انطلقت زمجرة ثانية من فمه، وخيل لي أنه سينقض علي ويحطمني، لكنه اعتدل جالسا وهو يتنهد، وجعل يمسح رقبته بمنديل متسخ، وتطلعت عيناه الحمراوان إلي بكل سعتهما، فابتعدت عنه. وعندما ظل صامتا، اتجهت إلى الرفين في بطء ووقفت أمامهما أقلب في الروايات.
كانت الروايات قديمة، اختفت أغلفتها، واسمرت صفحاتها وتمزقت. وكان التراب يتصاعد منها ممزوجا برائحة غريبة كانت تأتي من كل شيء في الدكان، وكنت أحب هذه الرائحة.
استعرضت المجموعة في سرعة مكتفيا بالنظر إلى الصفحة الأولى بحثا عن سطر من كلمات صغيرة أسفل العنوان. وانتهيت من الصف الأول دون أن أعثر على بغيتي، وشعرت بالضيق، وبدأ العرق يتصبب على وجهي. واختلست النظر إلى الرجل وأنا أخشى أن يزمجر أو ينفجر في، لكنه كان ينظر إلي بعينيه الحمراوين في صمت، وقال فجأة: «ما فيش أرسين لوبين .»
توقفت يداي. كان لا يزال أمامي رف بأكمله، وخيل إلي أنه يود التخلص مني، فقررت أن أستأنف البحث، وواصلت التدوير بسرعة فائقة، لكني لم أجد رواية واحدة لأرسين لوبين. وغالبت شعور الضيق الذي تملكني، وعدت أقلب الروايات من جديد على مهل. كنت أريد الآن أي رواية بوليسية عادية.
زهرة الموت قرأتها. الجريمة الكاملة أحضرها أبي إلى البيت من قبل، اللغز الصيني. كانت أول رواية لأرسين لوبين أقرؤها، العيون الثلاثة لموريس لبلان، نفس مؤلف أرسين لوبين لكنها ليست عنه، وأخذت فيها مقلبا من قبل. لو تكون هناك رواية لأرسين لوبين فاتت علي في البحث الأول. إعدام في الفجر، تبدو كمأساة وأنا لا أحب الروايات المفجعة. الحب العظيم، ولا أحب الروايات الغرامية أيضا. مدرسة الأسرار، لا يبدو موضوعها من صورة الغلاف. قناع الموت، لغز الألغاز. قرأت كل هذا. الحطام، منظرها واسمها لا يشجعان. أنزلت يدي في يأس. كان ساعدي قد بدأ يؤلمني، وبدا كأني لن أخرج بشيء من هذه المرة. وزمجر الرجل من خلفي: «هو أنت موش عاجباك حاجة من كل دول؟»
أجبت بسرعة وأنا أستأنف البحث: «لا .. خلاص .. أهوه.»
جريمة بين السحاب، قرأتها من قبل ولا بأس من أخذها مرة ثانية لو لم أعثر على شيء، ووضعتها جانبا. الرسائل المجهولة، قرأتها. هذه الرواية التي اسمها مدرسة الأسرار، لنجربها، ربما تكون مفاجئة. المرشد، الأخوات البيض، خبزنا اليومي، يوجيني جرانديه، عناوين لا معنى لها ويمكن أن تكون كل منها مقلبا، والأكيد أنها ليست بوليسية. لا يوجد أي شيء لشرلوك هولمز أو حتى شارلي شان الصيني رغم ثقل دمه. كل الروايات صغيرة الحجم، لو أجد واحدة من الروايات الكبيرة القديمة. لو أقع صدفة على الرواية التي كانت في بيتنا وأنا صغير جدا وللأسف لم أقرأها؛ لأن ما قرأته منها كان كافيا لإلقاء الرعب في صدري وجعلني أمزقها لأتخلص منها. ولا زلت أذكر منها كلاما عن شاطئ وقصر مهجور تقع به جريمة وناس تجري في الظلام وتتهامس. وهناك أيضا رواية العين الحمراء، ثم الرواية التي كان أبي يقرأ فيها دائما.
ودوى صوت مفاجئ، قريب مني بل فوق رأسي تماما: «إوعى .. ما فيش روايات .. مش حنبيع روايات.»
كان الرجل قد انتفض من مقعده غاضبا وخطف مني الروايات التي كنت أحتفظ بها في يدي لأختار منها في النهاية عندما أفشل في الحصول على واحدة حلوة، وتطلعت حولي في يأس. كل هذا البحث وأعود بلا شيء. ولمحت كتابا ذا غلاف أسود سميك ملقى على مقربة، فتناولته بسرعة وفتحته، كان ورقه أصفر خشنا وطباعته رديئة، وحسبته من الكتب القديمة التي لا شأن لها بالروايات، ولم يكن له عنوان أو بداية، وقلبت صفحاته بسرعة، ثم أدركت أنه من القصص البوليسية القديمة، وقلت في لهفة: «خلاص. حاخده ده».
لكنه خطف الكتاب من يدي ودفعني في جنبي وهو يزعق: «ما عندناش روايات، مش حنبيع روايات.»
Неизвестная страница