Проблема идей в мусульманском мире
مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي
Издатель
دار الفكر المعاصر-بيروت لبنان / دار الفكر
Номер издания
١٤٢٣هـ = ٢٠٠٢م / ط١
Место издания
دمشق سورية
Жанры
مالك بن نبي
مشكلات الحضارة
***************
مشكلة الأفكار
في العالم الإسلامي
دار الفكر المعاصر- بيروت لبنان
دار الفكر-دمشق سورية
1 / 1
مالك بن نبي
مشكلات الحضارة
مشكلة الأفكار
في العالم الإسلامي
ترجمة:
الدكتور بسام بركة
الدكتور أحمد شعبو
إشراف وتقديم المحامي عمر مسقاوي
دار الفكر المعاصر- بيروت لبنان
دار الفكر-دمشق سورية
1 / 2
إعادة
١٤٢٣هـ = ٢٠٠٢م
ط١: ١٩٨٨م
1 / 3
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
في عام ١٩٧١، ترك أستاذنا مالك بن نبي، ﵀، في المحكمة الشرعية في طرابلس لبنان، وصية سجلت تحت رقم ٢٧٥/ ٦٧ في ١٦ ربيع الثاني ١٣٩١ الموفق ١٠ حزيران ١٩٧١، وقد حملني فيها مسؤولية كتبه المعنوية والمادية.
وتحملًا مني لهذه الرسالة، ووفاء لندوات سقتنا على ظمأ صافي الرؤية، رأيت تسمية ما يصدر تنفيذًا لوصية المؤلف بـ (ندوة مالك بن نبي).
وهي مشروع نطرحه كنواة لعلاقات فكرية، كان ﵀ يرغب في توثيقها.
وإنني لأرجو من أصدقاء مالك وقارئيه، مساعدتنا على حفظ حقوق المؤلف في كل ما ينشر بالعربية أو الفرنسية مترجمًا من قبل المترجمين أو غير مترجم. فقد حمّلني، ﵀، مسؤولية حفظ هذه الحقوق، والإذن بنشر كتبه. فإن وجدت طبعات لم تذكر فيها إشارة إلى إذن صادر من قبلنا، فهذه طبعات غير مشروعة، ونرجو إبلاغنا عنها.
طرابلس لبنان
١٨ ربيع الأول ١٣٩٩
١٥ شباط (فبراير) ١٩٧٩
عمر مسقاوي
1 / 4
تقديم
هذا الكتاب
نقدمه في ترجمته الجديدة وثوبه الجديد. قد اعتمدنا أصله الفرذسي الذي استلمته مكتوبًا على الآلة الكاتبة من المؤلف ﵀، مصححًا بخطه مراجعًا منه.
لقد طلبت إلى كل من الدكتور بسام بركة والدكتور أحمد شعبو، أستاذَي الأدب الفرنسي في الجامعة اللبنانية، العناية بترجمته من جديد.
ثم إني راجعت الترجمة، فقابلت بينها وبين أصلها باللغة الفرنسية، فتخيرت لنسقها أسلوبًا موحدًا هو أقرب إلى نهج الأستاذ مالك في الكتابة، مستعينًا بخبرة اكتسبتها من مصاحبتي له في القاهرة، حين توفر على إخراج كتبه بالعربية، وهو يشرف ويدقق في أعمال الترجمة في نهاية الخمسينات، بل حين اختار أخيرًا الكتابة باللغة العربية مباشرة.
ولقد رغبنا في مزيد من توضيح أفكار الكتاب، فأضفنا إلى كل فصل حواشيَ تُعَرِّف بالأعلام والمواقع، وتضيف إلى تحليلات بن نبي خلفية تسبر مراميها، وتكشف أحداثها.
فعسى أن يكون عملنا مع الزميلين المترجمين قد أوفى بالمهمة، وأوسع للهدف الذي من أجله وضع الكتاب.
ولسائل أن يسأل عن الفائدة من إعادة الترجمة، بعدما قام بترجمته في مصر
1 / 5
الأستاذ محمد عبد العظيم علي، وتولت طبعه دارالفكر في بيروت عام ١٩٧١م.
وجوابي على ذلك أنني منذ توليت الاضطلاع بمسؤولية إنتاج بن نبي بناء لوصيته، واتفقت مع دار الفكر في دمشق على إخراج مؤلفات بن نبي في ثوب جديد، كنت أطمع في ترجمة جديدة لهذا الكتاب تلتزم أصوله ونصوصه، ولا تجحد جهود الترجمة السابقة وأمانتها.
وقد زكى هذا الاتجاه ما انتشر من طبعات متناثرة لتلك الترجمة عبر دور نشر غير مأذون لها. فأردنا أن نمنح هذا الكتاب حلة جديدة وجهدًا جديدًا يرفد وضوح الأفكار التي اشتمل عليها.
ولأن المؤلف- ﵀ كان متأثرًا في شرح أفكار هـ ببعض معطيات أحاطت به زمن التأليف، وأدلت بها أحداث نهاية الستينات، فقد بدت الإشارة إلى بعض الأشخاص من الأحياء حكمًا يجلو للقارئ نسق تحليله لمشكلة الأفكار في العالم الإسلامي، التي هي المحور الذي يجمع أطراف الكتاب.
ولأنه لم يكن لتلك الأحكام معنىً أبعد من ضرب الأمثال، لم نجد فائدة من العودة إلى ذكر الأسماء ذاتها، إلا ما كان لابد منه لاستقامة السياق ووضوح التحليل.
نقول هذا ونحن في فسحة مما تركه المؤلف لنا من خيار؛ خيار لا يجاوز بحالٍ وفاءنا لأفكار هـ والتزامنا بتبليغها كما تركها نَقِيَّةً من كل تحريف غَنيَّةً بكل توضيح.
فالقارئ هدف المؤلف أينما كان وفي أي موقع كان. وهو لذلك هدفنا نبلغه فكر بن نبي من أقرب السبل وأوثقها أتصالًا وأبعدها مرمىً في ضميره. فكل ما يشوب سبلنا إليه مما يعلق بالفكرة ولا يمازجها فنحن في سعة من أمرنا فيه.
1 / 6
ثم إن هذا الكتاب قد جمع زبدة ما أنتج بن نبي، إذ طالما كانت الإرادة الحضارية طوع الفكرة كما يقول في تضاعيف مؤلفاته، فإننا إزاء عصر التلقين المستبد بتصوراتنا ومفاهيهنا نواجه انهيار هذه الإرادة حتى لا تقوى على احتضان المصير.
والصراع الفكري يجد إطاره الأوسع في البلاد المحكومة بشبكة من الإيحاءات، تُدْلي بها مراصد الاستعمار، لتصنع مُتَقلَّبَ الأحداث وسوء مُنْقَلبها حيال كل نهضة فاعلة في عالمنا الإسلامي.
فالمشكلة مشكلة أفكار في النهاية، بها ننظم خطانا في ثبات الأديم، وندفع طاقتنا في مضاء العزيمة، ونحشد وسائلنا في وثيق الإنجاز.
والحضارة إذا كانت في عناصرها الأساسية: الإنسان، التراب، الزمن. كما يشرح بن نبي في مؤلفاته. والثقافة إذا كانت في مهمتها أسلوب حضارة تحرك الإنسان ووسائله عبر القنوات الأربع: المبدأ الأخلاقي، الذوق الجمالي، المنطق العملي، التقنية، فإن مسيرة الحضارة هذه تسير بالمجتمع قُوّةً وضعفًا، دَفْعًا وهَوْنًا، صُعودًا وهبوطًا، تبعًا لدرجة تمحوره حول الأفكار أو حول الأشياء المحيطة به.
إن لكل حضارة نمطها وأسلوبها وخيارها. وخيار العالم الغربي ذي الأصول الرومانية الوثنية قدى جَنَح بصرُهُ إلى ما حوله مما يحيط به: نحو الأشياء.
بينما الحضارة الإسلامية عقيدة التوحيد المتصل بالرسل قبلَها، سَبَح خيارُها نحو التطلع الغيبي وما وراء الطبيعة: نحو الأفكار.
وتستوي الحضارة على ظَهْرِ التاريخ كلما كانت في تَوازنٍ فَعَّال يدلي بنتائجه في أفكار موضوعة تستلهم أصوله ونماذجه. أي أفكار هـ المطبوعة الأصيلة. فإذا ما فقدت الأفكار المطبوعة في نَماذِجها الأساسية إلهامَها، وافتقدت الأفكار ُ الموضوعة
1 / 7
استلهامها لتلك النماذج، أصاب الخلل المسيرة وجَمَح بها ظهْرُ التاريخ فأصبحت شرودًا تغالي في الانحراف.
«فالفكر الغربي يجنح على ما يبدو أساسًا إلى الدوران حول مفهوم الوزن والكم، وهو عندما ينحرف نحو المغالاة يصل حتمًا إلى الماديَّة في شكليها: الشكل البورجوازي للمجتمع الاستهلاكي، والشكل الجدلي للمجتمع السوفياتي.
وحينما يكون الفكر الإسلامي في أفوله كما هو شأنه اليوم، فإن المغالاة تدفعه إلى التصوف والمبهم والغامض وعدم الدقة والتقليد الأعمى والافتتان بأشياء الغرب».
غير أن هذه النتيجة ليست هي المدار الأصلي في اندفاع الحضارة الإسلامية، كما وضعها القرآن الكريم. فالإسلام دفع الرؤية الغيبيّة في إطار الحياةِ لِتوثيق الروابط الاجتماعية وتمحورها حول فكرة الخيْر، التي يجب أن تُقارِنَ كُلَّ قواها وكل فعل. وهذا ما يعطي للرابط الاجتماعي النابع من الفكر الإسلامي طابعًا خاصًا يجعل وجود ما يسمى «التناقضات في وسط الجماهير ظاهرة غير قابلة للتفسير في المجتمع الإسلامي ".
فلكي ندرك واقع المجتمع الإسلامي المعاصر علينا أن نحدد مرحلته التاريخية وموقعه من دورة الحضارة. وهذا ما فات الكتّاب الغربيين الذين يجهلون لحظات انبثاق الحضارة وَسكَرات أفولها.
فهناك مرحلة يكون المجتمع فيها بدائيًا فقير الوسائل، فإذا ما أدركته فكرة جوهرية تستقطب روحه، اندمج في دورة التاريخ واندفع جهده اليومي نحو مثل أعلى يجعل لأفكار هـ دورًا وظيفيًا «لأن الحضارة هي القدرة على القيام بوظيفة أو مهمة معيّنة» وهناك مرحلة يخرج فيها المجتمع من دورة الحضارة، ويصبح ما بعد الحضارة مُثْقَلًا بديون خَلَّفتها عصور حضارته السابقة، وهي
1 / 8
تتصرف برصيدها الروحي. هنا تصبح المشكلة أشد تعقيدًا لأن علينا أن نتخلص من تلك الديون التي أفلس بها مخزون المجتمع الروحي ومخزونه التِقَنِيُّ حيال وسائله، وهذه هي مرحلة مجتمعنا الإسلامي.
فإرادة الفرد تنبع دائمًا من الإطار العام للمجتمع الذي هو جزء منه، وكلما كان المجتمع متماسكًا وللأفكار فيه دور وظيفي انتظمت إرادة الفرد في اطِّرادها وتنافست الجهود في مسيرتها المتناغمة. وهكذا فإن المجتمع وقدرته «تُضيفان صفة الموضوعية على وظيفة الحضارة».
فالطاقة الحيوية في غرائز الفرد شَرودٌ لا تندمج بطبيعتها في مسيرة الجماعة.
وهي من ناحية أخرى لابد لها من اندماج اجتماعي تجد فيه خِصْبَ إشباعها. فالعمل الجماعي والغريزة المطلقة متناقضان، لكننا لا نستطيع أن نلغي الطاقة الحيوية من ناحية ولا المجتمع من ناحية أخرى «فعندما نلغي الطاقة الحيوية فإننا نهدم المجتمع، وعندما نحررها تحريرًا كاملًا فإنها تهدم المجتمع. لذلك يتوجب على الطاقة الحيوية أن تعمل بالضرورة ضمن هذين الحدين».
فوظيفة الحضارة هي العمل ضمن هذين الحدين اللذيْن فيهما تَتَكَيَّفُ الطاقة الحيوية لتتأهب للانطلاق في دورة التاريخ.
هنا إذن ندخل في عالم الأفكار الذي يَرْبِطُ على الغريزة، لِتُرابِطَ الطاقة الحيوية في خدمة المجتمع والتاريخ.
فهناك أفكار رائدة تحتضن نشاط المجتمع، وهي في مرحلة انبثاق مخزونه الأخلاقي الذي توظفه الفكرة الدينيّة الملهمة. وهناك أفكار عملية توجه النشاط، وهي في ساعة الاندفاع وسائله التقنية المتاحة له في وسطه «فعلى عتبة حضارة ما، ليس هو عالم الأشياء الذي يتبدل، بل بصورة أساسية عالم الأشخاص» وشبكة العلاقات الجديدة هي التي تضع للطاقة الحيوية الغرِيزية حدود نشاطها.
1 / 9
والإنسان حينما ينَظِّم شبكة علاقاته الاجتماعية بوحي الفكرة في انبثاقها، فإنه يتحرك في مسيرته عبر الأشخاص والأشياء المحيطة به فيتخذ العالم الثقافي إطاره في إنجاز هذه المسيرة، ويأخذ طابعه تبعًا للعلاقة بين العناصر الثلاثة المتحركة: الأشياء، الأشخاص، الأفكار.
فهناك توازن لابد منه بين هذه العناصر الثلاثة يسكب مزيجها في قوالب الإنجاز الحضاري، فإذا ما استبدَّ واحد من هذه العناصر وطغى على حساب العنصرين الآخرين فثمة أزمة حقيقيَّة في مسيرة الحضارة تلقي بها خارج التاريخ فريسة طغيان الشيء أو طغيان الشخص.
«ففي بلد متخلف يفرض الشيء طغيانه بسبب ندرته، تنشأ فيه عقد الكبت والميل نحو التكديس الذي يصبح في الإطار الاقتصادي إسرافًا محضًا.
أما في البلد المتقدم وطبقًا لدرجة تقدمه، فإن الشيء يسيطر بسبب وفرته ويُنْتِج نوعًا من الإشباع. إنه يفرض شعورًا لا يُحتمل من الشؤم البادي من رتابة ما يرى حوله، فيولد ميلًا نحو الهروب إلى الأمام الذي يدفع الإنسان المتحضر دائمًا إلى تغيير إطار الحياة و(الموضة»).
لكن طغيان الشخص يؤدي إلى نتائج في الإطار السياسي والاجتماعي تهدم في بنيان الفكرة حينما تتجسد فيه. وكثيرًا ما تعمد مراصدُ الرقابة في حركة العالم الثالث إلى دفع هذا الاتجاه المرضي إلى نهايته في عقول الجماهير لتُحَطِّم الفكرة البَنَّاءة من وراء سقوط الأشخاص الذين يمثلونها في النهاية، وتدفع الجماهير للبحث عن بديل للفكرة الأصيلة من الشرق والغرب عبر بطل جديد.
فعدم التوازن بين العناصر الثلاثة يفضي إلى انهيار المجتمع «والمجتمع الإسلامي يعاني في الوقت الحاضر بصورة خاصة من هذه الاتجاهات، لأن نهضته لم يُخَطَّط لها، ولم يفكر بها بطريقة تأخذ باعتبارها عوامل التبديد والتعويق، فمثقفو
1 / 10
المجتمع الإسلامي لم ينشئوا في ثقافتهم جهازا للتحليل والنقد إلا ما كان ذا اتجاه تمجيديّ يهدف إلى إعلاء قيمة الإسلام».
والمجتمع الإسلامي لا يدرك بالتالي حركته وأصالة مصادره. فهو لذلك يعيش في حالة نفسية تخلط بين الأصالة والفعالية.
ذلك أن العالم الصناعي الغربي اليوم فَعَّال وتمتد فعاليَّته لتحتويَ العالم بأسره، لكنه ليس أصيلًا؛ أي أنه لا يرتكز إلى مبادئ صحيحة موضوعيًا. وهذا سر أزمته في العالم المعاصر.
«فالأصالة ذاتية وعينيَّة وهي مستقلة عن التاريخ»، وبالتالي فليس بالضرورة أن تُدْلِيَ صِحَّتُها إلى فعَّالِيَّة مستمرة في مسيرة التاريخ.
«فحين تبصر النور الأفكار ُ التي صنعت تاريخ العالم، فإنها دائمًا فعالة طالما أنها أثارت العواصف وشيَّدت شيئًا أو هدمته، أو أنها اكتفت بقلب صفحة من تاريخ الإنسانية. وليست هذه الأفكار بالضرورة صحيحة بأكملها فالفكرة تكون صحيحة أو باطلة في المجال العقيدي والمنطق العلمي والاجتماعي».
ولأن النخبة المسلمة لا تملك جهازًا يُميِّز بين فعالية الفكرة وأصالتها سواء في الإطار العلمي والتقني، حيث تكتسب العلم من جامعات الغرب، عبر الكتاب لا عبر الحياة وأصالة المعرفة، أو في الإطار الاجتماعي السياسي حيث تُقَلِّدُ تجارب الآخرين واطراد مسيرتهم الخاصة بهم، فإن في تكوينها «خلطًا يُرثى له بين مظهرين متميزين لفكرة واحدة: أصالتها وفعاليتها» «والأساتذة الكبار الذين يمسكون بأسرار ووسائل هذا الصراع يعرفون تمامًا كيف يستفيدون من هذا اللَّبْس حين يُقابلون أمام أنظار شبابنا الجامعي بين أصالة الفكرة الإسلامية وفعَّاليَّتها».
1 / 11
لذا فإن على المجتمع الإسلامي في مواجهة العصر أن يعطي لأصالة فكرته فعَّالِيَّةً تضمن لها النجاح. إنه مدعو لأن يستعيد تقاليده العليا ومعها حِسُّ الفعالية.
وبدلًا من أن يغرق في تمجيد أصالة فكرته، لابد له أن يبحث عن وسائل فعاليتها في عصرنا الحديث. والمسألة مسألة مناهج وأفكار، وإن لنا في نهضة الدول؛ كاليابان في منتصف القرن التاسع عشر، والصين في منتصف القرن العشرين، مثالًا على كيفية الاقتباس من العلوم الغربية وتوظيف حركة المجتمع في فعالية تَستَمِدُّ أصالتها من نماذجها الخاصة بها.
وإذا كان لابد لنهضتنا من ثورة تحرّك الطاقة، فالثورة ليست كل شيء، إذ يمكن أن يكون مصيرها عابرًا غير محقق، إذا لم تمتلك جهاز رقابة وتصحيح يَسْتَمدُّ من أصالة الفكرة وموضوعية فعاليتها سُبُلَ تصحيحها.
فحينما يصبح الهدف في حركة الثورة: الحقيقة وأصالةَ الاتحاه: «فإنَّ العلم الذي ينشد الحقيقة يصبح نظامًا أخلاقيًا، لا يطيق الصبر على الخطأ من غير أن يجري التصحيح المطلوب. ويبدو أن البلاد الإسلامية لا يَروقُها أن تلقي نظرة خلفها».
فالمشكلة مشكلة أفكار. والعالم الإسلامي منذ انحطاطه ما بعد عصر الموحدين يواجه مشكلة أفكار لا مشكلة وسائل.
فتراثه الذي ورثه من عصور الحضارة الإسلامية غدا أفكار ًا ميتة. أما نماذجه الروحية التي تعود إلى العهد الأول فقد خانتها أفكار هـ الموضوعة التي خالفت عن نسق النموذج المطبوع الذي أرساه العصر الأول.
وحينما افتقد الإحاطة بمشاكل وولّى وجهه شطر العالم الغربي؛ فإن أفكار هـ
1 / 12
المقتولة بفعل الانحطاط قد استقدمت من الحضارة الغربية أفكار ًا انبتّتْ عن جذورها وامتصتها مع سمومها القاتلة. فلا هي أدركت نمط الحضارة الغربية في اندفاعه التطوري الفَعَّال المستمد من أصالته المقيمة في حدودها الجغرافية، ولا هي أحيَت نماذجها الأصلية في انبثاقها الروحي.
وهكذا تضافرت أفكار ها الموروثة الميتة، والأفكار القاتلة المجتثة من جذورها الغربية، لتنتقم من هذا العالم كما ينتقم جسر سيِّءُ البناء بالانهيار على من بناه.
هذه الفكرة المحورية تجد تأصيلها في هذا الكتاب وهو يجمع زبدة التجربة التي خاضها، بن نبي عبر كتاباته وقد تمحورت حول مشكلة الحضارة في العالم الإسلامي والعالم الثالث على سواء.
فمالك بن نبي وقف فكره على مشكلة النهضة؛ النهضة التي تُقيل عثرة عالم أضرحى رهين إنتاج الآلة، قد طغت وفرة الإنتاج على طفرة الروح، فاستعبدت الإنسان وأحْكمت القيد.
وأخيرًا:
فإنني أشكر الزميلين الدكتور بسام البركة وأحمد شعبو، كما أشكر كل من عاونني على إخراج هذا الكتاب في حلته الجديدة وبالخصوص الصديق الدكتور محمد نديم الجسر.
طرابلس ٢٥/ ١٢/ ١٩٨٦ عمر مسقاوي
1 / 13
مقدمة
هذا كتابٌ شرعت في تأليفه منذ عشرة أعوام، وكنت أُقيم في القاهرة، وما أن استجمعت له في نفسي ومن حولي العناصر الضروريَّة لإتمامه، حتى أوقفني ظرف مفاجئ، لا مجال لروايته هنا خاصة في مقدمة كتاب. إنما يكفي أنْ أقول: إنّه ظرفٌ يتّصل بالصراع الفكريّ، وإنه اضطرني إلى تغيير برنامج عملي حين ألزمني بتأليف كتابٍ آخر لأواجه بالذات ذلك الظرف.
منذ ذلك الزمن توالت الأعوام، وكان استئناف العمل يُؤَجَّلُ عامًا بعد عام. حتى إذا زارني منذ عهد قريب صديقي الدكتور (عمّار طالبي) الذي عاد من مصر بعد أن أتمَّ دراسته فيها، وكان يعْلم حين كان طالبًا في القاهرة الحال التي تركت عليها هذه الدراسة، فأقنعني إلحاحُه بأهمية إتمام ما بدأت به من عمل.
كنت أُدرك حينما قررت العودة إلى هذا العمل مقدار ما ضاع إلى الأبد من المسَوَّدة القديمة التي جَبَّرتُها على عَجَلٍ في القاهرة. بيد أني حينما تناولت مدوّناتي وجدت كلماتي بعينها رغم أني لم أجد فيها الموضوع الذي أردت أن أُضَمِّنَه إيَّاها.
كانت هذه مدوناتٍ ضَمَّنتها نقاطَ إرشادٍ، أو علاماتٍ تعينني على الاهتداء إلى العناصر الكامنة في نفسي؛ والتي كانت تتكامل بمن يحيط بي أو بما أستشفُّه على رفِّ مكتبة، أو أستقيه من مكان آخر.
لذا كانت مدوناتي ميِّتةً في مجملها؛ كعظامٍ نعثر عليها عند نبش قبرٍ قديم، وكان مضمونها يبدو لي بعيدًا، وغامضًا غير أكيد، وأفضِّل أن أتركها للذكرى ...
1 / 15
وربما استطاع يومًا قارئها الصبور أن يكتشف في ثنايا صفحاتها الْمُصْفَرَّةِ خَيْطها المقطوع حين يتأمل صفحات هذا الكتاب وما وراءها، إذ سيكون له بمثابة خيط (أريان) (١) الذي يقوده بثقةٍ في مشكلة الأفكار في المجتمع الإسلامي.
فنحن هنا أبعد من أن نُقدِّم دراسة شاملة لهذه المشكلة، ولكن بسبرنا لغورها ولِبُناها الخاصَّة نعتقد أنَّ هذا الكتاب سيعطينا عن أهميتها فكرة أوضح، ليس فقط في المجتمع الإسلامي بل في كل مجتمع.
وبقَدْر ما نوفَّق في إبراز هذه الفكرة فإن الغاية المنشودة من هذا الكتاب تكون قد تحققت.
الجزائر ٢٢ نوفبر ١٩٧٠م
مالك بن نبي
_________
(١) (أريان Ariane): ابنة ملك جزيرة كريت (في العصر القديم). أحبّت (تزيوس Thesea) الذي جاء إلى الجزيرة لقتل (المينوتور: الوحش Minotaure) الذي رأسه رأس ثور، وجده جد إنسان، وأعطته لفيفة خيط يبسطها وراءه في دهاليز القصر؛ كي يستطيع الاهتداء إلى طريق العودة والخروج منه بعد قتل الوحش. وتستعمل عادة عبارة (خيط أريان) للدلالة على الصراط الذي يهدي المرء ويقود خطاه في الأمور الصعبة والمعقَّدة.
1 / 16
الفصل الأول
الإجابتان عن الفراغ الكوني
- موقف الإنسان في عزلته: ماديّ (الثقافة الغربية) أو فكريّ (الثقافة الإسلاميّة).
- المسلم مكلَّف بحمل فكرة واحدة: حبِّ الخير، وكُرْهِ الشرّ.
ــ
إذْ يعتزل الإنسان وحيدًا، ينتابه شعورٌ بالفراغ الكوني، لكنَّ طريقته في مَلْء هذا الفراغ؛ هي التي تحدِّد طُرُزَ ثقافته وحضارته؛ أي سائر الخصائص الداخلية منها والخارجية لوظيفته التاريخية.
هناك أساسًا طريقتان لملء الفراغ.
فإما أنْ ينظر المرء حول قدميه، أي نحو الأرض.
وإما أنْ يرفع بصرَه نحو السماء.
فالطريقةُ الأولى تملأ وحدَته بالأشياء حيث يَجْمَح بَصَرُه المتسلِّط لامتلاكها.
والطريقة الثانية تملأ وحدته بالأفكار ويبحث عن الحقيقة بنظره المتسائل.
هكذا ينشأ عبر الطريقتين نموذجان من الثقافة:
ثقافةُ سيطرةٍ ذات جذور تقنية.
وثقافة حضارةٍ ذات جذور أخلاقية وغَيْبيَّة.
1 / 17
فالظاهرة الدينية تبدو حين يُوَجِّه الإنسان بصرَه نحوَ السماء. هنا يظهرُ الرسول: صاحب الدعوة والرسالة، أيْ ذلك الإنسان الذي يملك أفكار ًا يريد تبليغها إلى الناس مثل أرمية، وعيسى، ومحمد ﷺ.
فأوروبة، مهدُ عديد من الرجال العظماء، تبدو مع ذلك خارج الظاهرة الدينية في مستوى تلك الرسالات، كما لو أن طبيعة الأوربي الممتلئة بآدميّته لا تدع مجالًا للألوهيَّة.
بالمقابل فإنّ الرجل الساميَّ يبدو مُهَيَّئًا للفكرة الغيبية؛ بحيث لم تدع الألوهيَّةُ في ذاته غير قليل من المشاغل الأرضيَّة.
ويأْتي في منتصف الطريق بين الساميَّة والآريَّة الشماليَّة، اليونان الذي يشغل عالَمه بالأشكال ويملأ وحدته بمشاعر الجمال حتى إنه ليسميه (الخير) كما لاحظ تولستوي في تأملاته العميقة حول الفن (١).
بالإجمال فإن أوربة رَكَّبت في مضمون ثقافتها مزيجًا من الأشياء والأشكال من التقنيّة والجماليَّة. بينما الشرقُ الإسلاميُّ رَكَّب في ثقافته مزيجًا من فكرتين: الحقيقةِ والخيرِ.
هذه الخطَّة لا تتوافق مع مرحلة معينة من التاريخ فحسب، بل مع سائر مراحله التي فيها يتداول كرقاص الساعة في دقاته المزدوجة، صعودُ الحضارة العالميَّة إلى القمة وهبوطها إلى الحضيض.
_________
(١) (ليون نيقولايفيتش تولستوي) روائيّ وكاتب مسرحي روسيّ. وُلد في روسيا سنة ١٨٢٨ وتوفي فيها سنة ١٩١٠. قدَّم العديد من المؤلفات؛ أهمها الروايتان: (الحرب والسلم)، و(آنا كارنين). وله (ما الفن؟) الذي نشره سنة (١٨٩٧)، وهو عبارة عن مجموعة من التأملات حول الفن، يعارض الكاتب فيها فكرة (الفن للفن)؛ التي تقول بأنه لا هدف للفن ولا تعليل لوجوده سوى الفن ذاته. ويبدو أن مالك بن نبي يشير هنا إلى هذا الكتاب.
1 / 18
فحينًا تكون القمة لثقافة من تلك الثقافتين والحضيض للأخرى، وحينًا يكون العكس، وبينهما في المراحل الوسيطة نسجِّل فتراتِ إخصابٍ متبادل يَكتنفها لحظات اختلاط في البابليَّات التاريخية كما هو عصر بابل القرن العشرين (١).
تلكم هي الحضارة في أحيانها وتقلباتها: تكون في الأوج حضارةً تتركز فيها الأشياء حول فكرة حينًا، وحينًا تبلغ الأوج حضارةً أخرى تتركز فيها الأفكار حول الشيء.
وتبدو هذه الظاهرة بجلاء عندما يعبر الفكر عن نفسه بحرية كاملة، وتِلْقائيَّة تامة، دون مواربة أو سراديب بلاغية، وبتواصلٍ مباشر مع جذور الثقافة.
والأدب الشعبي كاشف في هذا المجال. بل الأدب في عمومه حتى المتَكلَّفُ منه يحمل مع ذلك تلك الخاصيَّة الشعبيَّة في طبيعة موضوعه.
وليس كالقصة تُجَلِّي عُمْقَ تلك الجذور.
ويمكن لتوضيح ما أسلفنا أن نأخذ نموذجًا: قصتين: الأولى (روبنسون كروزو) والأخرى (حي بن يقظان).
فبطلا القصتين المنعزلان؛ هما في الحقيقة المثلان اللذان يُعبِّران بوضوح عن نَمَطَي الثقافة.
_________
(١) بابل مدينة قديمة جدًا (القرن الثالث والعشرون قبل الميلاد) قامت في بلاد ما بين النهرين (على بعد ١٦٠ من موقع بغداد الحالي). يحكى أن أهلها بنوا فيها برجًا عظيمًا أرادوا بواسطته أن يبلغوا السماء. فغضب الله عليهم وبذر الشقاق بينهم بإدخال تعدُّديَّة الألسن. فتخاصموا وتفرّقوا في البلاد وفشلوا في بناء البرج. وتستعمل عبارة (برج بابل) للدلالة على الفوضى والغموض والضياع التي تصيب قيمًا من الأقوام.
1 / 19
فالأولى ينطلق بها دانيال دي فوي من محوٍ كاملٍ للوسائل (أي الأشياء) حينما يبدأ بطلُ قصته المغامرة (١).
والثانية ينطلق بها ابن طفيل من محوٍ كاملٍ للأفكار، حينما يتدرج في مراحل أحداثها.
ففي كلا القصتين تكمن العبقرية في الطريقة التي ملأ بها مؤلفاهما وقت عزلة بطليهما.
وهاكم طريقة استخدام الزمن ليومٍ واحدٍ، في حياة (روبنسون كروزو) على الجزيرة التي نجا بنفسه إليها بعد غرق سفينته:
«بدأت أُنظِّم وقت عملي وخروجي، وقت راحتي ونُزهاتي، وانطلاقًا من هذه القاعدة التي واظبت على مراعاتها، كنت أخرج في الصباح إذا لم يكن الطقس ممطرًا، ومعي بندقيتي لمدة ساعتين أو ثلاث، ثم أعمل بعد ذلك إلى ما يقارب الساعة الحادية عشرة، ثم آكل ما كنت أستطيع الحصول عليه، وكنت أنام من الظهر حتى الساعة الثانية بسبب الحرّ المضني. وفي المساء كنت أستأنف العمل. لقد أنفقت وقتي كلَّه في ذلك اليوم، وفي اليوم التالي في صنع طاولةٍ لنفسي، ذلك أنني لم أكن آنذاك سوى عاملٍ بائسٍ، ولكن الزمن والحاجة جعلاني فيما بعد صانعًا ممتازًا».
تلك شريحة من زمن (روبنسون كروزو) في عزلته في الجزيرة. فالوقت يجري منذ البداية في وقائع محسوسة. أكْل- نوْم- عَمَل. وهي وقائع تكمن في
_________
(١) (دانيال ديفر Daniel de Foe) روائي وشاعر وصحفي بريطاني. وُلد في لندن سنة (١٦٦٠). وتوفي سنة (١٧٣١). له عديد من الروايات أهمها (ربنسون كروزو) حيث يخطّ البطل ذكرياته في وحدته على جزيرة نائية نجا إليها بعد غرق سفينته. وهو يُعَدُّ رمزًا للنجاة بالعمل، ومثالًا لصراع الإنسان ضدّ الوحدة، والعزلة.
1 / 20
طبيعة خاصة، تضع ثواني الزمن في خدمة اقتصادٍ شخصيٍّ نفعيٍّ بحْت.
فروبنسون كروزو يتغلّب على كآبة الوحدة بالعمل. وخلال هذا الوقت من ذلك اليوم فإنّ عالمَ أفكار هـ كلَّه يتركز حول (شيء): إنّها الطاولة التي كان يريد صنعها لنفسه.
أما بالنسبة لحي بن يقظان فإنّ مغامرة الوحدة تتخذ لها اتجاهًا مختلفًا تمامًا. فهي لا تبدأ في الواقع إلا بعد أن نَفَقَتِ الغزالةُ التي تَبَنَّت الطفلَ المنعزل كأمّ ترعاه: «فكان يرتاد بها المراعي الخصبة، ويجتني لها الثمرات الحلوة، ويطعمها. وما زال الهزال والضعف يستولي عليها ويتوالى، إلى أن أدركها الموت، فسكنت حركاتها بالجملة، وتعطلت جميع أفعالها، فلما رآها الصبيُّ على تلك الحالة، جزع جزعًا شديدًا، وكادت نفسه تفيض أسفًا عليها. [...] فكان ينظر إلى أذنيها وإلى عينيها فلا يرى بها آفة ظاهرة، وكذلك كان ينظر إلى جميع أعضائها فلا يرى بشيءٍ منها آفة. فكان يطمع أن يعثر على موضع الآفة فيزيلها عنها، فترجع إلى ما كانت عليه فلم يتأتَّ له شيء من ذلك ولا استطاعة» (١).
لم يعثر حي بن يقظان على موطن الداء: لكن ابن طفيل يجعلنا نتتبع صعود ذهنه كيما يكتشف شيئًا فشيئًا (الروح) ثم (خلود الروح) وأخيرًا (فكرة خالق).
منذ تلك اللحظة تتتابع المغامرة تأملًا يسمح لابن يقظان أن يَدْلُفَ بعد عدة محاولات فاشلة إلى إدراك النظام الإلهي؛ إلى رؤيةٍ داخليةٍ للإله، وإلى مفهومِ صفاته.
_________
(١) ابن طفيل: حيّ بن يقظان، ١٣٢ - ١٣٣، دار الآفاق الجديدة، بيروت ط ٣/ ١٩٨٠
1 / 21