وباللغة الفرنجية التي كانت تستخدم عادة للتفاهم مع الصليبيين قال العربي: «إن بين أمتينا هدنة عن القتال، فلماذا ينشب بيني وبينك النضال، هلا عقدنا بيننا صلحا؟»
فأجاب فارس النمر الرابض وقال: «لقد رضيت، ولكن كيف تكفل لي رعايتك للهدنة حقها ؟»
فأجاب الأمير وقال: «نحن أتباع النبي لا نحنث في العهود؛ إنما ينبغي لي أنا، أيها النصراني الشجاع، أن أطلب إليك الضمان، غير أني أعترف أن الخيانة والشجاعة قلما يجتمعان.»
فأحس الصليبي حينئذ بأن ثقة المسلم فيه قد أخجلته من الشكوك التي ساورته.
وأمسك بمقبض سيفه وقال: «وحق هذا الصليب لأكونن لك رفيقا مخلصا أيها العربي ما كتب علينا أن نبقى متلازمين.»
فأجاب عدوه قائلا: «أقسم بمحمد رسول الله وبرب محمد أن ليس لك في قلبي خيانة، فهلم بنا إلى تلك العين، فوقت الراحة قد وجب، وما كاد الماء يمس شفتي حتى اضطررت أن أنازلك حينما اقتربت.»
فأجاب فارس النمر الرابض توا بالرضا والقبول، وسار العدوان جنبا إلى جنب، قاصدين مكان النخيل، لا يبدو عليهما غضب، ولا تلمس فيهما أثرا من شك.
الفصل الثاني
كثيرا ما تتخلل الأزمان العصيبة فترات يسود فيها الأمن وتصفو فيها النفوس. ولقد كانت الحال كذلك بنوع خاص في عهود الأقطاع القديمة حينما كان السائد بين الناس أن الحرب يجب أن تكون للبشرية شغلها الشاغل وعملها المجيد، فكان لفترات الصلح أو الهدنة لذة دونها أي لذة، يستمتع بها على قلتها المحاربون في تلك العصور؛ بل إن الظروف عينها إذ ذاك، التي كانت تجعل هذه الفترات عرضا زائلا، كانت تحببها إلى النفوس؛ وكان البطل يرى أن من بذل الوقت في غير طائل أن يكن في قلبه ضغينة لعدوه - وقد التقى به في القتال يوما، وقد يلتقي به في معركة حامية الوطيس في صبيحة اليوم التالي - وكان الرجال يعرفون أن في عهدهم، وفي ظروفهم، مجالا تنفجر فيه عواطفهم الملتهبة، فكانوا يستمتعون بكل ما أوتوا من قوة، بصحبة بعضهم بعضا في الفترات القصيرة التي كانت تتيح لهم أن يتحادثوا آمنين، على قدر ما تسمح لهم تلك الأوقات العصيبة، اللهم إلا إذا احتدم النزاع بين الرجل وعدوه، أو أثارت نفسيهما ذكرى إحن خاصة لا تتعلق بغيرهما.
وكان يفل من حدة الفروق الدينية، بل والعصبية الشديدة، التي كانت تستفز أتباع الصليب وأتباع الهلال على السواء، شعور سام، هو من طبيعة أمثال هؤلاء المحاربين، شعور كانت تلهبه وتقويه روح الفروسية حينذاك؛ وهذا الدافع القوي أخذ يمتد أثره شيئا فشيئا من المسيحيين إلى أعدائهم الألداء من العرب من أهل إسبانيا أو فلسطين، ولم يعد عرب فلسطين، كما كانوا من قبل، أولئك المتوحشين المتهوسين الذين هبوا من وسط صحراء العرب بالقرآن في اليمين، والسيف في اليسار، يعرضون الإسلام أو القتال، أو الجزية والرق، على كل من تحدثه نفسه أن يقف في وجه دين محمد نبي مكة؛
Неизвестная страница