس طويلة تمتد الساعات الطوال بدون فائدة ..
أعد أخي إن استطعت خمس ساعات من عمرك لتسبح تسبيحة واحدة!؟
أرأيت الغبن وضياع رأس المال دون فائدة؟ ! . أما إذا امتد الحديث لغيبة ونميمة فتلك شر المجالس وبئس الأُنس .. في مقابل ما يضيع من أعمارنا دون فائدة لنرى كيف كانوا يستثمرون اللحظات ويستفيدون منها .. إنهم أهل الطاعة والعبادة ..
قالت داية لداود الطائي: يا أبا سليمان أما تشتهي الخبز ..؟ قال: يا داية بين مضغ الخبز وشرب الفتيت قراءة خمسين آية (١) وقال ابن مهدي .. كنا مع الثوري جلوسًا بمكة، فوثب وقال: النهار يعمل عمله (٢)
أخي الحبيب .. أين نحن من هؤلاء؟
وهذا صباح اليوم ينعاك ضوءه وليلته تنعاك إن كنت تشعر (٣)
كان علي بن أبي طالب ﵁ يقول: إن الدنيا قد ارتحلت مدبرة، وإن الآخرة قد ارتحلت مقبلة، ولكل منهما بنون، فكونوا
_________
(١) صفة الصفوة ٣/ ١٤٠، والزهد للبيهقي ١٩٩.
(٢) السير ٧/ ٢٤٣.
(٣) موارد الظمآن ٢/ ٣٩.
1 / 18
من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب وغدًا حساب ولا عمل. (١)
وحال الكثير اليوم كما تعجب منها أحد الحكماء بقوله .. عجبت ممن الدنيا مولية عنه والآخرة مُقبلة إليه يشغل بالمدبرة ويعرض عن المقبلة. (٢)
أخي الحبيب ..
تمر الخواطر وتتتابع الأسئلة ولكن .. هل سألت نفسك يومًا لماذا تعيش؟
بالجواب يتحدد الهدف ويتضح الطريق ويسهل الوصول ..
لنسمع جواب أبي الدرداء ﵁ حين قال .. لولا ثلاث ما أحببت العيش يومًا واحدًا .. الظمأ لله بالهواجر والسجود لله في جوف الليل، ومجالسة أقوام ينتقون أطايب الكلام كما يُنتقى أطايب التمر.
وهذه الدنيا كما وصفها عمر بن عبد العزيز بقوله .. إن الدنيا ليست بدار قراركم، كتب الله عليها الفناء وكتب الله على أهلها الظعن، فكم من عامر موثق عن قليل يخرب، وكم من مقيم مغتبط عما قليل يظعن، فأحسنوا رحمكم الله منها الرحلة بأحسن ما بحضرتكم من النقلة، وتزودوا فإن خير الزاد التقوى.
_________
(١) جامع العلوم والحكم ٤٦٠.
(٢) جامع العلوم والحكم ٤٦٠.
1 / 19
وإذا لم تكن الدنيا للمؤمن من دار إقامة ولا وطن فينبغي للمؤمن أن يكون حاله فيها على أحد حالين ..
إما أن يكون كأنه غريب مقيم في بلد غربة، همه التزود للرجوع إلى وطنه، أو يكون كأنه مسافر غير مقيم ألبتة، بل هو ليله ونهاره يسير إلى بلد الإقامة (١).
فإن من تيقن ذلك ونظر إليه بعين المتأمل كان مثل عبدالرحمن بن أبي نعم عندما قال عنه بكير بن عبدالله .. كان لو قيل له قد توجه إليك ملك الموت ما كان عنده زيادة عمل (٢) قال الحسن .. يا ابن آدم إنك ناظر إلى عملك يوزن خيره وشره، فلا تحقرن من الخير شيئًا وإن هو صغر فإنك إذا رأيته سرّك مكانه ولا تحقرن من الشر شيئًا فإنك إذا رأيته ساءك مكانه رحم الله رجلًا كسب طيبًا وأنفق قصدًا وقدم فضلا ليوم فقره وفاقته. هيهات هيهات، ذهبت الدنيا بحال بالها، وبقيت الأعمال قلائد في أعناقكم، أنتم تسوقون الناس، والساعة تسوقكم، وقد أسرع بخياركم فماذا تنتظرون (٣).
سبيلك في الدنيا سبيل مسافر ... ولابد من زاد لكل مسافر
_________
(١) جامع العلوم والحكم ٤٦٠.
(٢) السير ٥/ ٦٢.
(٣) صفة الصفوة ٣/ ٢٣٥.
1 / 20
ولا سيما إن خاف صولة قامر (١)
ولابد للإنسان من حمل عدة
أخي ...
راحلة الأيام تسير بنا إن توقفت اليوم أو هي غدًا لابد واقفة ولمن عليها تاركة ..
ولكن أين الزاد لممر صعب وموقف عظيم .. يوم تذهل فيه كل مرضعةٍ عما أرضعت! !
فإن للعبد رب هو ملاقيه وبيتٌ هو ساكنة، فينبغي له أن يسترضي ربه قبل لقائه ويعمر بيته قبل انتقاله إليه .. (٢)
فإن الإنسان كما قال عنه أحمد بن مسروق .. أنت في هدم عمرك منذ خرجت من بطن أمك (٣)
أخي المسلم:
إن المترقب إلى من يبني له دارًا في الدنيا يرى كم من الساعات ينفق في سبيل بنائها وصيانتها والوقوف عليها .. بل ربما نسى أن له دارًا ثانية غير هذه ... وأضاع ليله ونهاره! !؟ وهو يعلم أنه راحلٌ عنها؟ !
قال يحيى بن معاذ: الليل طويل فلا تقصره بمنامك، والنهار
_________
(١) جامع العلوم والحكم ٤٦٣.
(٢) الفوائد ٤٥.
(٣) صفة الصفوة ٤/ ١٢٩.
1 / 21
نقي فلا تدنسه بآثامك. (١)
واعلم أن الزمان أشرف من أن يضيع منه لحظة فإن في الصحيح عن رسول الله ﷺ أنه قال: "من قال سبحان الله العظيم وبحمده غرست له بها نخلة في الجنة " فكم يضيع الآدمي من ساعات يفوته فيها الثواب الجزيل، وهذه الأيام مثل المزرعة، فكأنه قيل للإنسان كلما بذرت حبة أخرجنا لك ألف كر، فهل يجوز للعاقل أن يتوقف في البذر ويتوانى. (٢)
كان الحسن يقول .. يا ابن آدم نهارك ضيفك فأحسن إليه فإنك إن أحسنت إليه ارتحل بحمدك وإن أسأت إليه ارتحل بذمك، وكذلك ليلتك (٣)
إن في الموت والمعاد لشغلًا ... وادكارا لذي النّهى وبلاغا
فاغتنم خُطّتين قبل المنايا ... صحة الجسم يا أخى والفراغا (٤)
قال وهيب بن الورد .. إن استطعت أن لا يشغلك عن الله تعالى أحد فافعل (٥).
لأن الأمر كما قال الحسن .. ابن آدم إنك بين مطيتين
_________
(١) صفة الصفوة ٤/ ٩٤.
(٢) صيد الخاطر ٦٢٠.
(٣) الزهد للحسن البصري ١٤٠.
(٤) تذكرة الحفاظ ٤/ ١٣٥٢.
(٥) حلية الأولياء ٨/ ١٤٠.
1 / 22