ثم يقولون إن فرنسا مستعدة للتنازل للتونسيين عن حق إدارة بلادهم بأنفسهم، ولكن بشرط واحد: وهو أن يصبحوا قادرين على تسيير شئونها والتحكم في مصيرها، ثم إن الفرنسيين أنفسهم يجتهدون في عدم تمكين التونسيين من الثقافة اللازمة لذلك، ويقصونهم إقصاء كليا عن مراكز النفوذ ومناصب السلطة ووظائف التدريب والتمرين على الحكم، حتى يبقوهم دائما أبدا عاجزين عن تسيير إدارة بلادهم بأنفسهم. ولو كان الفرنسيون مخلصين صادقين في ادعائهم، لكانت مدة احتلالهم لتونس (سبعين سنة) كافية لذلك التكوين المطلوب.
وآخر سفسطة ابتكروها هي أن الدول الكبرى نفسها - كفرنسا مثلا - لم تبق حرة مستقلة استقلالا مطلقا، بل نحن نعيش في عصر الكتل الكبرى التي تعد كل منها مئات الملايين من البشر؛ ولذا ينبغي لتونس أن تحافظ على مكانها في الوحدة الفرنسية، وكأنهم نسوا أو تناسوا أن الدول التي تكون تلك الكتل الكبرى متساوية في الحقوق والواجبات؛ قد تنازلت كل واحدة منها بقسط مماثل من سيادتها لمصلحة المجموع، وأنها تعاقدت مع حلفائها معاقدة الند للند، والحر مع الحر، عن رضى وطبق إرادتها. أما ارتباط تونس بفرنسا فهو ارتباط الغاصب مع المغصوب، والغالب مع المغلوب، والسيد مع المسود، والمولى مع عبده، دخلت تونس تحت الحماية الفرنسية رغم إرادتها وغصبا عنها، فهو اتحاد لا مساواة فيه ولا حرية ولا عدالة، كاتحاد الشاة والذئب، والفريسة والأسد. إنما تتحد الدول المستقلة لتحمي كيانها، وتضمن مصالحها. وتجبر فرنسا تونس على الاتحاد معها لتضيع جميع مصالحها، وليمحق كيانها، وإنها لسفسطاء مضحكة لو لم تجر وراءها ما يبكي.
والاستقلال المنشود لا يتحقق إلا إذا حافظ الشعب التونسي على كيانه كشعب له مميزاته وتقاليده وعاداته وأخلاقه، وتمسك بروحه التي استقاها من آبائه وأجداده والتي كونتها قرون من تاريخ ماجد ومدنية عميقة، ولم يفرط في مقومات قوميته من إسلام وعروبة. وإن الإسلام والعروبة هما عمادا الفكرة الوطنية وأساسها، وليس معنى الدين عندنا التعصب الأعمى، بل هو الأخوة البشرية والتراحم، واحترام الغير في تفكيره وعقيدته وميوله وآرائه، مع المحافظة التامة على إسلامنا إيمانا وعبادات ومعاملات، وليس معنى العروبة - جنسا ولغة - العنصرية البغيضة ولا التفوق الكاذب على البشر، ولا معاداة اللغات الأجنبية والثقافات الأعجمية، بل السهر على لغتنا يجعلنا نحترم لغة غيرنا ونستمد منها ما نحتاجه من علوم وفنون، ومما يزيدنا تعلقا بالفصحى وتفانيا في خدمتها، وهو أنها لغة القرآن الكريم والدين الحنيف، وأنها أيضا الرابطة الكبرى التي تربطنا بالشعوب العربية الشقيقة، وهي اللحمة بإخوان لنا خارج حدود تونس الضيقة، يوحد بيننا التاريخ، وتجمعنا بهم محنة الاستعمار، وتتكون منا ومنهم الأمة العربية؛ ولذا كانت فكرة الوحدة العربية فكرة متأصلة بتونس، راسخة في أرضها متولدة عن طبيعتها.
وهكذا كان المبدأ الثاني للفكرة الوطنية بتونس هو وحدة المغرب العربي والانتماء للجامعة العربية.
والاستقلال وإن لم يكن أمرا سلبيا بحتا إلا أنه لا يمكن أن يكون وحده غاية الغايات في الحركة الوطنية. نعم هو الشرط الأساسي وبدونه لا تمكن الحياة لشعب، فهو إذن الوسيلة الوحيدة لضمان تلك الحياة. وليس الاستقلال في نظر شعب تونس إنهاء الحكم الأجنبي فقط، بل هو الطريق والمنفذ والباب نحو أهداف سامية ومبادئ واضحة اعتنقها الشعب، وعزم على تحقيقها في ميدان السياسة والمجتمع والاقتصاد والتعليم؛ لأنها كلها مرتبطة بعضها ببعض، متفاعلة، تكون ضربا من الوحدة عجيبا. والشعب التونسي لا يعيش في الماضي؛ فقد نفض عنه غبار القرون، وماشى هذا العصر الحاضر في حاجياته الأدبية والمادية.
ليس الظلم والحيف والفساد والفوضى بتونس ناتجة عن عمل شخص معين، بل ولدها نظام الحكم الحالي، وما زالت مرارة التجارب القاسية في فم كل تونسي، فالحكم الأجنبي المقنع أحيانا والسافر الظاهر أحيانا أخرى. الحكم الأجنبي المباشر قد دام سبعين سنة شاقة طويلة داس خلالها حقوق الشعب وكرامته، وعبث بمصالحه وأعرض عن رأيه، وعاكسه في إرادته، وسلم النفوذ لإداريين فرنسيين مهمتهم فنية أو إدارية، فضاعت بينهم المسئوليات واختلطت في أيديهم السلطات وأصبحوا ملوك طوائف وأخطر. فنظام الدولة التونسية في الظاهر هو الملكية المطلقة من الوجهة الشرعية القانونية، وأما في الواقع فإن الموظفين العالين الفرنسيين قد استحوذوا على النفوذ وصرفوه كما شاءت لهم أهواؤهم ونزعاتهم الاستعمارية؛ ولذا كان المطلب الأول للحركة الوطنية هو إدخال النظام على تلك الفوضى ومنح الدولة التونسية دستورا قارا يضمن للأفراد وللمجموع حقوقهم، ويحدد المسئوليات والسلطات.
عرف شعب تونس مساوئ الحكم الفردي والملكية المطلقة والحكم الأجنبي، ورأى أن الملكية المطلقة لا تقل خطرا عن الاستعمار نفسه، وكثيرا ما تكون مطية له، وبابا يدخل منه ودعامة له يعتمد عليها في استمراره وبقائه، فاتخذ المبدأ الديمقراطي الصحيح كأساس لبناء دولة عصرية سليمة، حكم الشعب بالشعب للشعب، فإرادة الشعب في مجموعه فوق كل إرادة، وهو صاحب الكلمة النهائية في تقرير مصيره واختيار ما يريده من حكم وما يرتضيه من حاكمين، وهو القوة الواعية المحافظة على نظام الحكم، وهو أيضا مصدر السيادة كلها لا يشاركه فيها مشارك، وهو منبع السلطات ومقرها وصاحبها الحقيقي.
والشعب أيضا هو الحاكم وهو المرجع، فيختار من بين أفراده من ينوب عنه في تنفيذ إرادته والتصرف في سلطاته، مع أنهم لا يعملون إلا باسمه، ثم إليه مرجعهم فيحاسبهم ويجدد ثقته فيهم أو يزيلهم عن مناصبهم حسب أنظمة معينة ومواقيت مضبوطة.
والحكم الديمقراطي لا يكون لصالح شخص واحد ولا طبقة واحدة، بل يكون لصالح عموم الشعب وضمان مصالح مجموعه، والسهر على الوطن كله، والاحتفاظ به وبثروته للجيل الحاضر والأجيال المقبلة.
لقد وجهت الانتقادات الكثيرة للحكم الديمقراطي، وأظهر كثير من المفكرين السياسيين ما فيه من عيوب حقيقية من أعظمها صعوبة الاستقرار، ونشر الخطط والبرامج السياسية وفضحها على الملأ وتسليم مقاليد الأمور لأناس ربما لا يحسنون التصرف فيها، وإنما برعوا في الاستحواذ على ثقة الجماهير بذلاقة اللسان والتلاعب بالألفاظ والمهارة في الدعاية. ثم بعد هذا كله كيف يمكن للتاجر والأستاذ والفلاح والطبيب، وغيرهم من أرباب الصناعات والمهن، وإن كانوا بارعين في أشغالهم الخاصة، كيف يمكن لهم أن يكونوا الساسة الحقيقيين والقادة المسيرين للحكم، مع جهلهم للسياسة وأصولها وبعدهم عنها وعن خفاياها وأغوارها وغاياتها، وقلة مرونتهم فيها وتجربتهم لها. إن ألف جاهل لا يكونون عالما، وإنك لا تسلم جسمك المريض إلا لطبيب عارف مجرب، فكيف تسلم قيادة دولة للخباز والبقال والمزارع والمحامي وغيرهم من أبناء الشعب، يختارون النظام اللائق لها، ويسيرون دفتها، ويتحكمون في مصيرها. فعيوب الديمقراطية لا تنكر ولكنها تتضاءل أمام عيوب نظم الحكم الأخرى، وخاصة الحكم الدكتاتوري سواء أكان تحت اسم الملكية المطلقة أم غيره من الأسماء؛ لما فيها من ظلم وتعسف وعدم مسئولية وفقدان للحرية ومغامرات ربما تجر الشعب إلى الهلاك، وضياع المصالح الخاصة والمصلحة العامة نفسها أحيانا، ويمكن الإتيان بعشرات الأمثلة من التاريخ القديم والحديث للدلالة على ذلك. وقد اعتمد الشعب التونسي في اختيار النظام الديمقراطي على تعاليم دينه الحنيف:
Неизвестная страница