وقالت وفية في نفسها: أيبلغ كبره هذا المدى؟
ولم تجد جوابا على تساؤلها، وإنما غرقت في دوامة حزن كبير، بينما راحت الأم تنفض لها بقية الخبر من خطبة جميل لها وموافقة أبيها وانتظاره لموافقتها، ووفية صامتة تسمع بعض ما تقول أمها ولا تسمع أكثره، حتى انتهت الأم من حديثها قائلة: وعلى كل حال يا بنتي جميل في السلك السياسي وستسافران، ولعلك في الخارج تنسين. تنسين كل شيء.
وسمعت وفية هذا الكلام الأخير فانتبهت إلى أمها تقول: نسافر إلى الخارج؟! - نعم. - إذن ...
وأطرقت لم تكمل الجملة تدور في نفسها عاصفة من الأفكار، ولم تتركها أمها لأفكارها وإنما قالت: هيه، ماذا قلت يا وفية؟
وفي حزم واهن حزين قالت: ما يراه بابا. - يعني موافقة؟ - أمركم. •••
لم يكن جميل جميلا، وإنما كان شديد العناية بملبسه ومظهره، يكسو قوامه النحيل الطويل بأفخر الثياب وأغلاها، وكان أبيض الوجه ناصعا في لون الملابس البيضاء بعد غسلها، وكان وجهه باهتا لا تعبير فيه. وكان معجبا بهذه الصفة في نفسه فهي تهيئ له المظهر السياسي الذي يصبو إليه. وكان أنفه معقوفا كبير الأذنين يحتفظ على فمه بابتسامة لا تحمل معنى، ابتسامة وجدت نفسها على فمه دون أن تدري لوجودها سببا، وكأن صاحبها وضعها ونسيها في مكانها. وكانت عيناه جامدتين، ولكنهما إن أنعمت فيهما النظر أدركت أنهما لا تخلوان من ذكاء. وكان جميل يكبر وفية بسنوات كثيرة، ولكنه فارق لا يعيب الزواج، فقد كان في الثلاثين من عمره ولم تكن هي قد أكملت العشرين. وهو طيب النفس سمح عذب في اختيار ألفاظه، عسير على من يعاشره أن يسيء إليه.
تمت الخطبة وجاء جميل ليرى عروسه ولتراه. أما هو فقد حمد الرؤية وفرح بها، وإن كان قد ضاق بعض الشيء بتلك الحمرة التي تشوب بياض عينها اليسرى، وفكر أن يباحث أطباء أوروبا في شأنها، ولكنه سرعان ما أدرك أن لا فائدة ترجى من هذه المباحثة. وخشي ما قد يعلق به زملاؤه على هذا الاحمرار، فزوجة الموظف في السلك السياسي لا يكفي أن تعجبه هو، بل لا بد لها أن تعجب الآخرين، فهي تقابل في الاحتفالات الرسمية، وهي عنصر مهم في حياة زوجها العامة، بل لعلها أكثر أهمية في هذه الحياة منها في حياة زوجها الخاصة.
فكر جميل كثيرا، ثم وجد المخرج أخيرا في كلمة فرنسية طالما أراحت نفوسا، وطالما أرضت كبرا، وطالما أشاعت في قلوب الكثيرين الثقة والاطمئنان، إنها تيب، تيب. إنها طابع مستقل بذاته لا يماثل الأخريات، من من الأخريات لها زاوية حمراء في ركن عينها اليسرى؟ من غير خطيبته، زوجته وفية؟ تيب، تيب لا شك. وارتاح إلى هذا الرأي بل فرح به وانقلبت خشيته سعادة لا يشوبها إلا تفكيره في إبلاغ هذه الكلمة، تيب، إلى أذهان زملائه ممن سيعملون معه في سفارة فرنسا. لو قيلت مرة واحدة فسيلقفها زميل عن زميل ولا يصبح في حاجة أن يعيدها مرة أخرى، مرة واحدة تقال ثم كفى، فأول حديث بين زملائه هو التعليق على زوجات بعضهم البعض، تعليق جاد وقور، ولكنه أيضا ناقد متبصر لا يترك عيبا إلا ذكره ولا حسنة إلا ناقشها، ولكنهم - كجميع الناس - يحبون اصطياد العيوب أكثر من حبهم لكشف المحاسن، تيب هي الكلمة. وإنه بعروسه راض فرح مسرور. هذا عن المظهر، أما عن المخبر فقد أدرك أنها تجيد الفرنسية، وهذا أيضا شيء يسره كل السرور. وأدرك أنها قليلة الكلام وإن يكن بعض الشك قد شاب إدراكه هذا، فليس من المعقول أن يتوقع منها كثرة الحديث أمام خطيبها الذي تراه لأول مرة. ولم يكن في حاجة إلى البحث عن مقومات أخلاقها الأخرى، فهي ابنة عزت بك الأزميرلي، وحسبه هذا اطمئنانا إلى أخلاقها، ذاكرا أيضا ما قاله أبوه أن عزت سيصبح وزيرا عن قريب، وبالتالي سيصبح باشا. إنه بعروسه راض فرح مسرور.
أما هي فلم يستطع خطيبها أن يرسل في نفسها شعورا من الرضا أو السخط، لاحظت عنايته بملبسه ولم تعجب، فهي صفة تكاد تكون مشتركة بين رجال السلك السياسي. ولاحظت أنه غير جميل ولكنها لم تره أيضا قبيحا، وقد كانت من ذلك النوع من النساء اللواتي لا يحفلن كثيرا بجمال الرجل. ولاحظت طول قامته ونحافتها ولم تعلق في نفسها على هذا. ولاحظت أدبه في الحديث ولم يدهشها ذلك، فهو أمر متوقع من ابن نظمي باشا ومتوقع أيضا من موظف بهذا السلك. ولاحظت أنه يتكلف بعض التكلف في إخراج ألفاظه وفي بعض حركاته وبعض جمله التي يقحم فيها أحيانا ألفاظا فرنسية. لاحظت هذا ولم تحفل به، فقد توقعته أيضا من شاب جاء يعرض نفسه على خطيبته ويقوم عمله على التمثيل، وإن يكن تمثيلا سياسيا. وعزمت في نفسها على تنبيهه إلى هذا التكلف في مستقبل أيامها. ولم يخف عليها فارق السن، ولكنها غفرته أيضا، فقد يجعله هذا يحتمل ما تعلم أنه سيلازمها من ألم. ألم كانت تقدر أنه لن يزايلها أبد الدهر.
كانت وفية خليقة أن تستقصي عيوب خطيبها جميعا، وكانت خليقة أن تزيد يأسها مرارة. ولكنها عزمت في نفسها أن تقبله، فقد كانت تعلم أنه إن لم يكن هو فغيره على الأبواب، ولن يكون غيره هذا خيري بحال من الأحوال. وكانت تعلم أيضا أن أباها راض عن جميل، وكان موقف أبيها من خيري يملأ نفسها إكبارا له. وقد أرادت أن ترضي أباها تعبيرا عن شكرها وإكبارها، فأسلمت نفسها، وحاولت ما وسعها الجهد أن تغضي عن عيوب جميل عينا كانت حرية بمعرفة هذه العيوب، وأن ترضي نفسا كانت حرية أن تثور وترفض، ولكنها قبلت، فما دام خيري ليس الزوج فالجميع سواء، فليكن جميل زوجها ما دام في هذا إرضاء لأبيها، وما دام في هذا إبعاد لها عن مصر.
Неизвестная страница