وكان التونسيون رغم ما يعانونه من اضطهاد مريع يحرصون على إظهار حمق الفرنسيين وخوفهم، فكان الأطفال بمدينة تونس يربطون حققا فارغة في ذيل القطط ويطلقونها في الشوارع الرئيسية، فيهرع البوليس والقوات الفرنسية المسلحة ويركضون من كل جانب شاهرين أسلحتهم وعلى وجوههم علامات الفزع.
وكانت قوائم الأسماء التي يحضرها الفرنسيون لاعتقال الناس قديمة، وحدث في أكودة أن ضابطا فرنسيا أمر بإحضار راجح إبراهيم الذي أدرج اسمه في القائمة ولم يحضر، فتقدم أحد السكان وقال: سأدلكم عليه. وذهب مع الضابط والجنود إلى أن بلغ بهم المقبرة المحلية، ووقف بهم على قبر، وقال: هنا يسكن راجح إبراهيم، إنه قد مات منذ سنوات. ويدل ذلك على فوضى قسم الاستعلامات الفرنسي، وعدم تعاون التونسيين معه.
وحاصر خمسمائة جندي قرية «المعتمر» (أي أكثر من عدد سكان القرية)، وخرج أحد رجالها يريد الذهاب إلى مدينة سوسة، وفي الطريق ساقوه إلى الضابط الفرنسي، فسأله: ما اسم هذه القرية؟ فقال: قرية المعتمر. فنظر الضابط في خريطة أمامه ثم قال: كأنه يخاطب نفسه، لا هذا غير ممكن، غير صحيح. وبعد ساعات غادر الجند القرية وتبين أنهم كانوا قد ضلوا الطريق ولم يقع تفتيش القرية. (13) التضامن القومي
ومن أجمل الأمثلة الرائعة على قوة الشعور الوطني وروح التضامن القومي، ما حدث في مدينة مساكن، حيث احتلها بداية من 8 فبراير جنود اللفيف الأجنبي الذين كانوا يعيثون فسادا في جهة الدخلة، فأخذ الجنود يبيعون ما نهبوه من ذهب وفضة وما سرقوه من حلي في الدخلة، وأسرع الأهالي لشرائه منهم، وبيع الخلخال بثمانية آلاف فرنك وقيمته 150 ألف، وباع الجند بعض القطع الذهبية بزجاجة من الخمر، وبلغ مجموع ما باع الجنود من الحلي 60 ألف فرنك، بينما يقدر ثمنه الحقيقي بستمائة ألف فرنك، ثم جمع الأهالي كل ذلك الحلي وسلموه إلى الخليفة (الوالي) الذي سلمه بدوره إلى الملك ليرفعه لأصحابه، ورفض أهالي مساكن استرداد المبالغ التي اشتروا بها الحلي لما عرض الخليفة ذلك عليهم، فضربوا هكذا مثالا عاليا لهجت به البلاد التونسية بأسرها.
ولقد استمرت حملة القمع الدامي من غير انقطاع في القطر كله. (14) شراحيل (من ضواحي مدينة المنستير)
في شهر فبراير حوصرت القرية من طرف الجنود حصارا شديدا، وأخذوا يطلقون الرصاص في الفضاء لينزلوا الرعب في قلوب الناس، وجمعوا الرجال كبارا وصغارا وكهولا في مكان معين، ثم فتشوا البيوت والمنازل وروعوا من فيها من النساء والأطفال، وأتلفوا كل ما وجدوه من مؤن وزيت، كما أتلفوا البيض والدجاج وجميع الطيور الداجنة، وسلبوا المصوغ والحلي وانتهكوا حرمة المسجد، وبعد التفتيش أشبعوا الرجال ضربا وأطلقوا على بعضهم الرصاص، فجرحوا أحدهم وأتوا بكلاب أطلقوها على الناس تعضهم وتنهش لحومهم حتى جرحت عددا وافرا.
وذهب إلى المستشفى من يملك مالا للمداواة، وبقي البعض بدون معالجة يئن من جراحه.
وألقي القبض على اثنين وعشرين رجلا من سكان القرية، وفرضت على أهالي البلدة غرامة حربية قدرها تسعة أغنام.
وكتب أحد أهالي أولاد عسكر (جهة سبيطلة) عما قاسوه من إرهاق، فقال:
في صبيحة يوم الأربعاء 28 فبراير استيقظنا من نومنا، فوجدنا أنفسنا مطوقين بقوات من الجندرمة، وسرعان ما اقتحموا المنازل وعاثوا في أثاثها فسادا، وانهالوا علينا ضربا وشتما ولكما، وأطلقوا علينا كلابهم فشتتت صغارنا وروعت نساءنا. وأخيرا أسفرت النتيجة عن فقد كمية كبيرة من الحلي ذهبا وفضة، واعتقلوا جمعا من الرجال والنسوة ساقوهم أمامهم وزجوا بهم داخل السجن. ولم يكفهم ما فعلوا من ترويع، بل رجعوا يوم الخميس 6 مارس فلم يستيقظ الأهالي إلا على نباح كلابهم وأصوات شتائمهم، يروعون الأهالي ويضربونهم بمؤخرات البنادق.
Неизвестная страница