وغيرت فرنسا سياستها منذ ذلك الحين من غير مبرر، وأصدر المقيم العام أوامره بتعطيل الحريات وخاصة حرية الاجتماعات، فعقد الحزب مؤتمره السنوي (نوفمبر 1937) الذي قرر متابعة الكفاح وافتكاك الحريات ؛ إذ الحرية لا توهب وإنما تؤخذ ، ورد العدوان بالعدوان والعنف بالعنف، ووضع خطة للمقاومة.
وحلت بالمغرب كله موجة شديدة من الاضطهاد الاستعماري وبدأت بمراكش ثم الجزائر، فأعلن الحزب تضامن تونس مع شقيقتها وقرر أن يقوم شعب تونس بإضراب عام (نوفمبر 1937)؛ احتجاجا على سياسة فرنسا التعسفية.
ثم إنه تمادى في نشاطه العادي واجتماعاته الشعبية الكبرى رغم تحجيرها تنفيذا لقرار المؤتمر؛ إذ الاتصال بالشعب ضروري حيوي بالنسبة للحركة الوطنية، وما منع الاجتماعات إلا فصل قاطع بين القادة وبين الشعب، وإخماد للروح القومية، وقتل محتوم للحزب.
ووقع أول اصطدام عنيف بين القوات الوطنية والقوات الفرنسية المسلحة بمدينة بنزرت (يناير 1938) استشهد فيها عدد وافر وجرح عشرات.
فاجتمع المجلس الملي للحزب في شهر مارس 1938، وقرر بالإجماع عدم الرضوخ للقوانين الظالمة والأوامر الاستعمارية الاستثنائية، وقد وصلت الوقاحة والصلف بالسلطات الفرنسية إلى تحريم رفع العلم التونسي أو اتخاذه شارة. وتفرق قادة الحزب في مختلف جهات المملكة ليقودوا الشعب في كفاحه، وليعلموه التمرد على القوانين الاستعمارية. وكانت واقعة وادي مليز (4 أبريل 1938) عنيفة دامية، ورد الوطنيون هجوم القوات الفرنسية، واشتبكوا معهم في معركة دامت أكثر من نصف يوم، وسقط الشهداء عشرات والجرحى مئات، وانتشرت الاضطرابات والاصطدامات إلى جهة الكاف.
وكان يوم 8 أبريل يوما مشهودا، أضربت فيه المملكة التونسية عن العمل تنفيذا لقرار الديوان السياسي، فتعطلت المصالح العامة، وتوقفت المواصلات، وأغلقت الأسواق والدكاكين، وشلت حركة المواني، ونزل الشعب إلى الشوارع في مظاهرات منظمة رهيبة، وبلغ عدد المتظاهرين والمتظاهرات في مدن القطر وقراه أكثر من مليون نسمة حسب الإحصاءات الفرنسية نفسها، وهو عدد ضخم بالنسبة لبلاد لا يزيد سكانها على الثلاثة ملايين ونصف، ورغم كثرة الناس لم يقع ولا حادث، بل كانت السكينة والنظام يسودان الجماهير.
وإنه لنجاح باهر أحرزه الحزب الدستوري الجديد، فحقق هدفه الرئيسي الأول وهو إيقاظ الضمير القومي، وبث الشعور الوطني في جميع الطبقات، وتوحيد صفوفها لمكافحة الاستعمار، وقد تنبأ أحد أقطاب الاستعمار من دعاة النظرية الاستعمارية القائلة بوجوب فرنسة المغرب وتونس خاصة، تنبأ باستفحال الحركة الوطنية، ودعا لاستئصالها قبل أن تفوز، قال في مقدمة كتاب سماه «على أثر رد بالك» نشره سنة 1926:
إن الدستور بالنسبة للحماية الفرنسية كالمرض المزمن عند الرجل الكهل، فإما أن يتخلص من مرضه وإما أن يقتله المرض.
ولم تقدر الحماية الفرنسية على التخلص من الحزب الحر الدستوري التونسي الذي أصبح الشعب التونسي بأسره.
ولما شاهدت السلطات الفرنسية الخطر الداهم الذي يهدد استعمارها، بيتت أمرها بليل، وتآمرت على شعب تونس الأعزل، وألقت القبض يوم 9 أبريل صباحا على الأستاذ علي البلهوان، وبثت أعوانها بين الطلبة وفي الأسواق ليعلنوا ذلك الخبر، وتجمهر الشعب أمام المحكمة الفرنسية ليخلصوا أحد قادتهم من السجن، وقد كمنت القوات الفرنسية المسلحة في جوارها، واندفعت من مكمنها تحصد الشعب حصدا بأسلحتها النارية السريعة الطلقات، وهاجمت الدبابات والمصفحات الجمهور الأعزل من ناحية أخرى، فكانت أدمى مجزرة عرفتها تونس: مئات من القتلى ومئات أخرى من الجرحى.
Неизвестная страница