تحفة الترك فيما يجب أن يعمل في الملك
وضمنه:
كتاب النور اللامع فيما يعمل به في الجامع
تأليف
قاضي قضاة دمشق
نجم الدين إبراهيم بن علي الحنفي الطَّرَسوسي
٧٢٠ - هـ ٧٥٨ هـ
دراسة وتحقيق: عبد الكريم محمد مطيع الحمداوي
النسخ المعتمدة
في التحقيق
اعتمدت في تحقيق كتاب "تحفة الترك " على خمس نسخ، واحدة من برلين تحت رقم ٥٦١٤وأربع من سليمانية استانبول. ورمزت إلى نسخة برلين بحرف "ب ". وإلى نسخ استانبول بالحرف: " س١ "، " س٢ "، " س٣ "، " س٤ ". ١ - نسخة برلين (ب): بها ٥٣ لوحة، في كل لوحة ٢٣ سطرًا، بمعدل ١٠ كلمات بالسطر الواحد. كتبت بخط رقعة جيد ليس بها محو ولا بياض ولا بتر، لم يسجل عليها اسم ناسخها، ولا تاريخ تحريرها ولئن كانت بها أخطاء لغوية ونحوية وإملائية أكثر من غيرها، فإن بها فقرات وجملًا تكمل ما سقط من بعض النسخ الأخرى؛ والراجح أنها لم تراجع من قبل أهل العلم، لأن حواشيها خالية من أي تصويب أو تعليق أو شرح. قدم لها ب: (كتاب تحفة الترك فيما يجب أن يعمل في الملك من مؤلفات القاضي العلامة المعروف بابن الطرسوسي الحنفي، مواهب الرحمن، قال: وهذا الكتاب من حقه أن يكتب بالذهب لأن فيه علومًا وفوائد وهو من الذخائر النفيسة وله أيضًا كتاب: "الوسائل إلى تحرير المسائل "، وهو كتاب نفيس وله أيضًا: " النور اللامع " وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا آمين يا رب العالمين) . وختم الكتاب بقوله: (وهذا آخر ما قصدته بهذا الكتاب، والله أعلم بالصواب صلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا) . ٢ النسخة التركية الأولى " س ١ " في مكتبة السليمانية، قسم فرع أياصوفيا، رقم: ٢٨٥٣؛ عدد لوحاتها ١١٣ لوحة، في كل لوحة ١٣ سطرًا بمعدل ٧ كلمات في السطر الواحد؛ كتبت بخط النسخ كتابة متوسطة، ولكنها واضحة جدًا، أخطاؤها قليلة وإن سقطت منها بعض الجمل والفقرات التي وجدتها في النسخ الأخرى؛ لم يسجل عليها اسم ناسخها ولا تاريخ نسخها، إلا أن بحاشية صفحتها الأولى دوِّن أنها وقف للحرمين الشريفين، بخط رقعة جيد، هكذا: " قد وقف هذه النسخة الجميلة، سلطاننا الأعظم، والخاقان المعظم، مالك البرين والبحرين، خادم الحرمين الشريفين، السلطان بن السلطان، السلطان الغازي محمود خان وقفًا صحيحًا مرعيًا حرره. .؟ . أحمد الشيخ زاده، المفتش بأوقاف الحرمين الشريفين غفر لهما ". فالنسخة بهذا قد تكون من عهد السلطان التركي محمود الأول (١٧٣٠م ١٧٥٤م) . يبدو أن هذه النسخة روجعت من قبل بعض ذوي العلم، لأن بحواشيها شروحًا وتعاليق مفيدة وتصحيحات أخطاء، وإن كنت لم أستطع قراءة بعضها. بدئ المخطوط ب: (كتاب تحفة الترك فيما يجب أن يعمل في الملك، تأليف قاضي القضاة العلامة المعروف بابن العز الحنفي، صاحب حاشية الهداية، وله أيضا: كتاب " الوسائل إلى تحرير المسائل " وله أيضا: " النور اللامع " وله غير ذلك، ﵁ وأرضاه وجعل الجنة مثواه بمحمد وآله آمين. وهذا الكتاب من حقه أن يكتب بالذهب، لأن فيه علومًا وفوائد جمة وهو من الذخائر النفيسة) . وختم الكتاب ب: (والحمد لله وحده، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم، ورضي الله عن أصحاب رسول الله أجمعين) . ٣) النسخة التركية الثانية " س ٢ ": من مكتبة السليمانية فرع برتفنيال رقم ٩٦ " pertevnyal "، لوحاتها ٧٥ لوحة في كل لوحة ١٧ سطرًا، بمعدل ٩ كلمات في السطر الواحد، نوع الخط: تعليق، أخطاؤها نادرة وإن سقطت منها بعض الجمل التي وجدتها في غيرها، ليس بحواشيها شروح أو تعاليق أو تصويبات. جاءت ضمن مجموع، من الصفحة ٧٥ إلى ١١٢. (١٨٨ × ١٢٩ مم، ١٣٩ ×٦٣ مم) . حررها حسن بن حسين بن علي الكاتب بمحكمة تفتيش الحرمين الشريفين، وأتم تحريرها في اليوم السابع من شهر ربيع الآخر سنة خمس وسبعين ومائة وألف للهجرة. (١١٧٥ هـ) . ومما يزيد من أهميتها أن ناسخها أشار في ختامها إلى أنها قوبلت تكرارًا مع نسخة المؤلف الأصلية. قدم لها ب: (تحفة الترك، بما يجب أن يعمل في الملك، لشيخ الإسلام بهاء الدين بن علي الطرسوسي رحمة الله عليهما) . وختمت ب: (قال مؤلفه ﵀: هذا آخر ما قصدته، واتفق الفراغ منه يوم الأربعاء رابع عشر ذي القعدة سنة ثلاث وخمسين وسبعمائة، رحمة الله عليه رحمة واسعة. وكان الفراغ من تحرير هذه النسخة الشريفة، في اليوم السابع من شهر ربيع الآخر لسنة خمس وسبعين ومائة وألف، بيد أفقر الورى، حسن بن حسين بن علي الكاتب بمحكمة تفتيش الحرمين الشريفين غفر الله لهم، ولجميع المؤمنين والمؤمنات بحرمة سيدنا وسندنا محمد (ص) وعلى آله وصحبه أجمعين برحمتك يا أرحم الراحمين. تمت مقابلة بنسخته تكرارا ً) . ٤) النسخة التركية الثالثة " س٣ ": من مكتبة السليمانية، قسم أو فرع حكيم أوغلو علي باشا، رقم ٣٥٥ hakim oglu ali pasa، عدد لوحاتها ٥٣ لوحة في كل لوحة ٢١ سطرًا، بمعدل ١١ كلمة في السطر الواحد، كتبت بخط نسخ جيد جدًا، كتابتها واضحة، ليس بها بتر أو محو أو بياض، أخطاؤها قليلة جدًا، وليس بحواشيها أي شروح أو تعليقات أو تصويبات، سوى أنه دون بعض العناوين الرئيسية في الهامش لزيادة لفت انتباه القارئ. لم يُدَوَّن عليها اسم ناسخها وإن كانت مع " س ٤ " أقدم ما وصلنا إلى الآن؛ فقد تم تحريرها يوم الثلاثاء خامس ربيع الثاني سنة ١١١٩ هـ، إلا أن نسخة " س ٢ " فاقتها بالمقابلة مع نسخة المؤلف نفسه.
1 / 1
جاءت هذه المخطوطة ضمن مجموع للمؤلف نفسه، وفي أول صفحة من المجموع جاء ما يلي: (مؤلفات مؤلف هذا الكتاب: أنفع الوسائل، الفوائد المنظومة وهي هذا الكتاب. وشرحها، وهي ألفية من أبحر مختلفة على قوافٍ متغيرة، الإعلام بمصطلح الشهود والأحكام، الاختلافات الواقعة في المصنفات، رفع الكلفة عن الإخوان في كشف ما قدم فيه القياس على الاستحسان، وله مؤلف في تعدد الجمعة، وله تحفة الترك فيما يجب أن يعمل في الملك وهو كتاب جليل جدا ً) وقد تضمن هذا المجموع أيضا: الزوائد على الفوائد، رسالة في لبس الحرير، فوائد جمة ومسائل في القراءات العشرة. وجاء مخطوط " تحفة الترك " من الصفحة ١٨٢ إلى ٢٢٣. قدم لها ب: (تحفة الترك فيما يجب أن يعمل في الملك. قاضي القضاة، نجم الدين تغمده الله برحمته ورضوانه آمين) . وختمت ب: (قال مؤلفه رحمه الله تعالى: هذا آخر ما قصدته، واتفق الفراغ منه يوم الأربعاء رابع عشر ذي القعدة سنة ثلاث وخمسين وسبعمائة، ووافق الفراغ من كتابة هذه النسخة المباركة يوم الثلاثاء المبارك خامس شهر ربيع الثاني من شهور سنة ١١١٩ من الهجرة النبوية على صاحبها الصلاة والسلام الأكملان الأتمان، وعلى سائر الأنبياء والمرسلين وآل كل والصحابة والتابعين. وحسبنا الله ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم) . ٥) النسخة التركية الرابعة " س٤ ": من مكتبة السليمانية، فرع خالد أفندي رقم ٥٣٥ " Halet ef. "، عدد لوحاتها ٥٥ لوحة في كل لوحة ٢٣ سطرًا بمعدل ١٠ كلمات للسطر الواحد، ناسخها يدعى أحمد بن محمد، كتبت بخط نسخ جيد جدًا، كتابتها واضحة قليلة الأخطاء نادرتها، ليس بها بتر ولا بياض ولامحو. ليس بحواشيها أي تعاليق أو شروح أو تصويبات، مع أنها كتبت في الأصل الذي نسخت عنه، لقاضي القضاة محمد أفندي بن حسن كتخدا زاده، الذي تولى قضاء قضاة دمشق قادمًا من حلب في ١١ ذي الحجة سنة ٩٩٨هـ، خلفًا للقاضي مصطفى أفندي ابن بستان، في عهد النائب العثماني سنان باشا الوزير الأعظم بالشام [١] ولهذا تعتبر ذات أهمية علمية، ولتقدم تاريخها عن غيرها مما هو معروف لحد الآن تُعدُّ ذات أهمية تاريخية أيضا. جاءت المخطوطة ضمن مجموع، من الصفحة ١٣٠ إلى ١٥٨ (الأخيرة) . لكن باقي المجموع ليس للطرسوسي، فهناك: أصول الأحكام في النجوم (وهو مخطوط فارسي) ملجأ القضاة للبغدادي، أدب الدين والدنيا للماوردي، تحفة الترك. قدم لهذه النسخة ب: (تحفة الترك فيما يجب أن يعمل في الملك تأليف شيخ الإسلام، مفتى الأنام ابن علي الطرسوسي الحنفي، رحمة الله عليه ورضوانه آمين) . وختمت ب: (هذا آخر ما قصدته، واتفق الفراغ منه يوم الأربعاء رابع عشر ذي القعدة سنة ثلاث وخمسين وسبعمائة، والله أعلم بالصواب، قد من الله تعالى وأنعم بإتمام هذا الكتاب المبارك في يوم الأحد المبارك، الموافق لسادس شهر جمادى الثاني من شهور سنة ١١٣٤، وذلك على يد أفقر العباد إلى الله، أحمد بن محمد غفر الله له وذلك برسم سيدنا ومولانا شيخ الإسلام، فخر قضاة الأنام، مولانا محمد أفندي كتخدا زاده، رزقه الله الحسنى وزيادة، وحفظه وأعطاه في الدارين سؤله، وحفظ عليه من يحب وبلغه مأموله، إِنه على ما يشاء قدير تم) . كما أن هناك نسخة خامسة من مكتبة السليمانية، فرع وهبه البغدادي أفندي رقم ١٠٤٢ في مجلد واحد، وفي حالة جيدة يضم ٤٢ صفحة بكل منها ٢٣ سطرًا (٢٧٤ × ١٩٣ مم)، (١٩١ × ١١٠ مم) الخط: تعليق. ويبدو أن هذه النسخة مطابقة لنسخة " س٣ "، لأن ناسخهما واحد، وتاريخ النسخ واحد، وهما متطابقتان تمامًا حتى فيما ختمتا به وهو: (قال مؤلفه ﵀: ... ووافق الفراغ من كتابة هذه النسخة المباركة يوم الثلاثاء المبارك خامس شهر ربيع الثاني من شهور سنة ١١١٩ من الهجرة النبوية؟ .الخ) . وجاء فيها: (بلغ مقابلة بأصله المنقول عنه) . هذه هي النسخ التي اعتمدت عليها في التحقيق وهي شافية كافية [٢]، وقد وجدت لدى مسؤولي مكتبتي السليمانية وبرلين كل تعاون، وحسن سلوك، وأدب ومصداقية وأخلاق سامية، تليق بالمؤتمنين على تراث الإنسانية، مما يجعلهم قدوة لغيرهم في هذا الميدان، فلهم وافر الشكر والامتنان.
منهج التحقيق
في حالة تعدد النسخ، وحاجة كل منها إلى الأخريات، يكون المنهج التلفيقي أوفى بالنتائج وأكثر تحقيقًا للهدف، وهذا ما نهجته في هذا الميدان. سرت في عملي بالخطوات التالية: ١ تحقيق نسبة المخطوطة إلى مؤلفها الحقيقي، وهو إبراهيم بن علي الطرسوسي الحنفي، المتوفى سنة ثمان وخمسين وسبعمائة للهجرة (١٣٥٧ م) . لاسيما وقد نسبت المخطوطة في نسختي "ب " و"س١ "، إلى ابن العز والصواب غير ذلك. ٢ وضعت للنسخ رموزًا هي: نسخة برلين: " ب ". السليمانية الأولى: " س ١ ". السليمانية الثانية: " س ٢ ". السليمانية الثالثة: " س ٣ ". السليمانية الرابعة: " س ٤ ". ٣ اتخذت من نسخة " س١ " أصلًا تبنيت ترتيب صفحاته، وبنيت عليه المنهج التلفيقي الذي سرت عليه، وصححته من النسخ الأخرى بإضافة الجمل الساقطة، وتصحيح الأخطاء اللغوية والإملائية والنحوية الصرفية، والألفاظ الغريبة أو غير الواضحة أو ما به محوٌ أو بياضٌ. ٤ خرجت شواهد المصنف من القرآن الكريم، وأثبت أرقامها وأسماء سورها. ٥ خرجت الأحاديث النبوية الشريفة، وبينت مراجعها من كتب السنة. ٦ حاولت قدر المستطاع توثيق النصوص التي وردت في المصنف، مقتبسة من كتب الفقه والأصول والعقيدة، وعزوها إلى أماكنها.
_________
[١]- كتاب قضاة دمشق ص ٣٣٦ [٢]- انظر في آخر الكتاب نماذج (رواسم) من نسخ هذه المخطوطات
1 / 2
٧ - حاولت التعرف على مصادر المؤلف، وعرفت بها قدر الإمكان. ٨ أصلحت الأخطاء اللغوية والنحوية والإملائية والصرفية، المشتركة بين جميع النسخ دون أن أشير إليها، إلا عند الضرورة رغبة في التخفيف على الهوامش. ٩ شرحت من ألفاظ النص، ومعانيه ما أراه ضروريًا للفهم، من توضيح لمبهم، أو تجميع لمفرق، أو ترجيح لرأي، أو بيان لوهم، أو مقارنة لاجتهادات بين المذاهب. ١٠ بينت الكلمات والمصطلحات الغريبة، وغير العربية تركية أو فارسية أو عامية، بالرجوع إلى عدة قواميس. ١١ تركت ذكر الفروق بين النسخ في ألفاظ الثناء على الله تعالى، والصلاة على نبينا محمد (ص)، والترضي والترحم على الصحابة والأخيار، وغير ذلك مما لا يضر ترك ذكره ومما يثقل الهامش. ١٢ ترجمت للأعلام الوارد ذكرها في المصنف قدر المستطاع ترجمة شبه وافية، كي يستفيد منها القارئ، وذكرت بعض أهم مراجع الترجمة لمن أراد التوسع في ذلك. ١٣ أثبت النص المحقق، المستخلص من النسخ كلها، وفق قواعد الإملاء الحديثة. ١٤ أثبت الفروق بين النسخ، في هامش كل صفحة من صفحات النص، مرقمة بأرقام هندية؛ وأثبتت في الهامش الجانبي الأيمن بيان بداية كل صفحة من صفحات المخطوطات مرقمة بأرقام هندية. ١٥ التعليقات والشروح المثبتة في حواشي المخطوطة، أشرت إليها ضمن الفروق بين النسخ في هامش كل صفحة بأرقام هندية، أما الحواشي التي هي من صميم النص فقد أدرجتها في النص وأشرت إلى ذلك في الهامش. ١٦ التعليقات على القسم الدراسي والنص، مما سوى الفروق بين النسخ، رقمتها بأرقام عربية، ودونتها في هامش خاص آخر الكتاب، نظرًا لطولها وأهميتها، وتعذر استيعاب هوامش صفحات النص لها. ١٧ مهدت للكتاب المحقق، بدراسةٍ عن تطور الأوضاع السياسية في الدول الإسلامية منذ وفاة رسول الله (ص) إلى عصر المؤلف، ورصدٍ لحركة تطور الفقه السياسي طيلة الفترة نفسها، وبيان لأهم ما أثارته " التحفة " من مواضيع فقهية وسياسية، وترجمةٍ لحياة المؤلف وأسرته، وشيوخه ومصنفاته، وعصره، ومدى تأثيره، مما رأيته ضروريا لفهم الكتاب ومكانته بين كتب الأحكام السلطانية التي سبقته. ١٨ وضعت ثبتًا لأهم المراجع التي استفدت منها في الدراسة والتحقيق. ١٩ وضعت من الفهارس ما رأيته ضروريًا لزيادة الفائدة.
القسم الدراسي
مدخل إلى عصر المؤلف
تمهيد
يشكل العصر الذي عاش فيه نجم الدين إبراهيم الطرسوسي (١) القرن الثامن الهجري، الرابع عشر الميلادي - نقطة تحول خطيرة في التاريخ الإسلامي؛ ففيه تراكمت كل سلبيات نظم الحكم السابقة، وأنتجت ثمارها في جميع مجالات السيادة والسياسة، والاقتصاد والاجتماع والقوة العسكرية. وكان بذلك قاعدة الارتكاز التي استندت إليها معظم حالات الانهيار والتفسخ، والممارسات المنحرفة التي آلت إليها أوضاع البلاد والعباد؛ من بداية عهد بني أمية، إلى أن اقتسم المماليك أقطارها، ثم ورثها بعدهم آل عثمان. ومن سقوط الأندلس وكافة جزر الأبيض المتوسط في يد الصليبيين، إلى أن سقطت البلاد كلها بيد الاستعمار، في القرنين التاسع عشر والعشرين الميلاديين؛ ثم تحررت شكليًا منه في إطار دويلات قطرية، تتعاقب عليها - رغم أنف شعوبها - نظم عشائرية أو عسكرية، بنهج وراثي أو انقلابي تحت مظلة الحماية الأجنبية. ولا عبرة بحالات عابرة مرت بها المنطقة منذ عصر الأمويين، أطلق عليها مراحل نهوض ويقظة وتقدم، لأنها لم تكن سوى طفرات عابرة، أثمرتها محاولات فردية فوقية تحكمية، لم تؤسس على قاعدة متينة من نظام سياسي رشيد، أو نضج فكري، أو نظرة عميقة تستشرف المستقبل وتخطط له. في هذا القرن لاحت لدى أمم النصرانية في أوربا مؤشرات التوجه نحو النهضة، بانبعاث الروح الدينية لدى حكامها وشعوبها، مع ما صاحب ذلك من الشعور بالانتماء إلى أرض الأندلس وجزر المتوسط، ومواطن مقدساتهم في الشام، والبغض الشديد للمسلمين الذين اعتبروهم أغرابًا عن دينهم وقومهم وأرضهم؛ فكانت هذه العوامل كفيلة بتوحيد صفوفهم، وتجاوز تناقضاتهم القطرية والعرقية واللغوية، وخلافات أسرهم الحاكمة، من أجل أهداف توحد ولا تفرق ومناهج في مكافحة المسلمين تعصم من التآكل الذاتي، وتوجه لالتهام أراضي الغير وممتلكاته. كما ظهرت لديهم بوادر النضج السياسي، ببروز ملامح دولة المؤسسات، التي تتكامل فيها مراكز القوة ولا تهيمن على بعضها، ويضيق فيها مجال الاستئثار بالقرار والاستبداد بالرأي، فكانت مؤسسة الكنيسة المستقلة بنفوذها لدى الحكام والشعوب، ومؤسسة الإقطاع بقوته الاقتصادية التي تمول الحروب وتستثمرها، ومؤسسة الأسر الحاكمة المحتاجة إلى تزكية الكنيسة وأموال الإقطاع؛ وتكونت من هذه الأقانيم الثلاثة وحدة القرار الأوربي، فتحقق بها مستوى معقول من الرشد السياسي والحربي في الميدانين الداخلي والخارجي، ووضعت أوربا بذلك رجلها في طريق النهضة التي آلت بها إلى حالة الغلبة والهيمنة، التي تعيشها في العصر الحاضر. بدأت أوربا نهضتها من أسفل السلم، من الجهل والضياع، ثم بالتجربة والتعقل وحرية الفكر، تدرجت في معارج النضج والتطور والقوة والرقي. أما المسلمون فبالعكس، وضعهم الإسلام في قمة الرشد السياسي، حرية فكر، ومساواة، وشورى، وسلمًا اجتماعيًا؛ ثم ما لبثوا أن ارتكسوا في رعوناتهم وأهوائهم، وتدحرجوا في مهاوي فتنة الحكم وصراع السلطة، جيلًا بعد جيل، نزوًا على الكراسي ونطًا على العروش، بمختلف الأساليب الهمجية، وراثة وغلابًا.
فترة الرشد السياسي لدى المسلمين
كان الرشد أول عهد المسلمين بأمر الحكم؛ فالقرآن الكريم جعل أمرهم شورى بينهم، لا فرق بين عربي وأعجمي أو أبيض وأسود وأحمر، إلا بالتقوى. والرسول (ص) عندما حضرته الوفاة لم يستخلف أحدًا؛ وكل ما قيل أو روي في موضوع الاستخلاف لا يثبت عند السبر والنقد. والثابت أن المسلمين تركوا أحرارًا في اختيار القيادة الجديدة. إلا أن ولاءهم كان موزعًا بين عدة مراكز للاستقطاب العائلي والقبلي، كما هو شأن المجتمعات القبلية ذات العصبية. فكان أولاهم بالأمر، بمقياس العلم والفقه والعصبية الدينية والعائلية والقبلية، علي بن أبي طالب (٢) ﵁ لدى بني هاشم وقريش والمسلمين؛ وبمقياس عصبية القبيلة والنصرة سعد بن عبادة (٣) لدى الخزرج، وأسيد بن حضير (٤) لدى الأوس؛ وبمقياس عصبية الأسرة والقبيلة والرئاسة في الجاهلية، دهاة بني أمية، أبو سفيان (٥) ومعاوية (٦) ومروان بن الحكم (٧) وحليفهم عمرو بن العاص (٨) . وكان حريًا بكل قبيلة أن تتخذ من زعيمها - إن بويع بالخلافة -، جسرًا لاحتكار السلطة وتداولها بعد وفاته. وكانت قبائل من العرب - ضمنها أهل مكة أنفسهم - يتململون نحو الردة. فلو اجتمعت فتن الردة، والصراع على السلطة، والتشوف لاحتكارها، على المسلمين، لكانت الطامة الكبرى على الإسلام نفسه. وهذا مفتاح فهم تصرفات قادة الصحابة المبرزين بعد وفاة الرسول (ص)، علي وأبي بكر (٩) وعمر (١٠) ﵃. في هذه الفترة الحرجة قيض الله للأمة هؤلاء الأقطاب الثلاثة، أمدهم بالرشد والوعي، وبعد النظر، وإيثار بقاء الإسلام على تحقيق أي مكاسب دنيوية.
1 / 3
أما الأول، علي بن أبي طالب، المعروف ببعد نظره، وعلمه وفقهه وفضله وأحقيته، فقد اتضح له ما يراد بالإسلام، وما ينتج عن دخوله في التنافس على السلطة فاحتفظ بكامل رشده، لم يستفزه الحزن لوفاة الرسول (ص)، ولم يستثره الطموح إلى الزعامة، ولم يستغفله دعاة الشر والكيد للأمة، وآثر بقاء الإسلام على بقاء نفوذ آل البيت الأكرمين، والتمكين للإسلام على التمكين للعترة الطاهرة الشريفة، واشتغل بالإشراف على غسل الرسول (ص)، وتكفينه والصلاة عليه ودفنه، وتنظيم مراسم التعزية والمواساة؛ فلم يحضر سقيفة، ولم يجار أحدًا في حديث عن الخلافة، وفسح المجال بذلك لقيام مؤسسة الخلافة الراشدة، التي هي أمر للمسلمين كافة، والتي هي المحجة السياسية البيضاء في الكتاب والسنة. حرضه عمه العباس (١١) على أن يسأل الرسول (ص) عند احتضاره، عن الأمر فيمن تركه؟ فأبى علي وقال: " والله لا أسألها رسول الله أبدًا " وعرض عليه العباس ثانية بعد وفاة الرسول (ص) وقبل السقيفة، أن يبايعه على ملأٍ من الناس، فيقولون: " عم رسول الله بايع ابن عمه "، فلا يختلف عليه أحد، فرفض ذلك أيضًا. وعندما بويع أبو بكر أتى أبو سفيان عليًا - كرم الله وجهه - وقال له: " إني لأرى عجاجة لا يطفئها إلا دم، يا آل عبد مناف (١٢)، فيم أبو بكر من أموركم؟، أين المستضعفان؟ أين الأذلان، علي والعباس؟ ما بال الأمر في أقل حي (١٣) من قريش؟ ". ثم قال لعلي: "ابسط يدك أبايعك، فوالله لو شئت لأملأنها عليه خيلًا ورجلًا "، فأبى علي ﵁، فتمثل أبو سفيان بشعر المتلمس (١٤): ولن يقيم على خسف يراد به إلا الأذلان عير الحي والوتد هذا على الخسف مربوط برمته وذا يشج فلا يبكي له أحد فزجره علي وقال: " والله إنك ما أردت بهذا إلا الفتنة، وإنك والله طالما بغيت للإسلام شرًا، ولا حاجة لنا في نصيحتك ". وعندما مارس أبو بكر مهامه في تسيير أمر المسلمين، وخرج شاهرًا سيفه للمشاركة عمليًا في حرب الردة، كان علي - كرم الله وجهه - أشد الصحابة حرصًا على أمنه وسلامته، لما في ذلك من أمن للإسلام وبقاء له. اعترض سبيل أبي بكر وثناه عن عزمه قائلًا: " شِمْ سيفك ولا تفجعنا بنفسك، فوالله لئن أصبنا بك لا يكون للإسلام نظام "، فرجع أبو بكر وأمضى الجيش. وعندما بايع الناس عثمان (١٥) قال له عبد الله بن عباس (١٦): " قد خدعوك حتى رضيت بخلافة عثمان "، فقال علي: " إنهم لم يخدعوني، بل إني رأيت الجميع راضون به، فلم أحب مخالفة المسلمين حتى لا تكون فتنة بين الأمة ". وبعد مقتل عثمان ﵁، اجتمع أصحاب رسول الله من المهاجرين والأنصار، فأتوا عليًا فقالوا له: " إنه لابد للناس من إمام "، فقال: " لا حاجة لي في أمركم، فمن اخترتم رضيت به "، فألحوا عليه فبالغ في الرفض وقال: " لا تفعلوا، فإني أكون وزيرًا خير من أن أكون أميرًا "، فقالوا: " والله ما نحن بفاعلين حتى نبايعك "، فقال: " لا حاجة لي في البيعة، دعوني والتمسوا غيري. " ولما بالغوا في الإلحاح قال لهم: " عليكم بطلحة (١٧) والزبير (١٨) "، ثم ذهب معهم إلى طلحة وطلب منه أن يبسط يده ليبايعه الناس فرفض وعرض الأمر على الزبير فرفض، وأصر الجميع على مبايعة علي. بهذه الروح العالية، والنظرة البعيدة، والتقوى العميقة، نظر الإمام علي إلى أمر الحكم، فجنب المسلمين كوارث وفتنًا، ما لبثوا أن وقعوا فيها بإرادة من جاء بعد صفوة الصحابة ممن ملأ حب السلطة قلوبهم. وليس بغريب هذا الرشد وعلو الهمة من الإمام علي، فهو نتاج تربية النبوة، وهو الذي لم يسجد لصنم قط، وهو الصبي الذي نشأ في عبادة الله، فلم يختلط في قلبه وذهنه أبدًا جاهلية بإسلام. أما القطب الثاني، أبو بكر ﵁، فإنه بادر بالالتحاق بأهل سقيفة بني ساعدة درءًا للفتنة، ولكنه لم يدع وصية من الرسول (ص)، ولم يحتج بآية أو حديث على أحقية قريش بالأمر من دون الأمة؛ وإنما برر ذلك بالمصلحة، وضرورات العقل وتجنب النزاع؛ ثم عندما روى حديث: " لا نورث، ما تركناه صدقة " كرس مفهوم انتفاء وراثة النبي (ص) مالًا ونبوة وسلطة (١٩) . ثم عندما بويع، أكد عدم تميزه عن المسلمين بقوله: " وليت عليكم ولست بخيركم، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله؟ (٢٠) "، فكان ﵁ بحلمه ودماثة خلقه وحكمته وعلمه بطبائع الخلق وأنساب العرب وعصبياتهم، وما اقتبسه من نور النبوة، بلسمًا للمسلمين، جنبهم الفتن في أشد فترات نشأة دولتهم حرجًا، وحال دون هيمنة الأسر القوية على شؤون الحكم، وسد ذرائع تُحَوِّلُ أمره إلى نظام وراثي استبدادي. وعند وفاته لم يحاول الاستخلاف إلا خوف الفتنة، ومجاراة لرأي المسلمين الذين ألحوا عليه فيه. ومع ذلك عندما أمر عثمان بكتابة وصيته، قال له: " اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما عهد أبو بكر بن أبي قحافة إلى المسلمين " ثم أغمي عليه لشدة مرضه، وربما لكراهيته الاستخلاف، فأضاف عثمان إلى الكتاب وأبو بكر في غيبوبة: (فإني أستخلف عليكم عمر بن الخطاب ولم آل خيرًا) ثم أفاق أبو بكر فأقر ما كتب عثمان (٢١) . وبالرغم من أن بعض الصحابة يوم اشتد المرض برسول الله (ص) وقال لهم: " ائتوني بدواة وبيضاء أكتب لكم كتابًا لا تضلون بعدي أبدًا "، تنازعوا وارتفعت أصواتهم وقال عمر: " إن رسول الله (ص) قد اشتد به الوجع، وعندكم القرآن " فأمرهم الرسول (ص) بالخروج فلما ندموا ورجعوا إليه، وقد هموا بامتثال أمره، قال لهم: " دعوني فما أنا فيه خير مما تدعونني إليه " (٢٢) .
1 / 4
وبالرغم من أن الوصية لا تجوز في ما لا يملكه المرء، وأمر المسلمين ليس ملكًا لأبي بكر، كما أن وصية المرء في ماله لا تجوز إلا في الثلث، ولغير الورثة، وعند انتفاء الضرار، وبالرغم من أن الوصية بالاستخلاف أمر استحدثه أبو بكر اجتهادًا منه للمسلمين لرأي رآه غالبيتهم ونصحوا به، وألحوا عليه فيه، جمعًا للكلمة واتقاءً للفتنة، فإن المسلمين عندما تلقوا عهد أبي بكر لعمر، لم يتنازعوا كما تنازعوا عند رسول الله (ص)، وبايعوا عمر، وتجنبوا بذلك فتنة ما كانت لتذر أخضر ولا يابسًا. وعندما ولي عمر أمر المسلمين، سار على النهج نفسه، مكرسًا مساواة المسلمين في الحقوق والواجبات فلم يستأثر برأي، ولم يستكبر عن مشورة، وأبقى على مؤسسة الخلافة ملكًا للجميع سواسية. وهو وإن اعتمد في الفقه والقضاء والسياسة على آل البيت، فكان يستفتي عبد الله بن عباس على صغره، ويقول له: " غص يا غواص "، ويستشير عليًا في الأمر كله، ويقول عنه عندما نهاه عن رجم من ولدت لستة أشهر، وعن رجم المرأة الحامل: " لولا علي لهلك عمر "، فإنه سار في أمر توزيع المسؤوليات التنفيذية على نهج يبعد عنها بني هاشم، بإسناده أهم الولايات إلى غيرهم حذر أن تتحول المناصب جسرًا للاستئثار بالسلطة وتوارثها، لا سيما وهم أقرب الناس إلى استحقاقها. ثم لما حضرته الوفاة نصحه بعضهم باستخلاف ولده عبد الله (٢٣)، فأبى بشدة، وقال: "حسب آل الخطاب تحمل رجل منهم الخلافة، ليس له من الأمر شئ ". ثم التفت إلى ولده عبد الله فقال له: " يا عبد الله، إياك ثم إياك، لا تتلبس بها ". ثم كان آخر وصيته ألا يتحول أمر المسلمين إلى وراثة؛ فقال لعلي - رضى الله عنه -: " لعل هؤلاء القوم يعرفون لك حقك وشرفك وقرابتك من رسول الله (ص)، وما آتاك الله من العلم والفقه والدين فيستخلفوك، فإن وليت هذا الأمر فاتق الله يا علي فيه، ولا تحمل أحدًا من بني هاشم على رقاب الناس " وقال لعثمان: " يا عثمان لعل هؤلاء القوم يعرفون لك صهرك من رسول الله (ص) وسنك وشرفك وسابقتك، فيستخلفوك، فإن وليت هذا الأمر فلا تحمل أحدًا من بني أمية على رقاب الناس ". وما كان عمر ينوي أن يوصي لأحد، لولا إلحاح المسلمين وإصرارهم، فهو عندما طالبوه بالاستخلاف أول الأمر، قال لهم: " والله لا أحملكم حيًا وميتًا " (٢٤) . أما في أواخر عهد عثمان ﵁، فقد حاد نظام الحكم عن النهج الرشيد، واستبدت قبيلة الخليفة من وراء ظهره بالأمر؛ فبدأ السوس ينخر مؤسسة الخلافة من داخلها، وتغلب الانتماء العائلي على الانتماء للجماعة، فكانت الفتنة التي ذر قرنها باغتيال عثمان مظلومًا، ثم باغتيال علي شهيدًا. بعد أن رفض بإصرار أن يستخلف، اقتداءً منه برسول الله (ص)، الذي لم يستخلف كما أخرج ذلك أحمد في مسنده بتحقيق أحمد شاكر (٢/٢٤٢ رقم ١٠٧٨) بإسناد صحيح، عن الأعمش عن سالم بن أبي الجعد، عن عبد الله بن سبع،قال: " سمعت عليًا يقول: " لتخضبن هذه من هذا، فما ينتظر بي الأشقى؟ " قالوا: " يا أمير المؤمنين، فأخبرنا به نبير عترته "، قال: " إذن تالله تقتلون بي غير قاتلي "، قالوا: " فاستخلف علينا "، قال: " لا، ولكن أترككم إلى ما ترككم إليه رسول الله (ص) " قالوا: " فما تقول لربك إذا أتيته؟ "، وقال وكيع مرة: " إِذا لقيته "، قال: " أقول: اللهم تركتني فيهم ما بدا لك، ثم قبضتني إليك وأنت فيهم، فإن شئت أصلحتهم وإن شئت أفسدتهم ". ثم تحول أمر المسلمين بعد ذلك ملوكية وراثية استبدادية؛ على يد بني أمية سفيانيين ومروانيين، ومن رضي من دينه بأكلة دسمة أو دينار ذهب، أو درهم فضة. ثم وضع السيف في أمة محمد ﵊، وكل من أنكر بيده أو لسانه أو قلبه. وبذلك تحقق ما أخبر به (ص) بقوله: " لتنقضن عرى الإسلام عروة عروة، وأولهن نقضًا الحكم " (٢٥)؟ وقوله: " وإذا وضع السيف في أمتي لم يرفع عنها إلى يوم القيامة " (٢٦) . ولعل ما أصاب المسلمين إلى اليوم من محن بسبب فتنة الحكم، عقاب إلهي، لما تنازعوا أمام النبي (ص) عند احتضاره، ولا ينبغي عند نبي تنازع، ولعله لحِكَمٍ أخرى يعلمها الله وحده. وتربع معاوية على أريكة الملك الذي أسموه خلافة، وتخلص من مناوئيه بالسيف تارة، وبالرشوة أخرى؛ وشفى غيظ قومه باضطهاد آل البيت، وتسميم أعيانهم، ولعنهم على المنابر. ثم جمع الأتباع على بيعة ولده الفاسق " يزيد " (٢٧)، وأكره كرام الصحابة على ذلك تحت بارقة السيف؛ بل حتى عبد الله بن عمر ﵁ الذي بايعه وبايع يزيد، قتله الحجاج بن يوسف غيلة بأخس ما تتفتق عنه ذهنية شيطان (٢٨) . وخلف معاويةَ ولدُه يزيد، فشرب الخمر وجاهر بالفاحشة، وواصل قتل آل البيت واضطهاد الصحابة، واستباحة الحرمين الشريفين - مكة والمدينة -؛ فكان بذلك عهد بني أمية بابًا للفتنة الصماء التي هاجت وماجت بالأمة، ومازالت تعيث فيها إلى عصرنا الحاضر، وفيما يستقبل إن لم يتداركنا الله بالرشد، ويهدنا للعودة إلى نبع القرآن الكريم.
فترة الفتنة السياسية
انتقضت عروة الحكم على يد بني أمية، فلم يحل ذلك دون انتشار الإسلام وتوسع رقعته، وامتداد آفاق الفتح ونور الدعوة؛ لأن قوة الدفع وزخم الاندفاع من عهد النبوة بقيا فاعلين في جميع الميادين الدعوية والثقافية والسلوكية والجهادية لقرون عدة، مكث فيها الملوك والسلاطين في قصورهم بين الجواري والغلمان، وانصرف خلالها الصادقون إلى ما هو خير لهم من فتنة الحكم، إلى الفتح والدعوة وتبليغ رسالة الإسلام. فأسسوا حضارة، وأناروا قلوبًا وعقولًا، وامتد بذلك نفوذ الإسلام من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب. إلا أن هذه الاندفاعية أخذت تفقد قوتها بفساد السلطة، وابتعاد الأمة عن مركز الانطلاق، مكانًا وزمانًا، وثقافة وسلوكًا، وبمحاولات التشويه والتحريف والالتفاف على النصوص، ووضع الأحاديث والأخبار لأغراض سياسية. فتفرقت الأمة أحزابًا ومللًا ونحلًا واتخذت كل طائفة من الكتاب والسنة بتأويل يخدم هدفها، ومن الآثار الموضوعة والمنكرة والضعيفة مستندًا ومرجعًا؛ فأدى ذلك كله إلى الانشقاق في السلطة السياسية المركزية، وانفراط عقد الدولة الإسلامية الواحدة، وأخذت تظهر في أطراف المملكة الأموية ثم العباسية بعدها دويلات مستقلة؛ فظهرت في الغرب الإسلامي: دولةالأمويين بالأندلس سنة ١٣٩ هـ - ٧٥٦ م والأدارسة بالمغرب سنة ١٧٢ هـ - ٧٨٨ م والأغالبة بتونس سنة ١٨٤ هـ - ٨٠٠ م والطولونيين بمصر سنة ٢٥٤ هـ - ٨٦٨ م والفاطميين بمصر سنة ٢٩٨ هـ - ٩٠٩ م والإخشيديين بمصر سنة ٣٢٣ هـ - ٩٣٤ م والكلبيين بصقلية سنة ٣٣٦ هـ - ٩٤٧ م
1 / 5
ودول أخرى كالمرابطين، والموحدين، والمرينيين، والوطاسيين، والسعديين والحفصيين والزيانيين، وأخريات مكروسكوبية لا تكاد تذكر أو تظهر. وفي الشرق الإسلامي ظهرت: الطاهرية بخراسان سنة ٢٠٥ هـ - ٨٢٠ م والصفارية بفارس سنة ٢٥٤ هـ - ٨٦٨ م والزيارية بجرجان سنة ٣١٦ هـ - ٩٢٨ م والسامانية بفارس وما وراء النهر سنة ٢٦١ هـ - ٨٧٤ م والبويهية بفارس سنة ٣٢٠ هـ - ٩٣٢ م والغزنوية بأفغانستان والهند سنة ٣٦٦ هـ - ٩٧٦ م والمزيدية بالجزيرة وما بين النهرين سنة ٤٠٣ هـ - ١٠١٢ م والمرداسية بحلب سنة ٤١٤ هـ - ١٠٢٣ م والسلجوقية بإيران وبلاد الروم سنة ٤٢٩ هـ - ١٠٣٧ م والأرتقية بماردين وديار بكر سنة ٤٨٣ هـ - ١٠٩٠ م والخوارزمية بإيران سنة ٥٣٣ هـ - ١١٢٧ م والأيوبية بمصر سنة ٥٦٧ هـ - ١١٣٨ م والمملوكية بمصر والشام سنة ٦٤٨ هـ - ١٢٥٠ م ثم بعد الغزو المغولي قامت دويلات ضعيفة لا تكاد تعرف أو تؤثر، وبقي أمر المسلمين في تآكل وانهيار مستمرين، برغم قيام مملكة آل عثمان وجهودها التوحيدية؛ إلى أن سقطت البلاد كلها بيد الاستعمار الأوربي الصليبي غربًا، والسيطرة الروسية قيصرية وشيوعية شرقًا، ثم بعد حين أعلن الاستقلال في إطار دول قطرية غرست فيها جميع مفاسد المستعمرين، وعريت عن كل محاسنهم، وتحكمت فيها أنظمة يعرف رؤساؤها أنفسهم، وتعرفهم شعوبهم، وما لعطر بعد عرس من خفاء.
عصر المؤلف
كان لزامًا أن نقدم بهذا الموجز المختصر لمسيرة الأمة في الميدان السياسي، منذ تخلت مكرهة عن نظام الشورى، بما فيها من ضمانات الوحدة والتكافؤ والمساواة، وحرية الرأي والاختيار والتعلم والعمل والكسب. وقد اكتفينا بالخطوط العريضة، لأن من التطويل الممل الاستطراد بالجزئيات والتفاصيل؛ كاستعانة الحكام بمرتزقة الأجناس والأديان، وحرصهم على احتكار الأموال والأقوات، وانكبابهم على المتع الحسية المحرمة، وعدم تورعهم عن قتل آبائهم وأبنائهم وأرحامهم وخيانة عهودهم في سبيل الملك، وغير ذلك مما لا يتسع المقام لذكره، وإن كان من عوامل الانحطاط والتفسخ أيضًا. أما إيجابيات العصور الإسلامية في مجالات العلوم والفنون والآداب والحكمة والفقه والأصولين، والحديث والتفسير والتاريخ وغيرها، فإنها لم تكن أبدًا ثمرة للنظم الحاكمة، وإن تبنتها في بعض العصور لأغراض سياسية؛ بل كانت بفضل جهود المستضعفين من جمهور الأمة، الراغبين عن الأبواب، المبتعدين بدينهم ودنياهم عن مواطن الفتن. ولئن كان قلة من الفقهاء قد ركنوا إلى السلطة وأهلها فلكل منهم تأويله الخاص.
1 / 6
وإذا ما اتجهنا إلى عصر المؤلف - الثامن الهجري، الرابع عشر الميلادي - لدراسة بيئته التاريخية، ألفيناه ينقسم سياسيًا إلى ثلاث مناطق تختلف عن بعضها شكلًا، وتتشابه في التمزق والتآكل والانحطاط مضمونًا. فهناك صدر الوطن الإسلامي أو قلبه - مصر والشام، وكان بيد المماليك الترك والشركس، البحرية ثم البرجية. وهناك الغرب الإسلامي، الأندلس التي كانت تحتضر، وأقطار المغارب - طرابلس وتونس والجزائر والمغرب - التي تموج بحروب زناتة وبني هلال (٢٩) وسليم (٣٠) ومعقل (٣١) ورياح (٣٢) وحفص وغيرهم. ثم هناك شرقًا، الأرض المحروقة بعد الغزو المغولي، ما وراء النهرين،حيث إيران والهند والسند، وأفغانستان وما إليها؟ .
الشام ومصر
المماليك لغة: الأرقاء، ج مملوك، وهم حكام مصر والشام في هذا العصر. وظاهرة حكم المماليك في الدولة الإسلامية من الظواهر الغريبة التي ندر حدوثها في التاريخ؛ وإن كانت الأحداث التي سبقتها قد مهدت لها طبقًا لسنن الاجتماع البشري وقواعده. ونظام الرق معروف لدى جميع الشعوب، ومنهم العرب. وكان مصدره التقليدي الأسر في الحروب، والقرصنة والاختطاف من البلاد النائية والبدائية؛ لا سيما في فترات المجاعة والكوارث الطبيعية. وعندما بعث الرسول (ص) وجد نظام الرق أحد أهم دعائم الاقتصاد في المجتمع الجاهلي، فوضع الإسلام لتصفيته تشريعات متدرجة، كفيلة بتصفيته. أغلق أولًا باب الرق مما سوى الحروب التي كانت خاضعة لقانون المعاملة بالمثل، وحرم الاسترقاق بالاختطاف والقرصنة ومختلف أساليب التعدي (٣٣)، ثم كفل للأسرى - الرقيق الحربي - مجالًا واسعًا إنسانيًا، يتمتعون فيه بحريتهم الدينية والفكرية والعلمية والإنتاجية، وحقوقهم البشرية زواجًا وطلاقًا وإنجابًا وكسبًا، وهو ما لم توفره لحد الآن، أمة من الأمم للأسرى على مدار التاريخ؛ كما فتح لتحريرهم من الرق أبوابًا أخرى لم تفتحها لهم أمة أبدًا، عتقًا بمختلف الكفارات، وعتقًا إذا اعتدي عليهم بالضرب أو اللطم، وعتقًا بالتطوع والفداء، والمن والمكاتبة. وسار التشريع الإسلامي في هذا المجال إلى أبعد الحدود، فجعل هزل العتق جدًّا، حفاظًا على كرامة الأسرى وحماية لهم من الهزل والسخرية. ولو استمرت أحوال المسلمين طبقًا لما شرعه الإسلام في هذا المجال، لصفي الرق في وقت مبكر من تاريخ الإنسانية. لكن ملوك المسلمين استطابوا خدمات الرقيق إناثًا وذكورًا، وضربوا بتعاليم الإسلام في أمره عرض الحائط، وشجعوا استجلابه بكل الوسائل والطرق غير الشرعية وغير الإنسانية، واستخدموا العبيد والإماء في خدمات الأرض، والفلاحة والإسطبلات والبيوت، وفي الأعمال (الترفيهية) غناء ورقصًا؟. برز هذا الاتجاه في عهد المعتصم العباسي (٣٤)، وكانت أمه تركية، حيث اعتنى باقتناء أطفال الترك واستخدامهم في حرسه وجنوده، اتقاء لخطر العرب الساخطين، والفرس الناقمين؛ وكان يجلبهم من أقاليم ما وراء النهر، من سمرقند وفرغانة والسند، وأشروسنة والشاش والقوقاز، فبلغ ما اقتناه منهم بضعة عشر ألفًا حكم بهم البلاد، ثم ما لبث هذا الجيش أن صار وبالًا على العباسيين أنفسهم. وعقب ذلك نشط سوق الرقيق لدى جميع الدويلات المنشقة عن السلطة المركزية، فاتخذه الطولونيون والإخشيديون والأيوبيون، وغيرهم في مشارق الوطن الإسلامي ومغاربه؛ ولم يقتصر امتلاكه على الملوك والسلاطين، بل شغف به قادة الجيش والأمراء والأغنياء والفقهاء، حتى صار الرق سمة رقي ورفعة ونبل؛ فاتسعت مصادره باتساع تجارته، وشملت أعالي نهر جيحون وخوارزم ونيسابور ومرو، وبلغاريا العظمى الممتدة من بحر قزوين إلى الأدرياتيكي، عبر ميناء الدربند - باب الأبواب - عاصمة أذربيجان، وجميع طرق التجارة في ذلك العصر، كما اتخذت ألمانيا وإيطاليا وفرنسا والأندلس والسلوفاك وبولونيا وروسيا والقسطنطينية طرقًا أخرى لهذه التجارة؛ ونشط اليهود - كعادتهم - في هذا المجال، خاصة يهود سكسونيا الشرقية، وأنشؤوا مراكز تجمع للرقيق، ومراكز خصاء، وأسواق نخاسة خاصة للكبار والأعيان، وأسواقاعامة لغيرهم. وكان " السادة " يتسلَّمون مماليكهم أطفالًا، ويسلمونهم في أوقات فراغهم من الخدمة إلى فقهاء يربونهم على الإسلام ويحفظونهم القرآن الكريم، ثم يلحقونهم بدورات للتدريب على الفروسية والقتال، ثم يلتحقون بالخدمة العسكرية، ويرقون فيها بالتدريج، من الإسطبلات إلى الحراسة الأمنية، إلى قيادة عشرة، إلى إمارة السرايا والجيوش، إلى الإمارة على بعض المرافق السلطانية. وشكلت فرق المماليك في عهد الفاطميين قوة هائلة كبحت جماح العناصر العربية في كل المجالات. ثم بعد تصدع دولة السلاجقة (٣٥) نجح مماليكهم " الأتابكة (٣٦) " في إقامة عدد من الدويلات، مثل أتابكية دمشق، وأتابكية الموصل وأتابكية أرمينية، وأتابكية أذربيجان؟. ثم قامت دولة نجم الدين أيوب (٣٧) في مصر، واستكثر من المماليك الأتراك، وكون منهم معظم جيشه؛ فلما مات وقتل ولده توران (٣٨)، خلفته على سلطنة مصر سنة ٦٤٨ هـ - ١٢٥٠ م، حظيته المملوكة شجرة الدر، فتزوجت وزيرها المملوك عز الدين بن أيبك؛ وبعد أن قَتَلَتْ زوجَها ثم قُتِلَتْ عقبه، تتابع المماليك على سلطنة مصر إلى سنة ٩٢٣ هـ - ١٥١٦ م وكان منهم في عصر المؤلف - النصف الأول من القرنين الثامن الهجري، والرابع عشر الميلادي - على التتابع، ابتداء من سنة ٦٩٨ هـ - ١٢٩٩م: ركن الدين بيبرس الثاني - الناصر محمد بن قلاوون - المنصور بن الناصر - الأشرف علاء الدين كجك بن الناصر - شهاب الدين بن الناصر - الصالح إسماعيل بن الناصر - شعبان الأول بن الناصر - حاجي الأول بن الناصر - الحسن بن الناصر - صلاح الدين بن الناصر - الحسن بن الناصر في ولايته الثانية التي دامت من ٧٥٥ هـ - ١٣٥٤ م، إلى سنة ٧٦٢ هـ - ١٣٦١ م، وفي عهده توفي المؤلف نجم الدين الطرسوسي سنة ٧٥٨ هـ. وكون المماليك في مصر عصبية متينة لا عهد للأمة الإسلامية بها، هي عصبية الرق، بعد أن تفتتت عصبية الدين مللًا ونحلًا، وعصبية الدم قبائل وشعوبًا؛ وساعد على تقوية عصبية الرق وتمتينها عدة عوامل، أهمها الحياة القاسية التي عاشها المماليك في صغرهم؛ فقد اختطف أكثرهم وانتزعوا من أسرهم صبية، وذاقوا مرارة الغربة والشتات والرعب، وتجرعوا قسوة الخصاء والنخاسة، ومهانة الاستخدام لدى الأمراء والأغنياء، وتناقض الدين الجديد الذي لقنوه مع واقع الأسياد الذين انتحلوه، فجففت هذه المحن قلوبهم من الرحمة واللين، والوفاء والشفقة، وملأتها حقدًا على غيرهم، سواء من الأسياد، أو من الشعوب العربية الخانعة لهؤلاء الأسياد. فلما استولوا على السلطة كونوا من بني (رقهم) جيشًا ضاربًا قويًا، وتمسكوا بالحكم، ودافعوا عنه بشدة؛ وكان منهجهم في ذلك القتل بالشبهة، والاستئثار بالأموال والإقطاع وسائر الخيرات، وترك العامة لمصيرهم المظلم جوعًا وفاقة وجهلًا ومرضًا؛ واستعانوا بطائفة من الفقهاء في الميادين المتعلقة بشؤون العامة، قضاء وحسبة وأوقافًا ووعظًا وتدريسًا، وتنفيذًا للشريعة مواريث وأنكحة وحدودًا وتعازير.
1 / 7
فكان الحكم في هذا العهد بين طائفتي المماليك والفقهاء، المماليك في السلطة والسياسة والمال والقوة العسكرية، والفقهاء في الشرع وأحكامه، وتوظيف استنباطاته لترويض العامة وحملهم على طاعة ولي الأمر. كما استحدث المماليك أسلوبًا شيطانيًا لضمان ولاء الفقهاء وضبطهم والتحكم فيهم، أسلوبًا مبنيًا على التفرقة وتسليط بعضهم على بعض، وإخضاع بعضهم ببعض، فعينوا لكل مذهب من المذاهب السنية الأربعة قاضي قضاة له نواب في المناطق النائية. (٣٩) ووزعوا قضاء العسكر والحريم والأوقاف والنظارة والحسبة على فقهاء السنة، وحرضوهم على بقايا التشيع التي تركها الفاطميون في المنطقة؛ فكان الرجل ينتقد الفساد المستشري، فيتهم بشتم الصحابة أو التشيع، وتقام عليه الحجة بعدول (٤٠) (الوقت)، ثم يحال على القاضي المالكي الذي يجيز قتل ثلث الأمة استصلاحًا. ثم أذكوا نار التحاسد والبغضاء بين فقهاء السنة أنفسهم، وألقوا إليهم الأموال، فتكونت من بعضهم طبقة من الأثرياء لا هم لهم إلا التنافس على ثلاثة مكاسب دنيوية: أيهم أكثر ولاء للمماليك واستنباطًا للأحكام التي تضفي الشرعية على نظامهم وتصرفاتهم، فيزداد قربًا منهم وتمكينًا لديهم، وأيهم يكون أكثر أموالًا وأتباعًا من غيره، وأيهم يؤلف الكتب ويهديها إلى كبار رجال السلطة فترتفع منزلته عندهم. ثم استحدث المماليك سلاحًا آخر لضبط العلماء، هو عبارة عن مجالس تأديبية منهم، لمحاكمة بعضهم بعضًا؛ فكان الفقيه إذا أظهر تأففًا أو إنكارًا لمنكر، أو بدا منه ما يشير إلى صحوة ضمير، استغلت خلافاته الفقهية الاجتهادية مع منافسيه وخصومه من الفقهاء، وانتحلت له تهمة مخالفة الشرع، وعقد له مجلس من قضاة المذاهب وفقهائها، ثم عوقب تشهيرًا أو جلدًا أو سجنًا؛ وقد ذهب ضحية هذه الأساليب القمعية أعيان من الفقهاء المجتهدين الأفذاذ، على رأسهم ابن تيمية (٤١) ﵀. إن عصر المماليك هذا كانت له آثار سلبية مدمرة، في عدة ميادين اجتماعية واقتصادية وثقافية، إلا أن منجزاته في مجال الدفاع عن أرض الإسلام كانت إيجابية ورائعة وليس لها مثيل؛ ذلك أن الحياة القاسية التي عاناها المماليك في صباهم، والتربية الدينية والعسكرية التي نُشِّئوا عليها، كونت منهم مقاتلين أشداء، وفرسانًا أقوياء، ومدافعين عن سلطانهم مستميتين؛ واجهوا المغول وألحقوا بهم الهزائم، وأوقفوا زحفهم، وواجهوا بقايا الصليبيين في الشام، وأجلوهم عن المنطقة نهائيًا. وفي الوقت الذي انحسر فيه النفوذ العربي عن السلطة في مشارق الوطن ومغاربه، وانكفأ العرب في غمار العامة المستضعفين، قيض الله للأمة هذه الطائفة من الأعاجم الغرباء، قاتلوا أعداءها وجاهدوهم، فأبلوا في ذلك البلاء الحسن. وإذا ما استعرضنا الوضع العسكري في ظروف قيام دولة المماليك، تبين لنا أن البلاد كانت بين مطرقة المغول شرقًا، وسندان الصليبيين غربًا؛ فنصارى أوربا برغم هزيمتهم على يد صلاح الدين، بقيت لهم في الساحل الفلسطيني حصون ومستعمرات كثيرة، مثل طرابلس وصور وحيفا وصيدا وغيرها؛ كما ظلت الحملات الصليبية تتوالى على الشام ومصر وسواحل إفريقية؛ فكانت الحملة الصليبية الثالثة بقيادة ملك ألمانيا هنري السادس سنة ٥٩٤ هـ - ١١٩٧ م، والحملة الرابعة بجنودها من ألمانيا وفرنسا وإنجلترا سنة ٥٩٨ هـ - ١٢٠٢م، والحملة الخامسة بقيادة لويس التاسع وجان دي بريين ملك بيت المقدس (٦١٦ هـ - ١٢١٩م)، والحملة السادسة بقيادة ملك صقلية فريدريك الثاني، بعد أن دعاه الملك الكامل محمد ليسلم إليه ثانية بيت المقدس، نظير أن يساعده ضد أخيه المعظم عيسى (٦٢٤ هـ - ١٢٢٧ م)؛ ثم استرجع بيت المقدس منهم الناصر داود في ٦ جمادى الأولى سنة ٦٣٧ هـ - ١٢٤١ م، والحملة السابعة التي قادها لويس التاسع على مصر سنة ٦٤٦ هـ - ١٢٤٨م وانتهت بهزيمته وأسره، على يد القائد المملوكي بيبرس البندقداري (٤٢) . وفي أول عهد المماليك أيضًا (١٩ محرم ٦٥٦ هـ - ١٢ /٢/ ١٢٥٨م)، دخل المغول (٤٣) بقيادة هولاكو بغداد واقتحموا أسوارها، وأحاطوا بقصر الخليفة المستنصر العباسي يرشقونه بالنبال، فلم يشعر الخليفة بسيطرتهم على مقر الخلافة إلا بعد أن أصيبت بسهم من النافذة، جاريته " عرفة " التي كانت ترقص أمامه وتضاحكه، كما ذكرذلك ابن كثير في البداية والنهاية (٤٤) . وبدلًا من أن يناصر حكام المسلمين بعضهم في هذه المحنة، أرسل سلطان دمشق الناصر بالهدايا إلى هولاكو ببغداد، والتمس منه المساعدة على استخلاص مصر من المماليك، فكان جواب هولاكو أن غزا ديار بكر وآمد، وحران والبيرة وحلب وفتحها قهرًا، ثم حاصر دمشق فهرب الناصر، وسلمها أعيان الفقهاء إلى المغول، نظير وعود كاذبة لم يوف بها (٤٥) . هذا هو الوضع العسكري الذي وجد المماليك أنفسهم فيه؛ ولكنهم كانوا أهلًا لمقارعته ومغالبته. فما أن استتب الأمر للمملوك قطز (٤٦) حتى أخذ في جمع الأموال والأقوات وتجييش الجيوش والتحريض على الجهاد؛ ثم توجه لقتال المغول ببطولة نادرة، فهزمهم بعين جالوت يوم الجمعة ٢٥ رمضان ٦٥٨ هـ - ١٢٦٠م، ثم ضم عقب ذلك الشام من الفرات إلى سلطنة مصر. وواصل خلفه بيبرس بنفس الشجاعة والإقدام مقاومته المغول، وجحافل الصليبيين، وحلفائهم الأرمن والحشاشين الباطنية، فافتتح ما يقرب من ستين بلدًا وحصنًا. وكانت معاركه ضد الصليبيين ٢١ معركة، وضد التتار ٩ معارك، وضد الأرمن ٥ معارك، وضد الحشاشين ثلاث معارك، انتصر فيها كلها. وفي عهد خلفه قلاوون استرد حصن المرقب، وأسقطت إمارة طرابلس الصليبية. وفي عهد ابنه الأشرف فتحت عكا سنة٦٩٠ هـ، واستردت صور وحيفا وعتليت وانطرسوس وصيدا؛ وانتهى بذلك الوجود الصليبي في الشام. وفي بداية القرن الثامن الهجري (٢ رمضان ٧٠٢ هـ)، حقق الجيش المملوكي نصرًا آخر مؤزرًا على المغول في مرج الصفر عند قرية شقحب قرب دمشق، فتوقف بذلك المد المغولي عند العراق وفارس. وبعد إجلاء الصليبيين عن الشام، اتخذوا من جزر قبرص وأرواد ورودس، قواعد لتوجيه العدوان على الشواطئ الإسلامية، بقيادة بطرس الأول ملك قبرص، وفرسان رودس والبندقية، في سنتي ٧٦٧ هـ، ٧٦٨ هـ؛ فتصدى لهم المماليك وردوهم. ثم عقدت بين الطرفين معاهدة صلح سنة ٧٧٢ هـ - ١٣٧٠م. وكانت أهم نتائج جهاد المماليك دحر الأعداء المتكالبين على الأمة من شرقها وغربها، وتوحيد الشام بمصر؛ وهذا بحق أعظم إنجاز تحقق في تلك العصور (٤٧) .
الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية
في عهد المماليك
جمع المماليك بين طرفي نقيض، الرق والإمارة؛ وتعايشت في نفوسهم نزعتا الشعور بالاضطهاد الذي نالهم في صباهم، والاعتزاز بالجاه الذي نالوه في كبرهم، فولَّدَ ذلك لديهم حقدًا واستكبارًا على الأمة التي استعبدتهم صغارًا، وخضعت لهم كبارًا. واحتفظوا - نتيجة هذا الشعور - بمميزاتهم الشخصية والعرقية، ولغتهم الأجنبية ومجالسهم العائلية، فلم يختلطوا بالعامة ولم يثقوا بهم، وعاشوا حياة مزدوجة، حياة السكر والعربدة والفساد وارتكاب المنكرات، واغتصاب الأعراض والأموال في خفي أمرهم، وحرصوا على الظهور أمام العامة بمظهر حماة الدين؛ فشيدوا المساجد والمدارس وأكثروا من الأوقاف الخيرية والدينية والثقافية، وأرسلوا الهدايا والأموال وأغطية الكعبة في المحامل المهيبة إلى الحرمين الشريفين، وتزوجوا بنات الفقهاء والعلماء والقضاة. ولكن نفقات أعمال البر لديهم كانت كلها من الأموال المغتصبة، والممتلكات المصادرة، والأراضي الزراعية التي انتزعوها من أصحابها وحولوها إقطاعًا.
1 / 8
وقد استعانوا في ضبط مملكتهم بثلاث فئات: فئة الجيش الذي وزعت عليه أحسن الأراضي الزراعية إقطاعًا، والذي بيده العقوبات السلطانية، التي استحدثت لها أساليب للتعذيب لا تخطر على ذهن بشري سوي؛ فالتوسيط والعصر واستئصال الأعضاء جزءًا جزءًا من أهون ضروبها وأنواعها. وقد ذكر ابن تغري بردي في " النجوم الزاهرة ٩/٣٢٣ " أن الرجل كان ينعل بالحديد كما تنعل الخيل والحمير، أو يعلق بيديه وتعلق عليه الأثقال حتى تنخلع أعضاؤه ويموت. كما ذكر ابن كثير في " البداية والنهاية ١٤/٢٦٥ " أن المماليك عندما أوقعوا بقرية حوران، أمروا بقطع رؤوس القتلى وتعليقها في أعناق الأسرى، ثم ساقوهم إلى الأمير، فكان الأسير إذا أعيى قطع رأسه وعلق في عنق صاحبه، حتى إنه علق في عنق أب شيخ كبير رأس ولده الذي قطع أمام عينه. وفئة الفقهاء الذين بيدهم العقوبات الدينية، التي تطبق فقط على المستضعفين من العامة؛ وقد جعلت لهذه الفئة الرواتب المغرية، وأطلقت أيديها في أموال الأوقاف والأيتام، والصدقات والقضاء والحسبة والرشوة؛ فأصبح تعلم الفقه وعلومه وسيلة أمام أبناء المستضعفين والفقراء للخروج من الفاقة، فكثر عدد الفقهاء والمتفقهة وترفت أحوالهم ونعموا بطيب العيش. والفئة الثالثة هي طبقة الإداريين والمحاسبين الماليين؛ وكانوا ينتقون من أهل الذمة يهودًا ونصارى، ثقة في ولائهم وكفاءتهم وقدرتهم على ابتداع أساليب جلب الأموال من العامة بدون رحمة؛ وقد أطلقت أيديهم كذلك في أموال الأمة فازدادوا غنى وثراء. أما الجماهير المغلوبة على أمرها، الشعب المقهور، الخائف الجائع، الذي لا ينظر إليه بأي نظرة تميزه عن الحيوان إلا بكونه مصدرًا لجمع الأموال السلطانية، فإنه أخذ يبادل الطبقة الحاكمة مماليك وفقهاء وإداريين احتقارًا باحتقار، وازدراء بازدراء، وإذ أطلق عليه حكامه لقب " الفلاحين " أطلق على السلاطين وجنودهم لقب " المماليك والجلبان والأجلاب "، وعلى الفقهاء والقضاة لقب " أهل العمامة "، لأن عمائمهم كانت أكبر من عمائم غيرهم، وكانت تتناسب في حجمها تناسبًا طرديًا مع رتبهم ومنزلتهم لدى الحكام، وعلى الإداريين من أهل الذمة لقب " أرباب الأقلام ". أما أساليب جمع الأموال فكانت تبدأ من المصادرة المباشرة، والعقوبات المالية التي يبيع لها الناس بناتهم في السوق، كما ذكر ابن كثير في " البداية والنهاية ١٤/٢٦٩ "، وتمر عبر ما سموه " الحقوق السلطانية والمعاملات الديوانية "، التي تشمل فرض دينار على كل مواطن ذكرًا أو أنثى، فقيرًا وغنيًا، وأجرة شهر عن الأملاك والأوقاف والغيطان والسواقي، وزكاة الأموال معجلة، وثلث أموال الأجانب المقيمين، ناهيك عن عصابات المماليك والجلبان التي تجوب الأسواق للنهب والتخريب، في فترات المجاعة والكوارث الطبيعية (٤٨) . حتى الدعارة نظموها وجعلوها تحت إشراف قيمة مسؤولة عنها، أطلقوا عليها لقب "ضامنة المغاني "؛ ومن المضحك المبكي أنها هي نفسها جعلوها أيضًا مسؤولة عن الواعظات والقارئات ومحترفات النياحة في المآتم، وفرضوا على كل واحدة منهن ضريبة لخزانة السلطان؛ واتخذت للدعارة بيوت خاصة وأحياء وشوارع معينة، فكان الذي يخطئ الطريق ويمر منها يرغم على ارتكاب الفاحشة، فإن رفض فدى نفسه بمال. وكان من نتيجة هذا الوضع ازدياد نفوذ الجواري والإماء والمغنيات والداعرات في قصور السلاطين، إلى حد كنّ فيه يشاركن في أمور الدولة، ويرفعن ويخفضن، وتقدم إليهن الهدايا والرشاوى، حتى إن الأمير الحاج ملك، نائب السلطنة، كان إذا سأله أحد شيئًا قال له: " يا ولدي، رح باب الستارة، أبصر طواشي، أو توصل لبعض المغاني، تقض حاجتك " (٤٩) . أما عن الحياة الثقافية، فقد اعتورت اللغة العربية هنات وهنات، واختلطت باللغات الأعجمية السائدة، وعمت الركاكة الشعر والنثر، وإن كان المتأدبة والأدباء أكثر في هذا العصر من غيره، لأن الأدب لم يعد حرفة للتكسب بقدر ما صار نوعًا من الظرف والكياسة؛ إلا أن العلوم الدينية نفقت سوقها وكثر مريدوها، فكان هذا العصر أزهى عصورها وأكثرها علماء وفقهاء وجهابذة، من أمثال ابن كثير (٥٠)، وابن القيم (٥١)، والزركشي (٥٢) ومن في طبقتهم؛ وما ذلك إلا رد فعل للنكبة التي أصابت المسلمين بالغزوين الصليبي والمغولي، حيث قتل العلماء وأحرقت المكتبات، وضاعت مئات آلاف الكتب القيمة حرقًا على يد المغول، أو نقلًا إلى أوربا على يد الصليبيين؛ كما كان للمكانة العظمى التي حظي بها العلماء في السلم الاجتماعي أثر بليغ في ازدهار الثقافة الإسلامية ونضجها، باستثناء ما يتعلق بالأحكام السلطانية وسياسة الحكم، أو أبحاث الإمامة العظمى، فإنها لم تتطور، وظلت أسيرة الولاء للحاكم، وتبرير أعماله وإضفاء الشرعية على نظامه، دفعًا للفتن وتجنبًا للمحظور الأكبر، بارتكاب المحظورات الصغرى كما يعبر عنه لدى بعض الفقهاء. ولعل هذا هو سبب تغاضي أنظمة العصر الحديث، عن عملية إحياء التراث الفقهي لعصر المماليك وطبعه ونشره، وعدم التعرض له بالمصادرة والمنع؛ ذلك أن تجاهل هذا التراث للقضايا السياسية إلا من زاوية الحث على طاعة أولي الأمر ولو جاروا أو فسقوا، والصحوة الإسلامية الحالية العطشى إلى الثقافة الإسلامية، مما شجع الحكام على التسامح معه، وشجع دور النشر ومحققي التراث على الإقبال عليه.
الغرب الإسلامي
هذا الجناح كان يشمل الأندلس والشمال الإفريقي المجزأ إلى ثلاثة مغارب: الأقصى وبه المرينيون، والأوسط - تلمسان - وبه بنو عبد الواد، والأدنى - بجاية وقسنطينة، وتونس - وبه بنو حفص.
الأندلس
بعد هزيمة الموحدين في موقعة العقاب (٥٣)، ضعف شأن أمرائهم في الأندلس وصاروا إلى التنافس واستظهار بعضهم على بعض بالنصارى، فاتفق رجالات الأندلس على إخراجهم. وتولى بعدهم محمد بن هود الجذامي وآله. ثم بنو الأحمر. وتنازع بنو هود فيما بينهم، وأخذوا بدورهم يتقربون إلى النصارى ويتحالفون معهم ضد بعضهم، فضاعت بذلك ثغور كثيرة، منها قرطبة وإشبيلية. وبعد انقراض بني هود، استمر بنو الأحمر إلى آخر المائة التاسعة للهجرة، وكان أول ما قاموا به عندما استتب لهم الأمر، أن عقدوا صلحًا مع النصارى تنازلوا بمقتضاه عن جميع البسائط الأندلسية، وانحازوا إلى ساحل البحر واتخذوا من غرناطة عاصمة لمملكتهم. ثم عندما ضاق بهم الأمر استنجدوا بيعقوب المريني سنة ٦٧٣ هـ. فاجتاز إلى الأندلس وأوقع بالنصارى، وقتل قائدهم (دون نونه)، وأرسل برأسه إلى محمد بن الأحمر تثبيتًا له وطمأنة. ولكن ابن الأحمر دبت في نفسه الظنون والمخاوف؛ فطيب رأس القائد النصراني وأكرمه، وبعث به إلى العدو، إظهارًا للولاء لهم، وخوفًا منهم، وانحرافًا عن السلطان يعقوب. ولما اجتاز يعقوب اجتيازه الثاني إلى الأندلس سنة ٦٧٦ هـ، وحاصر "جيان " وطلب صاحبها الصلح بعد أن أشرف على الهزيمة، صالحه ابن الأحمر.
1 / 9
وعندما استنجد ملك الإسبان (هراندة) على ولده (سانجه) بيعقوب، ورهن عنده تاجه، وقبل يده أمام الملأ، تحالف ابن الأحمر مع (سانجه) ضد جيوش المسلمين؛ ثم لما رأى انتصارات المسلمين رجع وصالحهم. وعندما كان وفد يعقوب في مجلس ملك الإسبان للتفاوض على الصلح، وصل وفد بني الأحمر وعرض التحالف ضد المسلمين، فما كان من ملك الإسبان إلا أن ردهم ردًا مهينًا أمام وفد السلطان المريني قائلًا لهم: " إنما أنتم عبيد آبائي، فلستم معي في مقام السلم والحرب وهذا أمير المسلمين على الحقيقة ولست أطيق مقاومته ولا دفاعه عن نفسي، فكيف عنكم؟ ". ومع ذلك عامل يعقوب بني الأحمر بمنتهى الرفق والتسامح الذي هو أقرب إلى الضعف والغباء السياسي. فما أن هم بالعودة إلى المغرب حتى أمر بألا يحدث ضرر ببني الأحمر، وتنازل لهم عن كثير من الثغور الأندلسية ما عدا الجزيرة ورندة، وكان ذلك سنة ٦٨٥ هـ. ولما نقض (سانجه) معاهدة الصلح، وأغار ثانية على ثغور المسلمين سنة ٦٩٠ هـ، حاول يوسف بن يعقوب المريني الاجتياز إلى الأندلس، فتصدى له (سانجه) في المضيق وهزمه. ثم لما حاول الاجتياز ثانية تحالف بنو الأحمر مع (سانجه) لمنع المسلمين من المرور إلى الأندلس. ثم اتفق بنو الأحمر مع ملك الإسبان (سانجه) على تمكين النصارى من احتلال جزيرة (طريف) التي كانت مركزًا عسكريًا مرينيًا، على أن يسلموها لبني الأحمر في مقابل ستة حصون سلموها من قبل للنصارى. ولكن (سانجه) عندما احتل طريف احتفظ بها وبالحصون الستة الأخرى. فندم بنو الأحمر وطلبوا الصلح مع يوسف المريني فصالحهم أيضًا. وتنازل لهم - تقوية لهم - عن الجزيرة ورندة وعشرين حصنًا أندلسيًا سنة ٦٩٢ هـ. وفي سنة ٧٠٣ هـ عاد بنو الأحمر إلى ممالأة النصارى. كما أوعزوا إلى أبي سعيد صاحب مالقه بأن يغدر بأهل سبتة ففعل واستولى عليها. وفي سنة ٧٠٩ هـ عندما استرد أبو الربيع المريني سبتة خاف بنو الأحمر وأرسلوا وفدًا للصلح إلى فاس، فقبل المرينيون. ولكن رسل الأندلس (مثلوا قومهم خير تمثيل)، فعكفوا أثناء سفارتهم في فاس على معاقرة الخمر، والمجاهرة بارتكاب الفواحش، وخرجوا إلى شوارع المدينة يعيثون ويعبثون بالعامة. فأقام القاضي الحد على بعضهم، فغضبوا وثاروا مستعينين بالوزير عبد الرحمن الوطاسي، وكتيبة مرينية من مرتزقة النصارى بقيادة (غنصالو)، ثم تجيشوا قرب نهر سبو. فخرج إليهم أبو الربيع ففروا إلى تلمسان وتفرق شملهم. في هذه الظروف كان المسلمون بالأندلس قد يئسوا من بني الأحمر فتولوا تنظيم الدفاع عن بلدهم بأنفسهم، بحرب شعبية يقود كتائبها المجاهد عثمان بن أبي العلاء. فأوقعوا بالنصارى أفدح الهزائم. وفي سنة ٧١٨ هـ استغل النصارى فرصة انشغال أبي سعيد المريني بالفتن الداخلية فزحفوا على عاصمة بني الأحمر "غرناطة "، فاستنجدوا بأبي سعيد، فطلب نظيرًا لنجدتهم تسليمه قائد المجاهدين عثمان بن أبي العلاء. فلم يستطيعوا تلبية رغبته فرفض نصرتهم ولكن غرناطة نجت من الغزو الصليبي هذه المرة بدفاع عثمان بن العلاء عنها وقتله قائدي جيش النصارى، جوان، وبطره بن سانجه. وواصلت كتائب المجاهدين ضربها في عمق النصارى، وإلحاق الهزائم بمعسكراتهم إلى أن غدر بهم بنو الأحمر فقبضوا عليهم ثم نفوهم إلى تونس. وفي سنة ٧٤٠ هـ أرسل السلطان أبو الحسن المريني ولده أبا مالك لمقاتلة نصارى الأندلس فهزموه وقتلوه. وفي آخر سنة ٧٤٠ هـ عسكر أبو الحسن المريني نفسه بجزيرة طريف فغزاه النصارى وهزموه، فرجع إلى المغرب، ثم غزوا الجزيرة واحتلوها وأجلوا المسلمين عنها إلى المغرب. فاستنجد أبو الحسن بالسلطان إسماعيل بن قلاوون المملوكي في مصر، فلم ينجده، وأرسل إليه جوابًا من إنشاء خليل الصفدي شارح لامية العجم، قال فيه: (؟ وما لنا غير إمدادكم بجنود الدعاء الذي نرفعه نحن ورعايانا، والتوجه الصادق الذي تعرفه ملائكة القبول من سجايانا؟) . وهكذا قطعت طرق نجدة الأندلس وفتحت الطريق مشرعة لخروج بني الأحمر والمسلمين منها، على يد جيوش النصارى المتحالفة، من البرتغال وقشتالة، والأرغون، وبيزه، وجنوه، وسائر العالم المسيحي آنذاك.
الشمال الإفريقي
كانت المنطقة بعد سقوط الأدارسة، وانفلاتها من السلطة المركزية ببغداد، دولة بين فرعين أساسيين من البربر، هما البرانس، وبنو ما دغيس البتر. فمن البرانس كانت صنهاجة ومصمودة. وصنهاجة: طبقتهم الأولى كان منهم آل زيري بن مناد ولاة العبيديين، وبنو خراسان، وآل حماد، وملوك بني حيوس بن ماكسن من بني زيري. وطبقتهم الثانية هم الملثمون، أصحاب دولة المرابطين. أما مصمودة فهي أكبر القبائل وأوفرها، منهم برغواطة التي كانت لها دولة قبل الإسلام وصدره. ومنهم غمارة التي شايعت الأدارسة وحمتهم بعد نكبتهم، وكانت منها دولة أبي القاسم العزفي بسبتة أول عهد المرينين سنة ٦٦٨ هـ. أما مصمودة جبل درن بالأطلس الكبير، وهنتانة في القلب منهم، ومراكش عاصمتهم، ففيهم كانت الرئاسة والريادة، ودولة الموحدين. أما بنو مادغيس البتر فمنهم زناتة. وهي قبيلة كبيرة استعربت باختلاطها بالهلاليين. طبقتها الأولى كانت منها دولة مغراوة بفاس، وبنو يفرن بسلا. وطبقتها الثانية كانت منها في عصر المؤلف دولة بني مرين في فاس. ودولة بني عبد الواد في تلمسان. ثم دولة بني وطاس في فاس بعد ذلك. أما المغرب الأدنى - تونس - فكان به في عصر المؤلف بنو حفص من هنتاتة المصامدة من البرانس (٥٤) .
بنو مرين (٥٥)
بعد وقعة العقاب وبيعة الموحدين للصبي يوسف الناصر، وحدوث الوباء العظيم بالمغرب، خلت البلاد من أهلها وحاميتها. فلما أقبل نجع قبائل بني مرين كعادتهم من بلاد القبلة (زاب إفريقية إلى سجلماسة) للارتفاق والميرة، شجعهم الوضع الاجتماعي، والفراغ السياسي، وخلو البلاد من أهلها، على الاستقرار والهيمنة على بسائط المغرب الخصبة. ولما حاول الموحدون مكافحتهم، كان الظهور لبني مرين، سواء في المعركة الأولى بوادي النكور قرب تازة، أو في معاركهم التالية عندما قاتلهم الموحدون مستعينين بقبائل بني عسكر، ورياح، ومرتزقة النصارى. فانفسح الطريق بذلك أمام بني مرين لإقامة دولتهم. ونستطيع أن نقسم عهد بني مرين إلى ثلاث فترات:
1 / 10
الفترة الأولى: هي مرحلة الحروب الداخلية من أجل تثبيت أركان دولتهم، ودامت حوالي نصف قرن، إلى سنة ٦٦٨ هـ. فتحوا أثناءها مراكش، وقضوا على آخر معاقل الموحدين. الفترة الثانية: فترة حروبهم في الأندلس والمغربين الأدنى والأوسط. وتبدأ من سنة ٦٧٣ هـ التي استنجد فيها ابن الأحمر بيعقوب المريني؛ ولكنهم لم يوفقوا للحفاظ على ما تبقى من الأندلس. ثم اضطروا لصرف النظر عن نجدتها بعد هزيمة أبي الحسن المريني في جزيرة طريف (٧٤٠ هـ)، وتوالي خيانات بني الأحمر للمسلمين. ثم اتجهوا شرقًا للقضاء على دولتي بني عبد الواد بتلمسان، وبني حفص بتونس. أما عن أسباب فشلهم في إنقاذ الأندلس فيمكن إيجازها في ثلاث نقط: لم تركز حروبهم على هدف استخلاص الأرض من النصارى. ولم تتخذ نهجًا قتاليًا يفي بالمطلوب. وكان أسلوبهم في ذلك بدائيًا يعتمد على الكر والفر، والاستكثار من الأسلاب والغنائم مالًا ورقيقًا. وكان الجيش المريني إذا ما حاصر مدينة وامتنعت عليه تركها، وانطلق في البراري والقرى والبسائط ينهبها ويسبي ضعفاءها، ثم يقسم الغنائم على المحاربين، أو يدفع بعضها إلى بني الأحمر، ويعود إلى المغرب. وبذلك لم يقدموا لأعدائهم أي نموذج حضاري، لا نموذج الجيش راقي التنظيم والحركة، ولا نموذج أصحاب الرسالات السماوية. فازداد المسيحيون بهذه التصرفات تماسكًا وحقدًا على المسلمين، وإصرارا على إخراجهم من الأندلس. لم يكن المرينيون يرجون من جهادهم في الأندلس إلا السمعة وإضفاء الشرعية على سلطانهم، وعدم استعداء بني الأحمر عليهم. ولذلك لم يسلكوا نهج يوسف بن تاشفين المرابطي الذي أنقذ الأندلس من الغزو المسيحي، وأجلى عنها فسقة ملوك الطوائف، ووحدها تحت سلطة والٍ واحد قوي بجيش أقوى. ولذلك تجرأ عليهم بنو الأحمر، فكانوا كلما آنسوا منهم ضعفًا غدروا بهم وأعانوا عليهم العدو، فإن فشلت خيانتهم طلبوا الصلح، فاستجاب لهم المرينيون وصالحوهم وتنازلوا لهم - تقوية لهم - عن بعض ثغور الأندلس؛ فما يلبث بنو الأحمر أن يسلموا هذه الثغور إلى النصارى، ثم يطلبون الصلح ثانية، ويستلمون ثغورًا أخرى يسلمونها للنصارى. وهكذا دواليك إلى أن تسلموا من بني مرين كل ما كان بيدهم من الثغور، وسلموها للنصارى خيانة وضعفًا، ثم أخرجهم النصارى في نهاية الأمر أذلة خاسئين. أما في حروب بني مرين شرق مملكتهم (المغربين الأوسط والأدنى) فقد كان همهم الأساسي هو القضاء على دولتي بني عبد الواد بتلمسان وبني حفص بتونس. ولذلك سلكوا في حربهم نهجا قتاليا غيرالذي سلكوه في الأندلس؛ فكانوا يحاصرون المدن والقرى إلى أن يستخلصوها لأنفسهم ويخرجوا منها عدوهم. وقد حاصر يوسف بن يعقوب تلمسان ثماني سنوات، من ٦٩٨ هـ إلى ٧٠٦ هـ. وحاصرها أيضًا أبو الحسن المريني ثلاث سنوات ففتحها. وفي كلا الحصارين جاع أهل تلمسان ونالهم من الفاقة والحاجة ما اشتروا به الكلاب والقطط والفئران والثعابين بالثمن، لأنها كانت مما يؤكل. ثم في سنة ٧٤٨ هـ غزا أبو الحسن تونس ودخلها. إلا أن عرب سليم ومن والاهم أحاطوا به وهزموه سنة ٧٤٩ هـ. ثم خرج عليه ولده أبو عنان، الذي حاول - بعد انتصاره على أبيه - أن يبسط نفوذه على المغربين الأدنى والأوسط، لولا أن أحد وزرائه اغتاله خنقًا سنة ٧٥٩ هـ. أما الفترة الثالثة: فهي فترة انكفاء المرينين على مشاكلهم الداخلية وصراعهم على الملك، وتداول القصر والعتهاء على كرسي السلطنة، وتوالي البلايا والمحن والمجاعات والأوبئة على العامة. أما نظام الدولة لدى بني مرين فيمكن إيجازه في أربع طبقات: طبقة الأسرة الحاكمة وعصبيتها القبلية. طبقة قهارمة القصر: وغالبيتهم من اليهود، لقدرتهم على تقديم كل الخدمات الدنيئة. وبرز في عصر يوسف بن يعقوب وولده أبي الربيع يهود بني وقاصه من ملاح فاس. وفي عهد عبد الحق بن أبي سعيد قتيل ٢٧ رمضان ٨٦٩ هـ برز الوزيران اليهوديان هارون وشاويل. طبقة الكتبة والإداريين: وهم من قدماء بطانة حكام الأندلس، الفارين منها. رشحهم لهذه المكانة خبرتهم في خدمة الملوك، وبعدهم عن العامة. طبقة الجنود: من مرتزقة البدو والأعراب، خاصة بني هلال، ومن مرتزقة النصارى. أما جمهور الشعب البائس فلم يكن له إلا أن يتفرج على مسرح الأحداث، وينأى بنفسه عن مواطن القتل، ويسمع ويطيع ويؤدي الأتاوات والمكوس والضرائب والزكوات لخزينة السلطان. فإن لم تف بحاجات القصر وحاشيته من اليهود والكتبة والجيش، كانت المصادرة والنهب والابتزاز.
بنو عبد الواد (٦٥)
بنو عبد الواد، أو بنو زيان، أو دولة يغمراسن بن زيان، بطن من بطون زناتة، استعربوا نتيجة اختلاطهم ببني هلال، ودخلوا بلاد المغرب الأوسط واستقروا بتلمسان، بعد أن ضعف الموحدون، وأتيحت لهم فرصة التخلص من هيمنة المصامدة. وعندما سيطر بنو مرين على المغرب الأقصى إلى ملوية، وبسط بنو حفص نفوذهم على شرق المغرب الأوسط حتى المجرى الأعلى لنهر الشلف، بقي ما بين الشلف، وبين مجرى ملوية منطقة فراغ سياسي. فأقام فيه الزناتيون بنو عبد الواد مملكتهم. وكانت دولتهم الأولى التي انتهت على يد أبي الحسن المريني سنة ٨٣٧ هـ - ١٣٣٧ م. ثم دولتهم الثانية التي ضمها الأتراك العثمانيون إلى إيالة الجزائر. وكان همهم طيلة عهدهم الأول هو حماية مملكتهم من الحفصيين في الشرق والمرينيين في الغرب. واستفادوا كثيرًا من انشغال المرينيين بحروبهم في الأندلس، ثم بفتنهم الداخلية، وانشغال الحفصيين بأعدائهم في الداخل والخارج. واستعانوا هم أيضًا في إدارتهم بالكتبة الوافدين من الأندلس، وجنود الأعراب من بني سليم وهلال. وحاولوا مرارًا الانتقاص من أطراف جيرانهم في الشرق والغرب دون أن يفلحوا. أما دولتهم الثانية فكانت دائمًا متأرجحة بين الولاء للمرينيين والولاء للحفصيين. إلى أن سقطت بيد الإسبان في عهد فيليب الثاني. ثم استخلصها منهم العثمانيون على يد خير الدين باربروسا سنة ١٥٢٩ م. واتخذها قاعدة لتحرير تونس من نفوذ الإسبان وعملائهم الحفصيين، وليبيا من فرسان يوحنا الراهب.
بنو حفص (٦٥)
مؤسس دولتهم هو أبو محمد عبد الواحد بن أبي حفص الهنتاتي. من مصامدة جبل درن. عينه محمد الناصر رابع ملوك الموحدين بمراكش على أفريقية (تونس والجزائر) سنة ٦٠٣ هـ - ١٢٠٦ م. ثم استبد بالأمر هو وذريته من بعده. وأقاموا دولتهم سنة ٦٢٣ هـ - ١٢٢٦ م.
1 / 11
وفي سنة ٦٥٩ هـ ١٢٥٩ م، تسمى المستنصر الحفصي بأمير المؤمنين، بعد أن سقطت خلافة بغداد بيد المغول فبايعه بالخلافة ولاة الحجاز - مكة والمدينة -؛ ثم في السنة الموالية بايعوا مماليك مصر. استمرت هذه الدولة طيلة قيامها بين مد وجزر، ووحدة وانقسام، واضطراب وتنازع على السلطان، مع غيرها أحيانًا، وبين أعيانها ورجالاتها أحيانًا أخرى. خضعوا للمرينيين فترة، وللأسبان فترة، وحاربوا في صفوف الصليبيين فترات. واضطروا لإعطاء الجزية إلى ملك صقلية (شارل دانجو)، اتقاءً لاعتداءاته على شواطئهم وأساطيلهم. بل إن المستنصر أخذ يتودد إلى رهابنة النصارى حتى ظن لويس التاسع أنه يميل لاعتناق النصرانية، مما شجعه على غزو تونس في ٢٦ ذي الحجة ٦٦٨ هـ - ١٢٧٠ م؛ ثم تراجعت حملته بعد أن تعهد المستنصر بمضاعفة الجزية للصقليين حلفاء الفرنسيين. ولم ينقذ المنطقة من النفوذ الصليبي إلا الأتراك العثمانيون، الذين أبادوا دولة الحفصيين وضموها إلى خلافتهم، على يد حاكم الجزائر العثماني العلج علي سنة ١٥٦٩م، بعد أن فَرَّ السلطان الحفصي مع الإسبان.
الشرق الإسلامي
الأخباريون المسلمون يؤرخون للمغول الذين هاجموا بغداد بكثير من التحامل، ويحاولون تغطية حقيقتهم، وستر واقع أنظمة الحكم عند المسلمين في تلك الفترة. يصفونهم بالوحشية والبدائية والجهل والتخلف؛ وهذا غير دقيق بالرغم من وثنيتهم وقساوتهم وفظاعة الجرائم التي ارتكبوها في حق المسلمين. ذلك أن المغول قبل أن يهاجموا بغداد السادرة في غفلتها وفسادها - إذ ذاك -، كانوا قد أسسوا إمبراطورية دوخت آسيا وهددت أوربا الشرقية، بعد أن نظمت شؤونها الداخلية والعسكرية بشكل أرقى مما كان لدى ملوك المسلمين في ذلك العهد (٥٧) . ففي الوقت الذي كان فيه ملوك المسلمين يكنزون الذهب والفضة والمعادن النفيسة والأحجار الكريمة، حتى لتضيق بها خزائنهم، فيتخذون لها الدفائن تحت الأرض، ثم يعكفون على الفساد والفاحشة والعربدة، تاركين لجنودهم ومماليكهم أن يستخلصوا رواتبهم من العامة؛ كان جنكيز خان مؤسس إمبراطورية المغول، ينفق خزائنه على تنظيم جيوشه وتكثير جنوده، وتربيتهم التربية القتالية العالية، ويشكل منهم الكتائب، ومن الكتائب الجيوش يوزعها على مختلف الجبهات. وفي الوقت الذي كان فيه ملوك المسلمين قد ضربوا عرض الحائط بالكتاب والسنة وتشريعاتهما المعجزة، كان جنكيز خان قد وضع قانونه الأساسي (ألياسا) ونظم به حياة أمته وجعل له قدسية فوق الإمبراطور نفسه. وفي الوقت الذي لم تكن فيه لممتلكات المسلمين وثرواتهم حرمة، وكانت معرضة للنهب والمصادرة لأي سبب وبدون سبب، كان المغول قد شددوا في تشريعاتهم على مبدأ احترام حق الملكية، وعاقبوا على السرقة وقطع الطريق والاعتداء على أملاك الغير بالقتل. وفي الوقت الذي مسخ فيه حكام المسلمين المرأة فحولوها أداة من أدوات اللهو والعبث، وأصبحت فيه الجواري والإماء أساس الأسرة لدى الكبار والأعيان والقضاة والأَثرياء، كان جنكيز خان قد حرر المرأة واعترف بقيمتها وبكونها أساس الأسرة، فتمتعت بالاحترام في مجتمعها، وبالاستقلال في مالها، وشاركت في تسيير أمور الدولة والجيش مشيرة ومشرفة ومقاتلة. وفي الوقت الذي كان فيه حكام المسلمين ينطون على كرسي الملك بالسطو المسلح في جنح الليل، أو بالوراثة الغبية التي ترفع إلى سدة الحكم الموتورين والأغبياء والبله والقصر والرضع، كان المغول يسلكون في اختيار أمرائهم سبيل الانتخاب العلني الحر، فتنصب الخيمة الكبيرة في العراء، ويحضر الأعيان والقادة ورجال القبائل وممثلو الدول الصديقة، ويجري اختيار الإمبراطور بطريقة سلمية لا غبن فيها ولا دماء، وبشعور فطري عام بقيم العدالة والمساواة، وما ينبغي أن يتصف به الحاكم إزاء قومه. ولا يسعنا إلا أن نعجب للرسالة التي كتبها هولاكو إلى سلطان مصر وقال فيها (٥٨): (؟ ودعاؤكم علينا لا يسمع، فإنكم أكلتم الحرام، ولا تعفون عن كلام، وخنتم العهود والأيمان. وفشا فيكم العقوق والعصيان؟ وقد ثبت عندكم أننا نحن الكفرة، وقد ثبت عندنا أنكم الفجرة، وقد سلطنا عليكم من له الأمور المقدرة والأحكام المدبرة (. إن غزو بغداد لم يكن أمرًا مفاجئًا وطفرة بدون مقدمات، لأن جيوش المغول كانت قبل ذلك قد اخترقت الآفاق، دوخت الصين الشمالية، وقضت على الدولة الخوارزمية المسلمة، وسيطرت على خراسان ومرو وبخارى وسمرقند، وأذربيجان وروسيا الجنوبية، والقرم والقوقاز، دون أن تنتبه بغداد من نومها. وبعد تولي (أوكتاي) الذي خلف جنكيز خان، انقضت جيوشه على شمال جبال الأورال وبحر الخزر ومدينتي موسكو وبلغار على نهر الفولغا، وهزمت البولنديين ودمرت مدينة براسلاف الألمانية، وهزمت حاكم سيليسيا هنري الثاني الذي انتحر للهزيمة. ثم حينما اختارت الأمة المغولية (مانكو) خلفًا لأوكتاي، أقام - على وثنيته - نظامًا متسامحًا تعايشت فيه جميع الأديان إسلامًا ومسيحية وبوذية، وشيدت فيه على قدم المساواة المساجد والكنائس والمعابد. ثم بعد ذلك عهد إلى أخيه هولاكو بغزو الغرب الأسيوي الذي يضم ديار المسلمين وعاصمتهم بغداد؟؛ كل هذا وقع والخليفة مع قادته العسكريين غارقون في غفلتهم. ثم بعد توقف المد المغولي عند فارس والعراق، وانحساره عن الشام بجهاد المماليك ومقاومتهم، ترك أمة ذاهلة واقتصادًا منهارًا ومجتمعًا بائسًا هزيلًا، منغمسًا في الخرافة والفوضى. ثم لطف الله بهذه الأمة فأسلم حكام إيران من المغول، وعلى رأسهم ملكهم (نيكودار)، وتتابع بعده إقبال المغول على الإسلام، لاسيما في عهد " غازان " الذي اختار مذهب أهل السنة وأحسن إلى أهل الشيعة. ثم خلفت مملكة المغول في إيران الدولة المظفرية في كرمان وفارس، والدولة الجلائرية في منطقة ما بين النهرين. وتتابعت بعد ذلك دويلات ضعيفة منقسمة على نفسها. مثل: الأسرة الخلجية الأفغانية (١٢٩٠ م - ١٣٣٠ م) الأسرة التغلقية (١٣٢٥ م - ١٤١٥ م) أسرة الشاة البيضاء (١٣٧٩ م - ١٥٠٣ م) أسرة الأسياد (١٤١٤ م - ١٤٥١ م) الأسرة اللودية (١٤٥٢ م - ١٥٢٦ م)
1 / 12
وظلت هذه الدويلات وغيرها تتصارع ويسقط بعضها بعضًا، دون أن تستطيع تكوين دولة قوية، أو تنضم إلى الإمبراطورية العثمانية التي كانت قد قويت شوكتها؛ إلى أن قامت روسيا القيصرية فضمت جزءًا منها، ورثها عنها النظام الشيوعي، واحتل البريطان والهولنديون والبرتغال وغيرهم الجزء المتبقي. لقد كان أهم حدث في هذه المنطقة بعد انحسار المغول عنها، هو قيام مملكة آل عثمان في الأناضول سنة ٧٠٠ هـ - ١٣٠٠م، على أنقاض السلجوقيين وعلى حساب البيزنطيين. وظلت هذه الدولة أسيرة حدودها في حالة دفاع وترصد وحذر، ثم اتخذت عاصمة لها مدينة " بروسا " سنة ٧٢٧ هـ ١٣٢٦م، ثم في السنة الموالية تحولت إلى مملكة عاصمتها " أدرنة "، ثم كان محمد الفاتح الذي دخل القسطنطينية سنة ٨٥٧ هـ ١٤٥٣ م، فكان فتحه لها نقطة تحول في التاريخ الإسلامي. عمل فيه العثمانيون على ضم الدويلات القطرية في الشام والجزيرة ومصر وإفريقية وغيرها إلى إمبراطوريتهم.
خاتمة
وبعد، فهذه صورة تقريبية للوطن الإسلامي في القرن الثامن الهجري - الرابع عشر الميلادي -، بمقارنة وجيزة مع ما كان عليه الأمر لدى قوتي الجذب الرئيسيتين في الشرق والغرب - المغول ونصارى أوربا -. وهي إن كانت قاتمة، فإنما لعدم تطور الفكر السياسي لدى المسلمين، وبقاء أبحاثه لدى الفقهاء تبريرية لواقع الأنظمة منذ سقوط الخلافة الراشدة. طيلة هذه العهود ظل النظام وراثيًا أساسه أن يقوم داعية طموح فتلتف حوله أسرته ثم قبيلته، ثم يتحالف مع قبائل أخرى لها به رابطة نسب أو صهر أو مصلحة، ثم يسيطر على الحكم. وبعد حين تتنكر قبيلة الأمير الجديد للقبائل الحليفة وتنكبها وتستبد بالسلطة دونها؛ ثم تستبد أسرة الأمير من بعد ذلك بالأمر دون قبيلتها وتنكبها، ثم يتناحر أفراد الأسرة الحاكمة فيما بينهم من أجل الاستئثار بالسلطة، فيغدر الأخ بأخيه ويقتل الأب ابنه، والابن أباه، وتسمم الزوجة زوجها، ويتقاتلون فيما بينهم، فيتغلب عليهم زعيم قبيلة أخرى سالكًا النهج نفسه. ويستمر الدور والتسلسل في التداول على الحكم على هذا المنوال. كما ظهر نموذج آخر من نظم الحكم، هو طراز المماليك الذين كانوا يستولون عليه بطريقة أقرب إلى الانقلابات العسكرية. والغريب في الأمر أن أنظمة الحكم لدى المسلمين وصولًا إلى السلطة واستدامة فيها، لم تتغير إلى الآن. فمازال نظام الحكم مابين وراثي وانقلابي؛ حتى المؤثرات الاقتصادية والثقافية والاجتماعية التي تعتبر بوصلة التوجه السياسي لم تتغير؛ بل حتى سلم توزيع المسؤوليات في الدولة الواحدة كان ومازال من ثلاث فئات: البطانة المقربة: وتتألف من الأوفياء للسلطان الذين لا يمثلون أي خطر؛ وينتقون من بين الأقليات العرقية والدينية، أو من ضعاف الشخصية والتفكير الذين مردوا على الخنوع لمن غلب. طائفة الكتبة والمتأدبة والإداريين: من ذوي الثقافات المتخنثة البعيدة عن مفاهيم الأنفة والعزة والشهامة، مع شرذمة من الفقهاء " المبرراتية " أمثالهم. الجهاز التنفيذي: أمنًا وجيشًا، وغالبًا ما يكون من جفاة الأعراب أو مخنثي المدن.
المؤلف
ترجم للمؤلف عدد كبير من المؤرخين، وذكره من الفقهاء الجم الغفير، وهم إن لم يستفض حديثهم إيرادًا لتفاصيل حياته، فإنهم لم يضنوا عليه بالثناء العطر، والإِعجاب بنبوغه المبكر، وإتقانه أدب التدريس والوعظ، وأَساليب التصنيف والفتوى والحكم، وبلوغه في علوم عصره شأوًا بعيدًا. ناهيك بشهادة الإِمام ابن كثير له، إذ حضر أول درس ألقاه، وهو ابن خمس عشرة سنة أمام العدد الوافر من علماء العصر وفقهاء المذاهب الأربعة، فسجل هذا الحدث في تاريخه - البداية والنهاية ١٤/١٦٦ - بقوله: (وفي يوم الاثنين رابع وعشرينه - أي ٢٤شوال ٧٣٤هـ - درس بالإِقبالية الحنفية، نجم الدين ابن قاضي القضاة عماد الدين الطرسوسي الحنفي عوضًا عن شمس الدين محمد بن عثمان بن محمد الأصبهاني، ابن العجمي الحبطي ويعرف بابن الحنبلي، وكان فاضلًا دينًا متقشفًا، كثير الوسوسة في الماء جدًا، وأما المدرس مكانه، وهو نجم الدين بن الحنفي فإنه ابن خمس عشرة سنة) . وقد أوردت كل المصادر أن اسمه: إبراهيم بن علي بن أحمد بن عبد الواحد بن عبد المنعم بن عبد الصمد، أبو إسحاق، نجم الدين، برهان الدين، الدمشقي، قاضي القضاة، الحنفي الطرسوسي؛ إلا أن صاحب الجواهر المضيئة سماه أحمد بن علي (١/٨١)، وإبراهيم أَصَحُّ كما قال اللكنوي في الفوائد البهية (ص١٠) . أسرته: ينتمي المؤلف إلى أسرتين حنفيتين عريقتين في العلم والفضل والجاه والتقوى، من جهة أبيه ومن جهة أمه. فوالده قاضي القضاة عماد الدين، أبو الحسن علي بن الشيخ محيي الدين أبي العباس أحمد بن عبد الواحد الطرسوسي الحنفي، المولود في مصر سنة ٦٦٩هـ والمتوفى سنة ٧٤٨هـ في دمشق، المدرس بجامع القلعة والنورية والمقدمية، والريحانية والقيمازية بدمشق. كان آية في حفظ القرآن، شأنه التلاوة، لا أسرع منه فيها من غير إخلال بشيءٍ منه فيها، حتى إنه صلى به بكماله في التراويح في ثلاث ساعات ونصف على اصطلاح الحنفية من التهليل على رأس الأربع. وكان أدين الفقهاء وأجودهم باطنًا وأطهرهم سريرة من الخبث والهراء؛ كما اعتبر في وقته شيخ الحنفية، ورأسًا في الفقه والأصول. وابن عمه، رفيق صباه، وتلميذ والده، القاضي الحنفي أبو بكر بن محمد بن أبي بكر بن عبد الواحد الطرسوسي المتوفى سنة ٧٧٩هـ. وجده لأمه شمس الدين، أبو عبد الله شرف الدين أبو البركات محمد بن الشيخ عز الدين، ابن العز، صالح بن أبى العز بن وهيب بن عطاء بن جبير بن كابن بن وهيب الأذرعي الحنفي، أحد أئمة الحنفية، وفضلائهم في مختلف العلوم، وقضاتهم المتصفين بالعفّة والورع والكفاية، ومدرس المعظمية واليغمورية والقليجية والظاهرية، اشتغل بالقضاء ونظارة الأوقاف، وشهد له الناس بالخير، وكان والد المؤلف عماد الدين زوجًا لابنته ونائبًا عنه في القضاء. فلما توفي سنة ٧٢٢هـ خلفه في منصبه. وجده الأعلى من جهة أمه هو القاضي وهيب الأذرعي الحنفي المشهور بالقاضي عبد الله، المدرس بالمدرسة المرشدية الحنفية، والمولود سنة ٥٩٩هـ بدمشق. وخاله الشيخ علاء الدين بن أبي العز الذي خلف والده شمس الدين في تدريس المعظمية والقليجية وتوفي سنة ٧٤٦هـ. وعم جده لأمه، قاضي القضاة، صدر الدين سليمان بن أبي العز بن وهيب المتوفى سنة ٦٧٧هـ، انتهت إليه رئاسة الحنفية في زمانه، ولي القضاء بالديار المصرية والشامية والبلاد الإسلامية، وأذن له في الحكم حيث حل من البلاد. وولداه محمد بن سليمان قاضي القضاة، وأحمد تقي الدين بن سليمان، اللذان درسا بالمدرسة المقدمية الجوانية والمدرسة الشبلية البرانية، وانتفع بعلمهما العدد الوافر من الطلبة.
1 / 13
والمقام لا يتسع لذكر أعلام هذه الأسرة التي كان لها دور مؤثر وفعال في ميادين العلم والقضاء والكفاح في سبيل المحافظة على صفاء العقيدة،في ثلاثة قرون، السادس والسابع والثامن للهجرة. ويكفينا نموذجًا ما ورد في مصنف " تحفة الترك " التي نحن بصدد تحقيقها من تلميحات تكاد تكون صريحة ومباشرة، إِلى الفساد المستشري في الدولة وأجهزتها ومرافقها، وضرورة إصلاحه. كما أنَ نكبة علم آخر من أعلام الأسرة، على يد برقوق والفقهاء، هو صدر الدين ابن أبي العز (٧٣١هـ - ٧٩٢) صاحب شرح العقيدة الطحاوية خير دليل على صلابة هذه الأسرة وتمسكها بالحق والفضيلة وعزة النفس، وجهادها في سبيل التوحيد الخالص. ولعل انتساب المؤلف إِلى هاتين الأسرتين المكينتين في العلم والفضل مما جعل المؤرخين لا يذكرون من أساتذته وشيوخه إلا النزر القليل، لأن العادة جرت بأن يقوم علماء كل أسرة بتدريس أبنائهم بأنفسهم. مولده: ولد بالمزة (٥٩) من ضواحي دمشق في ثاني محرم سنة عشرين وسبعمائة للهجرة - ١٣٢٠م -، وتوفى في شعبان سنة ثمان وخمسين وسبعمائة للهجرة - ١٣٥٧م. إلا أن تاريخ ميلاده تدخله الظنون من كل جانب. ابن كثير يذكر أنه في سنة ٧٣٤هـ كان عمره خمس عشرة سنة، فميلاده إذن في سنة ٧١٩هـ (البداية والنهاية ١٤/١٦٦) . وفى الطبقات السنية ميلاده سنة ٧٢١هـ (١/٢٤٦) . وفي المنهل الصافي لابن تغري بردي أنه أقام في القضاء أربعين سنة، أي أن سنة ٧٢٠ هـ أدركته وهو قاضٍ (١/١٢٩) . وشيخه أَبو نصر بن الشيرازي توفي سنة ٧٢٣هـ وليس من المعقول أنه أخذ عنه وهو ابن ثلاث سنوات. وشيخه الثاني الحجار توفي سنة ٧٣٠هـ وسنه عشر سنوات. إلا أن شهادة ابن كثير وهو الإمام الثبت الذي حضر أول درس ألقاه المؤلف ترجح نبوغه المبكر وتجعلنا نسلم بصغر سنه عند تلقيه علوم عصره وإتقانه لها، لاسيما ومصنفاته الكثيرة في عمره القصير - حوالي ٣٨ سنة - ليس لها من تفسير إلا أنه كان ظاهرة نادرة المثال. شخصيته: يجمع كل من ترجم له على اتصافه بعلو الهمة، وحدة الذكاء، وبداهة الحجة وقوتها، وسرعة الفهم وحسن الاشتغال بالعلم، وتحليه بأخلاق العلماء وقارًا ومهابة وحلمًا وحسن سمت، ومحمود سيرة، وعفة وديانة وصيانة، وسياسة وتوددًا، وملتقى حسنًا، وهذه الصفات كلها ليست بمستغربة فيمن نشأ في أسرتي علم وفضل ودين وجاه. وقد عاش حياته القصيرة كلها في دمشق، لم يخرج منها إلا للحج، وكان أول خروج له إلى الديار المقدسة وعمره حوالي سبعة عشر عامًا، سنة ٧٣٧هـ، في وفد من كبار العلماء، وذكر ذلك ابن كثير في البداية والنهاية - ١٤/١٧٧ - حيث قال: (وخرج الركب الشامي في يوم الاثنين عاشر شوال سنة ٧٣٧هـ، وأميره بهادر قبجق، وقاضيه محيي الدين الطرابلسي مدرس الحمصية، وفى الركب تقي الدين شيخ الشيوخ، وعماد الدين بن الشيرازي، ونجم الدين الطرسوسي، وجمال الدين المرداوي، وصاحبه شمس الدين بن مفلح، والصدر المالكي، والشرف القيسراني، والشيخ خالد المقيم عند دار الطعم، وجمال الدين بن الشهاب محمد) . ولاشك أن مرافقته وهو غلام يافع لهؤلاء العلماء الأفذاذ الذين يكبرونه سنا وتجربة وعلما وسابقة، قد ساهم في تكوين شخصيته وتعميق ثقافته وَخبرته، وإنضاج عقله وفكره واجتهاده. كما أن أبناء عمومته وأَخواله وأصدقاء والده، من العلماء والفقهاء والقضاة، الذين ذكر فضلهم وتقواهم وفتاواهم وآراءهم الفقهية واستنباطاتهم الاجتهادية، كانوا يترددون على أسرته، ويعقدون بحضوره المناظرات والمحاورات، وكان لهم فضل كبير في تكوينه السلوكي والثقافي وتوسيع مداركه، بالإضافة إِلى نشاطه الدؤوب طيلة حياته القصيرة، التي قضاها ناشرًا للعلم بين الطلبة ومفتيا وواعظًا للعامة ومحاورًا لأقرانه من فقهاء المذاهب، ومدافعًا عن مذهبه الحنفي بقوة الحجة ودقيق الفهم والاستنباط، متسمًا بالصدق والصراحة في النقد والتوجيه، غير منكر فضل أهل الفضل محلًاّ أهل العلم مكانتهم المعتبرة، حريصًا على فضح ممارسات أهل زمانه في ميدان الحكم والقضاء والإدارة والفتوى. علمه وفضله: لاشك في أن تصديه للتدريس في سن مبكرة، وبحضور فقهاء من كل المذاهب، وفيهم الأئمة والجهابذة، دلالة واضحة على سعة علمه وتبحره في فنون العصر وعلومه. وقد شهد كل من ترجم له ببلوغه المنزلة العليا في اللغة، والأَدب، والفقه والأصولين، وعلم الخلاف، والقواعد الفقهية، والمناظرة والإفتاء والقضاء والتدريس. قال عنه ابن تغري بردي في المنهل الصافي " (١/١١٩):. (برع في الفقه والأصول والعربية وشارك في عدة فنون، وتصدر للإفتاء والتدريس مدة طويلة) . وقال عنه في "النجوم الزاهرة " (١٠/٣٢٦): (كان ﵀ إِمامًا عالمًا علامةً أَفتى ودرس) . وقال عنه ابن طولون في قضاة دمشق (ص١٩٨): (برع في الأصول، ودرس وأفتى وناظر وأفاد) . وقال عنه ابن كثير في البداية والنهاية (١٤/١٦٦) عندما ألقى أول درس وعمره خمسة عشر عامًا: (وهو من النباهة والفهم وحسن الاشتغال والشكل والوقار بحيث غبط الحاضرون كلهم أَباه على ذلك، ولهذا آل أمره أن تولى قضاء القضاة في حياة أبيه، نزل له عنه وحمدت سيرته وأحكامه) . كما كان له نصيب من علم العروض والنظم، وألفيته في فروع الفقه الحنفي وأرجوزته في معرفة مابين الأشاعرة والحنفية من الخلاف في أصول الدين خير شاهد، ونظمه في غير الفقه لا يخلو من أصالة برغم أنه لا يعد من الفحول، وقد أورد ابن حجر في الدرر - ١/٤٣،٤٤ - قوله: من لي معيد في دمشق لياليا قضيتها والعود عندي أحمد بلد تفوق على البلاد شمائلا ويذوب غيظًا من ثراه العسجد
1 / 14
شيوخه وعلماء عصره وتلاميذه: لئن ضنت علينا كتب التراجم، فلم تذكر من شيوخه إلا والده عماد الدين الطرسوسي وأبا نصر الشيرازي، والحجار بن الشحنة، فإن في هذا كفاية لنتعرف على طبيعة النبع الذي استقى منه علما وتأثر به سلوكًا. ونكتفي بما مر من ترجمة والده معقبين بترجمة شيخيه الشيرازي والحجار. ١ - أما شمس الدين أبو نصر بن محمد الشيرازي (٦٢٩هـ - ٧٢٣هـ) فقد تتلمذ عليه عدة أجيال من علماء الأمة، على رأسهم الإمام ابن كثير، ووالد زوجته الإمام أبو الحجاج المزي. وأشاد ابن كثير (البداية والنهاية ١٤/١٠٩) بفضله، وخيريته وتواضعه، وأن له في العلم والحديث والقراءات اليد الطولى، وأنه لم يتدنس بشيء من الولايات ولابشيء من وظائف المدارس ولا الشهادات إلى أن توفى ﵀. كما أن ابن العماد الحنبلي في الشذرات (٦/٦٢) ذكر أنه مسند الوقت في عصره، وأنه أخذ عن جده القاضي أبي نصر، والسخاوي وابن الصابوني وابن قميرة وأبى عبد الله الزبيدي، والحسين بن السيد وقاضي حلب ابن شداد، وطال عمره أربعا وتسعين سنة، درس خلالها دون أن يختلط. ٢ - أما شيخه الثاني فهو كما قال عنه ابن العماد في الشذرات (٦/٩٣) مسند الدنيا، شهاب الدين أحمد بن أبي طالب بن نعمة الحجار، ابن الشحنة، من قرى وادي بردى بدمشق، انفرد بالدنيا بالإِسناد عن الزبيدي، وكان يخرج إلى الجبل يقطع الحجارة كسبا للرزق فيخرج إليه الطلبة ليسمعهم، وعاش مائة عام وسبعة أعوام دون أن يكل أو يختلط حتى إنَّه حدث في يوم موته. كما وصفه تلميذه ابن كثير (البداية والنهاية ١٤/١٥٠) بالشيخ الكبير المسند المعمر، الذي فرح به المحدثون، وأكثروا السماع عليه، فقرأ البخاري عليه نحوًا من ستين مرة، وله إجازات لا تحصى، منها إجازة من بغداد فيها مائة وثمانية وثلاثون شيخًا من العوالي المسندين. كما أنه لعفته وحرصه على الكسب الحلال اشتغل بقطع الحجارة نحوًا من خمس وعشرين سنة، وبالخياطة في آخر عمره. وسمع عليه من أهل الديار المصرية والشامية أمم لا يحصون كثرة. وإذا ما تذكرنا أخوال نجم الدين وأعمامه، وأبناء خؤولته وعمومته، وكلهم ما بين عالم وفقيه وقاض ومفتِ، تبين لنا أَن محيطه منذ فتح عينه على الدنيا بيئة علمية، رعت نبوغه وغذت شغفه بالعلم. أما مكانته العلمية بين علماء عصره، فقد تجلت عندما نازعه ابن الأطروش المتوفى سنة ٧٨٤هـ - ١٣٨٢م في تدريس الخاتونية، فكتب له أئمة الشام إِذ ذاك محضرًا وبالغوا في الثناء عليه ووصفوه بأنه شيخ الحنفية بالشام، وكان ممن كتب المحضر وأدى هذه الشهادة أبو البقاء السبكي الشافعي. (٧٠٧ - هـ٧٧٧هـ) . وناصر الدين بن الربوة الحنفي (٦٧٩هـ - ٧٦٤هـ) وغيرهما. كما تظهر حكمة والده وبعد نظره من طريقة تنشئته إياه وتوجيهه له، فقد حرص على أن يأخذ العلم من العوالي منذ صباه، واستمر ينقله من قمة علمية إلى أخرى. وعندما تنازل له عن قضاء القضاة سنة ٧٤٦هـ أجلس فوقه شيخ الشيوخ بدمشق، شرف الدين الهمداني المالكي (٦٠) لكبر سنه وليستقي من علمه وفضله وبركته. هكذا تنقل به والده بين كبار علماء عصره، فغاص في علوم الدين من خلال المذاهب الأربعة ببراعة وحسن فهم وتمحيص. ولئن كان التشدد المذهبي ينتزعه أَحيانًا من موضوعيته فلأَن ذلك كان سمة العصر. على أنه بلغ مرتبة الاجتهاد بالرغم من المنية التي اخترمته ولما يبلغ الأربعين، فحرم الفقه وعلومه رجلًا فَذًّا قَلَّ نظيره وندر مثيله، ولا يفرى فريه. أما تلاميذه ومريدوه فلم تسعفنا المراجع التي بين أيدينا بذكر أسمائهم وإن كانت القرائن كلها تشير إلى كثرتهم عددًا، وتنوع ما أخذوا عنه علمًا وفقهًا وقضاءً، لاسيما وقد مارس التدريس منذ بلوغه خمس عشرة سنة في عدة مدارس لعدة مذاهب: درس بالنورية الصلاحية المالكية، التي أسسها نور الدين زنكي وأتم بناءها صلاح الدين الأيوبي. ودرس بالإقبالية الشافعية التي أَنشأها إِقبال، خادم نور الدين زنكي وصلاح الدين الأَيوبي.ودرس بالخاتونية الحنفية التي أنشأَتها خاتون بنت معين الدين زوجة نور الدين زنكي، ودرس في غيرها من مدارس دمشق وجوامعها ومكتباتها. حتى إذا حضرته الوفاة ﵀ اهتزت دمشق علماء وطلبة وعوامًا، وكانت جنازته حافلة وصلى عليه الأمير علي المارديني نائب دمشق إمامًا. مصنفاته: بلغ عدد مصنفاته المذكورة فى كتب التراجم واحدًا وعشرين مصنفًا وهي ما يلي: ١ - أنفع الوسائل إِلى تحرير المسائل في الفروع، يعرف بالفتاوى الطرسوسية، طبع بعنوان الفتاوى الطرسوسية، نشره مصطفى خفاجي بالقاهرة ١٣٤٥هـ /١٩٢٦م. انظر: كشف الظنون ١/١٨٣ - ٢/١٢٢٦ - تاج التراجم ١٠ - بروكلمان ٦/٣٠٤ - يوجد مخطوطا في برلين Q U ١٩٢٧/١ - وداماد زاده ٧٣٨، وقلج علي ٣٢٦، وتونس الزينونة ٤/٥٧/١٨٧٢/٣ - والموصل٦/١٥٦ - وميونيخ ٣١١ - وباريس ٩٢٥/٦ - ويني٣٥٨،٣٦٦/٨ - والإسكندرية، فقه حنفي ٧ - والقاهرة أول ٤/٨ - والموصل ١٤٦/٩١. كما اختصره عثمان بن نجيم المصري المتوفى سنة ٩٧٠هـ، ويوجد هذا المختصر مخطوطًا في تونس، الزينونة ٤/٤٥/١٨٤٣/٤، وفي القاهرة ثانٍ ١/١٦٦/٣٣ بعنوان "إجابة السائل "، واختصره بعنوان "بغية السائل " محمد بن حسين بيرم الأول (١١٣٠هـ - ١٢١٤هـ) ويوجد مخطوطًا في تونس الزيتونة ٤/٦٩/١٩٠٨ -، واختصره أيضا بعنوان "كفاية السائل " محمد الزهري الحنفي، ويوجد مخطوطًا في تونس الزيتونة ٢١٣،٢٣١٨. ٢ - الفوائد الفقهية، أو الفوائد البدرية، منظومة ألفية نظمها سنة ٧٥٤هـ انظر: كشف الظنون ٢/١٣٠٠ - النجوم الزاهرة ١٠/٣٢٦ - تاج التراجم ١٠ يوجد مخطوطا في برلين ٤٥٩٥ - الإِسكندرية فقه حنفي ٢٦ - والقاهرة أول ٣/١١٨ - وهايدلبرج مع ذيل الزوائد على الفوائد "٩٠ × ٢٥ " - السليمانية، فرع حكيم أوغلو علي باشا ٣٥٥. ٣ - الدرة السنية في شرح الفوائد الفقهية. انظر: كشف الظنون ١/٧٦٠ - ٢/١٣٠٠ يوجد مخطوطا في هايدلبرج (٩٠× ٢٥) - وبطرسبرج، المتحف الأسيوى قوقاز ٩٣٨ وفي شستربتى ٣٠٨٥. ٤ - رفع الكلفة عن الإخوان فيما تقدم فيه القياس على الاستحسان. ذكره حاجي خليفة في كشف الظنون ١/٩١٠ - النجوم الزاهرة ١٠/٣٢٦ - تاج التراجم ١٠. ٥ - رفع كلفة التعب لما يعمل في الدروس والخطب.
1 / 15
ذكر في هدية العارفين ١/١٦، وكشف الظنون ١/٩١٠. ٦ - السراج الوهاج، كشف الظنون ٢/٩٨٦ - هدية العارفين ١/١٦. ٧ - عمدة الحكام فيما لا ينفذ من الأَحكام. كشف الظنون ٢/١١٦٦،٤/٢٥٨ - هدية العارفين ١/١٦. يوجد مخطوطًا في المكتب الهندي ١٨٧٨. ٨ - رسالة في جواز الجمعة في موضعين، ذكر في هدية العارفين ١/١٦. ٩ - الخصال في الفروع - كشف الظنون ١/٧٠٥ - هدية العارفين ١/١٦. ١٠ - الاختلافات الواقعة في المصنفات، هدية العارفين ١/١٦ - المنهل الصافي ١/١٢٩ - كشف الظنون ١/٣٣ - النجوم الزاهرة ١٠/٣٢٦ - تاج التراجم ١٠ ١١ - الإشارات في ضبط المشكلات، هدية العارفين ١/١٦ - كشف الظنون ١/٩٧ - النجوم الزاهرة ١٠/٣٢٦ - المنهل الصافي ١/١٢٩ - تاج التراجم ١٠ -. ١٢ - شرح الهداية للمرغيناني، هدية العارفين ١/١٦. ١٣ - ذخيرة الناظر في الأشباه والنظائر، - الأعلام ١/٥١. ١٤ - وفيات الأَعيان من مذهب أبي حنيفة النعمان. هدية العارفين ١/١٦ الأعلام ١/٥١. يوجد مخطوطا في الظاهرية رقم ٩٦٢٥ ١٥ - محظورات الإحرام. كشف الظنون ٢/١٦١٦ - النجوم الزاهرة ١٠/٣٢٦ - هدية العارفين ١/١٦المنهل الصافي ١/١٢٩ - تاج التراجم ١٠ -. ١٦ - مناسك الحج (مطول)، ويسمى أَيضًا مناسك الطرسوسى. كشف الظنون ٢/١٨٣٢ - النجوم الزاهرة ١٠/٣٢٦ - المنهل الصافي ١/١٢٩ - هدية العارفين ١/١٦ - تاج التراجم ١٠. ١٧ - الإعلام في مصطلح الشهود والحكام - في الوثائق الشرعية -. كشف الظنون ١/١٢٧ - النجوم الزاهرة ١٠/٣٢٦ - المنهل الصافي ١/١٢٩ - هدية العارفين ١/١٦ - تاج التراجم ١٠. يوجد مخطوطًا فى برلين oct ٢٦٧٤ - وباريس ٩٢٠/٦، ومنسوبا إلى ناصر الدين بن سراج الدين الحنفي الدمشقي. ١٨ - أنموذج العلوم لأرباب الفهوم. هدية العارفين ١/١٦ - الأَعلام ١/٥١. ويوجد مخطوطًا في أوقاف بغداد تحت رقم ٤٦٧٠. ١٩ - تحفة الترك فيما يجب أن يعمل في الملك. انظر كشف الظنون ١/٣٦٤ - هدية العارفين ١/١٦ - بروكلمان ٦/٣٠٥ - الأَعلام ١/٥١ -. ألفه سنة ٧٥٣هـ/١٣٥١م. وتوجد منه نسخة مخطوطة في برلين تحت رقم (٥٦١٤) . وأخرى بباريس تحت رقم (٢٤٤٥/٦) . نسبتا إلى ابن العز الحنفي. وفي السليمانية باسطانبول خمس نسخ. إحداها نسبت إلى ابن العز. وأربع منها إلى مؤلفها الحقيقي (إبراهيم الطرسوسي) وهو الأصح. وقد ورد في نص "التحفة " أن ابن العز هو جد المؤلف لأمه.كما أن الإمام ابن كثير ذكر أن والده، عماد الدين الطرسوسي زوج ابنة ابن العز ونائبه في الحكم (البداية والنهاية ١٤/١٠٢) . وكتب التراجم المعتمدة كلها نسبت "التحفة " إلى نجم الدين الطرسوسي، فلم يبق مجال للشك في أنه هو مؤلفها مع " النور اللامع " الذي ضمنته. ٢٠ - النور اللامع فيما يعمل به في الجامع، أي الجامع الأموي بدمشق، في كيفية إدارة هذا الجامع وتسيير شؤونه المالية، أورده ضمن كتابه "تحفة الترك ". ذكر في كشف الظنون (٢/١٩٨٣) . والمؤلف عنده ابن العز، وهو غير صحيح لما ذكرنا من أن المؤلف هو نجم الدين الطرسوسي (٦١) . يوجد مخطوطًا في برلين ٥٦١٤. ٢١ - أرجوزة في معرفة ما بين الأشاعرة والحنفية من الخلاف في أُصول الدين ذكرها ابن حجر في الدرر الكامنة ١/٤٣، ٤٤.
مضامين تحفة الترك وقيمتها
ينظر إلى مصنف "تحفة الترك فيما يجب أن يعمل في الملك " من ثلات زوايا مهمة، هي مفتاح الفهم لمضامينها ومقاصد المؤلف من تأليفها، واتجاه الرياح السياسية فى المنطقة عند صدورها؛ من الزاوية التاريخية ثم الفقهية السياسية ثم المنهجية.
١ - من الناحية التاريخية:
نلاحظ أنها كتبت سنة ٧٥٣هـ - ١٣٥١م، وهي الفترة التي انحسر فيها النفوذ العربي عن كافة مراكز السلطة وصنع القرار في الوطن الإسلامي. في شرق آسيا وبلاد فارس وما وراء النهرين كان التتار والفرس هم ولاة الأمر، وفي مصر والشام كان المماليك الترك والشركس، وفي المغارب الأدنى والأوسط والأقصى، كان مصامدة جبل درن الحفصيون في تونس، والزناتيون بنو عبد الواد في تلمسان، وأبناء عمومتهم بنو مرين في فاس. وكان لهذا الوضع أثر بالغ في تكوين عواطف العامة، وولاء الفقهاء أقطاب التوجيه العقدي، في ميداني النصرة العصبية والاجتهادات الشرعية السياسية. كما كان لأخطاء الحكام العرب الذين مارسوا سلطة اتخاد القرار منذ سقوط الخلافة الراشدة - باستثناء فترات قصيرة في أول مملكتي بني أمية وبني العباس -، تأثير سلبي قوي أضعف الانتماء العربي وفتت تماسكه، وأضعف الآمال في جدواه، وساهم في إثارة شعوبية فقهية مسلحة بأقوام وأجناس متماسكة مقاتلة. كما أن الجنس العربي في هذا العصر - والقرشيون في المقدمة - كان أبعد الناس عن الوصول إِلى السلطة، فلا العصبية باقية فيهم لتوفير القوة والنصرة. ولا الصراحة في النسب واضحة لاختلاط الأجناس والأقوام، وإكثارهم من أبناء الإماء والجواري وأمهات الأولاد، وشيوع الانتحال والادعاء في الانتماء إلى قريش وآل البيت وأعيان الصحابة؛ ولا الرشد السلوكي متوفر في نخبتهم - باستثناء قلة غريبة بينهم -؛ إذ اتجهت غالبيتهم إلى الابتذال وأدبيات الخلاعة والمجون بعد أن حيل بينهم وبين السلطة، وعجزوا عن مجاراة الأعاجم في ميادين العلوم؛ ولا القوة الاقتصادية بأيديهم، لأن سلاطين عصرهم احتكروها وتداولوها واستغلوها لكل غاية يرجى نفعها.
1 / 16
كما أن المظالم التي أوقعوها ببعضهم أثناء توليهم السلطة، وبأرحامهم وذرية نبيهم وصحابته، تراكمت وشكلت سلاحًا شاكيًا في أيدى الأجناس الأخرى، قضى على كل ولاء لهم أو عطف عليهم أو تشوف لعودة عهودهم، لا سيما لدى الفقهاء الذين كانوا أول من أدى ضريبة سقوط الخلافة الراشدة اضطهادًا وترهيبًا وتعذيبًا. وقد حولهم ملوك بني أمية وبني العباس والفاطميين العرب أدوات رخيصة لإصدار الفتاوى السياسية، وتبرير الأحكام التعسفية، والتمويه على جرائم القصور، والتشريع لبيعة القصر والرضع والعتهاء والمجرمين. ويكفينا مثلًا لطريقة ترقية العلماء في هذه العصور، أن أبا يوسف (٦٢) عين في منصب قاضي القضاة بعد أن أفتى للخليفة بعدم استحقاق ولده الحد، وقد شاهده بنفسه يرتكب الفاحشة. كما أن من أوضح الشواهد على وضع العلماء الصادقين، أن الأئمة الأربعة لمذاهب أهل السنة كلهم نالهم الأذى من قبل الحكام؛ فالإمام أبو حنيفة جلد وسجن ومات في السجن كما ورد في إحدى الروايات لأنه رفض القضاء، وجلد الإمام مالك لأنه أفتى بأن طلاق المكره لايجوز، واعتقل الشافعي وكاد يقتل وفرضت عليه الإقامة الجبرية لأنه يوالي آل البيت، وجلد الإمام ابن حنبل لأنه رفض القول بخلق القرآن. هذه الأسباب - وغيرها كثير - كانت كافية لإقصاء الأسر العربية عن السلطة وحجب نصرة الفقهاء عنهم، لاسيما وهم جهاز التوجيه المعنوي والفكري والعقدي في الأمة. أما في عصر المؤلف فإن سلاطين الترك لم يكونوا محتاجين إلى شرعية فقهية، لاستغنائهم عنها بشرعية سيوفهم. ولذلك أعفي الفقهاء من هذه المهمة ونيطت بهم مهمة أخرى أكثر يسرًا وأحفظ لماء وجوههم، هي الإشراف التشريعي والتطبيقي لأحكام الدين على العامة باستقلالية تكاد تكون تامة، في ميادين القضاء والحكم والفتوى والحدود والتعازير والأنكحة والمواريث والأوقاف والحسبة والتدريس والوعظ والإرشاد. وبهذا صارت السلطة مقسمة بين طائفة المماليك في شؤون السلطنة سياسة ومالًا وإقطاعًا وجيشًا وحروبًا، وطائفة الفقهاء في أمر ضبط العامة وتسيير شؤونها الدينية والتعليمية. وقد نال الفقهاء نتيجة هذا الوضع من الحظوة والتكريم والمنزلة الرفيعة والتقدير الجم والاحترام التام، ما لم ينالوه من قبل أو من بعد؛ وكانوا بحق شركاء في السلطة وركائز للنظام، نصرة وولاء، على اختلاف مذاهبهم ومشاربهم، وإن ظلت فقهيات كثير منهم تتحدث عن شروط الإمامة قرشية واجتهادًا وعدالة في الميدان التعليمي المحض، وللضغط على الحكام وتليين جانبهم وتلطيف غلوائهم. ثم بعد حين ظهرت بينهم نزعة جديدة في متأخري الحنفية خاصة، تنحو نحو تجاوز هذه الشروط وتناور فقهيًا لأهداف استراتيجية غايتها إخضاع الحكام لأَحكام الدين، واستدراجهم لقبول التحاكم إليه، فكانت تحفة الترك باكورة الإنتاج الفقهي في هذا الاتجاه، ممهدة الطريق لقيام أول خلافة إسلامية غير عربية، هي مملكة آل عثمان التركية ذات الشوكة والمنعة.
٢ - من الناحية الفقهية السياسية:
الجمهور على أن الإِمامة واجبة بالعقل والنقل، وخالفهم جماعة من القدرية والخوارج، كأبي بكر الأصم الذي ذهب إلى إمكان الاستغناء عنها إذا كف الناس عن التظالم، وهشام الفوطي الذي زعم أن الأمة إذا فجرت وقتلت الإمام لم يجب حينئذ على أهل الحل والعقد إقامة إمام. والبحث في موضوع الإِمامة يعتوره محظوران عند ذوي العقول كما قال إمام الحرمين ﵀ أحدهما: ميل كل فئة إلى التعصب وتعدي الحق، والثاني: كونه من المجتهدات المحتملات التي لا مجال للقطع فيها. والشروط المعتبرة في الإمام تتسع عند بعض الفقهاء إلى الحد الذي يجعل استجماعها في شخص واحد من قبيل المتعذر، وتتقلص عند البعض إلى حد يعتبر فيه الغاصب والفاسق عملًا ومعتقدًا، والظالم والمعتدي، أهلا لانعقادها واستدامتها؛ وما ذلك إلا لأن لهم في اعتبارها شروطًا، مرجعين اثنين، أحدهما النص من صاحب الشرع، ولم يرد النص في شئ من ذلك إلا في النسب إذ قال: " الأَئِمَةُ مِنْ قُرَيْشٍ "، أما ما عدا ذلك فإنما أخذ بالضرورة والحاجة الماسة لينتظم أمر الإمامة. وعلى ذلك نجد شروط الإمامة عند أبي بكر الباقلاني المالكي هي: القرشية والعلم الذي يصلح معه أن يكون قاضيًا، البصيرة في الحرب والسياسة، الصلابة بحيث لا تلحقه رقة في إقامة الحدود وضرب الرقاب والأبشار. أما أبو الحسن الماوردي الشافعي فشروطها عنده سبعة: العدالة، والعلم المؤدي إلى الاجتهاد، وسلامة الحواس، وسلامة الأعضاء، والرأي المفضي إلى سياسة الرعية، والشجاعة، والقرشية. أما أبو يعلى الحنبلي فشروطها عنده: القرشية،وشروط تولية القضاء، والبصر بأمور الحرب والسياسة وإقامة الحدود، والعلم. وعند عبد القاهر البغدادي: العلم المؤدي إلى الاجتهاد، والعدالة، وأقلها قبول شهادته تحملًا وأداءً، والقرشية، والاهتداء إِلى أوجه السياسة وحسن التدبير. أما أبو حامد الغزالي فالشروط عنده عشرة: البلوغ، العقل، الحرية، الذكورية، النسب القرشي، سلامة حاستي السمع والبصر، النجدة، الكفاية، العلم، الورع. كما إن من الفقهاء من أجاز إمامة الجاهل والفاسق بالعمل أو المعتقد، وإمامة الاستيلاء والقهر والغصب انعقادًا واستدامة. وعلى رأس هؤلاء أبو يعلى الحنبلي الذي نسب هذا الرأي للإِمام أحمد بن حنبل. لكن سيرة هذا الإِمام المجاهد لا تحتمل أن ينسب إليه هذا الرأي. أما القرشية فقد اشترطها المالكية والشافعية والحنبلية والحنفية. وذهبت الخوارج إلى أن الإمامة صالحة في كل صنف من الناس، وإنما هي للصالح الذي يحسن القيام بها. وقال ضرار: إذا استوى الحال في القرشي والأعجمي، فالأعجمي أولى بها، والمولى أولى بها في الصميم، وما ذلك إلا لضعف العصبية لدى الأعجمي والمولى، مما ييسر للأمة عزله متى حاد عن الطريق المستقيم. وذهب الزيدية إلى أنها في علي ﵁، ومن خرج من ولد الحسن والحسين شاهرًا سيفه وفيه شروط الإِمامة فهو الإمام. وقالت الإمامية: إنها في ولد علي وذريته إلى الإمام الثاني عشر، وفي الذي ينتظرون خروجه منهم، أي الإمام المهدي المنتظر. وإذا كان أئمة المذاهب السنية مجمعين على اشتراط القرشية فإنهم استندوا في ذلك الى حديث " الأَئِمَةُ مِنْ قُرَيْشٍ " الذي أخذ به مالك والشافعي وابن حنبل، ورواية لزرقان عن أبي حنيفة؛ وإلى تطبيقات الحديث في الفترة الراشدية وعهد بني أمية وبني العباس. إلا أنهم أقروا كذلك إمامة الغصب والاستيلاء والجور. وإمامة غير القرشي للضرورة واتقاء الفتنة. والأمر كذلك بالنسبة لشرطي الاجتهاد والعدالة، ذلك أن هذه الشروط، الاجتهاد والعدالة والقرشية، تعتبر في ثلاث مراحل: عند التولية، وفي استدامة الإمامة، وعند ممارسة الإمام مهام تقليد الولاة والقضاة وغيرهم. أَما الاجتهاد مطلقًا أو مقيدًا فإن بعض الحنفية يرون أنه ليس ضروريًا، ويغني الخليفة معرفة كافية بالشرع. فإذا عرضت له مسالة تقتضي الاجتهاد استعان بمجتهدي رعيته.
1 / 17
وأَما العدالة فصغرى، هي تجنب فسق الأعمال، وكبرى هي تجنب فسق الأعمال والمعتقد. وقد رأى بعض الحنفية أنها ليست بشرط ضروري لصحة الخلافة، وأن اختيار الفسقة والظلمة لها جائز مع الكراهة، سواء عند التولية، أَو للاستدامة، أَو ممارسة مهام تقليد الولاة والقضاة وغيرهم. وقد شرح هذا الرأي كثير من متأخري الحنفية على رأسهم السرخسي، والكمال بن أبي شريف في " المسامرة " بشرح " المسايرة " للكمال بن الهمام. فقد نص السرخسي في المبسوط (٥/٢٢) على أن " الفسق لا يخرجه عن أن يكون أهلًا للإِمامة والسلطنة فإن الأئمة بعد الخلفاء الراشدين ﵃ قل ما يخلو واحد منهم عن فسق. فالقول بخروجه من أن يكون إمامًا، بالفسق، يؤدي إِلى فساد عظيم. ومن ضرورة كونه أَهلًا للإمامة كونه أهلًا للقضاء، لأَن تقلد القضاء يكون من الإمام، ومن ضرورة كونه أهلًا لولاية القضاء، أن يكون أهلًا للشهادة؟ ".كما قال السرخسي أَيضًا (المبسوط ٥/٣١): " الفاسق عندنا من أهل الشهادة. وإنما لا تقبل شهادته لتمكن تهمة الكذب، وفي الحضور والسماع (أي لعقد النكاح) لا تمكن هذه التهمة، فكان بمنزلة العدل. وعند الشافعي ﵀: الفاسق ليس من أهل الشهادة أصلًا، لنقص حاله بسبب الفسق. وهو يبنى أيضا على أَنَّ أصل الفسق لا ينقص من إِيمانه عندنا، فإن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، والأعمال شرائع الإيمان لا من نفسه. وعنده - أي الشافعي: الشرائع من نفس الإيمان. ويزداد الإيمان بالطاعة وينقص بالمعصية ". كما أن الكمال بن أبي شريف قال في " المسامرة " (٢٩٠ ٢٩٢): " وعند الحنفية ليست العدالة شرطًا للصحة أى صحة الولاية فيصح تقليد الفاسق مع الكراهة. وإذا قلد عدلًا ثم جار وفسق لا ينعزل، ويستحق العزل إِن لم يستلزم فتنة. ويجب أن يدعى له بالصلاح ونحوه.كذا نقل الحنفية عن أبي حنيفة وكلمتهم قاطبة متفقة ". إلا أن هذا الرأي غير صحيح عند أئمة الحنفية المعتبرين، فالإمام أبو حنيفة امتنع عن تولي القضاء للأمويين والعباسيين وحرض عليهم، وامتحن من أجل ذلك وجلد وسجن وبقي على رأيه وموقفه إلى أن توفي ﵁. كما أن ابن الهمام، وهو من كبار محققي " الحنفية " في " المسايرة "، وصدر الشريعة في "تعديل العلوم " صرحا بأن العدالة شرط جوهري لصحة الخلافة. أما النسب القرشي، فإن بعض فقهاء الحنفية شأنهم في ذلك شأن فقهاء المذاهب الأخرى -، رأوا أنه في حالة الضرورة يمكن تعيين غير القرشي (تقريب المرام للتفتازاني٣٢٣) . وفي " المسامرة على المسايرة ". (٢٩٠ ٢٩٢) نص الكمال بن أبي شريف على ذلك بقوله: "؟ وصار الحال عند التغلب كما لم يوجد قرشي عدل، أو وجد قرشي عدل ولم يقدر على توليته لغلبة الجورة على الأمر. إذ يحكم في كل من الصورتين بصحة ولاية من ليس بقرشي، ومن ليس بعدل للضرورة. وإلا لتعطل أمر الأمة في فصل الخصومات، ونكاح من لا ولي لها وجهاد الكفار وغير ذلك ". والواقع أن اعتبار حديث " الأَئِمَةُ مِنْ قُرَيْشٍ " صحيحًا وغير منسوخ، قد أربك الاجتهاد الفقهي في الموضوع طيلة التاريخ السياسي منذ سقوط الخلافة إلى الآن. فهذا الإمام النووي نفسه في روضة الطالبين يقول: " فإن لم يوجد قرشي مستجمع الشروط فكناني، فإن لم يوجد فرجل من ولد إسماعيل، فإن لم يكن فيهم مستجمع الشرائط ففي " التهذيب " أنه يولى رجل من العجم. وفي " التتمة " أنه يولى جرهمي، وجرهم هم أصل العرب ". وفي العصر الحديث وجد من يجمع بين متناقضين، صحة الحديث وعدم وجوب العمل به، مثل الشيخ محمود شاكر، الذي يقول في كتابه " الخلافة والإمارة " ص ١٤٠: " أما وقد توزعت قريش في الأمصار، وكثر الأدعياء، وكل أهمل ما عليه، وتراخى في دينه، وتهاون في مقتضى أوامره، فالأمر عام بين المسلمين، يتفاضلون بالتقوى ". وهذا الاجتهاد من الشيخ محمود شاكر غير مبني على أي دليل فقهي أو أصولي معتبر، سوى دليل المصلحة المرسلة التي لا ترد بها الأحاديث الصحيحة، وهو من أوهن الأدلة وأضعفها، كما أنه بذلك يتبنى رأي الخوارج بدون دليل. وهو نفس موقف نجم الدين الطرسوسي من قبله في مؤلفه " تحفة الترك "؛ لم يشترط القرشية، ولم يبين أن عدم اشتراطها للضرورة، ولم يبين لماذا أجاز التحلل من مقتضيات الحديث " الأَئِمَةُ مِنْ قُرَيْشٍ ". ونحن إذا ما أعدنا دراسة الحديث سندًا ومتنًا، نجد أن الظنية تحيط به من كل جانب - برغم كون سنده صحيحًا -: ظنية كونه من الآحاد، وظنية مخالفته للقرآن الكريم في قوله تعالى:) إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ (، ومخالفته لأحاديث آحاد مثله، ترفعها موافقتها للقرآن عن درجته، تتعلق بمساواة المسلمين ذمما ودماء، كالتي أخرجها أحمد في مسنده، وأبو داود والنسائي في سننهما، والمسند الجامع (٩/٢٦٠ - ١١/١٣٩ - ١٣/ ١٨١)، والزيلعي في نصب الراية (٣/ ٣٩٣٠) . كما أن ما ذكر من استشهاد أبي بكر به يوم السقيفة غير صحيح، ولا تؤيده الروايات الثابتة، بل لم يقع ذكر الحديث في أي مرة انتخب فيها خليفة راشد، كما هو الصحيح. وما ادعي كذلك من إجماع الصحابة على اشتراط القرشية غير صحيح، ينقضه رفض سعد بن عبادة، الصحابي الجليل، مبايعة أبى بكر وعمر. وإصراره على ذلك إلى أن توفي، وليس في عنقه بيعة لأحد من الخلفاء الراشدين (٦٣) . ثم إن غضب معاوية في حديث الزهري، الذي أخرجه البخاري - كتاب الأحكام -، عندما ذكر له أن ملكًا سيكون في قحطان، وتهديده من يقول ذلك بقوله: (وأولئك جهالكم، فإياكم والأماني التي تضل أهلها)، يعتبر شبهة توظيف سياسي لهوى قرشي أموي. كما أن للحديث مطعنًا آخر من حيث مدلوله، ذلك أن الإمامة إن كانت لقريش، فإنها في بني هاشم من قريش من باب أولى، وفي آل البيت من بنى هاشم من قريش من باب أولى الأولى؛ اعتمادًا على حديث صحيح آخر هو قول الرسول (ص) (٦٤) -: " إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشًا من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم ". وهذا قول الشيعة في إطار الاطراد العقلي المنطقي، الذي تؤيده النصوص الآحادية الصحيحة، وفضل آل البيت المنصوص عليه بالأدلة القطعية في القرآن الكريم. كما أن نصوصًا نبوية أخرى صحيحة تعارض حديث " الأَئِمَةُ مِنْ قُرَيْش "، وردت متأَخرة عليه في حجة الوداع، مثل حديث الأمر بالسمع والطاعة ولو لحبشي، وما ورد في خطبة حجة الوداع عن مساواة المسلمين لبعضهم؛ فيكون بذلك اشتراط القرشية في الإِمامة منسوخًا على أقل تقدير.
1 / 18
هذه الظنية المحيطة بالحديث، والآخذة بتلابيبه من كل جهة، جعلت متأخري الحنفية وعلى رأسهم نجم الدين الطرسوسي، يعتبرون الأصل في سياسة الحكم والتصدر لقيادته، المساواة المطلقة بين المسلمين، وإن لم يصرحوا بضعفه أو بنسخه (٦٥) .
٣ - من ناحية منهجية تناول الموضوع:
لابد لنا من التعريج على مراحل تطور فقه الأحكام السلطانية في الفكر الإسلامي، وهي تكاد تكون ثلاث مراحل، رابعتها تمثلها "تحفة الترك " خير تمثيل. المرحلة الأولى: كانت الأحكام السلطانية فيها مواعظ متفرقة مبثوثة في كتب الأخبار والأدب، لم تفرد لها مصنفات خاصة؛ وهي عبارة عن أمثال وحكم وأقوال مأثورة، وقصص وآيات من القرآن الكريم، وأحاديث نبوية؛ كما هو الشأن في كتاب " عيون الأَخبار " لابن قتيبة (٢١٣هـ/٨٢٨م - ٢٧٦هـ/٨٨٩م)، والكامل للمبرد (٢١٠هـ/٨٢٦م - ٢٨٥هـ/٨٩٨م)، والعقد الفريد لابن عبد ربه (٢٤٦هـ /٨٦٠م - ٣٢٨ هـ /٩٤٠م) . المرحلة الثانية: خصصت للأحكام السلطانية مصنفات مستقلة، سار فيها الفقهاء على نهج فقهي تشريعي لما ينبغي وما يجب وما يجوز أن تكون عليه الخلافة، واستوفت مواضيعها نظم الملك والوزارة والإدارة والقضاء والحسبة والأموال، وتنظيم الجيوش والعلاقات مع داري الحرب والمهادنة. ويمثل هذه المرحلة خير تمثيل الماوردي (٦٦) في كتابه "الأحكام السلطانية "، وأبو يعلى الفراء (٦٧) في كتابه "الأحكام السلطانية "، وإِمام الحرمين في كتابه القيم " غياث الأمم في التياث الظلم ". وقد بذل فقهاء هذه المرحلة جهودًا جبارة، من أجل تبرير تصرفات الملوك وإضفاء الشرعية عليها. وما لم يجدوه من تشريع في هذا المجال في الكتاب والسنة صريحًا، استنبطوه منهما تأويلًا وقياسًا واستحسانًا واستصحابًا وسدًا لذرائع، وتحقيقًا لمقاصد ومصالح مرسلة، أو بمفاهيم الإشارة والموافقة والمخالفة، ودلالتي الأولى والاقتضاء، والعام المخصص بالقياس أو المصلحة، والمطلق المقيد بالعقل أو المقاصد، إلى غير ذلك من أساليب الاستنباط التي أوهنت النصوص، وحولت علم أصول الفقه لعبة شطرنج يتلهى بها الفقهاء، ويستفيد منها الحكام. ثم تدهور الاستنباط في هذا الموضوع مرة أخرى، فاتخذوا لهم من سير ملوك بني أمية وبني العباس مرجعًا فقهيًا ومستندًا شرعيًا؛ ونزل بذلك فقه الأحكام السلطانية إلى حالة من الإسفاف والسطحية الفجة، تعب الفقهاء بها في تبرير تصرفات الحكام المنحرفة، ولم يتعب الحكام من استحداث شتى ضروب البدع، في سلوكياتهم وأحكامهم وتصرفاتهم الضالة. وكان هذا إيذانًا بظهور منهجية جديدة في الموضوع. المرحلة الثالثة: تصنيفات الأحكام السلطانية في هذه المرحلة لم تعد تهتم بالجانب التشريعي الذي استوفى السابقون أغراضه وأَحكامه، ولم يعودوا قادرين على تطويره، لأسباب تتعلق بالرهب أو الرغب. ولذلك ظهرت منهجية جديدة في الكتابة قاصرة على محاولة استيعاب الظروف الجديدة ومعايشتها، بعد أن استعصى الأمراء على التعقل والعدل والرفق، وتجارى بهم البطش والطغيان والاستكبار. كتابات هذه المرحلة كانت متوددة مسالمة مداهنة خانعة، بأسلوب يحفظ ماء وجه الفقهاء، ولا يزعج السلطان أو يضايقه، من خلال تقديم نصائح ذات طابع أخلاقي تعليمي، من شأنها أن تحفظ العروش - إن طبقت - أطول مدة ممكنة؛ واستشهادٍ بوصايا من تراث الأمم السابقة، ومأثورات من الطرائف المسلية والأساطير الخيالية، والحكم والأمثال، ومختارات الشعر والنثر، مدعمة بآيات من القرآن الكريم، وأحاديث صحيحة وضعيفة وموضوعة ومنكرة، وأقوال للسلف والخلف، صحت نسبتها إليهم أو لم تصح. ويمثل هذه المرحلة كتاب "سير الملوك " لنظام الملك (٦٨)، " والتبر المسبوك " للغزالي (٦٩)، " والنهج المسلوك " لابن نصر الشيزري (٧٠) . المرحلة الرابعة: وتمثلها "تحفة الترك " خير تمثيل، إن لم تكن أولى مصنفاتها وأبرزها. سلك في كتابتها المؤلف نهجًا جديدًا كل الجدة، اعتمد فيه حنكة سياسية قوامها الفهم العميق لخفايا المرحلة التاريخية، وتركيبتها الاجتماعية، ونفسية القائمين عليها، وأسلوبهم في السيطرة على الدولة وتسيير شؤونها، واستغلال الخلافات المذهبية والتنوع العرقي والثقافي لاستدامة السلطة وتهدئة العامة. لاحظ المؤلف أولًا الوضع المقلوب الذي تعيشه الأمة، فبدلًا من أن تكون للشرع الحاكمية والسيادة فوق الحكام والمحكومين على السواء، تحول أداة رخيصة في يد السلاطين لتوطيد السلطة وقمع الخارجين. وبدلًا من أن تكون المذاهب الإسلامية مدارس للتيسير والتوسعة على المسلمين وتطوير الأحكام الفقهية، تحولت أَداة للتضييق على الأمة، ووسيلة لضبط الفقهاء وقمعهم، ونيرا في أعناقهم يشل حركتهم الفقهية ويركسهم فى الفتن والصراع والتآكل، ويأطرهم على طاعة "أولي الأمر " أطرًا، ويجعل وحدتهم وتآلفهم واختلافهم وتناحرهم بيد السلطان، وحسب مشيئته. وقد أورَدت المصادر التاريخية نماذج كثيرة لأوجه تصرف السلطان في أَمر وحدة الفقهاء واختلافهم، منها ما ذكره ابن حجر في " إنباء الغمر " (١/٢٥٨ - ٢/٧٥) عندما أمر السلطان المملوكي برقوق، الفقهاء بمحاكمة القاضي الشيخ علي بن العز الحنفي بسبب اعتراضه على قصيدة للشاعر ابن أيبك؛ فقد اجتمع الفقهاء أَولًا لمحاكمته، فاعتذر القاضي أثناء المحاكمة عما بدر منه، فأَمر السلطان الفقهاء بإِعادة محاكمته ثانية، فأعادوها وحكموا بمعاتبته، فلم يرض السلطان بالحكم وأمرهم ثالثة بإعادة المحاكمة، ثم رابعة ثم خامسة قضوا فيها - حسب هوى السلطان - بسجن القاضي وتعزيره. كما أورد ابن كثير في البداية والنهاية (١٤/٣١٧) كيف كان المماليك يوفقون بين الفقهاء إِذا اقتضت مصلحتهم ذلك، في جلسة إصلاح حضرها ابن كثير نفسه، وقال عنها: (. . فاجتمعت مع نائب السلطنة بالقاعة في صدر إيوان دار السعادة، وجلس نائب السلطنة في صدر المكان، وجلسنا حوله، فكان أول ما قال " كنا نحنا الترك وغيرنا إِذا اختلفنا واختصمنا نجيء بالعلماء فيصلحون بيننا، فصرنا نحن إِذا اختلف العلماء واختصموا فمن يصلح بينهم "؟ وشرع في تأنيب من شنع على الشافعي بما تقدم ذكره من تلك الأقوال والأفاعيل التي كتبت في تلك الأوراق وغيرها، وأن هذا يشفي الأَعداء بنا، وأشار بالصلح بين القضاة بعضهم من بعض، وقال " أما سمعتم قول الله تعالى:) عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ (فلانت القلوب عند ذلك) . لكل ذلك رأى نجم الدين الطرسوسي أن يحاول قلب المعادلة، بطريقة تضمن ضبط السلاطين في مذهب واحد، يستدرجون للركون إليه والرضى به، والخضوع لأحكامه؛ وتحويل المذاهب الأخرى أَحزابًا سياسية معارضة، قوامها الفقه المذهبي مرجعًا ومستندًا. فيجد الحكام أَنفسهم بين مطرقة المذهب الحاكم، وسندان المذاهب المعارضة؛ وبذلك يتحول السلاطين من متحكمين بالمذاهب إِلى محكومين بها وأدوات لتنفيذ أحكامها. وكان المذهب الحنفي - فى نظر المؤلف - هو اللائق بهذه المرحلة، لما يتميز به من مرونة فقهية في ميادين الإدارة والسياسة ومعاملة الأَعراق والأجناس، ولما يتسم به من سعة ورفق ويسر، لاسيما وهو مدرسة أهل العراق، حيث تفاعلت الأمم والشعوب مع الثقافة الإسلامية والعربية، ومدرسة أهل الرأي التي تميل للتيسير المرحلي في الأحكام والتشريعات.
1 / 19
على هذا النهج سار المؤلف في كتابة رسالته "التحفة "، وسلك فيها مسلكًا بعيدًا عن التنظير الفقهي والنصح المباشر والتسلية المفيدة كما كان شأن من سبقه؛ وتوسل إلى هدفه بعدة طرق أهمها: أولًا: الإقرار بشرعية الحكام غير العرب، بإبراز عدم صحة اشتراط القرشية في الإمامة العظمى، اختيارًا واستدامة، وممارسة لشؤون الحكم؛ومحاولة الإقناع بأن المذهب الحنفي الذي لا يشترط بعض فقهائه ذلك أصلح في هذا المجال. وممارسة الضغط بإبراز رأي المذاهب الأخرى المشترطة للقرشية، والتي تعتبر سلاطين الترك ذوي شوكة مغتصبين للسلطة بدون استحقاق، مبّينا أن الالتزام بالمذهب الحنفي والخضوع لأحكامه تثبيت للسلطة، وتوفير مهابة واحترام من قبل العامة للقائمين عليها، وترس ديني في مواجهة المعترضين والمحتجين والمخالفين والمتمردين. ثانيًا: إبراز المكاسب المادية والمعنوية التي يحققها السلطان بالتزامه المذهب الحنفي، في الميادين العملية، سياسة واقتصادًا واجتماعًا وحربًا وسلمًا، وهذه الغاية جعلت المؤلف يتصرف في النصوص والاجتهادات الفقهية المذهبية بعقلية انتقائية، ترجح المذهب الحنفي على غيره؛ متغافلًا عن حقيقة هو أكبر من أن تخفى عليه، هي أن لكل مذهب مطعنًا، ولكل مذهب مآخذ على غيره، وأن للمجتهد أجرين إِن أصاب، وأجرًا واحدًا إن أَخطأ. وقد ساعد المؤلف على أَسلوبه الانتقائي هذا سعة فقهه وتبحره في علم الخلاف، واطلاعه على دقائق المذاهب كلها. ثالثًا: تلقينه الحكام من خلال عرض المكاسب الموعودة، كثيرًا من القواعد العملية المنضبطة بأحكام المذهب الحنفي، في ميدان سياسة الحكم العادلة بما يقيد تصرفاتهم - إن هم امتثلوا - ويجعلها تحت رقابة الشرع وضابطيته، ويوفر للرعية مستوىً معقولًا من الحفظ لأنفسها وكرامتها وحقوقها. هذه الحقائق تبدو واضحة لمن يدرس "التحفة " بتأن وروية، وخلفية سياسية بعيدة الغور، بالرغم مما يحجبها من ملامح تعصب مذهبي فرضته طبيعة العصر والمرحلة، ولوازم الخطة التي تبناها المؤلف لإصلاح أولي الأَمر واستدراجهم إلى الكمين الفقهي الذي نصبه لهم. وهذا أقصى ما كان يطيقه فقيه أَعزل، يغار على أمته ودينه، في عصر تؤدي فيه الشبهة، وأحيانا المزاجية، إلى مختلف ضروب التعذيب الهمجي والقتل الوحشي. رابعًا: حرص على أن تكون "التحفة " بأسلوب يليق بكرامة العلماء، مترفعة عن التزلف والتملق والتذلل، فلم يقدمها قربة لسلطان، ولم يكتبها " بأمر من تجب طاعته " كما هو عرف لدى كثير من كتاب الأَحكام السلطانية. وإنما كتبها قيامًا بواجب النصح كما قال في المقدمة: (ورأيت من الواجب في هذا الزمان بذل النصيحة بقدر الإمكان)؛ وأشار في نفس المقدمة إلى أن بقاء الملك مرتبط باتباع الشرع والخضوع لأحكامه: (ولم أقصد بذلك سوى القيام بهذا الواجب، وحفظ نظام الملك لمن هو في اتباع الشرع راغب) . وقد قام بهذا الواجب لهدفين ذكرهما في المقدمة أيضًا، أولهما: (رجاء أن تلحق ملوكنا بالخلفاء الراشدين والأئمة المهديين، أو بما هو أعلى وأغلى من الأَمويين، اتباع سيرة عمر بن عبد العزيز ذي العز والتمكين) . وثانيهما: خشية أن ينسى طريق العدل في موضوع الحكم: (وقد يخشى أن ينسى هذا الطريق بعدم من يعظ الناس ممن أعطي خطاب التوفيق) . وكان أسلوبه في رسالته هذه كلها مستعليًا على الحكام، يخاطبهم من فوق رؤوسهم، ويشعرهم في كل آنٍ بأن مرتبة العلم ومكانة العلماء لا يدانيها عز الملوك والسلاطين. ولقد تحقق ما كان يرمي إليه المؤلف بعد وفاته بقليل؛ فقامت أول خلافة إِسلامية غير عربية، هي مملكة آل عثمان التركية (٧١) التي التزمت المذهب الحنفي. فهل تحقق ما كان يصبو إِليه من وراء ذلك. .؟ إن هذا موضوع آخر يحتاج إلى دراسة خاصة عميقة ومستقلة، وفي غير هذا السياق.
أهم القضايا التي تثيرها التحفة
كتب الطرسوسي تحفته، وهو في ريعان الشباب، قبل أن يعتبط بخمس سنوات، مليئًا بالحيوية والميل الفطري إلى الحق والعدل، متأثرًا بالبيئة العلمية التي احتضنته وربته ووجهته، كاشفا من خلالها واقع ذوي الجاه والسلطة من جهة، وما تعانيه الأمة من ظلم وعسف وتسلط وفساد من جهة أخرى؛ فكان ما كتب لحنًا نشازًا بين سلوكيات عصره، وكانت توجيهاته الفقهية والسياسية والإدارية والعسكرية التي تضمنتها التحفة احتجاجًا ضد تعفن الأجهزة الحاكمة، وتحللها من ضوابط العقل والدين. إلا أنه احتجاج لم يرقَ إلى مستوى التمرد والثورة أو الدعوة إليها، لأسباب عدة، منها ما هو راجع إلى طبيعة الثقافة الفقهية السائدة التي غذي بها مبكرًا، ومنها ما هو راجع إلى يقينه بأن موجة الفساد أكبر منه، وأن الجهود الفردية لا تجدي.ومنها ما هو راجع إلى اتعاظه بما عاناه بعض علماء عصره عامة، وعلماء أسرته خاصة. لذلك يلحظ المرء في كتابته نوعًا من الازدواجية، فهو عندما يتحدث عن وجوب طاعة الحكام وعدم اشتراط القرشية والعدالة والاجتهاد فيهم، يصرح بأن عصره خالٍ تمامًا من الحاكم العادل الكفء التقي، ويشعر قارئه بأن عبارات مجاملته للحكام لا تكاد تتجاوز تراقيه؛ وعندما يتحدث عن الظلم والفساد فإنما برنة تزخر بالصدق والاستنكار والتوجيه المباشر إلى التغيير والإصلاح. ولقد أثار في تحفته قضايا كثيرة، عقدية وسياسية، واجتماعية واقتصادية وعسكرية؛ درس كل ذلك ووجه إلى ما ينبغي أن يكون عليه السلوك القويم المبني على قواعد الإسلام. وسواءٌ وافقنا على اجتهاداته وآرائه أم لم نوافق، فلا بد أن نسجل أنه في كل ما كتب كان صادقًا مخلصًا، محاولًا شق طريق إلى الإصلاح، بمختلف ضروب الاستنباط الفقهي والحيل الشرعية المبنية على قواعد الاستنباط الأصولية. وبذلك كان منهج توجيهاته يتأرجح بين فقه العزائم من جهة، وبين فقه الرخص من جهة أخرى؛ وبين فقه الأدلة الأصلية كتابًا وسنةً وإجماعًا وقياسًا، وبين فقه الأمارات استحسانًا واستصحابًا وسدًا للذرائع؟ وهذا المنهج في الاستدلال متسع متشعب، مذاهب الخلاف فيه مشرعة.لذلك وجد فيه صاحبنا مجالًا واسعًا للانتقاء، ولنقد المذاهب المخالفة لمذهبه الحنفي. ففي المجال السياسي المتعلق بشرعية الحاكم، كان شعاره العمل بالرخص وسد الذرائع إلى الفتنة، وارتكاب الضرر الأخف دفعًا للضرر الأقوى، والحفاظ على تماسك الوضع الداخلي لدفع العدو الخارجي. وفي مجال " فقه البغاة " نجده يحاول التخفيف بوضوح من جنوح بعض الفقهاء إلى التشدد والقسوة وإراقة الدماء، فيميز بين الخارجين تظلمًا، والخارجين لخلاف سياسي، أو طلبًا للسلطة وصراعًا من أجلها. وفي مجال العقيدة نلفيه متشددًا في أمرها، سالكًا نهج العزيمة، معرضًا عن الرخص، وعن محاولة استيعاب مخالفيه في الرأي أو تجاوز أخطائهم. وفي الميدان المالي والإداري، مصادر للدخل، وتوجهات للإنفاق، وتوظيفًا ومحاسبة وتأديبًا، يحاول تأصيل منهج يعيد الأمر إلى مصادره في الكتاب والسنة، من أجل ضبط التصرفات، وتوزيع المسؤوليات بما يحفظ مصلحة الأمة، وهيبة أجهزتها، وسمعة شخصيتها الاعتبارية.
1 / 20