هل نسيتم أيضا كيف أرسل أبوكم جوف إحدى صواعقه على أياسيون المسكين؛ لأن سيرس ربة الربيع قد هويته وأخذته بين ذراعيها حين شغفها حبا، كذلك أنتم معي اليوم، وكذلك أنتم غيورون دائما، فما أقساكم إذ تنفسون على حبيبي! لقد أنقذته بنفسي من هذا اليم الذي التقم سفينته بمن فيها حين شطرها أبوكم بسهمه في عبثة من عبثاته، حبيبي الذي أهواه من أعماقي وأفتديه بروحي، والذي أمهد له حياة الخلود. ولكن، وا أسفاه! كيف أطرده من عندي؟ ويحي! إن تكن هذه مشيئة زيوس فلأحدثن أوديسيوس ليرى لنفسه؛ إذ ليس عندي مركب يأمن فيه غائلة هذا البحر المضطرب وإني ناصحة له.»
وكلمها هرمز فأنذرها من غضبة سيد الأولمب، وحضها أن تعمل على إبحار البطل. •••
ورف هرمز الرسول في لازورد السماء، وانطلقت عروس الماء تبحث في الجزيرة عن أوديسيوس، حتى لقيته فوق صخرة ساهما واجما تفري قلبه الهواجس، ويعبث به محال الأماني، وقد انهمرت فوق خديه عبرات حرار، واللحظات تذبل فتسقط من حياته في ظلام اليأس كأوراق الخريف، وقد مل هذا المقام الطويل البائس في جوار عروس الماء التي كانت تخلع عليه حبها البارد، وتقسره على أن يقضي لياليه بجانبها على فراش واحد في ذلك الكهف السحيق. ولكما فكر في وطنه، ونظر إلى الموج المتواثب في أفق اليم، وعرف أن لا قدرة له عليه. بكى وأن وتوجع وتصدع، وأرسل في لا نهاية الماء والسماء، آهات وآهات.
واقتربت منه عروس الماء في رفق وحدب، وقالت له: «أيها التعس، لا تنتحب هكذا، ولا تصهر حياتك الغالية في تنور من الآلام، هلم، هيا إلى عمل مجيد. أمامك الدوح العظيم والأيك الذاهب فاقطع منه ما شئت، واصنع لنفسك رمثا يحملك فوق هذا العباب المتلاطم، وسأزودك بكل ما يكفيك من طعام وشراب، وسأمدك بأثواب جديدة تقيك الحر والبرد، وسأسخر لك الريح تهدهدك إلى بلدك البعيد. هذا قضاء من آلهة السماء التي تقدر فتعدل، وتقضي فلا يرد لها قضاء.»
وتفزع أوديسيوس لهذه المفاجأة ثم قال: «أوه يا عروس، بل في الأمر سر تحاولين إخفاءه عني. أي رمث يحملني في ذلك البحر اللجي؟ وأي ريح تسخرين من أجلي؟ وإن السفينة العظيمة لتمخر عبابه وهي لا تدري أتسلم أم يكون أهلها من المغرقين؟ لن أفعل حتى تعطيني موثقك وحتى تقسمي القسم العظيم أنك لا تبطنين لي شرا ولا أذى.»
وتبسمت الربة الهيفاء، وراحت تربت على خديه وهي تقول: «ويحك! كيف تسيء بي الظن يا أوديسيوس؟ أية حجة تملأ بها يديك على ما قلت؟ ولكن أصغ إلي، أقسم لك بقسم الآلهة في الأرض والسماء والدار الآخرة ... بالقسم العظيم الذي يقشعر لذكره كل شيء، إني لم أضمر لك فيما عرضت عليك شرا ولا أذى. إن الذي تبكي من أجله أبكي أنا أضعاف ما تبكي منه مثله، فلقد كنت ضرورة من ضرورات حياتي هنا، ولقد علق بك قلبي، وهامت بحبك نفسي، وليس قلبي من صخر فيحتمل البعد عنك بله الإضرار بك.»
وانطلقا سويا إلى الكهف، وجلس أوديسيوس فوق المتكأ الذي كان يجلس عليه هرمز منذ هنية، ثم أقبلت جواري الماء يحملن شيئا كثيرا من اللحم والشراب فأكلا ورويا، ثم شرعت كاليبوس تحدث وتقول: «أهكذا يا ابن ليرتيس العليم أيها الحكيم الصناع، لا تفتأ تحن إلى وطنك وتعتزم الرحيل إليه، أنا عذيرك يا أوديسيوس، فوداعا، ولكن هل فكرت أيها الرجل في الأهوال الجسام التي تخرط قتادها قبل أن تصل إلى بلادك؟ أليس خيرا لك أن تظل إلى جانبي وتقاسمني كهفي فتصبح من الخالدين، وتنسى هذا الجمال الفاني الذي لا ينفك يصبيك ويسبيك، والذي أحسب جمالي وفتنتي لا يقلان عنه سحرا إن لم يزيدا عليه فتونا؟»
فيجيبها أوديسيوس الحكيم: «أيتها الربة المخوفة، هوني من حفيظتك فأنا أعلم أن بنلوبي العزيزية لا تزن من جمالك وفتونك مثقالا؛ لأنها هالكة ولأنك من الخالدين، بيد أن الذي يصيبني هو وطني، وطني الحبيب الذي أحن إليه وأهيم به، وفي سبيل العودة إليه لن يخيفني هذا اللج المتلاطم، فلقد بلوت الأعاصير في البر والبحر في خبار المعمعة وفي الفلك تحت كلكل الزوبعة. إلي إلي يا خطوب، وأقدمي بكل حولك يا رزايا.» •••
وتوارت الشمس بالحجاب، وأرخى الليل سدوله فوق الجزيرة، ونامت الربة في سريرها الوثير وبين ذراعيها حبيبها تشمه وتضمه وتحسه وتلثمه ... حتى إذا نضرت بالورد أورورا جبين المشرق هب الإلفان وتدثرا، هذا بثوبه الخشن وتلك بشفوفها الرقيقة الثلجية الناصعة التي كأنما نسجت من سنمات الصباح العطري، وراحت تخطر فينانة ريانة وقد اتشحت حول وسطها النحيل بقرطق
7
Неизвестная страница