Зеленый Тунис
تونس الخضراء
Жанры
وصفوة القول أن تونس لم تكن كالقيروان في انتظام نشأتها، فقد نمت فجأة، وتبدلت حياتها السياسية والدينية والاجتماعية تبدلا عظيم الخطر، وتهيأت لشأنها الجديد الذي أملته الظروف وإرادة فاتحها البعيد النظر، ولعل ذلك لم يكن طفرة - كما يتبادر لأول وهلة - بل تم على مراحل.
وأخذت مدينة تونس تتوسع في تجارتها إبان القرنين الثامن والتاسع الميلاديين، ولكنها كانت مع ذلك مشهورة بصفة خاصة بتدريس الفقه وعلوم الدين، فكان فيها - قبل أن يرتفع صيت القيروان - علماء مبرزون، ساهموا بدروسهم في نشر الإسلام بين ربوع البلاد، منهم: المحدثان علي بن زياد، وعباس بن الوليد الفارسي، وقد صنف أبو العرب التميمي في مستهل العهد الفاطمي رسالة نافعة في طبقات هؤلاء العلماء التونسيين الأول، وقد أضيفت إلى المسجد الجامع بنايات دعت الضرورة إليها، كما زين بوسائل شتى، وقد أدخل على هذا المسجد تعديلات هامة لا شك أنها من عمل أحمد الأغلبي البناء العظيم، ومهما يكن من شيء فقد كان من اليسير جلب الحجر والمرمر إلى تونس لتشييد المباني دينية أو غير دينية؛ ذلك أن قرطاجنة كانت قريبة، فما أيسر أن تنهب خرائبها، وتهيئ الكثير من المواد البناء والعمد وتيجانها.
أما من الناحية السياسية، فيظهر أن تونس كانت مجمع المعارضة ومركز مناهضة السلطان المنبعث من القيروان، وكان الجند من بني تميم الذين تضمهم أسوارها مبعث القلاقل والفتن، واشتركت تونس في جميع الفتن التي أخمدها عمال الأمويين والعباسيين ثم أمراء الأغالبة، واشتركت في الثورة الكبيرة التي حمل لواءها منصور الطنبذي، ففتحها زيادة الله الأول عنوة وضرب أسوارها عام 218ه الموافق 833م، وأنزل بها إبراهيم الثاني جام غضبه بعد فتنة من هذه الفتن، ورأى أن يضبط أمورها بنقل بلاطه وقصبة حكومته إليها عام 281ه الموافق 894م، وشيد لهذا الغرض عددا من المباني منها «القصبة» ولكنه قفل راجعا إلى رقادة بعد عامين اثنين، وقتل ابنه عبد الله الثاني عام 290ه الموافق 903م في قصر بناه لنفسه وشيكا، وصلب قاتلاه؛ الأول على باب الجزيرة، والثاني على باب القيروان، ولم تكن الأسباب قد تهيأت بعد لكي تصبح تونس قصبة إفريقية.
وتعمد الفاطميون وخلفاؤهم من صنهاجة إهمال مدينة تونس، وكانت قصبتهم في القيروان أو في المهدية التي أنشئوها، وظل أهلها متمسكين بأهداب السنة، ومما له دلالته الكبيرة أن أعظم أولياء تونس قد عاش في النصف الأول من القرن العاشر الميلادي؛ أي في الوقت الذي اقتتل فيه أولو الأمر من الشيعة والثوار من الخوارج أعنف قتال في سبيل الغلبة على إفريقية؛ هذا الوالي هو سيدي محرز الذي سأل ابن أبي زيد تأليف رسالته الشهيرة وتلقاها، وهي الخلاصة المعتمدة للمذهب المالكي في شمال إفريقية، وكان هو الذي أنزل السكينة على قلوب أهل المدينة بعد أن مرت بها تلك الفترة الوجيزة المشئومة التي احتل فيها أبو يزيد المدينة عام 332ه الموافق 944م، وحثهم على إقامة سور مكين حولها، وشجعهم على تنظيم أسباب الاتجار فيما بينهم، ولعل الفضل يعود إليه في بناء فندق «الحرائرية» القديم، وهو قبالة زاويته تقريبا، وعلى مسافة قصيرة من باب كبير من أبواب المدينة، وربما صح هذا على «السويقة» التي سمي الباب باسمها فقيل «باب السويقة»، وثمة رواية متواترة تذهب إلى أن سيدي محرز أنشأ أيضا «حارة اليهود» وهي على مسافة من زاويته من اتجاه المسجد الجامع، وجلي أنه قصد بهذا العمل إلى أن يستبقي من ذلك الحي قوما يحذقون التجارة خاصة، وهي من أسباب ازدهار المدينة .
وقد شهد ابن حوقل في القرن العاشر الميلادي بما كانت عليه مدينة تونس من ازدهار، فأطنب في الإشادة بوفرة غلاتها، وحسن موقعها، وثراء أهلها، وخص بالذكر فخارها وري البساتين التي حولها بطواحين الماء، وزاد البكري تفاصيل أخرى من القرن التالي؛ فذكر الأسوار، والخندق، والأبواب الخمسة، وهي باب الجزيرة في الجنوب، وباب البحر الذي يفتح على الفرضة، وباب قرطاجنة في الشرق، وباب السقائين، وجلي أنه كباب السويقة في الشمال، وباب أرطة في الغرب، وكان مدخل الفرضة يغلق بسلسلة، يحميها من الشمال سور ومن الجنوب حصن من الحجر يعرف ب «قصر السلسلة»، وقد أعجب البكري بأسواقها العامرة، وحماماتها، وبالمسجد الجامع، وكان درج مدخله - كما هو الآن - اثنتي عشرة درجة، وأشاد بكثرة زادها من الفاكهة والسمك، ولم يفته أن يذكر فخارها، ثم انتقل إلى موضوع آخر فتحدث عن إقبال أهل تونس على علوم الفقه.
والظاهر أن تونس كانت في أمن ورخاء، حتى وقعت الواقعة المشئومة في منتصف القرن الثاني عشر الميلادي، فقلبت الحالة الاقتصادية والسياسية بأسرها رأسا على عقب، ونعني بهذه الواقعة غزوة العرب الهلالية.
وغلب الفاتحون الجدد الزيرية الضعفاء على أمرهم، فاعتكفوا في المهدية، ووقعت تونس زمانا في يد عابد بن أبي الغيث أمير بني رياح عام 446ه الموافق 1054م، ثم طلبت الأمن فدخلت في طاعة الناصر الحمادي صاحب القلعة، فأرسل إليها عامله عبد الحق بن خراسان الصنهاجي عام 451ه الموافق 1059م، وسرعان ما جاهر هذا العامل باستقلاله، فتأسست بذلك أول دولة تونسية، ومكنت هذه الدولة لنفسها قرنا من الزمان، إلا عشرين عاما حتى غزاها الموحدون بعد ذلك بقرن على التحقيق.
وجار عليها أول الأمر الرياحية من بني علي، وكانوا قد وطدوا أقدامهم في المعلقة من أعمال قرطاجنة، فصالحتهم تونس لتأمن غاراتهم، ووعدوا بألا يتعرضوا للناحية أو لأحد من أهلها نظير جزية سنوية، بل إنهم سرعان ما حضروا أسواق تونس للبيع والشراء جميعا، وسلمت المدينة من سعايات زيزية المهدية، ونورمان صقلية، وعكر صفوها في الوقت نفسه شبوب الفتن والأحزاب المتنافسة، وشغب الصف واقتتالهم، والتنابذ بين الأحياء المختلفة، ومع ذلك فقد بدأت تجارتها في البحر تنفق في هذا العهد المضطرب، فانتظمت تجارتها مع إيطاليا ونمت، وازدادت العلاقات التجارية مع النصارى، فأدى ذلك إلى رخاء لم يكن في الحسبان، وقد كان لبني خراسان أنفسهم نصيب كبير في ترقية مدينة تونس وازدهارها، فحصنها أحمد، وهو أعظم أمرائهم، في النصف الأول من القرن الثاني عشر، وبنى الأسوار التي ذكرها الإدريسي، كما أنه هو الذي شيد «القصر»، وربما كان المسجد المعروف الآن بجامع القصر متصلا به في أول الأمر، وفي هذا الحي بالقرب من شارع بنو كريسان، والظاهر أنه تحريف خراسان، لا تزال مقبرة بني خراسان قائمة إلى الآن، ولعلها كانت متصلة في الأصل بمقبرة السلسلة، والباب الكبير للمسجد الجامع من أيام هذه الدولة. وتحددت هيئة تونس الآن عندما قامت ضاحيتاها الكبيرتان - باب سويقة وباب الجزيرة - وهما يمتدان شمالي المدينة القديمة وجنوبيها، وأخذ شأنها يعظم حتى أصبحت قصبة إفريقية، وقد ظل هذا حالها من أيام عبد المؤمن عام 554ه الموافق 1159م إلى وقتنا هذا، فاندمج تاريخها السياسي في تاريخ سلطنة تونس.
وقد أفزعت الناس غارات ابن عبد الكريم الرغراغي الفاشلة عام 595ه الموافق 1199م، كما شق عليهم حكم آخر المرابطين يحيى بن غانية عام 1203-1204م، فكان من نصيب الحفصيين أن يعيدوا إلى تونس أمنها وسلامتها ، وأن يزيدوا في منشآتها، وأن يجعلوا منها قصبة جديرة باسمها، وقد شيد أبو محمد بن أبي حفص - وكان لا يزال يحكم البلاد من قبل خليفة مراكش في حي باب السويقة (في شارع الحلفاويين) - مسجدا جامعا يعرف باسمه إلى الآن، وإن كان هذا الاسم قد حرف بطبيعة الحال حتى أصبح «باي محمد»، وكان أبو زكريا أول أمراء هذه الدولة المستقلين، وتدل منشآته على أن المدينة بدأت تدخل في عهد جديد، فقد شيد عام 1230م خارج المدينة ناحية الجنوب الغربي مصلاه الحصين المعروف ب «جامع السلطان»، وهو الذي أشار إليه ابن بطوطة في القرن التالي، ثم شرع في تعمير القصبة، وأقام في طرفها مسجدا خاصا به هو مسجد الموحدين أو القصبة، ومئذنته على النمط الموحدي الخالص، وأنشأ خزانة كتب بددها ابن اللحياني أحد خلفائه، واقتفى أثر المشارقة ففتح في تونس مدرسة الشماعية بالقرب من سوق الشماعين القديم، وهو الآن سوق البلغجية، وقد رممت فيما بعد، وكانت أول مدرسة فتحت في شمالي إفريقية، وأبو زكريا هذا هو الذي أجار بنات يحيى بن غانية الثلاث في القصر الذي عرف منذ ذلك ب «قصر البنات»، ثم إنه هو الذي نظم الأسواق حول المسجد الجامع مباشرة، وفتح سوق العطارين، وربما كان هو الذي أنشأ كذلك سوق القماش.
وجاء بعده ابنه الخليفة المستنصر بالله، فلم يقتف أثر أبيه في العناية بشئون التجارة والدين، بل كان رجلا تياها يميل إلى الأبهة والبذخ، فبنى قاعة لمحافله تعرف ب «قبة أساراك» عام 1253م في قصر القصبة، وغرس حدائق للهوه في الربض المجاور له عند رأس الطابية على الطريق إلى باردو عند أبي فهر، ووصل القاعة بالبساتين طريق محجوب تسير فيه النساء فلا يراهن أحد، وفي عام 665ه الموافق 1267م أتم الخليفة تعمير جسور قرطاجنة المعلقة القديمة المعروفة بالحنايا، فأشاد ابن حازم بهذا الصنيع في شعره، وجلب الماء إلى بركة أبي فهر الكبيرة، ومنها إلى المسجد الجامع.
Неизвестная страница