سيلاحظ القارئ أن ثيوفراسط يقدم في هذه اللوحات ألوانا مختلفة من الضعف البشري أو من الخطأ الذي يقع فيه الناس خلال حياتهم اليومية، وكأن هذا الضعف في تقديره رذيلة فاحشة، أو كأن الخطأ عيب أخلاقي خطير، بينما تؤكد النظرة البسيطة المباشرة أنها مجرد زلات عادية يمكن أن ينزلق إليها الإنسان العادي بحكم طبعه أو ظروفه أو نقص تربيته وخبرته إلى غير ذلك من الأسباب، دون أن يتورط بالضرورة في جريمة تجعله يصطدم بالقانون الجنائي (ربما باستثناء حالتين تقتربان من حدود المحظور بحكم القانون السائد في ذلك الحين، وهما حالتا الجبان في اللوحة الخامسة والعشرين، وحالة النمام أو المفتري على الناس ظلما وقذفا في أنسابهم وأعراضهم في اللوحة الثامنة والعشرين). واللافت للنظر أن هؤلاء العاديين أو الأوساط - الذين لا ينتمون للصفوة أو علية القوم، ولا يمكن القول أيضا بأنهم من المنبوذين أو طريدي المجتمع - هم من أولئك الذين تخطوا سن الشباب وبلغوا منتصف العمر، أو تجاوزوه أحيانا إلى ما بعد الكهولة حتى شارفوا على الشيخوخة. والغريب أيضا أن أخطاءهم التي يصورها لنا ثيوفراسط تكاد تتطابق مع الأخطاء والتصرفات السلوكية المعيبة التي تصدر في رأي أرسطو عن المتوسطين وكبار السن.
ولكن من أي نبع واقعي استقى ثيوفراسط نماذجه وأنماطه التي يقدمها لنا برؤية الفيلسوف الذي «أدركته» لعنة الفن أو بركته كما تشاء؟
والجواب الذي لا شك في أن القارئ قد توصل إليه هو أنه قد التقط هذه اللوحات والصور من أصول أثينية كانت ماثلة أمام عينيه في أثينا، في أواخر القرن الرابع قبل الميلاد ومع بدايات العصر الهليني المبكر وحكم خلفاء الإسكندر المقدوني لعاصمة الثقافة والفكر الفلسفي، بكل ما كان يضطرب فيها من صراعات وأوضاع اقتصادية وسياسية واجتماعية أثرت على «أخلاق» هذه النماذج وعاداتهم ومواقفهم وردود أفعالهم، بل ربما تذكر القارئ المطلع على التاريخ اليوناني والأثيني بوجه خاص في أواخر القرن الرابع العجيب أثناء متابعته لأخلاق وطباع بعض هذه النماذج شخصيات محددة وأحداثا ووقائع تاريخية معينة سبق أن عرفها وتراءت لخياله، وسوف يزداد لديه هذا الشعور عندما يتابع أصحاب الطباع المتميزين، مثل مروج الإشاعات (8) والمؤمن بالخرافات (16) والأوليجاركي المتسلط والمتزمت لطبقته الثرية المستغلة ضد الفقراء وعامة الناس (26).
لا شك أن القارئ سيشعر بالحزن عندما يكتشف أن التجريد الفلسفي قد أضر برسم ثيوفراسط لأصحاب هذه الطباع وأخلاقهم إلى الحد الذي كادت معه أن تصبح صورا لأنماط كاريكاتيرية تعاني من فقر الدم واللحم أيضا، ويندر أن تقدم لنا شخصيات حقيقية بكل ما يميز الشخصية من حيوية وتفرد وغنى وتركيب معقد في السمات والخصائص الباطنة والظاهرة. وقد يأخذ عليه القارئ أيضا أنه يقعر ملاحظاته عن تلك الشخصيات - أو الأخلاق والطباع كما يسميها - على ما يصدر عنها من أفعال وتصرفات سلوكية يسخرها لخدمة غرضه من إبراز العيب أو الخطأ أو الضعف الذي يريد تركيز أضوائه عليه وحده دون غيره (وهذا من آفات الغلو في التصنيف الذي برع فيه المصنف الأول على الأصالة!) تاركا وراء ظهره ما يستلزمه رسم الشخصية الحية من تصوير الظروف العائلية، والأطر المكانية والزمانية، والأوضاع الطبقية والمهنية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي تؤثر عليها. ولكن كاتب هذه السطور - الذي أدركته كذلك لعنة الفن أو بركته لا أدري، ولمسته بعصاها السحرية المؤلمة! - لا يمكنه أن يعمم هذا الحكم على إطلاقه، ولا يستطيع ضميره الأدبي ولا العلمي أن يحرم الرجل من الحاسة الأدبية والرؤية الفنية، وذلك على الأقل في اللوحات التي يتطرق فيها لتلك الظروف والأوضاع لخدمة غرضه الذي أشرنا إليه من ناحية، ولأنه يطوي في نفسه - رغم أنف التعليم الفلسفي الذي أنفق فيه عمره وجهده! - روح فنان لا شك فيه. لو لم يكن الأمر كذلك لما أثرت شخصيات هذا الكتاب أو بعضها إذا شئنا الدقة على العديد من كتاب المسرح، ابتداء من تلميذه الفذ ميناندر - كاتب الكوميديا الجديدة - إلى موليير في القرن السابع عشر وكثيرين غيرهما من القصاصين والروائيين حتى عصرنا الحاضر كما سنرى بعد قليل. (7)
لعل النزعة التي غلبت على ثيوفراسط وجعلته يميل إلى التنميط الكاريكاتيري أن تكون راجعة إلى النزعة الشكلية أو الصورية التي تسلطت عليه ودفعته إلى وضع نماذجه في قالب محدد لا تخرج عنه (هل نلقي الذنب مرة أخرى على صاحب النظرية المشهورة عن الصورة والمادة أو الشكل والمضمون كما نقول اليوم؟!) فهو يرسم جميع الطباع وفق تخطيط واحد لا يتغير؛ إذ يبدأ بتعريف مفهوم الرذيلة أو الخطأ أو وجه الضعف والنقص الذي سيتكلم عنه، ثم يشرع خطوة خطوة في وصف الأفعال وسرد المواقف التي تبين طبع المبتلى بتلك الرذيلة أو الضعف في صورة عيانية حية تكاد تجعلنا نسير معه في شوارع أثينا، أو ندخل معه في بيوتها ودكاكينها وقاعات مجالسها الشعبية، أو نعايشه في تصرفاته مع زوجته وأولاده وأصحابه، وحتى في ميدان الحرب التي تشنها بلده على أعدائها أو تضطر لخوضها دفاعا عن نفسها ...
هل نقول إن التعريفات التي تتصدر اللوحات هي نتاج عملية منطقية بحتة لكي نلقي التهمة في هذه المرة على المنطق، أم نقول إن تلك التعريفات مع ما يترتب عليها من «أمثلة توضيحية» قد استخلصت من نسق محدد في فلسفة الأخلاق، سواء كان هذا النسق لأرسطو أو لثيوفراسط نفسه؟ الواقع أن الأمرين مستبعدان؛ فنحن لا نلمس من الكتاب أن صاحبه قد حاول في عرضه للرذائل والعيوب أن يستفيد على أي وجه من الوجوه من نظرية أرسطو المشهورة عن الفضيلة، بحيث تكون الرذيلة أو العيب الذي يصوره مجرد طرف متطرف للسلوك الوسط المعتدل الذي نطلق عليه صفة الفضيلة. أما التعريف الذي يلجأ إليه ، فهو ضرب من التبسيط والتحديد أو التثبيت الذي يعبر عن روح المنطق الصوري، كما يعد عنصرا من عناصر التفكير القديم خصوصا منذ عهد أفلاطون وأرسطو حتى قيام المنطق الجدلي الحديث.
ومهمة التعريف الذي تبدأ به اللوحة هي تحديد مضمون المفهوم أو التصور والمعنى الذي تدل عليه الكلمة التي يراد تعريفها على النحو الذي ترد به في لغة الكلام العادي، لا في لغة المنطق أو لغة المصطلح الفلسفي الدقيق. من أمثلة ذلك أن كلمة «دايزيدايمونيا»
15 - ومعناها الحرفي هو خشية الله - تعرف بالمعنى الشعبي الشائع الذي ينطوي على «الوسوسة» والاعتقاد الساذج في الخرافات بأنها هي الجبن في مواجهة القوى الإلهية (أو القوى الفائقة للطبيعة. راجع اللوحة رقم 16)، كما أن كلمة «أيسخروكرديا»،
16
أي السعي المشين إلى الكسب، تعرف كذلك بالمعنى الشائع بين الناس عن البخل الفظيع والبخيل الجشع المنفر (راجع اللوحة رقم 30)؛ فكأن المقصود بالتعريف هو تنبيه القارئ لمعنى الكلمة المعرفة، وتبرير الدوافع الكامنة وراء التصرفات والمواقف التي يتم سردها واحدا بعد الآخر، كأنها «حيثيات» الحكم الذي صدر منذ البداية!
Неизвестная страница