2
يعتمد التواصل اللغوي، ومن ثم الثنائية اللغوية، داخل الدولة على العديد من العوامل، أحدها توزيع اللغة داخلها؛ فإذا كان التوزيع قائما على أساس جغرافي - أي إذا كانت اللغات المختلفة تستخدم في مناطق معينة - فإن فرص التواصل ستكون أقل مقارنة بوجود كل المجموعات اللغوية في المنطقة نفسها. أحد الأمثلة المألوفة لدي للغاية هو سويسرا؛ حيث توجد حدود لغوية واضحة نسبيا بين اللغات القومية الأربع المستخدمة؛ فيتحدث الناس بالفرنسية في الغرب، وتستخدم اللغة الإيطالية في الأساس في منطقة تيتشينو (الطرف الجنوبي الأوسط للدولة)، وتستخدم اللغة الرومانشية في منطقة صغيرة في الجزء الشرقي من الدولة، والألمانية في باقي أنحاء الدولة. تظهر الثنائية اللغوية دوما على طول الحدود اللغوية (فأنا أعيش في مكان يبعد نحو ثلاثة أميال عن الحد اللغوي الفرنسي الألماني)، وتظهر أيضا في المدن الحدودية مثل فرايبورج وبيال/بيين. في دول أخرى توجد لغتان أو أكثر في المنطقة نفسها (على سبيل المثال: الإنجليزية والإسبانية في جنوب غرب أمريكا)، وفي مثل هذه الحالات تكون فرص ظهور الثنائية اللغوية أكبر، مع تساوي كل العوامل الأخرى، نظرا لحدوث المزيد من التواصل بين المجموعات.
يتمثل أحد العوامل الأخرى في السياسة اللغوية للدولة. فإذا اعترفت الحكومة بالعديد من اللغات وأعطتها بعض المكانة الرسمية (مثلما فعلت كندا مع اللغتين الإنجليزية والفرنسية، وبلجيكا مع اللغات الفرنسية والفلمنكية والألمانية)، فإن التواصل اللغوي ربما لن يكون كبيرا بالقدر الذي يوجد عليه في الدول التي تعترف بلغة رسمية واحدة من بين كثير من اللغات الأخرى العديدة المستخدمة فيها. في حالة بلجيكا، على سبيل المثال، يوجد بعض التواصل بين المجموعات اللغوية الأصلية، وتتعلم كل مجموعة لغة المجموعات الأخرى في المدرسة، لكن فعليا يستخدم كثير من الناس بنحو أساسي لغة واحدة فقط في حياتهم اليومية. على العكس من ذلك، عندما توجد في الدولة لغة قومية واحدة (سواء أكانت معترفا بها أم لا)، أو لغة وسيطة معترف بها، كما هو الحال في كثير من الدول الأفريقية، فإن أعضاء معظم المجموعات اللغوية لا بد أن يصبحوا ثنائيي اللغة (والمثال على ذلك شعب الإنويت في كندا، والنافاجو في الولايات المتحدة، وسكان منطقة القبائل في الجزائر، والألبانيون في اليونان، والمجريون في رومانيا، والفنلنديون في السويد، إلى آخره). بالطبع يكون لعوامل أخرى بعض التأثير، مثل السياسات اللغوية والتعليمية للدولة ومواقف المجموعات اللغوية المختلفة بعضها تجاه بعض. عبر شخص بلجيكي عن تقييمه للوضع اللغوي في دولته، فقال:
يتعلم كل طفل في المدرسة اللغتين كلتيهما في وقت مبكر بداية من المرحلة الابتدائية. فيتعلم المتحدثون بالفلمنكية اللغة الفرنسية ويجيدونها أكثر؛ لأن الفرنسية أكثر نفعا بكثير، وهي لغة عالمية.
3 (1-2) حركة الشعوب
في عصرنا الحالي، بالإضافة إلى التواصل اللغوي الذي يحدث بين مجموعات السكان الأصليين، يحدث تواصل بين هذه المجموعات والمتحدثين بلغات أخرى الذين يهاجرون إلى منطقتهم أو دولتهم. قد تؤدي أنماط عديدة إلى الثنائية اللغوية؛ يتمثل أكثر هذه الأنماط حدوثا، على الأقل في عصرنا الحالي، في أن المهاجرين (إلى الولايات المتحدة أو إنجلترا أو فرنسا، على سبيل المثال) يتعلمون لغة وطنهم الجديد، لكن قد يتعلم السكان الأصليون أيضا لغة هؤلاء المستوطنين (ومن ثم نجد تاريخيا أن الهنود الحمر تعلموا الإنجليزية في الولايات المتحدة، والمصريين تعلموا العربية عند استقرار العرب في مصر). في بعض الحالات، لكنها نادرة، تتعلم كل مجموعة لغة المجموعة الأخرى (مثلما حدث عندما تعلم المستوطنون الإسبان في باراجواي اللغة الجوارانية، وتعلم الشعب الجواراني الإسبانية).
ينتقل الناس دائما داخل الدول والقارات وعبرها لعدة أسباب مختلفة؛ فقد أدى البيع والشراء والتعاملات التجارية منذ قديم الأزل إلى التواصل اللغوي، ومن ثم إلى الثنائية اللغوية. ففي الماضي، عندما كان التجار يسافرون إلى مناطق تتحدث لغة أخرى أو تستخدم فيها لغة وسيطة، كان كثير من البائعين والمشترين يصبحون ثنائيي اللغة. كانت اليونانية اللغة الوسيطة المستخدمة في التجارة في منطقة البحر المتوسط خلال القرون الثالث والرابع والخامس قبل الميلاد، والآن الروسية هي اللغة المستخدمة في التجارة والأعمال في جميع أنحاء روسيا ودول الاتحاد السوفييتي السابق (يتحدث الناس بأكثر من مائة لغة في روسيا الاتحادية)، وبالطبع اللغة الإنجليزية هي اللغة الأكبر للتجارة والأعمال في جميع أنحاء العالم. تجري التعاملات التجارية في عصرنا الحالي على نحو متزايد على أصعدة عالمية؛ فينتقل كثير من الناس إلى دولة أخرى لبضع سنوات للعمل في أحد الفروع الدولية لشركتهم، وعادة ما تصحبهم عائلاتهم، ويصبح كل من البالغين والأطفال ثنائيي اللغة. ويجب علينا الإشارة هنا إلى أنه ليس من الضروري دوما أن يهاجر الناس جسديا حتى يحدث التواصل اللغوي؛ إذ يتواصل كثير من رجال الأعمال بعضهم مع بعض عبر الهاتف أو شبكة الإنترنت، باللغة الإنجليزية وغيرها من اللغات الدولية، عبر الدول والمناطق الزمنية، ثم يعودون إلى حياتهم الطبيعية، التي يستخدمون فيها لغة واحدة عادة، في نهاية يوم العمل.
يتنقل الناس أيضا حول العالم لأسباب سياسية ودينية، ويزخر تاريخ العالم بأمثلة على انتقال شعوب إلى أراض جديدة، وفي كثير من الأحيان، إلى لغة أخرى، لأسباب سياسية؛ مثل الروسيين الذين هاجروا عقب ثورة عام 1917، والألمان في إقليم السوديت عقب الحرب العالمية الثانية، والكوبيين في أثناء عهد كاسترو، والفيتناميين عقب سقوط فيتنام الجنوبية. وأما فيما يتعلق بالهجرات الدينية، فقد فر البروتستانت الهيجونوت، على سبيل المثال، من فرنسا عقب إلغاء مرسوم نانت في عام 1685، واستقروا في روسيا وإنجلترا وهولندا وأمريكا؛ وفي القرن العشرين ترك اليهود الروسيون الاتحاد السوفييتي في ظروف صعبة، واستقروا في إسرائيل والولايات المتحدة، من بين دول أخرى؛ وفي السنوات الأخيرة ترك كثير من المسيحيين دولهم في الشرق الأوسط واستقروا في دول أخرى.
على الرغم من أن الغزوات العسكرية والحروب والاستعمار ربما أصبحت في عصرنا الحالي أقل حدوثا مما كان في الماضي، فإنها كانت سببا في قدر كبير من التواصل اللغوي؛ فقد أدخل الإسكندر الأكبر وجيوشه اللغة اليونانية إلى الشرق الأوسط، وأدخلت الإمبراطورية الرومانية اللغة اللاتينية إلى كثير من أجزاء أوروبا وشمال أفريقيا والشرق الأوسط، ونشر الفاتحون الإسبان لغتهم في الأمريكتين، كما زادت الغزوات الاستعمارية في القرن التاسع عشر من عدد المتحدثين بالفرنسية والإنجليزية والروسية، إلى آخره.
وأخيرا، تعتبر الهجرة لأسباب اقتصادية واجتماعية عاملا رئيسيا في تنقل الشعوب، ومن ثم في التواصل اللغوي؛ فينتقل الناس دوما إلى مناطق أو دول أو قارات أخرى بحثا عن العمل وعن ظروف حياة أفضل. يزخر تاريخ كثير من الدول في جميع أنحاء العالم بعمليات نزوح الناس إليها، ونشأ كثير من الدول، مثل أستراليا وكندا والولايات المتحدة والبرازيل والأرجنتين، اعتمادا على مثل هذه الظاهرة. وقد أصبحت الآن أوروبا الغربية بدورها - التي تركها كثيرون في القرون السابقة من أجل الحصول على ظروف حياة أفضل في أماكن أخرى - مقصدا لكثير من المجموعات المهاجرة الكبيرة التي كانت في مراحل مختلفة من الاندماج.
Неизвестная страница