ذهبت إليه بنسخة من «تلك الرائحة»، فتناولها مني بحفاوة بالغة، وبعد أن تبين العنوان قال مجاملا: إن الغرفة أوشكت أن تعبق بالعبير الزكي الذي يفوح منها!
ولم تمض أيام حتى صحح الأستاذ الكبير غلطته بمقال عنيف في عموده الأسبوعي بجريدة «المساء»، قال فيه: «لا زلت أتحسر على هذه الرواية القصيرة التي ذاع صيتها أخيرا في الأوساط الأدبية، وكانت جديرة بأن تعد من خيرة إنتاجنا لولا أن مؤلفها زل بحماقة وانحطاط في الذوق؛ فلم يكتف بأن يقدم إلينا البطل وهو منشغل بجلد عميرة (لو اقتصر الأمر على هذا لهان)، لكنه مضى فوصف لنا أيضا عودته لمكانه بعد يوم، ورؤيته لأثر المني الملقى على الأرض. تقززت نفسي من هذا الوصف الفزيولوجي تقززا شديدا، لم يبق لي ذرة من القدرة على تذوق القصة رغم براعتها. إنني لا أهاجم أخلاقياتها، بل غلظة إحساسها وفجاجته وعاميته. هذا هو القبح الذي ينبغي محاشاته، وتجنيب القارئ تجرع قبحه.»
كان كاتبنا الكبير يسألني إذن عن موقفي مما أسماه في ذلك المقال بالتعبير الفزيولوجي، لكن ذهني انصرف أثناء حديثي معه إلى تجربتي كلها، فأجبته بأني أشعر كما لو أني بدأت الآن فقط في تعلم الكتابة؛ فكل كتاب جديد لي يكشف لي عن جانب كنت أجهله من هذا الفن، يزيد من إدراكي لحدود إمكانياتي ولنقاط الضعف والعجز لدي، كما يضاعف من تقديري لعتاولة الكتاب الذين يقتحمون الورق مسلحين بأدوات عدة، قبضوا على ناصيتها بإحكام شديد. ولم يكن هذا شعوري عندما بدأت أولى خطواتي، وهو ما أعتبره أمرا طبيعيا.
كنت - عندما كتبت «تلك الرائحة» - خارجا لتوي من السجن، خاضعا للرقابة القضائية التي تستلزم التواجد في المنزل من غروب الشمس حتى شروقها. وكنت أقضي بقية اليوم في التعرف على عالم ابتعدت عنه أكثر من خمس سنوات. وما إن آوي إلى حجرتي، حتى أجد نفسي مدفوعا لأن أسجل بلمسات سريعة ما مر بي من أحداث ومشاهدات كانت تهزني بعنف وتبدو لي عجائبية، ثم أزيح هذه اليوميات جانبا وأعود إلى رواية بدأتها في السجن، عن عالم الطفولة. وكنت قد خططت لها أن تتألف من عدة قصص مستقلة، تجمع بينها الشخصيات الرئيسية والموضوع العام. وكتبت منها عدة فصول نجحت في تهريبها إلى خارج السجن بفضل الصديق حسين عبد ربه، الذي حملها معه عند الإفراج عنه (تضم المجموعة الحالية اثنتين من هذه القصص هما «أرسين لوبين» و«أغاني المساء»).
كنت أعود إلى الرواية فأجدني عازفا عن المضي في كتابتها؛ فقد ضاع الوهج الذي لازم العمل فيها بين جدران السجن، واستولى الواقع الجديد على كل مشاعري.
ومن جديد برز السؤال المعهود: ماذا أكتب، وكيف أكتب؟
أقول من جديد لأنه طالما لاحقني في السجن، منذ اللحظة التي قررت فيها أن أهب حياتي لهذا الفن. وأحيانا ما كنت أضرب عرض الحائط بالشق الأول من السؤال، متحديا في سذاجة الشباب وحماسه، الصياغة التي ألهبت خيالنا في الخمسينيات للعلاقة بين صورة العمل الفني ومضمونه، والتي بسطها الأستاذان محمود العالم وعبد العظيم أنيس في مقالاتهما الشهيرة؛ فقد كان التمرد هو طابع الفترة.
كانت السنوات الأولى من الستينيات بالغة الخصب، في السياسة والفن والحياة، كانت فترة الصعود لطبقة متوسطة فتية في مصر وبلدان العالم الثالث أمكنها أن تكيل ضربات قاصمة للاستعمار القديم المتهاوي، مستفيدة من توازن عالمي ملائم للقوى، وأن تصوغ حلما للعدالة الاجتماعية لم يقدر لها أن تتمكن من تحقيقه. وكانت الحركة الاشتراكية قد استيقظت على مساوئ عبادة الفرد، وبدا الطريق أمامها ممهدا لاستخلاص النتائج الضرورية من ذلك. وكان الإنسان قد صعد إلى القمر، ودخل السلوك الجنسي إلى المعمل لتتكشف أكثر الحقائق إثارة، من قبيل عدد مرات الأورجازم لدى المرأة الطبيعية والتي يمكن أن تصل إلى خمسين أورجازما في الليلة الواحدة مقابل اثنين أو ثلاثة في المتوسط للذكر المسكين.
ومن وراء أسوار سجن الواحات الخارجة، كنا - أنا وأصدقائي كمال القلش ورءوف مسعد وعبد الحكيم قاسم - نتابع في حماس الشعراء السوفييت - الشابين يوفتوشنكو وفوزنيينسكي والعجوز تفاردوفسكي - وهم يفجرون الأبنية العتيقة، بقدر ما كنا نتابع تجارب الكتابة التلقائية، وفنون الضوء والحركة في أمريكا، وموجة «الرواية الجديدة» في فرنسا. وكانت المجلات القاهرية تحفل بالإشارة إلى شتى التجارب الأدبية الجديدة في العالم. وراحت المعارضة اليمينية المقنعة للنظام الناصري - وهي التي كانت تسيطر بالفعل على كافة منافذ النشر والإعلام في البلاد - تروج في دهاء لأعمال بيكيت ويونسكو ودورينمات.
كان التمرد إذن هو وقود المرحلة ، والتجربة هي شعارها. وأعطى نجيب محفوظ ظهره لكتابته البلزاكية، ليخوض في مغامرات مثيرة، قفز فيها بالفن الروائي العربي قرنا بأكمله. وبرزت أسماء جديدة مثل إدوار الخراط وغالب هلسا وبهاء طاهر وسليمان فياض وإبراهيم أصلان ويحيى الطاهر عبد الله وغيرهم. وخيل إلي أني وجدت الطريق عندما وقعت على هيمنجواي من خلال كتابين وجدا طريقهما إلى سجن الواحات الخارجة؛ الأول لكارلوس بيكر، والثاني يضم عدة دراسات أهمها واحدة لناقد سوفييتي قديم، غاب عني اسمه. عنيت بتحليل أدوات الكاتب الأمريكي الكبير، وقد آمنت على الفور بهذه الأدوات - وما زلت أعتمد بعضها - وأهمها الاقتصاد والتعبير المشكوم. وبدا ل «جبل الثلج العائم» بريق خاص في مواجهة الترهل التقليدي في أسلوب التعبير العربي. وتحت تأثير هيمنجواي بدأت أعمل في رواية الطفولة التي لم يقدر لها أن تكتمل.
Неизвестная страница