مدخل
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وبعد:
أخي المسلم:
انطلق بنا نقلب كتب الحديث والتاريخ والسير والتراجم، انطلق بنا نعود قرونا مضت لنرى تاريخًا مضيئًا وأفعالًا مجيدة، خرجت من نفوس مليئة بالصدق والإيمان.
انطلق بنا نجدد إيماننا، ونحيي هممنا، ونقوي عزائمنا.
إنها وقفات سريعة ونماذج حية اخترتها بعناية وهي غيض من فيض وقليل من كثير .. فسجل الأمة تاريخ حافل مشرق مليء بالدر والآلئ يحتاج إلى من يقرأه وينظر إليه، ويتأمل فيه.
انطلق بنا نزيل وحشة الطريق، ووهن الزمن، وقلة المعين!
1 / 3
وقفة
﴿وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ﴾
[الواقعة: ١٠، ١١].
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي ﵀: السابقون في الدنيا إلى الخيرات، هم السابقون في الآخرة لدخول الجنات.
أولئك الذين هذا وصفهم المقربون عند الله، في جنات النعيم، في أعلى عليين، في المنازل العاليات، التي لا منزلة فوقها.
﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ﴾ [الأنعام: ٩٠].
﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا﴾
[السجدة: ٢٤].
1 / 4
الانطلاقة الأولى
أخي المسلم:
انطلق بنا نرى فجر هذه الدعوة وإشراقة الرسالة، وكم هو الجهد الذي بذل، والصبر الذي ركب .. إنها أمة الجهاد والدعوة، نبي الأمة محمد ﷺ وصحابته الكرام ﵃ يسيرون في ثلة من القوم بينهم بعير واحد يتعاقبونه، ومن كثرة المشي وعورة الطريق وقلة الظهر الذي يركب؛ نقبت الأقدام وسقطت الأظافر، لكن الموكب المبارك يسير ولا يتوقف.
عن أبي موسى الأشعري ﵁ قال: خرجنا مع رسول الله ﷺ في غزاة، ونحن ستة نفر بيننا بعير نعتقبه فنقبت أقدامنا ونقبت قدمي، وسقطت أظفاري فكنا نلف على أرجلنا الخرق ... (١).
هذا نبي الأمة عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم ووجوه الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، وهذا بعض مما أصابهم في غزوة واحدة لرفعة هذا الدين وإعلاء كلمته فماذا أصابك أيها المسلم وأنت تقوم بأمر الدعوة إلى الله ونشر هذا الدين؟ دعنا هذه المرة ننطلق لنرى ماذا أصابك ولا تستح مما قدمت؟
_________
(١) متفق عليه.
1 / 5
الانطلاقة الثانية
من سنن الله ﷿ الكونية أن لا مهادنة بين الإسلام والكفر ولا التقاء، لكنها مراحل ضعف وانكسار، وإلا فالصراع بين الحق والباطل قائم والمعركة بين الإسلام والكفر دائمة، ولا يزال هذا الدين ترسل له السهام وتصوب إليه الرماح منذ فجر انطلاقته فمنها ما تقعده حينا حتى ينهض، ومنها ما تجرحه حتى يبرأ ونهوضه وبرأه مرهون بمن حمله.
وموجات الكفر العاتية لوأد هذا الدين تتخذ طرقًا متعددة وأشكالًا متفرقة، وكلها ترمي بقوس واحد لقتله وإطفاء نوره، ولقد جرب أهل الكفر جميع الوسائل والطرق وأبلوا في ذلك أكثر البلاء وأشده، ورغم ذلك اشتد عود هذا الدين ونمت دوحته.
دعنا نتأمل هذه الأيام في الحصار الاقتصادي الذي يضرب على أكثر بلاد العالم الإسلامي، فإذا دول الكفر تشد وطأتها على المسلمين حتى هلك الحرث والنسل، ومات المرضى، وتخلف نمو الصغار، وأسقطت الحوامل، وتوقفت الصناعة، وتعطلت الزراعة، وتأخر الاقتصاد، وما أشبه الليلة بالبارحة.
كتبت قريش على بني هاشم وبني عبد المطلب، كتابًا ألا ينكحوا إليهم ولا ينكحوهم، ولا يبيعوا منهم شيئا ولا يبتاعوا منهم، ولا يقبلوا منهم صلحا أبدا، ولا تأخذهم بهم رأفة حتى يسلموا رسول الله ﷺ للقتل، فحوصر الرسول ﷺ في شعب عامر
1 / 6
ما يقارب الثلاث سنوات حتى جهدوا وكان لا يصل إليهم شيء إلا سرا، وقطعت قريش عنهم الأسواق حتى كان يسمع أصوات نسائهم وأبنائهم يتضارعون من رواء الشعب من الجوع فأكلوا من ورق الشجر وجلود الحيوانات.
وبعد هذا الحصار الشديد والحرب الضروس والمعاناة الصعبة خرج نور الإسلام من ضيق هذا الشعب الصغير حتى عم شعاب الأرض الواسعة وبعد أن أكل المسلمون ورق الشجر من قلة ذات اليد، أتت إليهم كنوز كسرى وخزائن قيصر، لكننا ننتظر من أهل الإسلام صدق العودة، وحسن الاتباع وفضيلة التأسي ..
فمتى تكون الانطلاقة؟
1 / 7
الانطلاقة الثالثة
ذكرت مجلة الأسرة في العدد رقم ٧٠ أن نساء الخليج أنفقن في عام ١٩٩٧ م مبلغا يزيد عن ٣ مليارات ريال على العطور، وأنفقن حوالي ١٥ مليون ريال لصبغات الشعر، وملكت الأزياء والموضة عقولهن وقلوبهن واستنزفت جيوبهن.
والسؤال مع الأرقام المهولة والكبيرة: ما نصيب الإسلام من ذلك؟
دعنا أخي المسلم أختي المسلمة ننطلق لنرى ابنة الصديق ﵄ وكيف هو هم الدين في قلبها وفكرها! وكيف تضحي بنطاقها وتشقه نصفين وهو من أغلى وأثمن ما تملك ﵂.
عن أسماء ﵂ قالت: "صنعت سفرة للنبي ﷺ وأبي بكر حين أراد المدينة فقلت لأبي: ما أجد شيئا أربطه إلا نطاقي، قال: فشقيه، ففعلت، فسميت ذات النطاقين" (١).
ولنساء اليوم: من منكن تضحي ببعض ما تحب لتنفق في سبيل الله، وتعين على رفعة أمر الدعوة، وتيسير حاجات الفقراء والمساكين.
لا تشقي نطاقك أيتها المسلمة بل اقتصري على ما كان ضروريا وقدمي ما بقي ليوم تشخص فيه الأبصار.
_________
(١) رواه البخاري.
1 / 8
الانطلاقة الرابعة
في زمن كثر فيه المخالفون وزاد عدد المجادلون حتى فتن كثير من الرعاع وتساهلوا بأمر الدين وساروا خلف كل ناعق فغزت قلوبهم الشبهات، وحركت جوارحهم الشهوات، فأصبح اسم الإسلام كسيرًا في نفوسهم ذليلًا في ديارهم يبحثون فيه عما يوافق هواهم ويجرون فيه خلف كل زلة، انطلق بنا لنرى صورًا مذهلة في مدينة الرسول ﷺ وكيف هو أمر التسليم والرضا والمتابعة دون تراجع ولا شك، ولا تأخر ولا تردد.
عن البراء ﵁ قال: لما قدم رسول الله ﷺ المدينة صلى نحو بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهرًا، وكان يحب أن يوجه إلى الكعبة فأنزل الله تعالى: ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا﴾ [البقرة: ١٤٤] فوجه نحو الكعبة وصلى معه رجل العصر، ثم خرج فمر على قوم من الأنصار فقال: هو يشهد أنه صلى مع النبي ﷺ وأنه قد وجه إلى الكعبة، فانحرفوا وهم ركوع في صلاة العصر (١).
ما أسرع تأسيهم وامتثالهم لأمر الرسول ﷺ سمعوا خبرا عنه ﷺ فلم يترددوا في التمسك به بل لم ينتظروا رفع رءوسهم من الركوع، وبادروا بالتوجه إلى حيث توجه النبي والقدوة ﷺ إلى الكعبة المشرفة وهم ركوع.
_________
(١) رواه البخاري.
1 / 9
وهذا موقف آخر من مواقف التسليم والرضى، لما حرمت الخمر والناس جياع والقدور تغلي.، . ماذا كان الجواب؟ .
عن أنس بن مالك ﵁ أن رسول الله ﷺ جاءه جائ فقال: "أكلت الحمر" فسكت، ثم أتاه الثانية فقال: "أكلت الحمر" فسكت، ثم أتاه الثالثة فقال: "أفنيت الحمر".
فأمر مناديا فنادى في الناس: "إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر الأهلية".
فأكفئت القدور وأنها لتفور باللحم (١).
لم يفكر أولئك الأخيار المحبون المتبعون للحبيب الكريم ﷺ في التحايل أو البحث عن فرصة أو استثناء خاصة والجوع يطوي البطون والطعام قارب الاستواء والنضج، وكيف يمكن ذلك وقد كانوا يدركون تمام الإدراك أن من الأمور الأساسية في الحب أن يكون هوى المحب تابعا لأمر الحبيب.
مواقف الطاعة والانقياد لهذا الدين كثيرة متعددة تبرهن بصدق عن عمق الإيمان وصدق الإسلام في النفوس.
عن أنس ﵁ قال: كنت ساقي القوم في منزل أبي طلحة ﵁ وكان خمرهم يومئذ الفضيح، فأمر رسول الله ﷺ مناديا ينادي: "ألا إن الخمر قد حرمت".
قال: فقال لي أبو طلحة: "اخرج فأهرقها".
_________
(١) رواه البخاري.
1 / 10
فخرجت فهرقتها، فجرت في سكك المدينة (١).
يقول الحافظ ابن حجر: وفيه إشارة إلى توارد من كانت عنده من المسلمين على إراقتها حتى جرت في الأزفة من كثرتها (٢).
وتم هذا كله من غير قيل وقال، وتردد واستفسار، فقد روى الإمام البخاري عن أنس بن مالك ﵁ قال: "فإني لقائم أسقي أبا طلحة وفلانا وفلانا إذ جاء رجل فقال: "وهل بلغكم الخبر؟ ".
فقالوا: "وما ذاك؟ ".
قال: "حرمت الخمر".
قالوا: "أهرق هذه القلال يا أنس".
قال: "فما سألوا عنها ولا راجعوها بعد خبر الرجل" (٣).
يا له من استسلام مطلق، وانقياد كامل!
وإن تحاورت اليوم مع مدخن، أو مقيم على معصية سألك: أنا مدمن منذ سنوات وكيف أتركه؟ أفارق الأمر وكيف، وإن تأملت الأمر رأيت مجانبة الآية لواقع حياتهم وطريقة تفكيرهم ﴿إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [النور: ٥١].
_________
(١) رواه البخاري.
(٢) فتح الباري (١٠/ ٣٩).
(٣) رواه البخاري.
1 / 11
والبعض اليوم إذا أخذت بمجامع عقله وقلبه وقلت له: إن الشاشة وما يعرض فيها حرام؟ قال: نعم لكن ما البديل؟
عجبا لحفيد أولئك أين الطاعة والاستسلام؟ وهل يشترط بديل لتطيع وتبتعد عن الحرام؟
للنطلق إلى قلوبنا فنصلحها، وأنفسنا فنزكيها، وعندها نعرف لذة الطاعة ونعيم القبول، والرضا بأمر الله ﷿ وحكمه ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا﴾ [الطلاق: ٢].
1 / 12
الانطلاقة الخامسة
ما رأت الأمة ذلًا وخضوعًا ولا محبة للكفار مثل ما نرى في هذا الزمن أليس البعض يسافر سائحًا لبلادهم معجبًا بأخلاقهم مرددًا صدى أحاديثهم وأقوالهم، ألم يسود أهل الصحف صحفهم بالثناء على النموذج الغربي والنموذج الياباني؟ ألم تجري المرأة المسلمة خلفهم تابعة لهم في الأزياء والملابس وقصات الشعر، إنها تبعية ولا شك نابعة من هزيمة نفسية وبعد عن العقيدة الصحيحة وتعاليم هذا الدين لقد سقط الولاء والبراء إلا من قلوب القليل.
دعنا نرى ونسمع ما يقوله الإمام الطبري في واقعة ملؤها العز والفخار والرفعة والسؤدد.
قال: لما نزلت جنود المسلمين اليرموك بعث إليهم المسلمون "إنا نريد كلام أميركم وملاقاته، فدعونا نأته ونكلمه".
فأبلغوه فأذن لهم.
فأتاه أبو عبيدة ويزيد بن أبي سفيان كالرسول، والحارث بن هشام، وضرار بن الأزور، وأبو جندل بن سهيل ﵃، ومع أخي الملك يومئذ ثلاثون رواقا في عسكره، وثلاثون سرادقًا، كلها من ديباج.
فلما انتهوا إليها أبوا أن يدخلوا عليه فيها، وقالوا: لا نستحل الحرير فأبرز لنا.
فبرز إلى فرش ممهدة وبلغ ذلك هرقل، فقال: ألم أقل لكم هذا
1 / 13
أول الذل، أما الشام فلا شام وويل للروم من المولود المشئوم.
وفي رواية: قال الصحابة لا نستحل دخولها. فأمر لهم بفرش بسط من حرير.
قالا: ولا نجلس على هذه
فجلس معهم حيث أحبوا (١).
ولما عصفت بالأمة رياح الذل والهزيمة جلس الكثير من المسلمين حيث أحب الأعداء.
فيما ترى متى ينطلق الركب في موكب مهيب مثل موكب أولئك السلف الصالح؟
_________
(١) البداية والنهاية (٧/ ٩، ١٠).
1 / 14
الانطلاقة السادسة
نساء اليوم يسابقن الرجل في كل واد .. منهن الخراجة الولاجة التي لا يقر لها قرار، ومنهن التي تلاعب الشيطان بعباءتها فاتخذتها زينة وفتنة ومنهن من لا ترى أثر تعاليم الإسلام في لباسها ومأكلها ومشربها.
دع عنك نساء اليوم مع أن فيهن خيرات تقر بهن أعين المسلمين ولننطلق نرى واقع نساء السلف وكيف كن.
عن أبي أسيد الأنصاري ﵁ أنه سمع رسول الله ﷺ وهو خارج من المسجد فاختلط رجال مع النساء في الطريق، فقال رسول الله ﷺ: "استأخرن فإنه ليس لكن أن تحققن (١) الطريق عليكن بحافات الطريق" (٢).
فكانت المرأة تلتصق بالجدار حتى إن ثوبها يتعلق بالجدار من لصوقها به.
أما سودة ﵂ فإنها لما سئلت: لم لا تحجين ولا تعتمرين كما يفعل أخواتك؟
قالت: قد حججت واعتمرت وأمرني الله أن أقر في بيتي.
قال الراوي: فوالله ما خرجت من باب حجرتها حتى أخرجت جنازتها (٣).
_________
(١) تحققن الطريق أي تركبن حقها وهو وسطها.
(٢) رواه أبو داود.
(٣) القرطبي (١٤/ ١٨٠).
1 / 15
وقال أبو بكر ابن العربي في كتابه: أحكام القرآن (ولقد دخلت نيفًا على ألف قرية من برية فما رأيت أصون عيالًا ولا أعف نساء من نساء نابلس، التي رمي بها الخليل ﵊ في النار، فإني أقمت فيها شهرًا فما رأيت امرأة في طريق نهارًا إلا يوم الجمعة فإنهن يخرجن إليها حتى يمتلئ منهن، فإذا قضيت الصلاة وانقلبن إلى منازلهن لم تقع عيني على واحدة منهن إلى الجمعة الأخرى).
واليوم: الحال مبكية والجدار سقط وإلا منذ متى والمسلمة تعرض مفاتنها للغادي والرائح؟ ومنذ متى والمسلمة تنصب نفسها للأعين الجائعة من الذئاب البشرية؟ وإن سلمت هي لم يسلم الشاب المسكين.
لقد انزوى العفاف، واستحيا الحياء، وعف العفاف حتى لا يكاد يرى على سواد الأمة إلا من رحم ربي من المؤمنات الصادقات الطائعات لله ولرسوله، فأنعم وأكرم بهن من أمهات وبنات وزوجات.
1 / 16
الانطلاقة السابعة
تباطأت الأقدام عن السير للجهاد في سبيل الله، ورفع راية هذا الدين، وماتت الهمم دون اللحاق بالمجاهدين والنبي ﷺ يقول: "من مات ولم يغز، ولم يحدث نفسه بغزو، مات على شعبة من النفاق" (١).
انطلق بنا أخي المسلم لنلج من باب عظيم من أبواب الدعوة إلى الله وإعلءه دينه، إنه الجهاد في سبيل الله.
عن أبي قتادة ﵁ أن رسول الله ﷺ قام فيهم فذكر أن الجهاد في سبيل الله والإيمان بالله أفضل الأعمال، فقام رجل فقال: يا رسول الله أرأيت إن قتلت في سبيل الله أتكفر عني خطاياي؟ فقال له: رسول الله ﷺ: "نعم، إن قتلت في سبيل الله وأنت صابر محتسب مقبل غير مدبر" ثم قال رسول الله ﷺ: "كيف قلت" قال: أرأيت إن قتلت في سبيل الله أتكفر عني خطاياي؟ فقال رسول الله ﷺ: "نعم وأنت صابر محتسب، مقبل غير مدبر، إلا الدين، فإن جبريل ﵇ قال لي ذلك" (٢).
وعن جابر ﵁، قال: قال رجل أين أنا يا رسول الله إن قتلت؟ قال: "في الجنة" فألقى تمرات كن في يده، ثم قاتل حتى قتل (٣).
_________
(١) رواه مسلم.
(٢) رواه مسلم.
(٣) رواه مسلم.
1 / 17
وعن أنس ﵁ قال: انطلق رسول الله ﷺ وأصحابه حتى سبقوا المشركين إلى بدر، وجاء المشركون فقال رسول
الله ﷺ: "لا يقدمن أحد منكم إلى شيء حتى أكون أنا دونه" فدنا المشركون فقال رسول الله ﷺ: "قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض" قال: يقول عمير بن الحمام الأنصاري ﵁: يا رسول الله جنة عرضها السموات والأرض؟ قال: "نعم" قال: بخ بخ فقال رسول الله ﷺ: "ما يحملك على قولك بخ بخ؟ " قال: لا والله يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها، قال: "فإنك من أهلها" فأخرج تمرات من قرنه (١)، فجعل يأكل منهن ثم قال لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة فرمى بما كان معه من التمر، ثم قاتلهم حتى قتل (٢).
ثلاث نماذج سريعة من سجل حافل لأمة الجهاد يحتاج إلى قراءته وتأمل واقعه ثم النظر إلى حالة الأمة اليوم وما تردت فيه من الذل والهوان.
_________
(١) القرن بفتح القاف والراء: هو جعبة النشاب.
(٢) رواه مسلم.
1 / 18
الانطلاقة الثامنة
عن أنس بن مالك ﵁ قال: جاء ناس إلى النبي ﷺ أن ابعث معنا رجالا يعلمونا القرآن والسنة فبعث إليهم سبعين رجلا من الأنصار يقال لهم: القراء، فيهم خالي حرام، يقرءون القرآن ويتدارسون بالليل يتعلمون، وكانوا بالنهار يجيئون بالماء، فيضعونه في المسجد، ويحتطبون فيبيعونه ويشترون به الطعام لأهل الصفة، وللفقراء، فبعثهم النبي ﷺ فعرضوا لهم فقتلوهم قبل أن يبلغوا المكان، فقالوا: اللهم بلغ عنا نبينا أنا قد لقيناك فرضينا عنك ورضيت عنا، وأتى رجل حراما خال أنس من خلفه، فطعنه برمح حتى أنفذه فقال حرام: فزت ورب الكعبة، فقال رسول الله ﷺ: "إن إخوانكم قد قتلوا وإنهم قالوا: اللهم بلغ عنا أنا قد لقيناك فرضينا عنك ورضيت عنا" (١).
أخي المسلم: هذا حرام يقول: فزت ورب الكعبة، وما ذاك إلا من إيمان سعى به لنيل الشهادة، فأين نحن من حرام وفعله؟
ومتى يوم الفوز لنا ولك؟ !
_________
(١) متفق عليه واللفظ لمسلم.
1 / 19
الانطلاقة التاسعة
فترة الشباب فترة حاسمة في حياة الإنسان وهي مرحلة الزرع والإنتاج والعمل والنشاط.
وما قامت أمة من الأمم بعد توفيق الله ﷿ إلا على همم وأكتاف شبابها ورجالها.
اليوم شباب الإسلام، إلا من رحم ربك يهيمون في أودية الضياع والانحراف، هواية أحدهم ليست الجهاد في سبيل الله ولا طلب العلم ولا تحصيل الفوائد بل هم الكثير وهوايته متابعة الموسيقى والرقص وإن أردت شاهد عدل على هذا العار فقلب صفحات المجلات لترى كثرة هواة المراسلة ومحبي التعارف كما يدعون.
ولتقر عينك: انطلق بنا لنرى واقع شباب صدر الإسلام الأول حينما كانت السيوف محبوبتهم والجهاد هوايتهم ورغبتهم.
قال الإمام البخاري ﵀ في صحيحه: حدثنا مسدد حدثنا يوسف بن الماجشون عن صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه عن جده أنه قال: بينا أنا واقف في الصف يوم بدر فنظرت عن يميني وشمالي فإذا أنا بغلامين من الأنصار حديثة أسنانهما تمنيت أن أكون بين أضلع منهما، فغمزني أحدهما فقال: يا عم، هل تعرف أبا جهل؟ قلت: نعم ما حاجتك إليه يا ابن أخي؟ قال: أخبرت أنه يسب رسول الله ﷺ والذي نفسي بيده لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا، فتعجبت لذلك
1 / 20
فغمزني الآخر فقال مثلها، فلم أنشب أن نظرت إلى أبي جهل يجول في الناس فقلت: ألا إن هذا صاحبكما الذي سألتماني، فابتدراه فضرباه حتى قتلاه ثم انصرفا إلى رسول الله ﷺ فأخبراه فقال: "أيكما قتله؟ " قال كل واحد منهما: أنا قتلته، فقال: "هل مسحتما سيفيكما"؟ قالا: لا فنظر في السيفين فقال: "كلاكما قتله" سلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح، وكانا معاذ بن عفراء ومعاذ بن عمرو بن الجموح.
وللآباء والأمهات .. على أي شيء تربى الأجيال القادمة؟ وماذا يغرس في قلوبهم؟ إنها الأمانة والمسئولية اليوم، والحساب والجزاء غدا.
1 / 21
الانطلاقة العاشرة
لنقلب صفحات مضت ونستحث الخطى لنرى معركة حمي فيها الوطيس واشتدت فيها سيوف المشركين.
إنها معركة أحد المشهورة .. موقف واحد يرويه أنس ﵁ إذ يقول: غاب عمي أنس بن النضر عن قتال بدر فقال: يا رسول الله غبت عن أول قتال قاتلت المشركين، لئن الله أشهدني قتال المشركين ليرين الله ما أصنع، فلما كان يوم أحد، وانكشف المسلمون قال: اللهم إني اعتذر إليك مما صنع هؤلاء يعني أصحابه وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء يعني المشركين ثم تقدم فاستقبله سعد بن معاذ، فقال: يا سعد بن معاذ الجنة ورب النضر، إني أجد ريحها من دن أحد، قال سعد، فما استطعت يا رسول الله ما صنع، قال أنس: فوجدنا به بضعا وثمانين ضربة بالسيف أو طعنة برمح أو رمية بسهم، ووجدناه قد قتل وقد مثل به المشركون، فما عرفه أحد إلا أخته ببنانه.
قال أنس: كنا نرى أو نظن أن هذه الآية نزلت فيه وفيه أشباهه: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ﴾ [الأحزاب: ٢٣] إلى آخر الآية (١).
_________
(١) رواه البخاري.
1 / 22