وسرعان ما تم لنا ذلك، فقتلنا العسكر وملكنا القرية، ووزعت السبي والأسلاب على جنودي، ثم أشرت عليهم بالرحيل، فعصوا أمري وعثوا في المدينة مفسدين، وعاقروا من الخمر، وعقروا من الشاة ما أذهلهم عن أنفسهم وأتاح لأعدائهم لم الشعث، ففاجئونا بجيش عرمرم منهم ومن جيرانهم، وناضلونا عن مدينتهم فأوقعوا بنا، ولم يغننا أنا قاتلناهم حتى مطلع فجر اليوم التالي، بل ظل فرسانهم الصناديد يكرون ويفرون، حتى قذفوا بنا في البحر، فوقفنا في سفائننا نناوشهم برماحنا، وصمدنا لهم حتى توارت الشمس بالحجار، فانسحبنا نجر أذيال الهزيمة والخزي بعد أن انتزع السيكون فخار النصر، وعدت إلى الجند، فوا أسفاه! لقد افتقدت ستة من رجال كل سفينة؛ سقطوا في المعركة الخاسرة.»
وأجننا الليل فجلسنا نتذاكر أسماء القتلى، وما كدنا نفعل حتى سخر علينا جوف - رب السحاب الثقال - صرصرا عاتية أثارت البر والبحر، وعصفت بمراكبنا فأطاحت قلاعها ومزقت شراعها، ففزعنا إلى المجاديف وأعملنا السواعد مستقتلين مستميتين حتى نجونا بعد لأي إلى البر، حيث تلبثنا ليلتين طويلتين في أين وإعياء، وشكاة وشقاء، نصلح القلاع ونرتق الشراع. وفي صباح اليوم الثالث تطامن البحر ونام هائجه فبادرنا إلى الفلك وأقلعنا باسم الآلهة مجراها ومرساها، وما كدنا نلمح شطآن ماليا حتى هبت زوبعة عنيفة تلاعبت بنا وحملتنا إلى جزيرة سيتيرا، وطفقنا بعدها نذرع العباب تسعة أيام أخرى حتى بلغنا بلاد «لوتوفاجي»، هذا الشعب الغريب الذي يقتات بالفاكهة فحسب، من دون ما تنبت الأرض وما يدب عليها. ورسونا ثمة وأهرع الملاحون إلى البر فاستراحوا وسمروا، ثم تخيرت اثنين من أوثق رجالي، وجعلت عليهما ثالثا رئيسا ووجهتهم إلى سكان هذه الأرض ليتعرفوا أحوالهم، فاختلطوا بهم وقابلهم اللوتوفاجي بالبشر والترحاب، ثم عرضوا عليهم من ثمر اللوتس العجيب الذي ينسى آكله ما سلف من حياته، وينبت ما بينه وبين وطنه من وشيجة فما يفكر فيه، وإذا فكر فيه فما يؤثر أن يرتد إليه، بل يصبح كل مناه أن يأكل ويأكل من هذا اللوتس العجيب، وأن يعيش أبد الدهر بين أولئك اللوتوفاجي السحراء. وتنظرت عودة رجالي، بيد أنهم لم يرجعوا، فاضطررت أن أذهب بنفسي إلى حيث سحروا، فحملتهم قسرا إلى الشاطئ بين العويل والضجيج، وقذفت كلا منهم في قمرة مغلولا مكبلا مشدود الوثاق، ثم أمرت الملاحين فأبحروا على عجل قبل أن يأكل بعضهم من اللوتس الملعون فيضلوا ضلالهم وينسوا أوطانهم، ويظلوا في هذه الأرض جاثمين.
وما عتمنا أن وصلنا إلى أرض المردة الجبابرة - السيكلوبس - الطغاة العتاة، الذين لا يخضعون لشريعة ولا يأتمرون بقانون، الذين تؤتي أرضهم أكلها رغدا، من غير كد ولا عناء، حبا وأبا وحدائق غلبا وقضبا وعنبا، تسقي مما يفيض عليها جوف من مائه المعين، يعيشون فوضى لا تربطهم رابطة ولا قوم بينها نظام، يأوون إلى كهوف موحشة وغيران سحيقة، قلل الجبال وأحيادها، يعنى كل منهم بنفسه وزوجه وأولاده وقطعانه، ولا يأبه للباقين، وتلقاء أرضهم توجد جزيرة معشبة أريضة شجراء فيها من الماعز السائم قطعان لا حصر لها، ولكنها مع ذلك بهماء
3
مضلة، لم تطأها فيما غبر قدم إنسان، ولم يرش إلى حيوانها سهم صائد؛ لأن السيكلوبس لم يحاولوا أن يركبوا البحر مطلقا، ولم يعرفوا طوال حياتهم هذه الجواري المنشآت فيه كالأعلام؛ لذلك سلمت الجزيرة بما فيها من خير وتكاثر قطعانها حتى امتلأت بها مروجها الخضر السندسية، وثمة في جون هادئ جميل ألقينا مراسينا، ونزلنا من سفائننا في ظلام الليل الدامس وفي حراسة الآلهة، بعد إذ ارتطمنا بسيف البحر. ثم نمنا على الشاطئ حتى مطلع الفجر، وأشرقت أورورا تنضر بالورد مشرق الأفق، فنهضنا نجوب الجزيرة ونتفيأ ظلال الحور، ونرى عرائس الماء ترعى الماعز، فبادرنا إلى سفننا وأحضرنا الحراب والأقواس، ثم تفرقنا ثلاث فرق، وشرعنا نصيد من هذا الحيوان، فاجتمع لنا منه الشيء الكثير، ونال كل من رجال سفائننا الاثنتي عشرة تسع أعنز، بعد أن تخيرت عشرات لنفسي، ولبثنا يومنا هذا نتغذى بكل شواء حنيذ، ونكرع كل كأس روية في غير تخمة ولا شجى،
4
وللآلهة تلك الخمر السلاف السيكونية التي افترعناها من زقاق أزماروس، ثم نظرنا ناحية الغرب فما راعنا إلا دخان كثيف يصاعد في الأرض القريبة، ورغاء وضوضاء كالرعد تنتشر في جنباتها، وإذا هؤلاء السيكلوبس المردة ينتشرون في الأرجاء، وأمامهم قطعانهم من الشاء والأنعام ... أعداد لا حصر لها، عليها إذا عد الحصى يتخلف.
ونمنا ليلتنا مروعين حتى إذا بزغت أورورا نهضنا واحتشدنا في صعيد واحد، ثم قمت في رجالي خطيبا فقلت: «أيها الإخوان، لتبق غالبيتكم في هذه الجزيرة؛ فإني ذاهب في نفر منكم نرود هذه الأرض، ونعرف من أنباء أهلها، ونعلم من أحوالهم، ونرى هل قوم ظلم وضيم ونضال، أم هم ربيون يهشون للمكرمات ويخبتون للآلهة؟»
وأقلعت في نخبة من رجالي فوصلنا طرفا من الجزيرة ناتئا في البحر، فوقه قلاع مشرفة عليه فهبطنا فيه وذهبنا نروده، حتى انتهينا إلى كهف عظيم ضارب في الصخر، وقد نما الغار الجميل على بابه الضخم، ودخلنا، وأثار دهشتنا هذه الحظيرة الكبيرة في وسط الكهف، تتسع لقطعان لا عدد لها من الأنعام والأغنام والماعز، ثم هذا الفناء العظيم المحدق بها يفصله عنها سور عتيد من الحجر الصلد مترس بجذوع الحور والسنديان، ولقد عرفنا فيما بعد أن صاحب هذه المغارة مارد جبار من أراذل السيكلوبس، لصق بهذا الطرف من الجزيرة يعسف ويظلم ويملؤه بغيا وعدوانا، ثم هو إلى الجان والشياطين أقرب منه إلى أي خلق آخر، فوجهه مربد عبوس أبدا، وهو إلى ذلك هولة تحسبه إذ تراه قطعة من الصخر نحت منها ناطور فوق ناصية الجبل ... وتوقلنا
5
Неизвестная страница