وكان بأصبهان رجل متخلف بين الركاكة، يهوى مغنية أخرى، فلما اتصل به ذلك ظن بجهله وقلة عقله أن "سماكا" إنما أهدى إلى "أم عمرو" جلودا بيضاء لا كتابة فيها، وأن هذا من الهدايا التي تستحسن ويجل موقعها عند من تهدى إليه، فابتاع جلودا كثيرة، وحملها على بغلين لتكون هديته ضعف هدية "سماك"، وأنفذها إلى التي يحب.
فلما وصلت الجلود إليها، ووقفت على الخبر فيها تغيظت عليه، وكتبت إليه رقعة تشتمه فيها، وتحلف أنها لا كلمته أبدا، وسألت بعض الشعراء أن يعمل أبياتا في هذا المعنى لتودعها الرقعة، ففعل، وكانت الأبيات:
لا عاد طوعك من عصاكا ... وحرمت من وصل مناكا
فلقد فضحت العاشقي ... ن بقبح ما فعلت يداكا
أرأيت من يهدى الجلو ... د إلى عشيقته سواكا
وأظن انك رمت أن ... تحكى بفعلك ذا "سماكا"
ذاك الذي أهدى الضيا ... ع "لأم عمرو" والصكاكا
فبعثت منتنة كأن ... ك قد مسحت بهن فاكا
من لي بقربك يا رقي ... ع ولست أهوى أن أراكا
لكن لعلي أن أقط ... ع ما بعثت على قفاكا
وحدثنا الصولي قال: كتب بعض عمال "الحجاج" إليه: أما بعد، فقد وجهت إلى الأمير ثوب خز أحمر أحمر أحمر؛ فأجابه "الحجاج": قد وصل الثوب فانصرف معزولا، فإنك أحمق أحمق أحمق!.
وحدثنا ابن أبي خالد عن حماد بن إسحاق بن إبراهيم الموصلي قال: غنى أبي يوما الرشيد بهذا الشعر:
تخيرت من نعمان عود أراكة ... "لهند" فمن هذا يبلغه "هندا"
وناولتها المسواك والقلب خائف ... وقلت ألا يا "هند" أهلكتنا وجدا
فقال الرشيد: قبح الله هذا عاشقا يهدي لعشيقته مسواكا ثم يمن به عليها.
فقال الأصمعي - وكان حاضرا -: غنها يا أمير المؤمنين قد أنكرت ما أنكرت، فقالت في ذلك شعرا قال: أو تعرف الشعر؟ قال: نعم! وأنشده:
فمدت يدا في حسن دل تناولا ... إليه وقالت: لم أخل مثل ذا يهدى
فقال الرشيد صدقت والله، انشدني بقية الشعر، فأنشده:
خليلي مرا بارك الله فيكما ... وإن لم تكن "هند" لأرضكما قصدا
وقولا لها: ليس الطريق أجازنا ... ولكننا جئنا لنلقاكم عمدا
غدا يكثر الباكون منا ومنكم ... وتزداد داري من دياركم بعدا
فإن شئت حرمت النساء سواكم ... وإن شئت لم أطعم لذيذا ولا بردا
فقال الرشيد: أحسن محا بهذا ما سلف من هدية المسواك. وأجاز الأصمعي.
وحدثنا أبو عبد الله الأسود المصري قال: كان عندنا بالفسطاط شويعر ربما أصاب المعنى باللفظ المهجن، فاتصل به أن عند صديق له مغنية يهواها يقال لها "زادمهر" فأهدى إليه وردا ونبيذا وكتب إليه:
شراب مشبه بول الغزال ... وورد مثل أسرام البغال
بعثتها لتشرب ذا على ذا ... بأكمل غبطة وأسر حال
وقد خبرت عندك "زادمهر" ... تجاوب بالجفاف وبالثقال
فأنت من النسا إن لم سكها ... ضروب السك وهي من الرجال
ومن النوكي الذين أجابوا من أهدى إليهم عند هديتهم بشعر: "عبدون" أخو "صاعد بن مخلد" أهدى إليه ابن منارة في يوم مهرجان كمثرى ورمانا، فأحضر بعض كتابه، وقال له: أجب الرجل عن هديته قال: وبماذا أجيبه؟ فقال: بشعر تقوله فيه. قال: ما أحسن أقول الشعر، ولا تعاطيت قوله قط، فاغتاظ عليه غيظا شديدا. وقال: قم لعنك الله، وأنت كاتبي، وما تحفظ التسع الطوال، ولا قصيدة حفص بن معدى كرم التي يقول فيها:
أما ترى الشمس حلت الجملا (بالجيم)
ولا غيرها من أشعار الشعراء، ثم قدم الدواة وكان يظن أنه شاعر فكتب:
قد أتتنا هديتانك ... يا خليلي في يوم مهرجانك
وأكلنا من كمثراك ورمانك ... فأنت جايخاني وأنا جايخانك
وأنفذ الرقعة إلى صاحب الهدية.
قال: وأهدت امرأة من بعض مياسير البصرة إلى حبتها سراويل فاستقبح ذلك سائر النساء الظراف، وقلن: سلفت بها. فقال في ذلك بعض الشعراء:
يا ويح من شانت الظرفا ... وغلطت غلطة جزافا
أهدت سراويلها لبيسا ... مرقها قد شتى وصافا
إلى التي ساحقت زمانا ... فلم تجد عندها خلافا
فقال كل الظراف قولا ... يوسعه كلنا اعترافا:
نقسم بالبيت والمصلى ... ومن سعى فيهما وطاف
1 / 23