هذا ما كان من أمر تلك الفئة الباغية.
أما ما كان من أمر أوديسيوس فقد استيقظ في بكرة اليوم التالي، واستيقظت معه بنلوب السعيدة، وهب من فراشه فارتدى ملابسه، ووضع عليه سلاحه، ثم أمر زوجه ألا تخاطب من الناس إنسيا حتى يعود، وأن تغلق عليها أبواب القصر؛ لأنه منطلق إلى أبيه ليزف إليه البشرى بنفسه، ودعا إليه تليماك ليصحبه، وليصحبه الراعيان المخلصان الوفيان، بعد أن يسبغ كل منهما عليه دروعه، ويستعد بسلاحه.
وانطلق الأربعة يطوون شوارع المدينة التي خيم عليها الصمت دون أن يشعر بهم أحد من أهلها، حتى بلغوا الخلاء، وما زالوا يذرعونه حتى كانوا عند المزرعة المصون الناضرة ، وهناك نظر أوديسيوس - بعينين مشوقتين وقلب ملتاع خفق - إلى البيت الصغير الذي يؤوي أباه الضعيف الشيخ، حيث يقضي أيامه في أسى ليس بعده أسى، ويجتر همومه في صمت الموتى، ويذرف دموعه في قنوط وسكون ... لا يراه أحد، ولا يشكو بثه إلى مخلوق، إلا هذه المرأة العجوز الحيزبون التي تخدمه في رضا، وتسهر عليه في حب له، وإشفاق من أجله. وكان ليرتيس - الأب المحزون - يتلهى بالعمل في بستان قريب، يشذب شجيراته، ويهذب زهيراته، فأمر أوديسيوس ولده وراعييه أن يبقوا في المنزل ليعدوا غداء فاخرا وشواء سمينا؛ لأنه يحب أن يلقى أباه في البستان وحده.
وانطلق أوديسيوس إلى البستان، فوجد الفلاحين قد انصرفوا إلى أعمالهم، ووجد أباه يجوس خلال الأشجار كالشبح، ويهوي بفأسه فيحتفر حولها بين الفينة والفينة يصلح من لباسه الخشن الذي اتخذه من جلد عنز، كما اتخذ منه قفازيه وجوربيه ... ووقف أوديسيوس تحت كمثراة باسقة وطفق ينظر إليه، ويقلب في السنين الطوال التي يرزح تحتها عينيه، ثم يتعجب للقلب الكبير الذي صمد لحدثان الزمان ولإيواء الأيام فلم يتصدع ولم يهن، وإن كان بعض حزنه لتنوء منه الجبال.
وانبجس الدمع من عيني أوديسيوس، وانهمر على خديه وأوشك أن يمضي نحو أبيه فيأخذه في حضنه ويفاجئه بالبشرى القاتلة، لولا خيفته على تلك الشيخوخة المتداعية أن تنقض حين لا تحتمل النبأ العظيم؛ نبأ عودة قطعة القلب والكبد، بعد يأس دام عشرين عاما! لهذا آثر أوديسيوس ألا يفعل، وآثر أن يلقى أباه كرجل غريب جواب آفاق ويحدثه؛ ليعلم ما في قلبه، فذهب إليه، ووقف عن كثب يكلمه. «أيها الشيخ، ويكأنك لا علم لك بأمور هذا الزرع، وإن أثمر بستانك وآتى أكله حقا، إني لا أرى عشبا في الأرض، ولا شجرة إلا وهي مثمرة، ولا زهرة إلا وهي مسفرة نامية، وما ذاك إلا لسهرك عليها ... بيد أنه لن يسوءك أن لاحظت أنك تعنى بهذا البستان أكثر مما تعنى بنفسك، مع ما أنت فيه من تقدم السن ولفحة الشمس ووطأة المرض، وما أحسب مولاك إلا قاسي القلب عليك، قليل الاحتفاء بك والتوجع من أجلك، مع ما لك من سيماء النبل ومظاهر الملوك، فما كان أحجى بك - وأنت في هذه السن - أن تستحم وتتضمخ وتنام ملء عينيك، لا يزعجك عمل ولا تئودك أكلاف الحياة، ولكن قل لي بالله عليك أيها الشيخ، لمن تنصب كل هذا النصب، وبستان من هذا؟ خبرني لا تخف علي أيها الأب؛ فلقد لقيت من سألته فلم يأبه لي ولم يعن بمسألتي، ولقد ذرعت الرحب حتى وصلت هذه الأرض، إيثاكا؛ لأني كنت أقدم فيما مضى من الزمان فأحل ضيفا على أمير عزيز فيها، وما أعرف إن كان حيا يرزق، أو مضى لا قدر الله إلى هيدز، ولقد كان هذا الصديق يزورني في وطني، فأكرم مثواه كما يكرم مثواي، ولقد كان يحدثني الأحاديث عن أبيه ليرتيس بن آزيرياس، وما أنسى أيام كان يحمل إلي الهدايا فأردها إليه أضعافا مضاعفة، فمن ذلك أنني نفحته مرة بسبع بدر من خالص الذهب، وبحمالة من فضة مزدانة بأفواف الزهر واثني عشر صدارا، واثني عشر دثارا، ومثلهن من أكرم البسط، وشيء كثير من ثياب القاقم والسنجاب، ثم أهديت إليه أربع جوار كنس أبكار، اختارهن بنفسه، مثقفات مهذبات، يتخايلن في الخز، ويرفلن في الديباج.»
وازدحمت الدموع الحرار بكل الذكريات المشجية في عيني الرجل الشيخ، وقال يجيب أوديسيوس: «أيها الأخ، لقد بلغت مناك، فهذه هي إيثاكا، بيد أنها، وا أسفاه، نهب مقسم بين فئة باغية ظالمة لا تخضع لقانون ولا تعرف شريعة ... أما صديقك فوا أسفى عليه، ويا ألف أسى على هداياك! من لك به اليوم ليردها عليك أضعافا مضاعفة يا صاح؟ ولكن قل لي بربك واصدقني: منذ كم سنة لقيت صديقك التاعس الذي هو ابني؟ إيه! له الله ما أحسب إلا أن السمك قد اغتذى به، أو أنه غدا يوما جزر السباع وكل نسر قشعم! أواه عليك يا أوديسيوس يا ولدي! هكذا قضيت ولم أذرف على ثراك عبرة، ولم تكتحل عينا أمك قبل أن تموت برؤياك، ولا بنلوب! ولا بنلوب أيضا كانت إلى جانبك لتغمض بيدها أجفانك، ولكن ... ولكن قل لي أيها الأخ من أنت؟ ومن أي البلاد قدمت؟ وابن من من الكرام الأكابر؟ وفي أي الرفاق وصلت إلى إيثاكا؟ وفي أي السفائن؟ أم وصلت بك إحدى الجواري المنشآت ثم غادرتك في إيثاكا؟»
وقال أوديسيوس وهو يلفق ما يقول: «أما من أنا، ف... أنا أبيريتوس بن أفيداس بن بوليبمون من أمراء أليباس، من أعمال صقلية، ولقد هبت على سفينتي عاصفة هوجاء فدفعتنا نحو بلادكم، وألقينا المراسي في مينائكم. ولقيت أوديسيوس لآخر مرة منذ خمس سنوات، وقد افترقنا وكلنا أمل أن نلتقي لنتبادل تذكارات المحبة وهدايا الصداقة والوفاء والود.»
أخيل الذي أصبح ملء السمع والأفواه، بطل هيلاس الذي وعدت الآلهة بفتح طروادة على يديه.
وانعقدت سحابة مظلمة من مرارة الحزن، فحجبت الضوء عن عيني ليرتيس، ثم إنه أهوى إلى الأرض، فقبض قبضات من التراب وراح يحثوها على رأسه، ويئن أنينا مؤلما. ولم يحتمل أوديسيوس أن يرى أباه في هذه الحال، بل كاد صدره ينشق من حسرة عليه، فهرول وأخذه ملء ذراعيه وجعل يضمه إلى صدره ويقبله ويقول: «أبتاه! أبتاه! هو أنا ذا! أنا أوديسيوس، عدت إليك بعد عشرين عاما، فافرح وهدئ من روعك، ولتنته آلامك، وإليك أحسن البشريات؛ لقد قتلت أعدائي العشاق جميعا، قتلتهم في بيتي، وانتقمت لك ولي ولبنلوب.»
بيد أن ليرتيس وقف ذاهلا عن نفسه، ثم نظر إلى ولده وقال: «إن كنت حقا ولدي أوديسيوس، فهات برهانك الذي يقطع شكي.»
Неизвестная страница