فمن البديهي إذن أن ترفض تونس رفضا باتا نهائيا الانضمام إلى تلك الوحدة، وإذا بالمقيم العام الفرنسي يبرق ويرعد، وينسى وعوده الخلابة، ويناقض كلامه المعسول، ويصدر أوامره بمحاصرة قصر الملك المعظم محمد الأمين الأول، ويسير إليه مخفورا بالجنود المدججين بالسلاح متوعدا مهددا طالبا منه باسم الحكومة الفرنسية أن يكذب ما نشر من تصريحات على صفحات الجرائد الوطنية فيما يتعلق برفض جلالته للوحدة الفرنسية، فأجابه جلالة الملك بهدوئه المعهود وحكمته وبيانه الواضح: «كيف أكذب قادة الشعب وقد كانوا أمناء فيما نقلوه عني؛ لم يغيروا الكلم عن مواضعه ولا زادوا حرفا واحدا إلى ما قلته لهم، بل كانوا واسطة خير وصدق، وهذا هو موقفي لن أغيره أبدا.»
وكانت فرنسا تقوم بدعاية واسعة النطاق في صحفها وإذاعتها، وفي محادثات ساستها مع التونسيين وخطب المسئولين من رجالها؛ لتهيئ الجو السانح لإدماج تونس في الوحدة الفرنسية. وكان بعض وزرائها يصرحون من حين إلى حين بأن تونس قد أدمجت فعلا، ويستخدم آخرون طرقا منعرجة ملتوية لإقناع جلالة الملك بوجوب قطع تلك الخطوة الضرورية على دعواهم. ولكن رد الفعل من طرف الشعب التونسي ومليكه كان يشتد ويقوى، إلى أن يئست فرنسا تقريبا من تطبيق تلك الفكرة.
وكانت دعايتهم تعتمد على الإغراء وإحياء الآمال الجسام، فيذيعون بأن تونس تحصل على جميع رغباتها الوطنية لو انضمت إلى تلك الوحدة، من دستور ديمقراطي وحرية واستقلال، وأنها تحرم نفسها من تلك النعم كلها برفضها البات.
والأغرب أن قسما من الرأي العام الفرنسي اعتقد ذلك؛ لأن الحرب العالمية الثانية أحدثت في فرنسا تيارات سياسية جديدة وقوت بعض التيارات القديمة، كما أدخلت اضطرابات على التقاليد القديمة وقوضت الكثير منها، فشهد ساسة فرنسا أن الاستعمار أصبح مبغوضا ممقوتا في العالم بأسره، وأنه عار وشين ووصمة في جبين الأمم الراقية والدول الكبرى، فلم يسعوا إلى غسل هذا العار، ولا إلى محو هذه الوصمة، بل اقتصروا على إسدال ستار شفاف عليها، واقتنعوا بتغيير بعض الأسماء واحتفظوا بالمسميات، فعوضوا لفظة الإمبراطورية الفرنسية بلفظة الاتحاد الفرنسي، وبدلوا كلمة حماية ومستعمرة بكلمة دول مشاركة، ووضعوا في دستور فرنسا نفسه بنودا تعطي حقوقا واسعة للأقطار التابعة لها، ولكنهم حرفوا تلك البنود وشوهوها عند التطبيق واستمروا في سياستهم التقليدية، وكانت الحالة العامة بفرنسا وميل بعض الأحزاب الفرنسية إلى تفهم الوضع بتونس، مما شجع قادة الحزب على الاتصال رأسا بالشعب الفرنسي والقيام بدعاية واسعة عميقة بفرنسا؛ لكسب عواطف قسم من الفرنسيين على الأقل، ولإقناع المسئولين بوجوب توجيه جديد لسياستهم بتونس.
وكلف بتلك المهمة الشاقة زعيم تونس ورئيس الحزب الحر الدستوري ومؤسسه الأستاذ الحبيب بورقيبة، فبعد رحلة إلى الشرق والغرب استغرقت أعواما، وبعد أن اتصل بالشعب التونسي في اجتماعات عامة عقدها في جميع أنحاء القطر، سافر إلى باريس في أوائل عام 1950، وكان يعمل ليلا ونهارا متصلا بالصحافة والأحزاب والهيئات الرسمية والمنظمات والشخصيات ورجال الحكومة، وكان لتصريحاته المتوالية صدى عميق وانتشار واسع في جميع الصحافة الفرنسية التي أخذت تدرس المشكلة التونسية درسا مستفيضا؛ تستقي من آرائه تارة وتنقدها تارة أخرى، وتعلق التعليقات المفيدة الدقيقة على تلك الأفكار الجديدة الناضجة، فما هو منطق الحبيب بورقيبة؟ وما سر سحره وسبب نجاحه في إبلاغ رسالته؟ تتلخص أقواله للفرنسيين في بعض المسائل الجوهرية.
نحن لا نريد قطع العلاقات مع فرنسا، بل نسعى لتبديلها تبديلا يتمشى مع تطور تونس والعالم لنضمن لها البقاء. إن الروابط بيننا وبينكم كانت وما زالت روابط الغالب مع المغلوب والسيد مع المسود والمولى مع عبده، وقد بلغ شعب تونس من الرقي والوعي القومي درجة جعلته أهلا ليتصرف في شئونه قادرا على تسيير أموره والتحكم في مصيره، وأصبح لا يتحمل الحكم الفرنسي المباشر ولا الاستعمار مهما يكن نوعه، وهو يعلم علم اليقين أنه سيحقق استقلاله وسيتحرر كما تحررت الشعوب الشرقية كلها تقريبا، ولكنه يخير أن يبلغ غايته باتفاق وتعاون مع فرنسا، فتعوض الروابط البغيضة الحالية بروابط بين شعبين مستقلين، وندين متساويين، ودولتين صديقتين، خاصة ونحن نعتقد أن مصالح فرنسا العليا ومصالح تونس لا تتعارضان ولا تتناقضان، بل يمكن التنسيق بينهما والمحافظة عليهما جميعا، والشعب التونسي مستعد ليقدم من الضمانات الكافية ما يكفل المصالح المشروعة لفرنسا والفرنسيين ما لم تتصادم مع حرية تونس.
إن تونس تحتاج إلى رءوس أموال لاستثمار ثروتها وبناء هيكلها الاقتصادي، وإلى فنيين وأخصائيين، فلماذا لا نستعين في ذلك كله بفرنسا والفرنسيين ، إذا ما وصلنا إلى التفاهم والاتفاق؟! فيحل الود محل التنافر، والصداقة محل الخصومة والبغضاء، وتصفو القلوب، ونكون هكذا جوا صالحا للعمل المثمر والرقي والازدهار.
ولا ننكر أن هذه التجربة العظيمة تتطلب الجرأة من المسئولين الفرنسيين، والتجديد في التفكير السياسي؛ لما فيها من اتجاه لم يسبق له نظير في علاقات فرنسا بالشعوب التابعة لها، وأن نجاحها يعبد الطريق ويفتح أبوابا للمستقبل؛ لأنه يدل على أن فرنسا وجدت الحل الواقعي لأكثر المشاكل التي تجابهها في البلدان الخاضعة لسلطانها.
ثم عرض الحبيب بورقيبة على الرأي العام الفرنسي حلا عمليا للمشكلة التونسية طبق برنامج يحتوي على بنود سبعة، ترمي إلى إنهاء الحكم الفرنسي المباشر وتسليم النفوذ والسلطات إلى أيدي التونسيين: (1)
إرجاع السيادة التونسية. (2)
Неизвестная страница