بسم الله الرّحمن الرّحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم
[خطبة الكتاب]
الحمد لله شرف المحال في الحال والاستقبال بمن إليها هاجر وبها حل، سيما أن كان الذي أرشد لكل خير ودل، وصرف عنها تلك الظلمة والمحال، فنادت أركانها وجهاتها المنخفضة والعوال حتى أضاء بها كل شيء عظم أو قل، حسبما شوهد من الأماكن النائية، مما المقام فيه أعلى وأجل، عظم أو قل، وعرف من نور بصيرته بركتها الموازية للغنائم والعطايا الزائد بها الاحتفال وللسرايا القادم أهلها بالبشارة ببلوغ الآمال. في الحل والارتحال، (فأكرموها) عن سلوك ما لا يرضى. إن غلط الواحد منهم أو زلّف وعظموها بربط قلوبهم عن المناكير والمعضلات التي لا تحتمل، سيما ومن المعلوم:
أن الأماكن الشريفة مرتفعة عن تلك المحن والأوحال، ممتنعة من إقرار الخبث بها وصرف المجانب فيها للعدل والاعتدال، إذ القاذورات للمبتلي بها أو عليها أقبل بالأماكن الدنيئة الخسيسة غير مضاعفة كهى فيها عند جماعة من اعتدل، والكل سائرون مع القدرة الإلهية التي لا محيد عنها ولا انتقال. فسبحانه له الحمد على كل حال، ومنه الاسترشاد والاهتداء لطرق السعد، وتجنبا لوباله، وبنعمته تتم الصالحات، وبرحمته تنمو الرابحات وإن كانت قليلة العمل. والصلاة والسلام على سيد الخلق وأشرف مرسل، وعلى آله وصحبه وتابعيهم المندفع الكرب عن سائر من به، ثم بهم، ببركته توسل. وبعد، فما كان من المعلوم المقرر عند أولي العقول الصحيحة وثاقب الفهوم: أنه عند ذكر الصالحين تنزل الرحمة وبتتبع آثارهم يندفع كل بلاء ونقمة. وأن الثناء على المدرج فيهم من الأموات رحمة للأحياء من أهل المودات والاشتغال بنشر أخبار الأخيار ولو بتواريخهم، من علامات سعادات الدارين لأولي العرفان والاختبار، بل يرجى إسعافهم للمقصر الذاكر لهم بالشفاعة، وإتحافهم من المولى بمرافقة أهل السنة والجماعة إلى غير هذا مما يرغب فيه، ويحبب للتوجه إليه كل وجيه.
1 / 3
توجهت لبيان أحوال أهل «طيبة» المشار إليها، والمخصوصة بالمزيد من الفضائل المنبه عليها، لأحوز بركة المرتفع منهم وأفوز بتنزل الرحمة حيث ذكرتهم ولم أنصرف عنهم، خصوصا ومن أحب شيئا أكثر من ذكره، والمرء مع حبيبه في حشره ونعيمه ونشره، وإن لم يلحقه في عمله، ولا رافقه في سلوكه وسبيله. وألحقت بهم من تخلف عن طريقهم، ولم يتعرف ما أنعم الله به عليهم، ولا تبعهم في توفيقهم، بحيث يحمل ما نقل مما هو في أوائل تاريخ ابن عساكر عن عمرو بن العاص، الحامد الشاكر، حين سئل عن وصف أهل المدينة؟ فقال: «أطلب الناس لفتنة، وأعجزهم عنها» على من لعله من هؤلاء ممن فارق الوقار والسكينة.
على أن الحجاج بن يوسف الثقفي، سأل أبا سليمان أيوب بن زيد ابن القرية عن أهل الحجاز فأجابه بذلك بدون انحياز، وقال عن المدينة «رسخ العلم بها وظهر منها» مما هو كذلك مع الضوء واليها، وعن أهل مكة «رجالها علماء جفاة ونساؤها كساة عراة».
بل لم أقتصر على هؤلاء، حيث ذكرت من قطنها من الغرباء ولو سنة، بشرط أن يكون درس فيها أو حدّث أو أفتى بالطريقة المرضية، والسّنة الواضحة احسنة، ليكون الأخذ عنهم أو من كانوا في طريقة بنيانهم على بصيرة ولا يفتقر إلى المسألة عنهم، والكشف الذي قد لا يظفر معه بتلك الذخيرة.
وقد ذكر الشمس بن صالح القائم بنشر العلم-مع الإرشاد بالخطب والمواعظ وبذل النصائح-التقي محمد بن أبي بكر بن عيسى بن بدران الأخنائي، مع عدم إقامة حديقة ولو احياء، أو بستانا، أو أنشأ بها للمعروف مكانا.
ولم ألتزم في المعمرين فمن بعدهم، كونهم سكنوها فضلا عن أنهم من أهلها، بل ذكرت منهم من لم يطأ لحزنها وسهلها، أو وطئها خدمة بزائد العزم والهمة، كالجلال أبي الفوارس شاه شجاع، والجواد الجمال الأصبهاني الربّاني بلا نزاع، والسلطان السعيد النور الشهيد، وأضرابهم ممن شغف بإسداء الإحسان إلى قاطن تربتها، وعرف بإسبال ذيل الامتنان إلى واطئي رحبتها، اقتداء بالمجد صاحب هذه العبارة، واهتداء بلباس من شمله السعد بما تضمنته الإشارة، ورجاء أن يكون كتابي بذلك مشتملا على الخصوص والعموم. وأن يصير كالبدر في التمام والبحر في الطموم. وكذا اتبعت التّقي الفاسي الحافظ لما غيره له ناسي، في ذكر جماعة من الأمراء والملوك ممن نص فيهم على إمرة الحرمين ولو لم يكن له بواحد منها سلوك.
ولكن بدون استيعاب، لانتشارها في الذكر والخطاب والإطالة بهم للكتاب، بل ذكرت جمعا ممن وصف بمفتي الحرمين أو قاضيهما أو شيخهما مع ما يطرق به من الاحتمال، وتجويز ارتكاب المجاز في مجرد الوصف بذلك لفحول الرجال.
1 / 4
وكان مما حداني على هذا الجمع، الذي تقربه العين ويصغي إليه صحيح السمع، أني لم أجد فيه مصنفا يشفي الغليل، وينفي الجهل باتضاح المقال والتعليل، مع مسيس الحاجة إليه، والتنفيس به عن المكروب، حيث لم يجد في ذلك ما يعتمد عليه.
هذا، وقد أفردوا أهل كثير من البلدان كبغداد-والشام-ومصر-وأصبهان-إلى غيرها مما يطول بذكره في هذا البيان، مع كون هذه أحق بالتنويه، وأصدق في الوجاهة والتوجيه.
نعم، اشتملت «الروضة الفردوسية» المشتملة على ما نحن بصدده وغيره من المهمات العلية، لأبي عبد الله (٧٩٦) الأشهري الثقة الرحال، غبر المزوري على كثير من التراجم لأهلها والأعاجم، وتاريخ البدر أبي محمد (٧٩٦) عبد الله محمد بن فرحون المقدم في الفضائل والفنون، على عدد كان الفكر بسببهم واجم، وتعليق الشمس (٧٨٤) محمد بن التقي صالح على كثير ممن لم ينصح في أكثرهم بما تتم به المصالح.
وكذا عقد المجد (الفيروزابادي) اللغوي، السائر في الاعتناء باللغة السير القوي في كتابه «المغانم المطابة في معالم طابة» الفائق حسنا وانتخابا لجماعة أدركهم، أو أدركهم شيوخه من أهلها بابا، استمد فيه من ابن فرحون عبّر فيها عن مقاصده بلفظ (بالدر) مشحون، ولم يستوعب ما هنالك. وزاد هو دون عشرة أنفس، رقمت عليهم «زايا» تنبيها للسالك. وعلى ما اشتركا فيه «كاف» للعدل في العزو والإنصاف، ومجموع ما اشتملت عليه هذه التصانيف قل من كثر، مع ارتفاع أربابها عن درجة التقصير والنكر.
وقد طالعت من الكتب الكبار، والمشيخات والمعاجم الجليلات المقدار، والتواريخ المستقيمة عند الاعتبار: ما أرجو سرد جميعه بآخره، ليكون ذلك من جملة مفاخرة.
وما تيسر لي الوقوف على كتاب «الإعلام بمن دخل المدينة من الأعلام» للعفيف عبد الله بن محمد بن أحمد بن خلف المطري، لأستيفد منه ما لعله يوافق اختياري ونظري.
وأتيت بما اشتمل عليه هذا الكتاب، على حروف المعجم، تسهيلا للكشف للاستفادة منه والانتخاب، مراعيا في ذلك الترتيب في الآباء والأجداد وبقية الأنساب، ثم أردف الأسماء بالكنى وبالأنساب ونحوها، مما يقرب المراجعة لمن به اعتنى، ثم بالنساء، اقتداء بمن اقتفى الأئمة.
وأثبتنا كل هذا بعد الابتداء بسيرة نبوية مختصرة، نافعة مفيدة معتبرة، إذ الشرف للمذكورين-بل ولجميع المتقدمين والمتأخرين، سيما المؤلف المسكين المزلزل في التمكين-إنما هو بالاضافة لجنابه الرفيع والتطفل بالتحرز في حرمه المنيع، حقق الله ولهم ذلك، ووفق لما مشى
1 / 5
فيه من هذه المسالك ثم أردفها بإشارة مختصرة جدا تشتمل على ما اشتمل عليه المسجد الشريف الفائق في الفخر، إحصاء وعددا: من الحجرة، والروضة الشريفتين، والكسوة، والسواري المعتمدين، والأبواب والمنابر، ونحوها ما تيسرت الإحاطة به سماعا ومشاهدة أو بهما لدفع المشتبه، والتعرض لذرعه، وما زيد من أروقته ووسعه إلى غيرها من أحكام حرمته وتعظيم جهاته، والتحذير من عدمه، وأماكن مما يزار من المساجد والآبار وغير ذلك مما وقع عليه الاختيار، سيما من عرف من أهل البقيع، وما اتفق من الحوادث الصادرة من ذوي الجهالة والتبديع، وما بجوانبه من المدارس والربط والمطاهر وأماكن المرضى التي للذنوب تحط، ومن باشره من الأئمة والخطباء والقضاة والنظار والمحتسبين والرؤساء بدون اشتباه، والفراشين والخدام وما يفوق الوصف مما يرجى الانتفاع به إن دام، مما تتشوف النفس إليه حسبما تقف عليه، مستمدا في الكثير، خاصة من أبي عذرته وربي سجدته وأسد نجدته، الباحث عن جمله وتفصيله، والباعث لنفسه الزكية تحقيقه وتحصيله، بحيث قصرت الهمم عن اللحاق به، واستبصرت فعلمت عجزها عن أسبابه وسببه، مع التحقيق والفحص والتدقيق، والجمع بين المختلف بالتوفيق والتوهين، والتعيين بالتمريض والتبيين.
وكنت أول من نوه بمصنفه في ذلك، وقرظه بما لا يشتبه للسالك، وكيف لا؟ وهو عالم المدينة حسّا ومعنى، والقائم بالإرشاد للعلوم النقلية والعقلية بالحسنى، بل هو أعلم من علمته الآن من دلال، الجدير بإحياء معاهد جده سيد الخلائق ممن مضى وآل، ولذا جدد مكتومها وحدد رسومها، وأراح من بعده واستراح من لم يجتهد جهده. وهو صاحبنا وحبيبنا السيد العلامة نور الدين الحسيني السمهودي، ثم المدني الشافعي، بارك الله في حياته، وتدارك باللطف سائر مهماته، وكان الشروع في تبييضه، والرجوع لتهذيبه وتنهيضه، حين كوني كطيبة الشريفة وقرة عيني بلحظ تلك العرصات المنيفة، وكتب إلى العز بن فهد يحرض عليه، ويمرض من لم يلتفت إليه، بل نظم الفاضل اللواتي، والحبيب المواتي، قصيدة في الننويه والتوجه لسببه، نفع الله بهما ودفع كل مكروه عنهما وجعل هذا التأليف خالصا لوجهه الكريم، موجبا لفضله العميم. وصلّى الله على سيدنا محمد وسلم وشرف وكرم.
وسميته «التحفة اللطيفة في المدينة الشريفة».
وهذا حين الشروع فيما قدمته عن هذا المجموع: من نبذة يحسن إيرادها ويتعين أإفرادها، بل تعلمها أمر مفترض وتفهمها لا يهمله إلا من في قلبه مرض، في ذكر سيد البشر وسيد الخلق ممن مضى وغبر الأكمل خلقا وخلقا، والأفضل في الرقي والارتقاء، صاحب المقام المحمود، واللواء المعقود، والحوض والكوثر المورود، والمعجزات الباهرات، والتمييزات بالخصائص المتكاثرات: من الشفاعة العامة-والجماعة العائمة إلى قيام الساعة بالحجة التامة-
1 / 6
وانشقاق القمر، ونبع الماء ما بين أصابعه مما تواتر واشتهر-والبركة في الشراب والطعام- وتكليم الذراع المسموم له من بعض اللئام وإحياء الموتى وإسماع الصم، والاطلاع على الغيب فيما يخص ويعمم. وإعلامه بمصارع صناديد قريش ببدر، الذي كان فيه الهناء للمسلمين وطيب العيش، ورده عين قتادة وقد سقطت، ورؤيته المشارق والمغارب لما زويت الأرض التي هبطت، وإخباره بأن ملك أمته سيبلغ ما زوى منها فكان كما أخبر به عنها، الرحمة الشاملة، والنعمة الكاملة، خاتم الأنبياء والمرسلين، والسابق في الخلق الأصفياء أجمعين، المصطفى بالمحبة والخلة، والقرب والدنو، الذي رقاه به المولى وفضله، والمعراج وصلاته بالأنبياء التام به لهم الابتهاج، والبشارة والنذارة والهداية ومزيد الوقاية، ومغفرة ما تقدم له وما تأخر، والقسم باسمه الأزهر، وإجابة دعوته ولواء الحمد، وصلاة الله وملائكته المرتقى بهما لنهاية السعد، صلى الله عليه وعلى آله أجمعين صلاة وسلاما إلى يوم الدين، مناقبه ومحاسنه ملأت الوجود شهرة فلو اجتمع الخلق على إحصائها كان وصفهم من بحرها قطره.
«مناقبه ومحاسنه»
فهو: محمد-وأحمد-بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهد بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان، هذا هو النسب المتفق عليه. ومن هنا اختلف النسابون بما لا نضيفه إليه: أبو القاسم-وأبو إبراهيم-وأبو الأرامل-ابن الذبيح-ابن شيبة الحمد-القرشي الهاشمي المطلبي المكي ثم المدني.
حملت به أمه أجمل نساء زمانها وأكمل، ومن أبوها من أشرف قريش فيما عليه اشتمل:
آمنة ابنة وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب، المجتمع فيه نسب أبويه، والمرتفع كل منهم بالاضافة إليه، بشعب أبي طالب من مكة، وبقي في بطنها تسعة أشهر.
مات أبوه في أثنائها بالمدينة، عند أخوال أبيه بني عدي بن النجار عن خمس وعشرين، أو ثلاثين سنة، وضعته وهو البكر لكل منهما، في يوم الاثنين عند فجره، لاثنتي عشرة ليلة مضت من ربيع الأول عام الفيل، بشرقي جوف مكة، في شعب بني هاشم بالدار التي كانت تسكن فيها مع أبيه، وهي بسوق الليل معروفة، مختونا مسرورا مختوما بخاتم النبوة محبورا.
وقيل لها، وهي بين النائمة واليقظانة، إنك حملت بسيّد هذه الأمة، بل رأت حين وضعته كأنه سقط منها نور، أضاءت له قصور الشام الشهير لمن أمه، وقالت: «والله ما رأيت من
1 / 7
حمل قط كان أخف ولا أيسر منه، إلى غير ذلك مما تشرفت بنقله عنه».
وأنه وقع حين ولدته، وقرت عينها إليه بالانتماء-واضعا يديه بالأرض، مشيرا بالسبابة، كالمسبح بها إلى السماء. وليلة ميلاده، انشق إيوان كسرى حتى سمع صوته، وسقطت منه أربع عشرة شرفة، وخمدت نار فارس ولم تخمد قبل ألف عام، وغاضت بحيرة ساوة.
وأرضعته ثوبية التي أعتقها عمه أبو لهب حين بشّرته به، قليلا، وكانت تقول: ما رأيته يبكي جوعا ولا عطشا قط، بل كان يغدو إذا أصبح فيشرب من ماء زمزم شربة، وربما عرضنا عليه الغداء، فيقول: «أنا شبعان».
ثم حليمة ابنة أبي ذؤيب السعدية، وحملته معها لبني سعد بن بكر رهطها، ورأت من يمنه وبركته وإنصافه وصلته، ذهابا وإيابا، وإقامته مناما ويقظة، ما انتشر، ثم رجعت به إلى أمه بعد شق جبريل ﵇ صدره الشريف وملئه حكمة وإيمانا وهو ابن خمس فأزيد، تخوفا عليه فدام معها في كفالة جده، ولم تلبث أن ماتت في رجوعها-وهو معها ﷺ -من المدينة، إذ خرجت به وهو ابن ست سنين. وكانت معها أم أيمن، بركة الحبشية، مولاته ﷺ التي ورثها من أبيه، وهي دايته وحاضنته معها ثم بعد موتها، فحملته لجده فكفله حتى مات ودفن بالحجون، والنبي ﷺ ابن ثمان سنين، وفي غضون كفالته له أبطأ عليه مرة فجزع عليه وارتجز، وهو طائف بالبيت المعظم بقوله:
يا رب رد راكبي محمدا … رده رب واصطنع عندي يدا
فلم يلبث أن جاء فاعتنقه وقال: يا بني لقد جزعت عليك جزعا لم أجزعه على شيء قط.
والله لا أبعثنك في حاجة أبدا.
فكفله بعد موت جده بوصية منه ابنه-أبو طالب-وهو شقيق عبد الله، فكان أيضا يحبه حبا شديدا، لا يحب مثله أحدا من ولده بحيث لا ينام إلا إلى جانبه، وكان يجلس على وسادته المختصة به، ويتكئ، بل ويستلقي عليها، ويقال له، ميسر، ويقول: «ان ابن أخي هذا ليحسن من نفسه بنعيم» ويخصه دون بنيه بالطعام، سيما وكان إذا أكل معهم شبعوا، وإن لم يأكل معهم لم يشبعوا، ولذا كان إذا أرادوا الأكل أخرهم حتى يجيء، وإذا جاء فأكل معهم فضل من طعامهم، فيقول له عمه «إنك لمبرك» وكانوا يصبحون عمشا رمصا ويصبح هو دهينا كحيلا. ونشأ ﷺ أعظم نشأة وأشرفها فشب يكلؤه الله تعالى ويحوطه ويحفظه من أقذار الجاهلية من كل عيب، فلم يعظّم لها صنما قط، ولم يحضر مشهدا من مشاهدهم، مع
1 / 8
طلبهم منه لذلك، فيمتنع ويعصمه الله منه، ولقد قال ﷺ «ما هممت بشيء ما كان أهل الجاهلية يهمون به إلا مرتين، عصمني الله فيهما. وكلما دنوت من صنم لهم يصيح في رجل:
امض وراءك فما قربت منه»، حتى كان أفضل رجال قومه مروءة وأحسنهم خلقا وجوارا، وأكرمهم حسبا، وأعظمهم حلما، وأصوبهم حديثا، وأبعدهم من كل خلق دنيء، حتى لا يسمى في قومه إلا «الأمين» لما شاهدوه من أمانته وصدقه وطهارته وصفاته العالية التي لم يشركه أحد من خلق الله فيها.
واستصحبه عمه-وهو ابن اثنتي عشرة سنة-إلى الشام، لما جاء بصرى ورأى منه بحيري الراهب ما دل عليه، أنه النبي المرسل خاتم الأنبياء؛ أمره بالرجوع به إلى بلاده، ففعل. وبعد عشرين سنة من مولده أو دونها حضر مع عمومته حرب الفجار ورمى فيه بأسهم، وحلف الفضول، الذي عقدته قريش على نصر كل مظلوم بمكة. وكان ﷺ يرعى غنم أهله بأجياد على قراريط، ثم مضى الشام أيضا مع ميسرة، فتى خديجة ابنة خويلد بن أسد في تجارة لها، فرأى مما خصه الله به ما يسترشد به المتنبه، فلما عاد حدثها به. وكانت امرأة حازمة لبيبة شريفة، فرغبت في تزوجه لها، فتزوجها وهو ابن خمس وعشرين سنة وهي ابنة أربعين، فكانت له وزير صدق، وعبيرة مسك ثم بعد مضي عشر سنين، أخذت قريش في بناء الكعبة لأمر اقتضاه، فاختلفت قبائلها فيمن يضع الحجر الأسود، فاختاروه، فأشار ببسط ردائه على الأرض فوضعه عليه، وترفع كل قبيلة طرفا منه، ففعلوا ذلك، فلما انتهوا به إلى محله أخذه الأمين المكين بيده الميمونة، فوضعه، وذلك يوم الاثنين. ولما انتهى ﷺ لأربعين سنة جاءه جبريل ﵇ في يوم الاثنين ثامن شهر ربيع الأول، وهو بغار حراء، إذ كان يخلو به، فيبتعد فيه، فأقرأه أول سورة العلق فرجع بها رسول الله ﷺ يرجف فؤاده.
ودخل على خديجة، فزملوه حتى ذهب عنه الروع، ثم أعلمها بالخبر، وقال لها «لقد خشيت على نفسي»، فقالت له: «أبشر، كلا والله، ما يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق».
ثم ذهبت به إلى ابن عمها ورقة بن نوفل بن أسد. فأعلمه بما أعلمها به، فقال له «هذا هو الناموس الذي أنزله الله تعالى على موسى ﵇» وآمن هو وخديجة به، وقال «إن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا».
ثم لم يلبث ورقة أن توفي.
وفتر الوحي، فلما كان بعد أشهر أنزل الله ﷿ عليه ﴿يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ
1 / 9
فَكَبِّرْ وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ﴾ [المدثر:١]، وحمى الوحي وتتابع.
وبعد أن أقرأه جبريل ﵇ (العلق) ضرب برجله الأرض، فنبعت عن ماء فتوضأ منها، ثم أمر النبي ﷺ فتوضأ كذلك، ثم قام وصلى بالنبي ﷺ. ثم انصرف، وأتى النبي ﷺ خديجة، فعلمها ذلك، وصلى بها وكان الفرض إذ ذاك ركعتين بالغداة وركعتين بالعشي، إلى أن كانت ليلة المعراج.
وأقام ﷺ بمكة-بعد البعثة-ثلاث سنين، يدعو إلى الله مستخفيا، فكان المسلمون يجتمعون بدار الأرقم، أو بالشعاب للصلاة.
ثم نزل عليه في السنة الرابعة ﴿فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ﴾ [الحجر:٩٤] وقوله ﴿وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ﴾ [الشعراء:٢١٣].
فأعلن حينئذ بالدعاء لأهل الإسلام وكفار قريش غير منكرين لما يقول بحيث كان إذا مر بهم في مجالسهم يشيرون إليه «إن غلام بني عبد المطلب ليكلم من السماء» إلى أن عاب آلهتهم وذكر آباءهم الذين ماتوا على الكفر فانتصبوا لعداوته وعداوة من آمن به يعذبون من لا منعة عنده أشد العذاب، ويؤذون من لا يقدرون على عذابه.
وآمن به مع من قدمناهما-علي، وزيد بن حارثة، وأبو بكر، ثم بدعائه عثمان، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وطلحة بن عبيد الله.
واشتد الأمر وتنابذ القوم ونادى بعضهم بعضا وتآمرت قريش على من أسلم منهم يعذبونهم، ويفتنونهم عن دينهم.
وحدب عليه عمه أبو طالب، ومنع الله عن رسوله به وببني هاشم-غير أبي لهب- وبني المطلب.
وكذبه من عداهم، وآذوه ورموه بالسحر، والشعر، والكهانة، والجنون، وأغروا به سفاءهم، حتى أن شقيا منهم أخذ يوما بجمع ردائه، فقام أبو بكر دونه وهو يبكي ويقول «أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله؟».
إلى أن أسلم سنة ست عمه حمزة-أعز فتى في قريش وأشدهم شكيمة-فعز به رسول الله ﷺ، وكفت عنه قريش قليلا، بل وكذا تأيد الإسلام بإسلام عمر بن الخطاب، إجابة لدعوة النبي ﷺ: «إن الله يؤيده به»، وكان لا يرام ما وراء ظهره، فامتنع بهما حتى قال الأعداء له: «إن كنت تطلب مالا جمعنا لك ما تكون به أكثرنا مالا»، أو الشرف: فنحن نشرفك علينا، أو الملك: ملكناك علينا، وإن كان الذي يأتيك رئيا قد غلب عليك، بذلنا أموالنا في طلب الطب
1 / 10
لك حتى تبرأ منه، أو نعذر فيك». فقال لهم «ما بي تقولون، ولكن الله بعثني رسولا وأنزل علي كتابا، وأمرني أن أكون لكم بشيرا ونذيرا، فبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم، فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن نردوا علي أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم».
وأيده الله سبحانه بمعجزة القرآن، وبانشقاق القمر بالعيان، وكفاه أمر المستهزئين مع تجارؤهم على العناد ودفع اليقين، ولو اختار لدمروا وما عمروا، ولكنه ﷺ كان يرجو هدايتهم ويتوخى إجابتهم، ويأبى الله الا ما أراده.
وأذن للنبي ﷺ-بعد أن عذب بلال، بحيث اشتراه أبو بكر، وأعتقه، وقتلت سمية أم عمار بن ياسر، بحيث كانت أول قتيل في الإسلام، وضرب سعد بن أبي وقاص رجلا من المشركين، ممن آذاه هو ومن كان يصلي معه بشعب من شعاب مكة، وعاب صنيعهم بلحى بعير فشجّه، فكان أول دم أهرق في الإسلام-إلى غير هذا من شديد الأذى لأصحابه في الهجرة إلى الحبشة عند حاكمها أصحمة النجاشي، فهاجروا وكان ذلك في رجب سنة خمس، فكانت أول هجرة في الإسلام.
فلما علمت قريش باستقرارهم فيها، وأمنهم عنده، أرسلوا إليه عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة ليردهم إلى قومهم، فأبى ورجعا خائبين مع كونه لم يكن حينئذ مسلما، إنما أسلم في سنة تسع قبيل موته، وصلّى عليه النبي ﷺ.
ولم يلبث أن رجع المهاجرون، حين قيل لهم: «إن أهل مكة أسلموا»، فلم يجدوا لذلك صحبة، فكان بعضهم في الجوار، وبعضهم متخفيا، وبعضهم لم يدخل مكة.
ثم هاجر المسلمون الهجرة الثانية إلى الحبشة، وأقاموا عند النجاشي على أحسن حال وهم زيادة على مائة من الرجال والنساء.
وفشى الإسلام في القبائل، واجتمعت قريش وائتمروا أن يكتبوا كتابا يتعاقدون فيه على بني هاشم وبني المطلب «أن لا ينكحوا إليهم ولا ينكحوهم، ولا يبيعوا منهم شيئا ولا يبتاعوا منهم» وكتبوه في صحيفة وعلقوها في جوف الكعبة هلال المحرم سنة سبع، فانحاز الهاشميون-غير أبي لهب-والمطلبيون إلى أبي طالب. ودخلوا معه في شعبه، فأقاموا على ذلك سنين حتى جهدوا، وكان لا يصل إليهم شيء إلا سرا، إلى أن أعلم الله ﷿ رسوله ﷺ: «إن الأرضة أكلت ما كان فيها من جور وظلم، ولم يبق منها إلا ذكر الله سبحانه» فوجد ذلك كذلك، وشلّت يد كاتبها، ففرج الله عنهم، وخرجوا من شعبهم، وذلك في سنة عشر.
1 / 11
وما كان بأسرع من موت أبي طالب فيها، ثم بعده بثلاثة أيام-أم المؤمنين خديجة ﵂، فنالت قريش من النبي ﷺ ما لم تكن تناله في حياة أبي طالب، بحيث كان ﷺ يسمي ذلك العام عام الحزن، وبعد ثلاثة أشهر من وفاة خديجة: خرج، ومعه زيد بن حارثة إلى الطائف، فلم يجيبوه، بل أغروا به سفاءهم، فرجع بزيد لمكة، فلما نزل نخلة قام يصلي من الليل فصرف إليه نفر من جن نصيبين. فاستمعوا القرآن وأسلموا، وأقام بنخلة أياما، وقال له زيد: «كيف تدخل مكة وقد أخرجوك؟» فقال:
«إن الله جاعل لما ترى فرجا ومخرجا، وإن الله ناصر دينه، ومظهر نبيه».
ثم انتهى إلى حراء حتى دخلها في جوار مطعم بن عدي، فقصد الركن، فاستلمه وصلى ركعتين، وانصرف إلى بيته.
فلما كان ليلة السبت-لسبع عشرة ليلة خلت من رمضان، وقبل الهجرة بثمانية عشر شهرا-أتاه جبريل وميكائيل ﵉، وهو نائم في مكة، فأسرى به من زمزم إلى بيت المقدس، بعد أن شق صدره الشريف، وحشي إيمانا، ثم عرج به إلى السماء السابعة، وفرضت الصلوات الخمس، ورأى ربه ﷿ بعيني رأسه ﷺ فلما أصبح، وأخبر قريش بذلك: كذبوه، وارتد جماعة، وسألوه أمارة، فأعلمهم بها، وأتاه جبريل في صبيحتها، فأراه أوقات الصلوات.
كل ذلك وهو يدعو الناس إلى الإسلام نحو عشر سنين، فيوافي الموسم كل عام، ويتتبع الحاج في منازلهم بعكاظ ومجنة وذي المجاز، يدعوهم إلى أن يمنعوه حتى يبلغ رسالات ربه، فلا يجد أحدا ينصره ولا يجيبه، حتى إنه ليسأل عن القبائل ومنازلها قبيلة قبيلة، فيردون عليه أقبح رد، ويؤذونه ويقولون: قومك أعلم بك، إلى أن أراد الله سبحانه إظهار دينه.
فساقه إلى هذا الحي الملقبين في الإسلام «بالأنصار» فدعاهم إلى الله ﷿، وقرأ عليهم القرآن. وأسلم من شاء الله منهم، ووعدوه بالمجيء-هم ومن معهم-في العام المقبل، ثم حضروا إليه عنده، فأسلموا وبايعوا على بيعة النساء وغير ذلك، من غير أن يفرض يومئذ قتال، وهي العقبة الأولى.
وفي العام المقبل-وذلك في ذي الحجة أوسط أيام التشريق-قدم عليه سبعون فأزيد منهم، وكان من حج من قومهم خمسمائة، فواعدهم منى، ليلة النفر الأول إذا هدأت الرجال: أن يوافوه في الشعب الأيمن إذا انحدروا من منى أسفل العقبة، فوافوه، ومعه عمه العباس-قبل إسلامه-متوثقا له، وهي العقبة الثانية.
1 / 12
فبايعوه «على أن يمنعوه مما يمنعون منه نساءهم وأبناءهم وأنفسهم، وعلى حرب الأحمر والأسود» ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ﴾ [الحج:٣٩] وغيرها، و«إنه من وفى فله الجنة، ومن غشى مما بايعهم عليه، كان أمره إلى الله، إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه».
ثم رجعوا إلى رحالهم، وقد طابت نفس رسول الله ﷺ، إذ جعل الله له منعة: قوما أهل حرب وعدة ونجدة، وقدموا المدينة، فدعوا إلى الإسلام حتى فشى فيها، ولم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها ذكر من رسول الله ﷺ، وجعل البلاء يشتد على المسلمين من المشركين، لما يعلمون من الخزرج، فيضيقوا عليهم، ونالوا منهم ما لم يكونوا ينالون من الشتم والأذى.
فشكوا ذلك إلى رسول الله ﷺ، واستأذنوه في الهجرة إلى المدينة لإخوانهم من الأنصار، فأذن لهم، فخرجوا أرسالا، مختفين حتى قدموا على الأنصار في دورهم، فآووهم ونصروهم وواسوهم.
ولما علم المشركون بذلك، وأنه لم يبق بمكة إلا رسول الله ﷺ، وأبو بكر وعلي ﵄، أو مفتون محبوس، أو مريض، أو عاجز عن الخروج: خافوا خروج النبي ﷺ، فاجتمعوا في دار الندوة، ولم يتخلف أحد من أهل الرأي والحجى، ليتشاوروا في أمره، وحضرهم إبليس اللعين، في صورة شيخ كبير من أهل نجد، فقيل: يحبس أو ينفى، فلم يرتض إبليس بواحد منهما.
فقال أبو جهل: أرى أن نأخذ من كل قبيلة من قريش غلاما نهدا جلدا، ثم نعطيه سيفا صارما، فيضربونه ضربة رجل واحد، فيتفرق دمه في القبائل، فلا يدري بنو عبد مناف بعد هذا ما يصنعون، فاستصوبه إبليس. وتفرقوا مجمعين على ذلك، فأتى جبريل النبي ﷺ فأعلمه به، وأمره أن لا ينام فيه.
واجتمع الأعداء يتطلعون من صير الباب، ويرصدونه حتى ينام، ليحمل عليه بعضهم، فطلع ﷺ عليهم، وهم جلوس عند الباب، فأخذ حفنة من تراب، فجعل يذره على رؤوسهم ويتلو (يس والقرآن الحكيم-إلى يؤمنون) ومضى.
فأتاهم آت ممن لم يكن معهم، فقال لهم: «قد خبتم وخسرتم إنه والله-مر بكم، فما ترك منكم رجلا إلا وضع على رأسه ترابا، وانطلق لحاجته» فخاب ما أملوه، وأنزل في ذلك ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ [الأنفال:٣٠].
وتحرك رسول الله ﷺ-بعد مكثه من حين النبوة بضع عشرة سنة-للهجرة، ثم
1 / 13
خرج بالتأييد والتوفيق، في صحبته أبو بكر الصديق، السابق بالتصديق، بإذن من الله له في الهجرة، واستصحابه إلى غار ثور، فمكث فيه ثلاث ليال، وأنبت الله شجرة فسدت وجه الباب، وأمر العنكبوت فنسجت على فمه، وحمامتين وحشيتين فوقفتا بفمه، فكان ذلك سببا لتحققهم عدم أحد به.
وبعد الثلاث ركبا راحلتين، وراحلته ﷺ، هي ناقته الجذعاء، وأردف أبو بكر مولاه عامر بن فهيرة، ومعهم عبد الله بن الأريقط، ليدلهم على الطريق وذلك في يوم الاثنين من ربيع الأول، وسنه ﷺ: ثلاث وخمسون.
وعرض سراقة بن مالك وهو على فرسه، للنبي ﷺ، ليفوز بما وعدت به قريش من جاء به، فدعا عليه فساخت فرسه. فقال: «يا محمد، ادع الله أن يطلق فرسي، وأرجع عنك، وأرد عنك من ورائي» ففعل فأطلق، ووفى.
ومر النبي ﷺ بخيمتي أم معبد-عاتكة-ومنزلها بعد قديد فرأى شاة خلفها الجهد عن الغنم، فسألها: «أبها لبن»؟ قالت: «هي أجهد من ذلك» فاستأذنها في حلبها، فقالت: «نعم بأبي وأمي، إن رأيت بها حلبا» فمسح بيده الطاهرة ضرعها، وسمى الله تعالى. وقال «اللهم بارك لها في شاتها» فتفاجت عليه ودرت واجترت، فدعا بإناء لها يربض الرهط، فحلب فيه، ثم سقاها حتى رويت وسقى أصحابه كذلك، ثم شرب آخرهم. وقال «ساقي القوم آخرهم» ثم حلب في الإناء ثانيا، حتى ملأه، وتركه عندها وارتحلوا.
وأصبح صوت بمكة عاليا يصيح بين السماء والأرض يسمعونه، ولا يرون قائله:
جزى الله رب الناس خير جزائه … رفيقين قالا خيمتي أم معبد
هما نزلا بالبر، ثم ترحلا … فقد فاز من أمسى رفيق محمد
فيالقصي، ما زوى الله عنكم … به من فعال لا تجارى وسؤدد
ليهن بني كعب مكان فتاتهم … ومقعدها للمؤمنين بمرصد
سلوا أختكم عن شاتها وإنائها … فإنكم إن تسألوا الشاة تشهد
دعاها بشاة حايل، فتحلبت … صريحا ضرة الشاة مزبد
فغادره رهنا لديها بحالب … يرددها في مصدر ثم مورد
ونحو قصة أم معبد سبب إسلام ابن مسعود حيث أخذ النبي ﷺ من الغنم-التي كان ابن مسعود يرعاها-شاة لم يمسها الفحل وحلبها، فدرت.
وانتهى النبي ﷺ في ربيع المعين ضحى يوم الاثنين، لاثنتي عشرة خلت منه، إلى بني عمرو بن عوف، بقباء منها، فجلس فيها وجاء المسلمون عليه، وأبو بكر قائم يذكر الناس.
1 / 14
وتأخر علي بن أبي طالب بعدهما بمكة ثلاثة أيام، حتى أدى ما كان عند النبي ﷺ من الودايع لأربابها، ثم لحقه بقباء.
واستمر النبي ﷺ في بني عمرو بن عوف، ثم انتقل إلى المدينة بعد أن أسس مسجد قباء، وصلى الجمعة في طريقه بمسجد بني سالم الذي في الوادي، بعد أن خطبهم فيه، والقبلة إذ ذاك لبيت المقدس، إلى أن حولت.
ونزل بالمدينة حيث بركت ناقته باختيارها قائلا «إنها مأمورة» عند محل مسجده الشريف الذي أمر ببنائه بعد، وهو يومئذ مصلى الرجال من المسلمين، ومربد لغلامين من بني مالك بن النجار وحمل أبو أيوب الأنصاري رحله إلى داره، وهو-فيما قيل-من ذرية الحبر الذي أسلمه تبع الأول كتابه الذي فيه أنه بناه لما مر بالمدينة للنبي ﷺ لينزله إذا قدمها فتداوله الملاك إلى أن صار لأبي أيوب، وحينئذ فما نزل ﷺ إلا في بيت نفسه، وكرر قوله:
«اللهم أنزلنا منزلا مباركا وأنت خير المنزلين» وصارت الهدايا من الطعام تحمل إليه.
وكان أول ما سمع منه ﷺ «أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلّوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام».
ثم تحول منه، وأمر ببناء المسجد. ثم بنى مساكنه بجانبه، وآخى بين المهاجرين والأنصار على الحق والمواساة.
وقدم عليه ابنتاه: فاطمة وأم كلثوم، وزوجته سودة، وأسامة بن زيد، وأمه بركة أم أيمن، مع زيد بن حارثة وأبي رافع، وكان أرسل إليهم بهما، ومعهما بعيران وخمسمائة درهم.
وقدم على أبي بكر عياله مع ابنه عبد الله، ثم المهاجرون إلى المدينة.
ودام بالمدينة-التي أضاء منها-بعد قدومه ﷺ كل شيء، وزال عنها الوباء، ونقل حماها إلى الجحفة، وأكرمت بمنع دخول الدجال والطاعنون لها بعد الهجرة عشر سنين.
كان في الأولى التي ابتدأ التاريخ منها، وافتتح بالمحرم غزوة الأبواء، وهي غزوة ودان، وجعلت صلاة الحضر أربع ركعات بعد ركعتين، وشرع الأذان، وبني بعائشة في شوالها.
وفي الثانية: غزوة بواط، ثم بدر الأولى، ثم ذي العشيرة، ثم بدر الكبري وهي البطشة التي أعز الله بها الإسلام، وأهلك بها رؤوس الكفرة اللئام-يوم الجمعة لسبع عشرة خلون من رمضان-ثم غزوة بني قينقاع، ثم السويتي، ثم قرقرة الكدر. وصرفت القبلة إلى الكعبة، بعد أن كانت لبيت المقدس، وفرض صوم رمضان وزكاة الفطر، بل الزكاة، وصلى
1 / 15
العيدين وخطب فيهما، وأمر بالأضحية وأعرس علي بالزهراء، وتوفيت رقية ابنته ﷺ، وعثمان بن مظعون.
وفي الثالثة: غزوة غطفان إلى نجد-ويقال لها: غزوة أنمار-وذي أمر-وغزوة بني سليم، وأحد، واستشهد فيها من المسلمين كثيرون، وحمراء الأسد، ودخوله بحفصة، والزنيبتين: ابنة خزيمة، وابنة جحش، وبني عثمان بأم كلثوم، وتحريم الخمر، أو في التي تليها.
وفي الرابعة: غزوة بئر معونة، وبني النضير، ثم بدر الصغرى، ثم ذات الرقاع، وصلاة الخوف، وقصر الصلاة، وتزويج أم سلمة.
وفي الخامسة: غزوة دومة الجندل، ثم المريسيع، وهي غزوة بني المصطلق ثم الخندق، وهي الأحزاب، ثم بني قريظة، وقصة الإفك، ونزول آية التيمم، وآية الحجاب، وصلى لخسوف القمر، وبنى بجويرية.
وفي السادسة: غزوة بني لحيان، ثم الغابة، وهي ذو قرد، ثم الحديبية، وبيعة الرضوان، وفرض الحج، وسابق بين الخيل، ونزول آية الظهار، وقحط الناس، فاستسقى الله فسقوا، وكسفت الشمس.
وفي السابعة: غزوة خيبر، وعمرة القضاء، والبناء بكل من صفية، وأم حبيبة، وميمونة، ومنع الحمر الأهلية، ومتعة النساء.
وفي الثامنة: وقعة مؤتة، وغزوة الفتح، ثم حنين، ثم الطائف، وعمل المنبر النبوي، ولما خطب عليه حن الجذع الذي كان يخطب عنده، وهو أول منبر عمل في الإسلام، وتأييد تحريم المتعة، بعد حلها، وأخذ الجزية من مجوس هجر.
وفي التاسعة: غزوة تبوك، وهي آخر غزواته ﷺ، التي انحصرت في سبع وعشرين، وانتهت سراياه لست وخمسين، قاتل النبي ﷺ في تسع من غزواته: بدر، وأحد، والخندق، وقريظة، والمصطلق، وخيبر، والفتح، وحنين، والطائف، وحج الصديق بالناس، ثم أردفه بعلي: بأن لا يحج بعدها مشرك، ولا يطوف عريان.
وصلى على النجاشي، وتسمى هذه السنة سنة الوفود، لكثرة الوافدين فيها على النبي ﷺ، وفيها آلى النبي ﷺ من نسائه، وهدم مسجد الضرار، وكانت الملاعنة.
وفي العاشرة: قدوم جرير البجلي، ونزول ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ﴾ [النور:٥٨] وكانوا لا يفعلونه قبلها، وارتد مسيلمة الكذاب. وادعى
1 / 16
النبوة. وحجة الوداع، التي لم يحج بعد الهجرة غيرها، ونزلت عليه فيها بعرفة ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾ [المائدة:٣] وخطب النبي ﷺ الناس فيها وأوصاهم وودعهم، وقال «لعلكم لا تروني بعد عامي هذا» ووقف معه ﷺ فيها مائة وعشرون ألفا.
وفي الحادية عشر: كانت وفاته ﷺ بعد شكواه أياما، شهيدا حميدا سعيدا في يوم الاثنين حين اشتد الضحى لليلتين مضتا من ربيع الأول عن ثلاث وستين سنة، وعظم الخطب، ودهش جماعة من الصحابة، ولم يكن فيهم أثبت من أبي بكر الصديق، والعباس، وخطب الصديق الناس تاليا قوله تعالى ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ﴾ [الزمر:٣٠] فثابت قلوبهم، وسجي ﷺ ببرد وحبرة وجاءت التعزية، يسمعون الصوت ولا يرون الشخص «السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته، كل نفس ذائقة الموت، وإنما توفون أجوركم يوم القيامة، إن في الله عزاء عن كل مصيبة، وخلفا من كل هالك، ودركا من كل ما فات، فبالله فثقوا، وإياه فارجوا، فإن المصاب من حرم الثواب، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته».
وغسله-ﷺ-علي ﵁ في قميصه الذي مات فيه، من بئر بقباء، يقال لها: الغرس، كان ﷺ يشرب منها، بوصية منه، وكانت على يده خرقة يغسله بها من تحت القميص، والعباس وابناه: الفضل وقثم يقبلونه مع علي، وأسامة وشقران مولياه ﷺ يصبان الماء. وكفّن في ثلاثة أثواب بيض سحولية، ليس فيها قميص ولا عمامة، أدرج فيها إدراجا، وصلى عليه المسلمون أفرادا، لم يؤمهم أحد.
ودفن في منزله الذي توفي فيه-بيت عائشة-وألحد له في جانب قبره، ودخل قبره، الأربعة الذين غسلوه، ثم هيل عليه التراب ﷺ.
وفي الكثير مما سبق في هذا الفصل أو أكثره اختلاف، مشيت على ما صحح مع الاختلاف بين المصححين أيضا حسبما يعلم من المبسوطات.
واشترك الأنام في العزاء به، فلم يصابوا بمصيبة أعظم من فقده ﷺ. فإنه أشفق عليهم من أنفسهم، وأرفق بهم في مخوفهم وملبسهم، وأحرص على هدايتهم، وأنص ببيان المقتضى لسعادتهم ابتعثه الله سبحانه رحمة لهم، وقدمه للشفاعة للمخطئ المتلوث منهم، ففرج به عنهم الكروب، وفرح بالانتساب إليه القلوب، وأتحف المتوسل به بكل مطلوب، وخفف بذلك عظيم الشدائد والخطوب، فله الفضل في الإسعاد بالانتماء إليه، إذ لا حول ولا قوة إلا بالتوكل عليه. ولقد كان ﷺ كامل الأوصاف، شامل الأفضال والإنصاف فخلقه سليم، وخلقه عظيم، أحسن الناس خلقا وخلقا، وأبين عند الاضطراب والإلباس، فضلا
1 / 17
عن الإيناس، لفظا ومنطقا، ليس بالطويل ولا بالقصير، بل هو في العدل والاعتدال، لا شبيه له ولا نظير. بعيد ما بين المنكبين، شديد البذل، فلا يدخر الفاني، ولا يقبض عليه باليدين، يجيب الدعوة ويقبل الهدية وإن قلت. ولا يخيب العبد والأمة والمسكين. فيما التمس منه من النوازل التي أعلت، بل يجالس الفقراء ويؤاكلهم، ويؤانس الغرباء وبالجميل يعاملهم، يتفقد من غاب من أصحابه، ويتردد إليهم بالعيادة حتى لمن لم يكن من أتباعه وأحبابه، للترجي لهدايته والتوخي للاقتداء به. في مزيد تواضعه مع سيادته، يخصف لتواضعه النعل، وينصف من نفسه للرغبة في أوفر العدل، ويرقع الثوب ويخيطه ويقلبه، ويرفع معه على دابته المملوك، ويلاطف الصغير، بل والسفيه، بحيث يلين لخطاب لمن يصفه بقوله «بئس العشيرة» ويتحمل ما يتعلق بخاصة نفسه، إلا أن تنتهك حرمات الله الصغيرة، فضلا عن الكبيرة، ولا يطوي عن أحد بشره، بل يداعب ويمزح من غير انتهاء لما يكره، مأمون في هذا السخط والرضا، ميمون في المضيق والفضا.
(إلى غير هذا مما يحتمل مجلدات، وتشمل عليه تصانيف متعددات).
وبالجملة: فقد جمع الله لنبيه ﷺ كمال الأخلاق، ومحاسن الشيم والسياسة التامة، المنتشر في الخافقين بها العلم، وآتاه علم الأولين والآخرين ووافاه بما فيه النجاة في الآخرة لأتباعه، ولو كانوا مثلي مقصرين.
قال البراء بن عازب «رأيته في حلة حمراء، فلم أر شيئا قط أحسن منه» وقال أنس ﵁: «ما مسست ديباجا ولا حريرا ألين من كفه، ولا شممت رائحة قط أطيب من رائحته» وكان أبو بكر ﵁ إذا رآه يقول:
أمين مصطفى بالخير يدعو … كضوء البدر زايله الظلام
وعمر ﵁ ينشد لغيره:
لو كنت من شيء سوى بشر … كنت المضيء ليلة البدر
وعمه أبو طالب:
وأبيض يستسقي الغمام بوجهه … ربيع اليتامى، عصمة للأرامل
تطيف به الملاك من آل هاشم … فهم عنده في نعمة وفواضل
وميزان حق لا يخيس شعيرة … ووازن عدل وزنه غير عائل
وكان له ﷺ من الأعمام والعمات: العباس وحمزة وعاتكة وأروى وأميمة وصفية وكلهم ممن أسلم: وأبو طالب عبد مناف وأبو لهب عبد العزي، وأبو الطاهر الزبير وحجلة
1 / 18
واسمه المغيرة وضرار والحرث وقثم والغيداق واسمه مصعب أو نوفل وعبد الكعبة والمقوم والعوام وأم حكيم البيضاء وبره.
فهؤلاء تسعة من الرجال، والنساء، والعوام. منهم: زاده الدمياطي.
ومن الأولاد: القاسم-وبه كان يكنى-وزينب-ورقية-وفاطمة الزهراء-وأم كلثوم-وعبد الله ويسمى الطبيب-والطاهر-وإبراهيم، وهو فقط من سريته مارية ابنة شمعون القبطية، وباقيهم من خديجة المختصة بأنه لم يتزوج عليها.
وللثانية: علي-وأمامة-ابنا أبي العاص بن الربيع بن عبد شمس، تزوج الثانية على بعد الزهراء، ثم بعد موته: المغيرة بن نوفل، فولدت له يحيى.
وللثالثة: عبد الله بن عثمان بن عفان، مات صغيرا وبعد موتها تزوج عثمان الخامسة، ولذا لقب ذا النورين.
وللرابعة: من علي، التي لم تتزوج غيره: الحسن-والحسين-ومحسن-وأم كلثوم- وزينب-فمحسن مات صغيرا-وأم كلثوم: تزوجها عمر بن الخطاب فولدت له-زيدا- لا عقب له، وزينب تزوجها عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، فولدت له عليا-.
والنسل الكريم، والفخر الجسيم، والشرف العظيم من الحسنين.
ولم يتأخر عن النبي ﷺ من أولاده سوى أمهما الزهراء التي هي مما امتازت بالتنصيص على أنها «بضعة منه» وعاشت بعده نصف سنة.
ومن الزوجات-المروي عنه ﷺ، أنه تزوج منهن واحدة، ولا تزوج أحد من بناته إلا بوحي-أم هند-خديجة ابنة خويلد-ثم أم الأسود-سودة ابنة زمعة-ثم أم عبد الله-عائشة ابنة الصديق-التي لم يتزوج بكرا غيرها، ثم-حفصة ابنة الفاروق-أبي حفص عمر بن الخطاب، ثم أم المساكين-زينب ابنة خزيمة-واشتركت مع الأولى والتاسعة في موتهن في حياته، ثم أم سلمة-هند ابنة أبي أمية-ثم أم الحكم-زينب ابنة جحش-ثم جويرية ابنة الحرث-وكان اسم كل منهما:-برة-فغيره النبي ﷺ. ثم ريحانة ابنة زيد-ثم أم حبيبة-رملة أو هند ابنة أبي سفيان بن صخر بن حرب-ثم صفية بنة حيي ثم-ميمونة ابنة الحرث-مات عن تسع منهن.
ومن لم يدخل بهن ممن تزوجها، أو وهبت نفسها له، أو خطبها ولم يتفق تزويجها:
زيادة على الثلاثين.
ومن السراري: مارية ابنة شمعون القبطية، وربيحة القرظية، وجارية جميلة أصابها في
1 / 19
السبي، وأخرى وهبتها له زينب ابنة جحش.
ومن الخدام والموالي ومن أفردتهم في جزء.
ومن الخيل، والبغال، والحمير، واللقاح والغنم، والسلاح، والملابس، والأواني، والكتّاب والحراس، والكتاب، المكتوب إليهم، والمؤذنين، والرسل، والأمراء، والشعراء والحداة، والضاربين لأعناق الكفار بين يديه، ما لا تحتمل هذه النبذة التعرض لسرده، فضلا عن سرد أصحابه، الذين منهم العشرة المشهود لهم بالجنة، ولو بالخلاف في حصر عدتهم إجمالا، والأصهار والأختان، والجواري والخطيب، والفارس، والراجل، والرامي، وأهل الصفة وهم عدد كثير، أفردت لهم جزءا مما لا ينافيه قول أبي هريرة «رأيت ثلاثين رجلا منهم يصلون خلف النبي ﷺ، ليس عليهم أردية» وعدّ منهم نفسه، وأبا ذر، وواثلة بن الأسقع بن طخفة الغفاري.
(وبالجملة: فلقد تصورت أني لو بسطت هذه النبذة، وما يلتحق بها، لزادت على عشرين مجلدا).
فلنرجع للنبذة الأخرى في الإشارة بألخص عبارة، لما الاهتمام باستحضاره، للزائر منهم، وللسائر الساري في القربات التي بها يلم، مما يتعلق بالمدينة الشريفة، وجهاتها المبهجة المنيفة، كأسمائها، وارتفعت لدون مائة عند المجد منها زيادة على ثلثيها، وأفضليتها على مكة، وقد ذهب لكل من القولين جماعة، مع الإجماع على أفضلية البقعة التي ضمته ﷺ، حتى على الكعبة المفضلة على أصل المدينة، بل على العرش، فيما صرح به ابن عقيل من الحنابلة.
ولا شك أن مواضع الأنبياء وأرواحهم أشرف مما سواها من الأرض والسماء، والقبر الشريف أفضلها، لما تتنزل عليه من الرحمة والرضوان والملائكة، التي لا يعملها إلا مانحها، ولساكنه عند الله من المحبة والاصطفاء ما تقصر العقول عن إدراكه. ويعم الفيض من ذلك على الأمة، سيما من قصده وأمه، مع العلم بدفن كل أحد في الموضع الذي خلق فيه، كما ثبت في مستدرك الحاكم مما له شواهد صحيحة، و«لا يقبض الله سبحانه روح نبيه إلا في مكان طيب، أحب إلى الله ورسوله»، ولما أمر الإمام مالك المهدي-حين قدومه-بالسلام على أولاد المهاجرين والأنصار، قائلا له: «ما على وجه الأرض قوم خير من أهلها، ولا منها»، سأله عن ذلك فقال: «لأنه لا يعرف قبر نبي اليوم على وجه الأرض غير قبر نبينا محمد ﷺ»، ومن كان قبره عندهم، فينبغي أن يعرف فضلهم على غيرهم فامتثل أمره.
ومن الأدلة: قوله ﷺ «اللهم حبب إلينا المدينة، كحبنا مكة أو أشد» ودعاؤه ﷺ
1 / 20
بضعفي ما بمكة من البركة.
وأما «اللهم إنك أخرجتني من أحب البقاع إلي، فأسكنّي في أحب البقاع إليك» فضعفه ابن عبد البر باحتمال كونه صدر ابتداء قبل ما تجدد له من فضائلها التي منها ما عاد على مكة بفتحها.
هذا مع العلم بأن محبة الرسول ﷺ تابعة لمحبة الله تعالى وما ورد من مضاعفة الصلاة بمسجد مكة زيادة عليها بالمدينة.
فأسباب الفضل غير منحصرة فيه، سيما وكل عمل في المدينة-كما في الأحياء لحجة الإسلام-بألف كالصلاة، بل في المطلب، لابن الرفعة: «ذهب بعض العلماء إلى أن الصيام بالمدينة أفضل من الصلاة، والصلاة بمكة أفضل من الصيام، مراعاة لنزول فروضهما».
وعلى هذا: فيما ظهر، فكل عبادة شرعت بالمدينة أفضل منها بمكة، إلى غير ذلك من الاتفاق على منع دخول الدجال والطاعون لها، وكون الوارد في منعها من مكة أيضا لا يقاومه، وعلى «من صبر على لأوائها وشدتها: كنت له شفيعا، أو شهيدا» وإيراد البخاري لحديث «لا يكيد أهلها أحد إلا انماع كما ينماع الملح في الماء» وفي لفظ لمسلم «لا يريد أحد أهلها بسوء إلا أذابه الله في النار ذوب الرصاص-أو ذوب الملح-في الماء» فصار من المتفق عليه أيضا.
وما ورد في الترغيب في سكناها، والموت بها، مما لم يثبت في الموت بغيرها مثله، والسكنى بها وصلة له إن شاء الله.
وللمجاورة الثابت فيها، قوله ﷺ «ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه» والاستشفاء بترابها، وثمرتها، وما قارب مائة مما لا حصر له فيه.
ولا شك في أن الفضائل الخاصة لا تحدث في الأمور العامة على تقدير وجودها في الجهتين.
(وبالجملة: فرأيي الوقف لاسترسال الخوض في عدمه، لما لا يليق بجلالتهما، كما علمته من مقامة الزرندي في المفاضلة، وهما-اتفاقا-أفضل من سائر البلاد، ويليهما بيت المقدس).
وما أحسن ما قاله صاحب الشفاء-بعد أن حكى: «بعضهم حج ماشيا» فقيل له في ذلك، فقال: «العبد الآبق يأتي إلى بيت مولاه راكبا لو قدرت أن أمشي على رأسي ما مشيت على قدمي-ما نصه: وجدير لمواطن عمرت بالوحي والتنزيل، وتردد بها جبريل وميكائيل،
1 / 21
وعرجت منها الملائكة والروح، وضجت عرصاتها بالتقديس والتسبيح، واشتملت تربتها على جسد سيد البشر، وانتشر عنها من دين الله وسنة رسوله ﷺ ما انتشر، مدارس آيات ومساجد وصلوات، ومشاهد الفضائل والخيرات، ومعاهد البراهين والمعجزات، ومناسك الدين، ومشاعر المسلمين، ومواقف سيد المرسلين ومتبوأ خاتم النبيين، حيث انفجرت النبوة، وأين فاض عبابها، ومواطن مهبط الرسالة، وأول أرض مس جلد المصطفى ترابها: أن تعظم عرصاتها، وتتنسم نفحاتها وتقبل ربوعها وجدرانها.
يا دار خير المرسلين، ومن به … هدى الأنام، وخص بالآيات
عندي لأجلك لوعة وصبابة … وتشوق متوقد الجمرات
وعلى عهدك إن ملأت محاجري … من تكلم الجدران والعرصات
لأعفرن مصون شيبي بينها … من كثرة التقبيل والرشفات
لولا العوادي والأعادي زرتها … أبدا، ولو سحبا على الوجنات
لكن سأهدي من حفيل تحيتي … لقطين تلك الدار والحجرات
أذكى من المسك المفتق نفحة … تغشاه بالآصال والبكرات
وتخصه بزواكي الصلوات … ونوامي التسليم والبركات
وأنشده غيره:
رفع الحجاب لنا فلاح، لناظر … قمر تقطع دونه الأوهام
وإذا المطى بنا بلّغن محمدا … فظهورهن على الرجال حرام
قربنا من خير من وطئ الثرى … فلنا عليها حرمة وذمام
وهاجر ﷺ بأمر الله ﷿ إليها، ونزل بقباء، وأسس المسجد، ثم ركب إلى المدينة، ونزل بدار أبي أيوب، (الكاتب: كما قدمت هذا كله في الفصل قبله)
ثم بنى المسجد النبوي باللبن، وارتفاعه سبعة أذرع أو خمسة، أقيم فيه سواري من جذوع النخل، وسقف من جريده للاستظلال، وكانت الأمطار تنزل عليهم، فسئل أن يطين، فقال «بل عريش كعريش موسى، والأمر أقرب من ذلك» وكان إذا رفع يده بلغ سقفه، فلم يزل على ذلك حتى توفي.
وكان مربعا، طوله سبعون ذراعا في عرض ستين، أو يزيد، ثم زاد عليه لما ضاق على أهله، فبلغ أقل من مائة، وبين انتهائه وباب السلام الآن خمس بوايك، حسبما علم أعلى الأسطوانة الخامسة من المنبر من صف الأساطين التي في قبلة المنبر، بطراز متصل بالسقف، منقوش فيه التصريح بأنها نهاية المسجد النبوي.
1 / 22