Те, кто добры
أولئك الأخيار
Издатель
دار القاسم
Жанры
المقدمة
الحمد لله الذي جعل جنة الفردوس لعباده المؤمنين، ويسرهم للأعمال الصالحة الموصلة إليها، فلم يتخذوا سواها شغلًا، وسهل طرقها فسلكوا السبيل الموصلة إليها ذللًا، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين الذي قام من الليل حتى تفطرت قدماه.
وبعد:
إن صحبة الأخيار ومجالسة الصالحين وسماع أخبارهم تغرس في النفوس حب الخير والرغبة في مجاراتهم والوصول إلى ما وصلوا إليه من الجد والاجتهاد في الطاعة ... فإن القلوب تحتاج إلى تذكير وترغيب خاصة مع ما نراه من طول الأمل واللهث وراء حطام الدنيا.
وهذه هي المجموعة الثالثة من سلسلة «أين نحن من هؤلاء؟» تحت عنوان «أولئك الأخيار» تتحدث عن قيام الليل ... وهو جانب مضيء مشرق من أعمال سلفنا الصالح. لعل قلوبنا تستيقظ من غفلتها وتصحو من غفوتها جعل الله أعمالنا خالصة لوجهه الكريم.
عبد الملك بن محمد بن عبد الرحمن القاسم
1 / 3
قيام الليل
قال تعالى: ﴿أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آَنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [سورة الزمر: ٩].
وقال جل وعلا: ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آَخِذِينَ مَا آَتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾ [سورة الذاريات، الآيات: ١٥ - ١٨].
وعندما سئل رسول الله ﷺ، عن رجل نام الليل حتى أصبح قال: «ذاك رجل بال الشيطان في أذنه» (١).
وقد وصف الله ﷾ قيام الليل بقوله: ﴿إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا﴾ [سورة المزمل، الآية: ٦]، وفسر ابن كثير قوله -تعالى-: ﴿هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا﴾ بأنه أجمع للخاطر في أداء القراءة وتفهمها من قيام النهار، لأنه وقت انتشار الناس ولغط الأصوات وأوقات المعاش (٢).
وقيام الليل مرحلة صراع ومجاهدة مع النفس فلا شيء أعظم أثرًا في النفس البشرية من الاستمرار في الطاعة والعبادة خاصة وقت الراحة والدعة والسكون، ولذلك شهد الله ﷾ لقوام
_________
(١) متفق عليه من حديث ابن مسعود.
(٢) تفسير ابن كثير ٤/ ٤٣٦.
1 / 4
الليل بالإيمان الصادق ووعدهم بالخير الجزيل فقال تعالى: ﴿إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآَيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ * تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [السجدة، الآيات: ١٥ - ١٧].
أخي الحبيب:
إن قيام الليل عبادة تصل القلب بالله، وتجعله قادرًا على التغلب على مغريات الحياة وعلى مجاهدة النفس، في وقت هدأت فيه الأصوات ونامت العيون وتقلب النوام على الفرش ولكن قوام الليل يهبون من فرشهم الوثيرة وسررهم المريحة ويكابدون الليل لا ينامون إلا القليل، ولذا كان قيام الليل من مقاييس العزيمة الصادقة وسمات النفوس الكبيرة وقد مدحهم الله وميزهم عن غيرهم بقوله -تعالى-: ﴿أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آَنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [سورة الزمر الآية: ٩].
وقيام الليل سنة مؤكدة: حث النبي ﷺ على أدائها بقوله: «عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم ومقربة لكم إلى ربكم، ومكفرة للسيئات، ومنهاة عن الإثم ومطردة للداء عن
1 / 5
الجسد» (١).
وقال ﷺ مبينًا فضل قيام الليل: «أفضل الصلاة بعد المكتوبة قيام الليل» (٢).
وقد حافظ عليه، ﷺ ولم يتركه لا سفرًا ولا حضرًا وقام ﷺ وهو سيد ولد آدم وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر -حتى تفطرت قدماه- فقيل له: أما قد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال: «أفلا أكون عبدًا شكورًا؟» (٣).
رغب ﷺ في قيام الليل لما فيه من الخير العظيم والإحسان الجزيل بقوله: «إن في الليل ساعة لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله تعالى خيرًا إلا أعطاه إياه» (٤).
وهذا من منه وكرمه -جل وعلا-.
هذا عمر بن ذر يذكرنا بتلك الساعات والليالي فيقول: اعملوا لأنفسكم رحمكم الله في هذا الليل وسواده، فإن المغبون من غبن خير الليل والنهار، والمحروم من حرم خيرهما، وإنما جعلا سبيلًا للمؤمنين إلى طاعة ربهم، ووبالًا على الآخرين للغفلة عن أنفسهم، فأحيوا لله أنفسكم بذكره فإنما تحيا القلوب بذكر الله، كم من نائم في هذا الليل قد ندم على طول نومه عندما يرى من كرامة الله -عز
_________
(١) أخرجه الترمذي، وأحمد وصححه الألباني.
(٢) أخرجه مسلم.
(٣) متفق عليه.
(٤) أخرجه مسلم.
1 / 6
وجل- للعابدين غدًا، فاغتنموا عمر الساعات والليالي والأيام يرحمكم الله (١).
فيا أخي:
اشتر نفسك اليوم، فإن السوق قائمة والثمن موجود والبضائع رخيصة، وسيأتي على تلك السوق والبضائع يوم لا تصل فيه إلى قليل ولا كثير: ﴿ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ﴾، ﴿يَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ﴾ (٢).
قال أبو الدرداء: صلوا ركعتين في ظلم الليل لظلمة القبور (٣).
وقد عجب أحمد بن حرب ﵁ من نوم النائمين وغفلة الغافلين فقال: عجبت لمن يعلم أن الجنة تزين فوقه، والنار تضرم تحته، كيف ينام بينهما؟ (٤).
ولذلك تجدهم يستعدون لليل ويفرحون بإقباله ويغتمون بإدباره، فكان عمر بن ذر إذا نظر إلى الليل قد أقبل قال: جاء الليل، ولليل مهابة، والله أحق أن يهاب (٥).
وما ذاك إلا من توقير الله ورغبة فيما عنده، وهم أقوام وصفهم الفضيل بن عياض بقوله: أدركت أقوامًا يستحيون من الله
_________
(١) حلية الأولياء ٥/ ١٠٩.
(٢) الفوائد ٦٤.
(٣) جامع العلوم والحكم ٢٦٤.
(٤) الإحياء ٤/ ٤٣٥.
(٥) حلية الأولياء ٥/ ١١١.
1 / 7
في سواد الليل من طول الهجعة إنما هو على الجنب فإذا تحرك قال: ليس هذا لك، قومي خذي حظك من الآخرة (١).
وهو كما ذكر عبد الرحمن بن يزيد بن جابر حين قال: كنا نغازي عطاء الخراساني وننزل متقاربين، فكان يحيي الليل ثم يخرج رأسه من خيمته فيقول: يا عبد الرحمن، يا هشام بن الغار، يا فلان، قيام الليل وصيام النهار أيسر من شرب الصديد، ولبس الحديد، وأكل الزقوم، فالنجاة النجاة ... (٢).
أخي ....
سفر الليل لا يطيقه إلا مضمر المجاعة، النجائب في الأول وحاملات الزاد في الأخير (٣).
لبست ثوب الرجا والناس قد رقدوا ... وقمت أشكو إلى مولاي ما أجد
وقلت يا عدتي في كل نائبة ... ومن عليه لكشف الضر أعتمد
أشكو إليك أمورًا أنت تعلمها ... ما لي على حملها صبر ولا جلد
وقد مددت يدي بالضر مبتهلًا ... إليك يا خير من مدت إليه يد
_________
(١) صفة الصفوة ٢/ ٢٤١.
(٢) السير ٦/ ١٤٣.
(٣) الفوائد ٦٧.
1 / 8
فلا تردنها يا رب خائبة
فبحر جودك يروي كل من يرد (١)
قال الحسن ﵀: ما نعلم عملًا أشد من مكابدة الليل ونفقة المال، فقيل له ما بال المتهجدين من أحسن الناس وجوهًا؟ قال: لأنهم خلوا بالرحمن فألبسهم نورًا من نوره (٢).
وهذه المجاهدة والمكابدة في أول الأمر ثم تتبدل إلى محبة وشوق، فقد عرف عن ثابت البناني أنه يقوم الليل ويصوم النهار، وكان يقول: ما شيء أجده في قلبي ألذ عندي من قيام الليل.
وقوام الليل يحبون -مثلنا- النوم والراحة والدعة ولكنهم نفضوا غبار الكسل واستحثوا الخطى وقووا العزائم انظر إلى عبد العزيز بن رواد إذا جن عليه الليل يأتي فراشه فيمر يده عليه ويقول: إنك للين، والله إن في الجنة لألين منك، ولا يزال يصلي الليل كله (٣).
ويسبق حلول الليل استعداد مبكر ونية صادقة لقيام الليل فهذا معاوية بن قرة يذكر نصيحة أبيه لهم إذا صلوا العشاء ... يا بني ناموا لعل الله أن يرزقكم من الليل خيرًا.
ولا يكن نهار المسلم كما قال الشاعر:
_________
(١) طبقات الشافعية ٤/ ٢٢٥.
(٢) الإحياء ١/ ٢٢٠.
(٣) الإحياء ١/ ٤٢٠.
1 / 9
نهارك يا مغرور سهو وغفلة
وليلك نوم الردى لك لازم ... وتتعب فيما سوف تكره غبه
كذلك في الدنيا تعيش البهائم
فكن –يا أخي- من أبناء الآخرة ولا تكن من أبناء الدنيا، فإن الولد يتبع الأم (١).
خرج سليمان التيمي إلى مكان يصلي الصبح بوضوء عشاء الآخرة وكان يأخذ بقول الحسن؛ إنه إذا غلب النوم على قلبه توضأ» (٢).
إن جهاد النفس جهاد طويل وطريق صعب يحتاج إلى صبر ومثابرة، فقد كان صفوان بن سليم في الصيف يصلي في البيت وإذا كان في الشتاء صلى في السطح لئلا ينام (٣).
وهذا الجهاد والحرص على القيام يكون بأجمل هيئة وأحسن زينة .. فكان الإمام أحمد بن حنبل –﵀ له قلنسوة خاطها بيده، فيها قطن فإذا قام الليل لبسها (٤).
قم في الدجى واتل الكتاب ولا تنم ... إلا كنومة حائر ولهان
_________
(١) الفوائد ٦٨.
(٢) حلية الأولياء ٣/ ٢٩.
(٣) حلية الأولياء ٣/ ١٥٩.
(٤) السير ١١/ ٢٠٦.
1 / 10
فلربما تأتي المنية بغتة
فتساق من فرش إلى الأكفان ... يا حبذا عينان في غسق الدجى
من خشية الرحمن باكيتان
ومجاهدة النفس صعبة المنال في البداية ولكنها سهلة الانقياد بالإصرار والعزيمة في النهاية كما ذكر ذلك ثابت البناني بقوله: كابدت الصلاة (١) عشرين سنة وتنعمت بها عشرين سنة (٢).
وكانت أم سليمان –﵂ على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام، تقول له: يا بني لا تكثر النوم بالليل، فإن كثرة النوم بالليل تدع الرجل فقيرًا يوم القيامة، يا بني ... من يرد الله لا ينام الليل، لأن من نام الليل ندم بالنهار (٣).
يا كثير الرقاد والغفلات ... كثرة النوم تورث الحسرات (٤)
* كانت أم الربيع بن خثيم إذا رأت قلقه بالليل قالت: يا بني لعلك قتلت قتيلًا، فيقول ... يا أماه قتلت نفسي (٥).
وقالت أم عزوان له: أما لفراشك عليك حق؟ ! أما لنفسك
_________
(١) أي صلاة آخر الليل.
(٢) السير ٥/ ٢٢٤، صفة الصفوة ٣/ ٢٦٠.
(٣) الزهر الفائح ١١١.
(٤) الزهر الفائح ١٩.
(٥) المدهش ٤٤٣.
1 / 11
عليك حق؟ قال: يا أماه ... إنما أطلب راحتها، أبادر طي صحيفتي (١).
أما شداد بن أوس فإنه إذا دخل الفراش يتقلب على فراشه لا يأتيه النوم، فيقول: اللهم إن النار أذهبت النوم فيقوم فيصلي حتى يصبح (٢).
يناجون رب العالمين إلههم
فتسري هموم الدنيا والناس نوم (٣)
ورغبة في الخير العظيم والجزاء الأكمل ... صام منصور بن المعتمر أربعين سنة وقام ليلها وكان يبكي، فتقول له أمه: يا بني قتلت قتيلًا؟ فيقول: أنا أعلم بما صنعت بنفسي، فإذا كان الصبح، كحل عينه، ودهن رأسه، وبرق شفتيه (*) وخرج إلى الناس (٤).
قال عمر بن ذر: لما رأى العابدون الليل قد هجم عليهم، ونظروا إلى أهل الغفلة قد سكنوا إلى فرشهم ورجعوا إلى ملاذهم من النوم، قاموا إلى الله فرحين مستبشرين بما قد وهب لهم من حسن عادة السهر وطول التهجد، فاستقبلوا الليل بأبدانهم وباشروا الأرض بصفاح وجوههم، فانقضى عنهم الليل وما انقضت لذتهم
_________
(١) مختصر قيام الليل ٢٧.
(٢) صفة الصفوة ١/ ٧٠٩.
(٣) صفة الصفوة ٣/ ٣٨٠.
(*) وذلك حتى لا يظهر عليه أثر الجهد والسهر خوفًا من الرياء.
(٤) السير ٥/ ٤٠٦، صفة الصفوة ٣/ ١٦٢.
1 / 12
من التلاوة، ولا ملت أبدانهم من طول العبادة، فأصبح الفريقان وقد ولى عنهم الليل بربح وغبن، أصبح هؤلاء قد ملوا النوم والراحة، وأصبح هؤلاء متطلعين إلى مجيء الليل للعادة، شتان ما بين الفريقين.
* حين سألت ابنة الربيع بن خثيم أباها: يا أبتاه الناس ينامون ولا أراك تنام؟ قال: يا بنية إن أباك يخاف
السيئات (١).
والآن تقلبت الأمور وتغيرت الأحوال فمن لم ينم فهو غالبًا قائم على منكر أو محرم ... ولربما كان مهمومًا مغمومًا من نقصان مال وأمر تجارة أو عارض من عوارض الدنيا، ولنر ما كان يهمهم ويشغلهم ... فقد كان أحدهم وهو بشر الحافي لا يزال مهمومًا فقيل له في ذلك، فقال: إني مطلوب وكان لا ينام الليل .. وكان يقول: أخاف أن يأتيني أمره وأنا نائم (٢).
وقالت ابنة لعامر بن عبد قيس: ما لي أرى الناس ينامون ولا أراك تنام؟ فقال: يا بنية إن جهنم لا تدع أباك ينام (٣).
ألا يا عين ويحك أسعديني ... بطول الدمع في ظلم الليالي
_________
(١) الزهد للإمام أحمد بن حنبل ٤٦٩.
(٢) الزهر الفائح ١٨.
(٣) الزهد ٣١٦.
1 / 13
لعلك في القيامة أن تفوزي
بخير الدهر في تلك العلالي (١)
ولنسمع مالك بن دينار وهو يقول: لو استطعت أن لا أنام لم أنم، مخافة أن ينزل العذاب وأنا نائم، ولو وجدت أعوانًا لفرقتهم ينادون في منار الدنيا كلها يا أيها الناس: النار النار (٢).
وحتى سماع هذه النذير إذا بقي الأمر دون جد ووثبة قوية فهو كما قال هرم بن حبان: لم أر مثل النار نام هاربها ولم أر مثل الجنة نام طالبها (٣).
تيقظ لساعات من الليل يا فتى ... لعلك تحظى في الجنان بحورها
فقم فتيقظ ساعة بعد ساعة ... عساك توفي ما بقي من مهورها
وقيام الليل منة من الله –﷾ وفضل منه على عباده الصالحين الذين يسر لهم أسباب القيام وأعانهم عليه.
قال أبو سفيان الداراني: من صفى صفي له، ومن كدر كدر عليه. ومن أحسن في ليله كوفئ في نهاره ومن أحسن في نهاره كوفئ في ليله (٤).
_________
(١) صفة الصفوة ٤/ ٥٩.
(٢) صفة الصفوة ٣/ ٢٨٦.
(٣) الزهد للإمام أحمد بن حنبل ٣٣٢.
(٤) صيد الخاطر ٣٤.
1 / 14
ومن أهم الأسباب المانعة التي تعوق عن قيام الليل:
المعاصي والذنوب: فإن قيام الليل منحة ربانية للصالحين من عباده.
ذكر ذلك الحسن بقوله: إن الرجل ليذنب الذنب فيحرم به قيام الليل (١).
وقال سفيان الثوري: حرمت قيام الليل بذنب أحدثته منذ خمسة أشهر (٢)، ومن حرم من خير القيام ومناجاة رب العالمين فإنه بسبب ذنوبه ومعاصيه.
ونبه إلى ذلك الفضيل بن عياض فقال: إذا لم تقدر على قيام الليل، وصيام النهار فاعلم أنك محروم كبلتك خطيئتك (٣).
وحين اشتكى شاب إلى الحسن عدم قيامه الليل قال له الحسن قيدتك خطاياك (٤).
فمن ترك المعاصي والذنوب أعانه الله على فعل الخيرات والطاعات، فقيام الليل دأب الصالحين، بعيد عن الفاسقين قريب للتائبين.
وفسر ذلك بشر بن الحارث عندما قال: لا تجد حلاوة
_________
(١) الإحياء ١٠/ ٤٤٢٠
(٢) حلية الأولياء ٧/ ١٧.
(٣) السير ٨/ ٤٣٥، الإحياء ١/ ٤٢٠.
(٤) صفة الصفوة ٣/ ٢٣٥.
1 / 15
العبادة حتى تجعل بينك وبين الشهوات سدًا (١).
فإن من تحرى الخير وجده، ومن بحث عن الطريق لقيه، ومن أقبل على الله أعانه وسدده.
أخي:
همتك احفظها بقيام الليل، فإن الهمة مقدمة الأشياء فمن صلحت له همته وصدق فيها، صلح له ما وراء ذلك من الأعمال ويمثل لها ابن القيم بمثل لطيف فيقول مثل القلب مثل الطائر كلما علا، بعد عن الآفات، وكلما نزل احتوشته الآفات (٢).
قال أبو عصمة بن عصام البيهقي: «بت ليلة عند أحمد بن حنبل، فجاء بالماء فوضعه فلما أصبح نظر في الماء فإذا هو كما كان، فقال: سبحان الله رجل يطلب العلم لا يكون له ورد بالليل! !
ونلتفت قليلًا إلى رجال اليوم وكهول الغد ... إلى الشباب أصحاب القوة والنشاط والهمة والعزيمة ونناديهم بنداء سفيان الثوري الذي كان يصلي ثم يلتفت إلى الشباب فيقول: إذا لم تصلوا اليوم فمتى؟ ! (٣).
وقد ذكر إبراهيم بن شماس أحمد بن حنبل فقال: كنت أعرف أحمد بن حنبل وهو غلام وهو يحيي الليل (٤).
_________
(١) السير ١٠/ ٤٧٣.
(٢) الجواب الكافي ٧٠.
(٣) حلية الأولياء ٧/ ٥٩.
(٤) السير ١١/ ٨.
1 / 16
من لم يقم للجد قبل مشيبه
وخمود سريه فليس بقائم (١)
وبمقارنة سريعة نرى أن أكثر القوام هم من الشيوخ والكهول .. فأين نصيب الشباب من ذلك؟ ... وهو سن الصحة والقوة والنشاط. مقارنة بذلك الجسم النحيل الضعيف، الذي احدودب ظهره، وضعفت قوته، وارتعشت أطرافه .. ورغم كل ذلك نجده يقوم لله عابدًا راكعًا، ساجدًا.
قال شميط بن عجلان موضحًا ذلك التفاوت: إن الله –﷿ جعل قوة المؤمن في قلبه ولم يجعلها في أعضائه، ألا ترون أن الشيخ يكون ضعيفًا يصوم الهواجر ويقوم الليل، والشاب يعجز عن ذلك .. (٢).
وكان بعض العلماء قد جاوز المائة سنة وهو ممتع بقوته وعقله، فوثب يومًا وثبة شديدة، فعوتب في ذلك فقال: هذه جوارح حفظناها عن المعاصي في الصغر فحفظها الله علينا في الكبر (٣).
وقال بعض العلماء في كلمات صادقة: ليس في الدنيا وقت يشبه نعيم أهل الجنة، إلا ما يجده أهل التملق في قلوبهم بالليل من
_________
(١) عقد اللؤلؤ والمرجان ٢٦٩.
(٢) صفة الصفوة ٣/ ٣٤١، حلية الأولياء ٣/ ١٣٠.
(٣) جامع العلوم والحكم ٢٢٦.
1 / 17
حلاوة المناجاة (١).
وكان ابن مسعود –﵁ إذا هدأت العيون قام فيسمع له دوي كدوي النحل حتى يصبح (٢).
ويروى أن طاوسًا جاء في السحر يطلب رجلًا فقالوا: هو نائم، قال: ما كنت أرى أن أحدًا ينام في السحر (٣).
إذا ما الليل أظلم كابدوه ... فيسفر عنهم وهم ركوع
أطار الخوف نومهم فقاموا ... وأهل الأمن في الدنيا هجوع
لهم تحت الظلام وهم سجود ... أنين منه تنفرج الضلوع (٤)
أما عمرو بن دينار فإنه جزأ الليل ثلاثة أجزاء، ثلثًا ينام، وثلثًا يدرس حديثه، وثلثًا يصلي (٥).
وهذا كمال الاستفادة من الوقت، ونرى اليوم من أضاع نهاره ثم هو في الليل بين نائم أو قائم على منكر تارك لواجب، لأن النوم والسهر فيما لا فائدة منه مضيعة لأوقات محسوبة باللحظات
_________
(١) الإحياء ١/ ٤٢٣.
(٢) الإحياء ١/ ٤١٩.
(٣) السير ٥/ ٤٢، صفة الصفوة ٢/ ٢٨٥.
(٤) عقود اللؤلؤ والمرجان ٢٧٠.
(٥) السير ٥/ ٣٠٢.
1 / 18
والأنفاس.
قال محمد بن عبد العزيز بن سليمان: حدثتني أمي قالت: قال أبوك: ما للعابدين وما للنوم؟ لا نوم والله في دار الدنيا إلا نوم غالب، قال: فكان والله لا يكاد ينام إلا مغلوبًا.
وفي أيامنا هذه يشتكي الكثير من الأرق ومن السهر ولا يفكر أن يستفيد من هذا الوقت بصلاة أو قراءة قرآن ... بل تجده يتقلب يمنة ويسرة بدون فائدة، فالنوم بعيد والتفكير في صلاة الليل والاستفادة من الوقت غير وارد.
ورحم الله طاوسًا كان إذا اضطجع على فراشه يتقلى عليه كما تتقلى الحبة على المقلاة، ثم ويثب ويصلي إلى الصباح، ثم يقول: طير ذكر جهنم نوم العابدين (١).
أخي: لما علم الصالحون قصر العمر، وحثهم حادي ﴿وَسَارِعُوا﴾ طووا مراحل الليل مع النهار انتهابًا للأوقات.
اصغ سمعك لنداء ربك، ﴿فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ﴾ وبادر طيَّ صحيفتك وأحسر عن رأسك قناع الغافلين، وانتبه من رقدة الموتى وشمر للسباق غدًا، فإن الدنيا ميدان المتسابقين (٢).
عن نافع أنه قال: كان ابن عمر –﵁ يحيي الليل صلاة ثم يقول: يا نافع أسحرنا؟ فأقول: لا، فيعاود الصلاة إلى أن
_________
(١) الإحياء ١/ ٤٢٠.
(٢) رهبان الليل ٣٧.
1 / 19
أقول: نعم، فيقعد ويستغفر ويدعو حتى يصبح.
وها هو الحسن بن علي لا يزال مصليًا ما بين المغرب والعشاء فقيل له في ذلك فقال: إنها ناشئة الليل.
أما منصور بن المعتمر فكان يصلي في سطحه فلما مات، قال غلام لأمه: يا أماه: الجذع الذي كان في سطح آل فلان ليس أراه.
قالت: يا بني ليس ذاك بجذع .. ذاك منصور قد مات (١).
أخي الحبيب أين نحن من هؤلاء؟
كرر عليَّ حديثهم يا حادي
فحديثهم يجلو الفؤاد الصادي (٢)
كان أسيد –﵁ إذا أوى إلى فراشه يتقلب كالحبة على المقلى ويقول: إنك لين، وفراش ألين منك (*)، ولا يزال راكعًا وساجدًا إلى الصباح (٣).
ولم يكن أمام أعينهم هدف سوى الوصول إلى مرضاة الله ودخول جنات عدن، فانظر إلى صنيعهم كما قال عبد الله بن داود: كان أحدهم إذا بلغ أربعين سنة طوى فراشه كان لا ينام
الليل (٤).
_________
(١) السير ٥/ ٤٠٦، صفة الصفوة ٣/ ١١٣
(٢) بستان العارفين ٤.
(*) يعني في الجنة.
(٣) الزهر الفائح ٢٠.
(٤) الإحياء ٤/ ٤٣٥.
1 / 20
وهم كما قال فيهم القائل:
ألستم خير من ركب المطايا ... وأندى العالمين بطون راح؟ (١)
ونحن ينطبق علينا قول إبراهيم التيمي: «كم بينكم وبين القوم، أقبلت عليهم الدنيا فهربوا، وأدبرت عنكم فاتبعتموها» (٢).
فالدنيا مضمار سباق وقد انعقد الغبار وخفي السابق، والناس في المضمار بين فارس وراجل وأصحاب حمر معقرة (٣).
قس على نفسك أخي انظر أين أنت منهم. اعلم أن من علامات الشقاء ما قاله مالك بن دينار ... أربع من علامات الشقاء: قسوة القلب وجمود العين وطول الأمل والحرص على الدنيا (٤).
* ذات ليلة زار قيس بن مسلم، محمد بن جحادة، فأتاه وهو في المسجد بعد صلاة العشاء، ومحمد قائم يصلي، فقام قيس بن مسلم في الناحية الأخرى يصلي، فلم يزالا على ذلك حتى طلع الفجر، وكان قيس بن مسلم إمام مسجده، فرجع إلى الحي فأمهم، ولم يلتقيا، ولم يعلم محمد مكانه، فقال بعض أهل المسجد: زارك أخوك قيس بن مسلم البارحة فلم تنفتل إليه. قال: ما علمت مكانه، فغدا عليه فلما رآه قيس بن مسلم مقبلًا قام إليه فاعتنقه، ثم
_________
(١) شذرات الذهب ١/ ١٤١.
(٢) الفوائد ٦٥.
(٣) السير ٥/ ٦١ حلية الأولياء ٤/ ٢١٢.
(٤) كتاب الزهد الكبير للبيهقي ١٩٥.
1 / 21
خلوا جميعًا فجعلا يبكيان (١).
وحالنا اليوم تبدلت فما أن يسلم الإمام حتى ترى من يتفحص الوجوه ويلتفت يمنة ويسرة بدون داع فيؤثر على سكونه وهدوئه، وربما غفل عن الأذكار الواردة بعد الصلاة.
حدث المغيرة بن حبيب فقال: يموت مالك بن دينار وأنا معه في الدار لا أدري ما عمله! قال: فصليت معه العشاء الآخرة ثم جئت فلبست قطيعة في أطول ما يكون الليل، قال: وجاء مالك فقرب رغيفه فأكل ثم قام إلى آخر الصلاة فاستفتح ثم أخذ بلحيته فجعل يقول: إذا جمعت الأولين والآخرين فحرم شيبة مالك بن دينار على النار، فوالله مازال كذلك حتى غلبتني عيني، ثم انتبهت فإذا هو على تلك الحال يقدم رجلًا ويؤخر رجلًا، ويقول يا رب إذا جمعت الأولين والآخرين فحرم شيبة مالك بن دينار على النار، فما زال كذلك حتى طلع الفجر (٢).
لله قوما خلصوا في حبه ... فاختارهم ورضي بهم خدامًا
قوم إذا جن الظلام عليهم ... أبصرت قومًا سجدًا وقيامًا
فسيغنمون عرائسًا بعرائس ... ويبوءون من الجنان خيامًا
_________
(١) صفة الصفوة ٣/ ١٢٧.
(٢) حلية الأولياء ٢/ ٣٦١.
1 / 22