بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله الذي له الكبرياء في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وبعد:
فإن من صفات المؤمنين الإنابة والإخبات والتواضع وعدم الكبر. ومن استقرأ حياة نبي هذه الأمة يجد فيها القدوة والأسوة، ومن تتبع حياة السلف الصالح رأى ذلك واضحًا جليًا.
وهذا هو الجزء «العشرون» من سلسلة «أين نحن من هؤلاء؟» تحت عنوان: «من تواضع لله رفعه» أدعو الله ﷿ أن يزيننا بزينة الإيمان، وأن يجعلنا أذلة للمؤمنين أعزة على الكافرين وأن يقينا شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
عبد الملك بن محمد بن عبد الرحمن القاسم
1 / 3
مدخل
قال الله تعالى: ﴿تِلْكَ الدَّارُ الْآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ (١).
قال عكرمة: العلو: التجبر، وقال سعيد بن جبير: بغير حق، وقال ابن جريج: ﴿لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ﴾ تعظمًا وتجبرًا.
وعن علي ﵁ قال: إن الرجل ليعجبه من شراك نعله أن يكون أجود من شراك نعل صاحبه فيدخل في قوله تعالى: ﴿تِلْكَ الدَّارُ الْآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾؛ وهذا محمول على ما إذا أراد بذلك الفخر والتطاول على غيره (٢).
وقال الله ﷿ حاثًا على مكارم الأخلاق ومحذرًا من الكبر والعجب: ﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ (٣). قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي: بلين جانبك، ولطف خطابك، وتوددك إليهم، وحسن خلقك، والإحسان التام بهم (٤).
وقال تعالى حكاية عن لقمان ﵇ وهو يعظ ابنه: ﴿وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا
_________
(١) سورة القصص، الآية: ٨٣.
(٢) تفسير ابن كثير ٣/ ٤٠٣.
(٣) سورة الشعراء، الآية: ٢١٥.
(٤) تيسير الكريم الرحمن، ص ٥٤٨.
1 / 4
يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾ (١).
قال ابن عباس: لا تتكبر، فتحقر عباد الله، وتعرض عنهم إذا كلموك (٢).
ونجد في القرآن الكريم آيات تمدح المتواضعين وتتوعد المتكبرين وتبين أن لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى، قال الله تعالى: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ (٣). فالعبرة بالتقوى وليست بالعلم أو المال أو الحسب أو السلطان، فإن اقترن واحد من هذه بالتقوى كان خيرًا عظيمًا وإن عري عنها كان سببًا لاستحقاق العذاب الأليم، فكم من مال أودى بصاحبه في المهالك، وكم من سلطان يكون في النار مع فرعون وهامان، وكم من عالم تسعر به النار قبل غيره، فالتقوى هي قطب الرحى في جميع الأمور، وليس لأي من تلك الأمور السالفة فضيلة إلا باقترانها بالتقوى (٤).
ومن منازل ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ (٥): منزلة «التواضع».
قال الله تعالى: ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا﴾ (٦) أي بسكينة ووقار، متواضعين، غير أشرين، ولا مرحين ولا متكبرين.
_________
(١) سورة لقمان، الآية: ١٨.
(٢) فتح القدير ٤/ ٣٠١.
(٣) سورة الحجرات، الآية: ١٣.
(٤) التواضع والخمول لابن أبي الدنيا، ص ١٢.
(٥) سورة الفاتحة، الآية: ٥.
(٦) سورة الفرقان، الآية: ٦٣.
1 / 5
قال الحسن: علماء حلماء.
وقال محمد بن الحنفية: أصحاب وقار وعفة لا يسفهون، وإن سفه عليهم حلموا (١).
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي: ذكر أن صفاتهم أكمل الصفات ونعوتهم أفضل النعوت، فوصفهم بأنهم يمشون على الأرض هونًا، أي ساكنين متواضعين لله وللخلق، فهذا وصف لهم بالوقار والسكينة، والتواضع لله ولعباده (٢).
والتواضع علامة حب الله للعبد كما قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ (٣).
قال ابن كثير ﵀: هذه صفات المؤمنين الكمل، أن يكون أحدهم متواضعًا لأخيه ووليه، متعززًا على خصمه وعدوه (٤).
وقال ﷺ: «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر» فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنًا، ونعله
_________
(١) مدارج السالكين، ص ٣٤٠.
(٢) تفسير السعدي ٥/ ٥٩٣.
(٣) سورة التوبة، الآية: ٥٤.
(٤) تفسير ابن كثير ٢/ ٧٣.
1 / 6
حسنة؟ قال: «إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق، وغمط الناس» (١).
وبطر الحق: هو دفعه ورده على قائله، أما غمط الناس: فهو احتقارهم وازدراؤهم.
وعن عياض بن حمار ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: «إن الله أوحى إليَّ أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد، ولا يبغي أحد على أحد» (٢).
وقال ﵊: «ألا أخبركم بأهل النار؟ كل عتل جواظ مستكبر» (٣).
وفي سيرته ﷺ دروس في التواضع:
فقد كان ﷺ يمر على الصبيان فيسلم عليهم.
وكانت الأمة تأخذ بيده ﷺ فتنطلق به حيث شاءت.
وكان ﷺ إذا أكل لعق أصابعه الثلاث.
وكان ﷺ يكون في بيته في خدمة أهله.
ولم يكن ﷺ ينتقم لنفسه قط.
وكان ﷺ يخصف نعله، ويرقع ثوبه، ويحلب الشاة لأهله، ويعلف البعير ويأكل مع الخادم، ويجالس المساكين، ويمشي مع
_________
(١) رواه مسلم.
(٢) رواه مسلم.
(٣) متفق عليه.
1 / 7
الأرملة واليتيم في حاجتهما، ويبدأ من لقيه بالسلام، ويجيب دعوة من دعاه، ولو إلى أيسر شيء.
وكان ﷺ هين المؤنة، ليَّن الخلق، كريم الطبع، جميل المعاشرة، طلق الوجه بسامًا، متواضعًا من غير ذلة، جوادًا من غير سرف، رقيق القلب رحيمًا بكل مسلم، خافض الجناح للمؤمنين، لين الجانب لهم.
وكان ﷺ يعود المريض. ويشهد الجنازة، ويركب الحمار، ويجيب دعوة العبد.
وكان يوم قريظة على حمار مخطوم بحبل من ليف على إكاف من ليف (١).
وعن أنس بن مالك ﵁ قال: «كان النبي ﷺ يدعى إلى خبز الشعير والإهالة السنخة فيجيب، ولقد كان له درع عند يهودي فما وجد ما يفكها حتى مات» (٢).
وكان من تواضعه ﷺ ما رواه أنس بقوله: «كان ﷺ يؤتى بالتمر فيه دود فيفشه يخرج السوس منه» (٣).
وكان من دعائه ﷺ: «اللهم أحيني مسكينًا، وأمتني
_________
(١) مدارج السالكين، ص ٣٤١. وانظر: الشمائل المحمدية للترمذي، ص ٢٨٤ وما بعدها. وفي سيرة الرسول ﷺ مواقف عظيمة في التواضع ولين الجانب وحسن الخلق.
(٢) رواه الترمذي.
(٣) صحيح الجامع ١/ ٢٧١.
1 / 8
مسكينًا، واحشرني في زمرة المساكين» (١).
يقول ابن الأثير: أراد به التواضع والإخبات، وأن لا يكون من الجبارين المتكبرين (٢).
ولهذا قالت عائشة ﵂: إنكم تغفلون عن أفضل العبادات: التواضع (٣).
قال حمدون القصار في تعريف التواضع: التواضع أن لا ترى لأحد إلى نفسك حاجة، لا في الدين ولا في الدنيا (٤).
وعندما سئل الفضيل بن عياض عن التواضع قال: يخضع للحق، وينقاد له ويقبله ممن قاله.
وقيل: التواضع أن لا ترى لنفسك قيمة. فمن رأى لنفسه قيمة فليس له في التواضع نصيب.
وقيل: التواضع: هو خفض الجناح، ولين الجانب.
وقيل: هو أن لا يرى لنفسه مقامًا ولا حالًا، ولا يرى في الخلق شرًا منه.
وقال ابن عطاء: هو قبول الحق ممن كان. والعز في التواضع، فمن طلبه في الكبر فهو كتطلب الماء من النار (٥).
_________
(١) الإحياء ٣/ ٣٦١.
(٢) مدارج السالكين، ص ٣٤٤.
(٣) رواه البخاري.
(٤) رواه أبو داود وصححه الألباني.
(٥) مدارج السالكين، ص ٣٤٢.
1 / 9
قال صاحب المنازل:
التواضع: أن يتواضع العبد لصولة الحق.
يعني: أن يتلقى سلطان الحق بالخضوع له، والذل، والانقياد، والدخول تحت رقه بحيث يكون الحق متصرفًا فيه تصرف المالك في مملوكه. فبهذا يحصل للعبد خلق التواضع. ولهذا فسر النبي ﷺ الكبر بضده فقال: «الكبر بطر الحق، وغمط الناس».
«فبطر الحق» رده وجحده، والدفع في صدره؛ كدفع السائل. و«غمط الناس» احتقارهم وازدراؤهم. ومتى احتقرهم وازدراهم دفع حقوقهم، وجحدها، واستهان بها.
ولما كان لصاحب الحق مقال وصولة كانت النفوس المتكبرة لا تقر له بالصولة على تلك الصولة التي فيها، ولا سيما النفوس المبطلة فتصول على صولة الحق بكبرها وباطلها. فكان حقيقة التواضع: خضوع العبد لصولة الحق، وانقياده لها، فلا يقابلها بصولته عليها (١).
ولعظم عقوبة التكبر والخيلاء حتى في أمر يراه الناس يسيرًا قال رسول الله ﷺ: «من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة» (٢).
وفي الحديث الآخر قال رسول الله ﷺ: «لا يدخل الجنة من
_________
(١) مدارج السالكين، ص ٣٤٦.
(٢) رواه البخاري.
1 / 10
كان في قلبه مثقال ذرة من كبر» (١).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ﵀: التكبر شر من الشرك، فإن المتكبر يتكبر عن عبادة الله تعالى، والمشرك يعبد الله وغيره (٢).
وقال الفضيل عندما سئل عن التواضع ما هو؟ قال: أن تخضع للحق وتنقاد له، ولو سمعته من صبي قبلته، ولو سمعته من أجهل الناس قبلته (٣).
وعلى هذا القياس قل أهل التواضع في زماننا! ! وهم أندر من الكبريت الأحمر! فتأمل من يقبل الحق من صبي أو من جاهل أو فقير؟ !
ولهذا قيل عن التواضع: من يرى لنفسه قيمة فليس له من التواضع نصيب.
قال يوسف بن أسباط: يجزي قليل الورع من كثير العمل، ويجزي قليل التواضع من كثير الاجتهاد (٤).
وقال يحيى بن كثير مفصلًا الأمر: رأس التواضع ثلاث: أن ترضى بالدون من شرف المجلس، وأن تبدأ من لقيته بالسلام، وأن
_________
(١) رواه مسلم.
(٢) المستدرك على مجموع فتاوى ابن تيمية ١/ ١٦.
(٣) الإحياء ٣/ ٣٦٢.
(٤) الإحياء ٣/ ٣٦١.
1 / 11
تكره المدحة والسمعة والرياء بالبر (١).
وتأمل هذه الثلاث في نفسك وانظر أين مكانك الذي تحب في المجلس؟ أهو صدر المجلس وتحب أن تعظم ويفسح لك ويشار إليك بالأيدي أم هو نهاية المجلس .. والتواضع وعدم حب الظهور؟
ثم تأمل في حال السلام تجد العجب في عدم إلقائه بحرارة وشوق خاصة على الفقراء والعمال والصغار! !
وثالثة الأثافي حبك للمدح والثناء، بل ربما -والعياذ بالله- بادرت في صدر كل مجلس بذكر تبرعك وصيامك وحجك وجهدك وخدمتك لهذا الدين ثم تعرج على تعبك ونصبك لإصلاح الناس!
كان علي بن الحسن يقول: عجبت للمتكبر الفخور الذي كان بالأمس نطفة ثم هو غدًا جيفة، وعجبت كل العجب لمن شك في الله وهو يرى خلقه، وعجبت كل العجب لمن أنكر النشأة الأولى، وعجبت كل العجب لمن عمل لدار الفناء وترك دار البقاء (٢).
والمصيبة العظمى رضى الإنسان عن نفسه واقتناعه بعلمه، وهذه محنة قد عمت أكثر الخلق؛
فترى اليهودي والنصراني يرى أنه على الصواب، ولا يبحث
_________
(١) التواضع والخمول، ص ١٥٥.
(٢) صفة الصفوة: ٢/ ٩٥.
1 / 12
ولا ينظر في دليل نبوة نبينا ﷺ، وإذا سمع ما يلين قلبه مثل القرآن المعجز هرب لئلا يسمع.
وكذلك كل ذي هوى يثبت عليه، إما لأنه مذهب أبيه وأهله، أو لأنه نظر نظرًا أول فرآه صوابًا، ولم ينظر فيما يناقضه، ولم يباحث العلماء ليبينوا له خطأه (١).
قال الحسن: هل تدرون ما التواضع؟ التواضع: أن تخرج من منزلك فلا تلقى مسلمًا إلا رأيت له عليك فضلًا (٢).
ومن منا الآن يطبق هذا القول على نفسه! وينزلها تلك المنزلة؟ !
بل البعض يأخذه العجب والتيه على عباد الله لدنيا أو علم أو جاه .. وكلها منح وعطايا من الله ﷿ .. ومثلما أعطاها إياه فهو سبحانه قادر على أن يسلبها منه في طرفة عين!
عندما سئل عبد الله بن المبارك عن العجب؟ قال: أن ترى أن عندك شيئًا ليس عند غيرك (٣).
وقال أبو علي الجوزجاني: النفس معجونة بالكبر والحرص والحسد، فمن أراد الله تعالى هلاكه منع منه التواضع والنصيحة والقناعة، وإذا أراد الله تعالى به خيرًا لطف به في ذلك، فإذا هاجت
_________
(١) صيد الخاطر: ص ٥٩٢.
(٢) التواضع والخمول: ص ١٥٤.
(٣) تذكرة الحفاظ ١/ ٢٧٨.
1 / 13
في نفسه نار الكبر أدركها التواضع من نصرة الله تعالى، وإذا هاجت نار الحسد في نفسه أدركتها النصيحة مع توفيق الله ﷿، وإذا هاجت في نفسه نار الحرص أدركتها القناعة مع عون الله ﷿ (١).
قال ابن الحاج: من أراد الرفعة فليتواضع لله تعالى، فإن العزة لا تقع إلا بقدر النزول، ألا ترى أن الماء لما نزل إلى أصل الشجرة صعد إلى أعلاها؟ فكأن سائلًا سأله: ما صعد بك هنا، أعني في رأس الشجرة وأنت تحت أصلها؟ ! فكأن لسان حاله يقول: من تواضع لله رفعه (٢).
والفرق بين التواضع والمهانة: أن التواضع يتولد من بين العلم بالله سبحانه ومعرفة أسمائه وصفاته ونعوت جلاله وتعظيمه ومحبته وإجلاله، ومن معرفته بنفسه وتفاصيلها وعيوب عمله وآفاتها، فيتولد من بين ذلك كله خلق هو التواضع، وهو انكسار القلب لله وخفض جناح الذل والرحمة بعباده فلا يرى له على أحد فضلًا ولا يرى له عند أحد حقًا، بل يرى الفضل للناس عليه والحقوق لهم قبله، وهذا خلق إنما يعطيه الله ﷿ من يحبه ويكرمه ويقربه.
أما المهانة: فهي الدناءة والخسة وبذل النفس وابتذالها في نيل حظوظها وشهواتها، كتواضع السفل في نيل شهواتهم، وتواضع
_________
(١) الإحياء ٣/ ٣٦٢.
(٢) المدخل لابن الحاج ٢/ ١٢٢.
1 / 14
المفعول به للفاعل، وتواضع طالب كل حظ لمن يرجو نيل حظه منه، فهذا كله ضعة لا تواضع، والله سبحانه يحب التواضع ويبغض الضعة والمهانة (١).
قال سفيان بن عيينة: من كانت معصيته في شهوة فارج له التوبة، فإن آدم ﵇ عصى مشتهيًا فغفر له، فإذا كانت معصيته من كبر فاخش عليه اللعنة، فإن إبليس عصى مستكبرًا فلعن (٢).
وآفة حب الثناء والمدح التي يحبها البعض بل ويبحث عنها ويحث عليها - ما موقعها بين حال السلف؟ ! وعلى أي حال كانوا يقبلونها؟ ! وأي منزلة ينزلونها؟ !
قال مطرف بن عبد الله: ما مدحني أحد قط إلا تصاغرت إلى نفسي (٣).
وما ذاك إلا لمعرفتهم بحقارة أنفسهم في جنب الله، وتواضعهم لجلاله، ومحاسبة أنفسهم ومعرفتهم بتقصيرهم وزللهم! !
أخي المسلم:
عجبت لمن يعجب بصورته، ويختال في مشيته، وينسى مبدأ أمره. إنما أوله لقمة، ضمت إليها جرعة ماء، فإن شئت فقل كسيرة
_________
(١) كتاب الروح، ص ٢٧٣.
(٢) مختصر منهاج القاصدين، ص ٢٤٧.
(٣) صفة الصفوة ٣/ ٢٢٣.
1 / 15
خبز، معها تمرات، وقطعة من لحم، ومذقة من لبن، وجرعة من ماء، ونحو ذلك، طبخته الكبد، فأخرجت منه قطرات مني، فاستقر في الأنثيين، فحركتها الشهوة، فصبت في بطن الأم مدة، حتى تكاملت صورتها، فخرجت طفلًا تتقلب في خرق البول.
وأما آخره: فإنه يلقى في التراب، فيأكله الدود، ويصير رفاتًا تسفيه السوافي، وكم يخرج تراب بدنه من مكان إلى مكان آخر، ويقلب في أحوال، إلى أن يعود فيجمع. هذا خبر البدن.
إنما الروح التي عليها العمل، فإن تجوهرت بالأدب، وتقومت بالعلم، وعرفت الصانع، وقامت بحقه، فما يضرها نقض المركب. وإن هي بقيت على صفتها من الجهالة شابهت الطين، بل صارت إلى أخس حالة منه (١).
أخي المسلم:
حقيق بالتواضع من يموت ... وحسب المرء من دنياه قوت (٢)
قال أحمد بن الورد: ولي الله إذا زاد جاهه زاد تواضعه، وإذا زاد ماله زاد سخاؤه، وإذا زاد عمره زاد اجتهاده (٣).
وقال ابن المبارك: رأس التواضع أن تضع نفسك عند من دونك في نعمة الدنيا حتى تعلمه أنه ليس لك بدنياك عليه فضل، وأن ترفع نفسك عمن هو فوقك في الدنيا حتى تعلمه أنه ليس له
_________
(١) صيد الخاطر، ص ٤٥٧.
(٢) التبصرة ١/ ٢.
(٣) صفة الصفوة ٢/ ٣٩٥.
1 / 16
بدنياه عليك فضل.
أخي الحبيب:
كيف هو قلبك؟ أمع الفقراء والمساكين والمعدومين؟ ! محص نفسك بقول يحيى بن معاذ: حبك الفقراء من أخلاق المرسلين، وإيثارك مجالستهم من علامة الصالحين، وفرارك من صحبتهم من علامة المنافقين (١).
ولا تحقرن أحدًا فإن من هؤلاء الضعفاء والمساكين من له منزلة عظيمة عند الله ﷿ كما قال رسول الله ﷺ: «رب أشعث مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره» (٢).
وعنه ﷺ أنه قال: «هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم؟» (٣).
قال خالد بن معدان: لا يفقه الرجل كل الفقه حتى يرى الناس في جنب الله أمثال الأباعر ثم يرجع إلى نفسه فيكون لها أحقر حاقر (٤).
أخي المسلم:
من اتقى الله تعالى تواضع له، ومن تكبر كان فاقدًا لتقواه، ركيكًا في دينه، مشتغلًا بدنياه، فالمتكبر وضيع وإن رأى نفسه مرتفعًا على الخلق، والمتواضع وإن رُئِي وضيعًا فهو رفيع القدر.
_________
(١) الإحياء ٤/ ٢١١.
(٢) رواه مسلم.
(٣) رواه البخاري.
(٤) السير ٤/ ٥٣٩.
1 / 17
تواضع تكن كالنجم لاح لناظر
على صفحات الماء وهو رفيع
ولا تك كالدخان يعلو بنفسه
إلى طبقات الجو وهو وضيع
ومن استشعر التواضع وعاشه كره الكبر وبواعثه (١).
وتأمل في حال من تلبسه الشيطان في حالة واحدة من حالات الكبر يظنها بعض الناس يسيرة وهي عند الله عظيمة، فقد قال رسول الله ﷺ: «بينما رجل يمشي في حلة تعجبه نفسه، مرجل رأسه (٢)، يختال في مشيته، إذ خسف الله به، فهو يتجلجل (٣) في الأرض إلى يوم القيامة» (٤).
وتأمل في حالات كثيرة من المتكبرين من الرجال والنساء لجدة مركب أو شهرة ثوب أو لجاه ومنصب! وتلحظ بعض الناس تتغير شخصيته وطريقة حديثه وخطوات ممشاه إذا لبس جديدًا أو اقتنى فانيًا من حطام الدنيا! !
وقد ذم الله ﷿ الكبر في آيات كثيرة فقال تعالى: ﴿سَأَصْرِفُ عَنْ آَيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾ (٥).
_________
(١) التواضع والخمول، ص ١٢.
(٢) مرجل رأسه: أي ممشطه.
(٣) يتجلجل: أي يغوص وينزل.
(٤) متفق عليه.
(٥) سورة الأعراف، الآية: ١٤٦.
1 / 18
وقال تعالى: ﴿كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ﴾ (١). ومن تدبر القرآن خشي على نفسه من هذه الآفة العظيمة.
ولنا في حال أبي بكر ﵁ وهو الصديق خليفة رسول الله ﷺ عبرة وعظة ودرس وتربية: عن ابن أبي مليكة قال: كان ربما سقط الخطام من يد أبي بكر الصديق، فيضرب بذراع ناقته فينيخها فيأخذه، قال: فقالوا له: أفلا أمرتنا نناولكه؟ قال: إن حِبِّي ﷺ أمرني أن لا أسأل الناس شيئًا (٢).
ويقال: أرفع ما يكون المؤمن عند الله أوضع ما يكون عند نفسه، وأوضع ما يكون عند الله أرفع ما يكون عند نفسه.
وقال زياد النمري: الزاهد بغير تواضع كالشجرة التي لا تثمر.
وكان السلف ﵏ يجاهدون أنفسهم ويحقرونها في جنب الله ﷿ حتى أن أحدهم يتأهب للمنادي!
قال مالك بن دينار: لو أن مناديًا ينادي بباب المسجد: ليخرج شركم رجلًا، والله ما كان أحد يسبقني إلى الباب إلا رجلًا بفضل قوة أو سعي.
قال: فلما بلغ ابن المبارك قوله قال: بهذا صار مالك مالكًا.
وقال الفضيل: من أحب الرئاسة لم يفلح أبدًا (٣).
_________
(١) سورة غافر، الآية: ٣٥.
(٢) صفة الصفوة ١/ ٢٥٣.
(٣) الإحياء ٣/ ٣٦١.
1 / 19
أخي الحبيب: أين نحن من هؤلاء؟ !
قال علي بن ثابت: ما رأيت سفيان الثوري في صدر المجلس قط، إنما كان يقعد إلى جانب الحائط ويستند إلى الحائط ويجمع بين ركبتيه (١).
وعندما قيل لأبي عبد الله - إمام أهل السنة أحمد بن حنبل: ما أكثر الداعين لك؟ فتغرغرت عينه، وقال: أخاف أن يكون هذا استدراجًا.
لو قيلت هذه الكلمة لبعض الناس اليوم .. لأطلق ضحكة تجلجل وأتبعها ما قام به من أعمال في سبيل هذا الدين وعد كل شاردة وواردة! وكل ذلك رفعة ومباهاة مع جهل وغفلة.
قال يونس بن عبيد: دخلنا على محمد بن واسع نعوده فقال: وما يغني عني ما يقول الناس، إذا أخذ بيدي ورجلي فألقيت في النار؟ !
وقال يونس: قلت لأبي عبد الله (يعني أحمد بن حنبل) أن بعض المحدثين قال لي: أبو عبد الله لا يزهد في الدراهم وحدها، قد زهد في الناس. فقال أبو عبد الله: ومن أنا حتى أزهد في الناس! الناس يريدون يزهدون فيَّ.
وقال أبو عبد الله: أسأل الله أن يجعلنا خيرًا مما يظنون، ويغفر لنا ما لا يعلمون (٢).
_________
(١) صفة الصفوة ٣/ ١٤٧.
(٢) الورع لأحمد بن حنبل، ص ١٥٢.
1 / 20
ومن تواضع أهل الطاعة والعبادة وعدم تزكيتهم أنفسهم ما قاله محمد بن واسع عن نفسه وهو علم من الأعلام وعابد من العباد: لو كان للذنوب ريح ما جلس إلي أحد (١).
وكان أيوب السختياني يقول: إذا ذكر الصالحون كنت عنهم بمعزل (٢).
وقال الشافعي: أرفع الناس قدرًا من لا يرى قدره، وأكثرهم فضلًا من لا يرى فضله (٣).
ولهذا التواضع وإنزال النفس منزلتها قال أبو حاتم: الواجب على العاقل لزوم التواضع ومجانبة التكبر، ولو لم يكن في التواضع خصلة تحمله إلا أن المرء كلما كثر تواضعه ازداد بذلك رفعة، لكان الواجب عليه أن لا يتزيَّا بغيره.
ولأثر الكبر السيء وسوء فعله في الأنفس والعقول قال محمد ابن الحسين بن علي: ما دخل قلب امرئ شيء من الكبر قط إلا نقص من عقله بقدر ما دخل من ذلك قل أو كثر (٤).
أخي الحبيب:
التواضع تواضعان: أحدهما محمود، والآخر مذموم.
فالتواضع المحمود: ترك التطاول على عباد الله، والإزراء بهم.
_________
(١) السير ١٢٠/ ٦، صفة الصفوة ٣/ ٢٦٨.
(٢) تذكرة الحفاظ ١٠/ ١٣١.
(٣) السير ١٠/ ٩٩.
(٤) الإحياء ٣/ ٣٥٨.
1 / 21
والتواضع المذموم: هو تواضع المرء لذي الدنيا رغبة في دنياه.
فالعاقل يلزم مقارقة التواضع المذموم على الأحوال كلها، ولا يفارق التواضع المحمود على الجهات كلها (١).
قال ابن القيم ﵀ في كتابه مدارج السالكين في منزلة الخشوع:
ولقد شهدت من شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه من ذلك أمرًا لم أشاهده من غيره، وكان يقول كثيرًا: ما لي شيء ولا مني شيء ولا في شيء، وكان كثيرًا ما يتمثل بهذا البيت:
أنا المكدي وابن المكدي ... وهكذا أبي وجدِّي
هذه إجاباتهم وهذا تواضعهم وهم أئمة هذا الدين وعلماء زمانهم، ولهم البلاء والجهاد المعلوم المعروف .. فما يقول من هو دونهم علمًا وعبادة؟ !
وكان إذا أثني عليه ﵀ في وجهه يقول: والله إني إلى الآن أجدد إسلامي كل وقت وما أسلمت بعد إسلامًا جيدًا.
قال محمد بن زهير: أتيت أبا عبد الله (أحمد بن حنبل) في شيء أسأله عنه فأتاه رجل فسأله عن شيء، أو كلمه في شيء، فقال له: جزاك الله عن الإسلام خيرًا فغضب أبو عبد الله وقال له: من أنا حتى يجزيني عن الإسلام خيرًا، بل جزى الله الإسلام عني خيرًا (٢).
_________
(١) روضة العقلاء، ص ٥٩.
(٢) طبقات الحنابلة ١/ ٢٩٨.
1 / 22