أما الجالية الفرنسية والساسة المساندون لها في الحكومة الفرنسية والبرلمان، فقد بذلوا جهودا لتعطيل كل مفاهمة جدية وشنوا الحملات المسمومة على الحكومة التونسية والحركة الوطنية، وأجبروا المقيم العام على إرضاء رغباتهم والسير في ركابهم؛ لأن كل تبديل في الحالة الراهنة يهدد امتيازاتهم المجحفة وينقص من سلطانهم، ولم يكتف المقيم العام - لويس بريليه - بمناصرتهم في أعماله وأقواله، بل أصبح يخاطب الحكومة الفرنسية سرا لكي تستمع لصوتهم وتحقق أمانيهم ولا تحيد عن رغائبهم، فكتب إلى الحكومة الفرنسية بتاريخ 28 يوليو 1951 رسالة سرية لكي تعينه على فرض شروطه على الحكومة التونسية وجبرها على إرجاء كل مفاوضة في شأن السير بتونس نحو استقلالها الداخلي بإدخال إصلاحات جوهرية على نظمها إلى مدة عام على الأقل، فقال:
3
من الضروري أن نعلم الحكومة التونسية بحزم ودقة خلال الأيام المقبلة بعد العيد الكبير - أي في الأسابيع الأخيرة من شهر سبتمبر - بالشروط التي نراها ضرورية لمناسبة سياسة المشاركة أعني (أ) وضعا سريعا لنظام بلدي جديد عماده الانتخابات محتويا على تمثيل الفرنسيين في المجالس البلدية. (ب) تجديد المجلس الكبير واجتماعه حسب الشروط القانونية.
وينبغي أن يكون جواب الحكومة التونسية لا التباس فيه، فإن تم الاتفاق على هذه الشروط فيجب متابعة تحقيقها، بتنظيم البلديات على أسس جديدة وتمكين المجلس الكبير المجدد من القيام بعمله في الميزانية في الربيع القادم.
وإذ ذاك فقط، أعني بعد عام على الأقل، يمكن النظر في تحويرات جوهرية في النظم العليا إن رأت الحكومة فائدة في ذلك.
وينبغي أن يحدد موقف الحكومة الفرنسية في ذلك الحين أولا: حسب سلوك المفاوضين التونسيين. وثانيا: حسب سياسة بعيدة المدى فيما يتعلق بالمشاكل العامة لأفريقيا الشمالية.
وكان المقيم العام بين عوامل متعددة، تتجاذبه اتجاهات متناقضة وأهواء مختلفة، وسعى جهده ألا يغضب الفرنسيين وأن يجلب التونسيين في آن واحد، وإذا بأقواله تتضارب وتصريحاته يناقض بعضها بعضا، إلى أن تكون جو من الشكوك والريب والانفعالات والغضب، وفشل فشلا ذريعا في جميع ما أراد، وقد حللت جريدة «ليموند» الفرنسية بتاريخ 29 / 1 / 1952 سياسة بريليه قالت: «اتبع بريليه تحت تأثير الجالية الفرنسية سياسة كسني المشط إقداما وإحجاما، ارتفاعا ونزولا، فيتقدم خطوة ويتأخر خطوات، حتى أفسد الجو الملائم وسمم العلاقات.»
فقررت الوزارة التونسية أن تسافر إلى باريس للمفاهمة رأسا مع الحكومة الفرنسية لسبر غورها ومعرفة نواياها الحقيقية ووضعها أمام مسئولياتها وجبرها على إنجاز ما تعهدت به لتونس أو الافتضاح أمام الرأي العام.
وتكررت اجتماعات غير رسمية بين الوزراء التونسيين وبعض الساسة المسئولين الفرنسيين، وقد تلكأت الحكومة الفرنسية وتهربت من استئناف المفاوضات وأخذت تسوف وتماطل، بل رفضت أي تفاهم مع الوزارة التونسية بصفة رسمية.
فسلمت إذ ذاك الحكومة التونسية للحكومة الفرنسية مذكرة بتاريخ 31 أكتوبر 1951 لكي توضح رغائب تونس بجلاء لا يبقي مجالا للتردد أو الغموض والتساؤل معتمدة على تجاربها في الحكم وفي النظم التي فرضتها فرنسا من قبل، فذكرت ببعض المبادئ المسلم بها واتخاذها أساسا ضروريا لكل مفاوضة مقبلة وكل إصلاح. إن معاهدة 1881 التي اتخذت شكل اتفاقية بين دولتين قد أبقت لجلالة الملك سيادته الداخلية، ثم جاءت اتفاقية 1883 التي أشير فيها لأول مرة إلى «الحماية» وتضمنت أنه «لتسهيل الحماية على الحكومة الفرنسية فإن جلالة الباي يلتزم بإجراء الإصلاحات الإدارية والعدلية والمالية التي ترى الحكومة الفرنسية إنجازها.»
Неизвестная страница