Проблема расточительства в мусульманском обществе и её решение в свете ислама
مشكلة السرف في المجتمع المسلم وعلاجها في ضوء الإسلام
Издатель
وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد
Номер издания
الأولى
Год публикации
١٤٢١هـ
Место издания
المملكة العربية السعودية
Жанры
[مقدمة]
مشكلة السرف في المجتمع المسلم وعلاجها في ضوء الإسلام
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة حمدًا لك اللهم. وصلاة وسلاما على خاتم رسلك.
أما بعد:
فإن الإنسان بطبعه ميال إلى المال، يحب جمعه والتكاثر به ﴿وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ﴾ [العاديات: ٨] العاديات / ٨.
كما يحب - من خلال المال - أن يحقق رغباته ويشبع نهمه، ففي الحديث: «منهومان لا يشبعان: منهوم في علم لا يشبع، ومنهوم في دنيا لا يشبع» رواه الحاكم في المستدرك ١ / ٩٢، وكل ذلك غريزة لا فكاك منها ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ﴾ [آل عمران: ١٤] آل عمران / ١٤.
والإسلام لا يعادي هذه الغريزة ولا يتجاهلها، ولكنه ينظمها ويوجهها بما يليق بالمسلم ووظيفته في الحياة.
فيطالب المسلم بالكسب الحلال الطيب، وصرفه في مصارفه المشروعة (الواجبة والمندوبة والمباحة) ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ [البقرة: ١٦٨] البقرة: ١٦٨.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ﴾ [البقرة: ٢٦٧] البقرة: ٢٦٧.
ولا يجوز له أن ينفقه فيما فيه ضرر عليه أو على مجتمعه، بل عليه أن يتصرف فيه بالحكمة، وفقًا لمراد الشارع.
وعندئذ يكون معتدلا في نفقته، قائمًا بالقسط. فإن تجاوز الحد المشروع فإنه
1 / 3
يكون قد دخل في دائرة الإسراف والتبذير.
وهما (الإسراف والتبذير) من الأمراض الاجتماعية والاقتصادية التي تهدد الأمم والشعوب بالوقوع في الترف والبذخ، والأشر والبطر، ومن ثم تعرضها للهلاك العام والعاجل.
﴿وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا﴾ [الإسراء: ١٦] الإسراء: ١٦.
﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾ [النحل: ١١٢] النحل: ١١٢.
والإسلام وهو يحارب هذه الآفة (الإسراف والترف) فإنه يحارب كذلك ما يقابلها من الآفات، من البخل والشح والتقتير ومنِعِ الزكاة ونحو ذلك.
إذ الأمر وسط بين الإفراط والتفريط ﴿وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا﴾ [الإسراء: ٢٩] الإسراء: ٢٩.
والمجتمعات المسلمة في عمومها قديمها وحديثها لا تخلو من وجود هذه المشكلات المتناقضة، وتفشيها أحيانًا، حتى تكون ظاهرة عامة.
ولئن كانت تختلف تلك المشكلات من زمان إلى زمان ومن بيئة إلى أخرى، فإن المعاناة والشكوى قاسم مشترك.
ومجتمعنا المعاصر ولا سيما في منطقة الخليج العربي سرت فيه ظاهرة السرف حتى تحولت إلى مشكلة تستحق الدراسة والمعالجة.
وبتوفيق من الله تعالى ثم بتشجيع من وزارة الشئون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد بالمملكة العربية السعودية قمت بهذه الدراسة النظرية المختصرة لهذه المشكلة رغبة في الإسهام مع أهل العلم والفكر والرأي بتشخيص هذه المشكلة ومحاولة معالجتها في ضوء الإسلام والواقع.
1 / 4
فشكر الله لهذه الوزارة - ممثلة بمعالي وزيرها ونائبه ووكلائه - صنعهم ومؤازرتهم.
وإذا كانت هذه الدراسة قد ركزت على الجانب النظري من المشكلة، فإنها لم تخل من الإشارات إلى الواقع الاجتماعي، وضرب بعض الأمثلة من تطبيقاته، على أن تكون عبرة.
وبهذا نكون اعتمدنا المنهج الوصفي والتحليلي أولا، ثم التطبيقي ثانيا.
وقد تكونت خريطة البحث إجمالا من:
تمهيد وخمسة مباحث وخاتمة.
أما التمهيد فعن وسطية الإسلام.
وأما المباحث فهي كالآتي:
الأول: في مفهوم السرف.
الثاني: السرف في نصوص القرآن والسنة وكلام أهل العلم والحكمة.
الثالث: أقسام السرف ومجالاته.
الرابع: الآثار السلبية للسرف.
الخامس: علاج مشكلة السرف.
وأما الخاتمة: فجاء التركيز فيها على ذم التكلف وبيان خطره.
وقد أسميت هذا البحث (مشكلة السرف في المجتمع المسلم وعلاجها في ضوء الإسلام) .
وأسأل الله العلي القدير أن يجعله عملًا خالصًا لوجهه وعلمًا نافعًا لخلقه، يرتفع لنا به الذكر، ويعظم به الأجر.
إنه خير مسؤول.
المؤلف
في ٢٠ / ٤ / ١٤١٩ هـ
1 / 5
[تمهيد]
تمهيد التوازن والاعتدال ظاهرة كونية وحقيقة شرعية لا مراء في ذلك.
أما التوازن الكوني فيقول سبحانه:. . ﴿مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ﴾ [الملك: ٣] (١) .
وأما التوازن الشرعي، أي في أحكام الله وتشريعاته، فيقول الحق تعالى:. . ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾ [الأنعام: ١٥٣] (٢) .
ومن لوازم الاستقامة التوازن.
ودين الإسلام دين وسط معتدل في كل أحكامه وتشريعاته: العقدية، والعبادية، والخلقية، والمعاملات، والعلاقات.
ففي الحديث: «إن لربك عليك حقا، ولنفسك عليك حقًا، ولأهلك عليك حقًا، فأعط كل ذي حق حقه» (٣) .
ونجد الإسلام يحث على التزام المنهج الوسط المتزن في أدلة كثيرة عامة وخاصة.
فمن النصوص العامة الداعية إلى التوسط:
قوله تعالى: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ﴾ [المائدة: ٧٧] (٤) .
وقوله ﵊: «عليكم هديًا قاصدًا، عليكم هديا قاصدًا، عليكم هديًا قاصدًا» (٥) أي طريقا معتدلًا.
وقوله: «السمت الحسن والتؤدة والاقتصاد جزء من أربعة وعشرين
_________
(١) الملك: ٣.
(٢) الأنعام ١٥٣.
(٣) رواه البخاري في صحيحه، ك: الصوم - الباب ٥١. وهو من كلام سلمان الفارسي وصدقه الرسول ﷺ.
(٤) المائدة: ٧٧.
(٥) رواه الإمام أحمد في المسند: ٥ / ٣٥٠، والحاكم: ١ / ٣١٢، وصححه وأقره الذهبي. قال الهيثمي: ورجال أحمد موثقون (مجمع الزوائد ١ / ٦٢) .
1 / 7
جزءًا من النبوة» (١) .
ومدحت الأمة المسلمة بالوسطية، فقال عز من قائل: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ [البقرة: ١٤٣] (٢) .
ومن النصوص الخاصة بموضوع البحث:
ما جاء في الحث على الاقتصاد في المعيشة.
كحديث: «ما عال من اقتصد» (٣) .
أي ما افتقر من أنفق قصدًا ولم يتجاوز إلى الإسراف، أو ما جار ولا جاوز الحد (٤) .
وحديث: «من فقه الرجل رفقه في معيشته» (٥) .
ما جاء في النهي عن الإسراف في النفقة: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا﴾ [الفرقان: ٦٧] (٦) .
وحديث: «كلوا واشربوا وتصدقوا ما لم يخالطه إسراف ولا مخيلة» (٧) .
ما جاء في النهي عن الإسراف في الأكل والشرب. . .
﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾ [الأعراف: ٣١] (٨) .
ما جاء في النهي عن الإسراف في استعمال الماء.
_________
(١) رواه الترمذي في سننه، ك: البر والصلة - الباب ٦٦، وقال: حديث حسن غريب.
(٢) البقرة: ١٤٣.
(٣) رواه الإمام أحمد في المسند: ١ / ٤٤٧. وقد ضعف الشيخ أحمد شاكر سنده (انظر: المسند بتحقيقه ٦ / ١٣٤، دار المعارف بمصر) .
(٤) انظر: فيض القدير شرح الجامع الصغير للمناوي ٥ / ٥٥٠.
(٥) رواه الإمام أحمد في المسند: ٥ / ١٩٤. قال المناوي في فيض القدير ٦ / ٢٠: وسنده لا بأس به.
(٦) الفرقان: ٦٧.
(٧) رواه الإمام أحمد في المسند: ٢ / ١٨١. قال المنذري في الترغيب والترهيب: ٣ / ١٤٢: ورواته ثقات يحتج بهم في الصحيح.
(٨) الأعراف: ٣١.
1 / 8
كحديث: «لا تسرف وإن كنت على نهر جار» (١) .
ما جاء في النهي عن إضاعة المال.
كقوله تعالى: ﴿وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا﴾ [النساء: ٥] (٢) .
وقوله ﷺ: «. . . وكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال» (٣) .
كل ذلك ونظائره يؤكد حقيقة (وسطية الإسلام واعتداله وتوازنه في كل أحكامه وتشريعاته) .
وبذلك تستقيم حياة الإنسان الطبيعية والتكليفية، فلا تضطرب ولا تصاب بالكلل والملل!! . فالمقصود من الطاعات هو استقامة النفس ودفع اعوجاجها لا الإحصاء فإنه متعذر. . .!! (٤) .
وذلك ما يتلاءم مع العقول المستقيمة.
يقول علي بن أبي طالب ﵁:
" خير الأمة النمط الأوسط، يرجع إليهم الغالي ويلحق بهم التالي " (٥) .
ويقول أبو الدرداء ﵁ (ت ٣٢ هـ): " حسن التقدير في المعيشة أفضل من نصف الكسب " (٦) .
_________
(١) رواه الإمام أحمد في المسند: ٢ / ٢٢١ وابن ماجه في السنن، ك: الطهارة - الباب ٤٨، وفيه ضعف (ينظر: مشكاة المصابيح: ح / ٤٢٧ الحاشية رقم (٣) . ".
(٢) النساء: ٥.
(٣) رواه البخاري في صحيحه من حديث المغيرة بن شعبة، ك: الاستقراض - الباب ١٩.
(٤) حجة الله البالغة للدهلوي ٢ / ٥٤ راجعه محمد شريف سكر. دار إحياء العلوم / بيروت.
(٥) عيون الأخبار - لابن قتيبة - المجلد الأول ٣ / ٣٢٦.
(٦) المرجع نفسه ص٣٣١.
1 / 9
وقد جاء في أمثال العرب: " لا تكن حلوا فتسترط ولا مرًا فتلفظ " (١) وقولهم: " خير الأمور أوساطها " (٢) .
وفي هذا المعنى يقول الشاعر:
ولا تغل في شيء من الأمر واقتصد ... كلا طرفي قصد الأمور ذميم
ويقول الآخر:
كن في أمورك كلها متوسطا ... عدلا بلا نقص ولا رجحان
نعم إن الإسلام دين التوازن والوسطية، ودين الاعتدال والاستقامة، وذلك ما يتفق مع الفطرة السليمة والعقل الصحيح، فإن أخذ الإنسان بهذا المنهج استقام أوده، وانتظمت حياته.
وإن عدل عنه يمنة أو يسرة عصفت به الأهواء في كل واد، واختل - من ثم - نظام حياته.
والمال - وهو عصب الحياة وقوام الأبدان - لا بد أن يتعامل معه الإنسان بالمنهج نفسه دون إفراط أو تفريط ولا إسراف ولا تقتير، ليكون مصدر سعادة للإنسان، ووسيلة خير للوصول إلى الغايات والأهداف النبيلة، فإن هو حاد عنه صار المال عليه وبالًا وبيلًا (٣) .
إذا عرف ذلك فإن اكتساب الحلال الطيب وإنفاقه في المباحات بطريقة معتدلة أمر جائز لا غبار عليه، كما أشرنا في المقدمة، بل إن التوسع في ذلك مما يجوز شرعا ما لم يصل إلى حد السرف، لما رواه عبد الله بن مسعود ﵁ عن
_________
(١) المرجع نفسه: ٣٢٨.
(٢) مجتمع الأمثال للميداني: ١ / ٤٣٠.
(٣) ينظر في هذا: السياسة الاقتصادية الإسلامية لترشيد الاستهلاك الفردي للسلع والخدمات. للدكتور بيلي إبراهيم العليمي - بحث في مجلة البحوث الفقهية المعاصرة. العدد ٢٤ - رجب. شعبان. رمضان ١٤١٥هـ - ص١٧٩ فما بعدها.
1 / 10
النبي ﷺ أنه قال: «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر، قال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا، ونعله حسنة، قال: إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس» (١) .
وقال عمر بن الخطاب ﵁ (ت ٢٣ هـ): " إذا وسّع عليكم فأوسعوا " (٢) وقد كان كثير من السلف على هذا المنهج، ولم يتحرجوا إلا عن الشبهات.
_________
(١) رواه مسلم في صحيحه، ك: الإيمان - ح / ١٤٧.
(٢) رواه البخاري في صحيحه، ك: الصلاة - الباب ٩.
1 / 11
[المبحث الأول مفهوم السرف]
[أولا التعريف بالسرف]
المبحث الأول
مفهوم السرف من أجل الوصول إلى الحكم على الشيء ينبغي فهم حقيقته ومعناه، إذ الحكم على الشيء فرع عن تصوره.
ونتعرف هنا على مفهوم لفظة السرف، وكذلك الألفاظ ذوات الصلة بها.
أولا: التعريف بالسرف: قال ابن فارس (ت ٣٩٥ هـ): " السين والراء والفاء أصل واحد يدل على تعدي الحد، والإغفال أيضا للشيء، تقول: في الأمر سرف أي مجاوزة القدر " (١) وجاء في تاج العروس: " السرف محركة: ضد القصد. . . وقيل: هو تجاوز ما حد لك " والإسراف في النفقة: التبذير ومجاوزة القصد. وقيل: أكل ما لا يحل أكله، وبه فسر قوله تعالى:. . وَلَا تُسْرِفُوا. . . وقيل: الإسراف: وضع الشيء في غير موضعه، أو هو ما أنفق في غير طاعة الله ﷿.
وأسرف في الكلام: أفرط، والإسراف أيضا: الإكثار من الذنوب والخطايا (٢) ".
ذلك تعريف السرف لدى علماء اللغة.
فهو: تجاوز حد الاعتدال، ووضع الشيء في غير موضعه.
وقد أدرج في التعريف اللغوي معان شرعية تؤول إلى المعنى اللغوي، مثل التعريف بأكل ما لا يحل أكله، والإنفاق في غير طاعة الله.
لذا ننتقل إلى المعنى الشرعي للسرف.
_________
(١) معجم مقاييس اللغة ٣ / ١٥٢.
(٢) تاج العروس من جواهر القاموس للزبيدي: ٢٣ / ٤٢٨ - ٤٣٣.
1 / 13
قال الراغب الأصفهاني (ت ٥٠٢ هـ): " السرف تجاوز الحد في كل فعل يفعله الإنسان، وإن كان ذلك في الإنفاق أشهر، قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا﴾ [الفرقان: ٦٧] (١) . . . ﴿وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا﴾ [النساء: ٦] (٢) ويقال تارة اعتبارا بالقدر، وتارة بالكيفية، ولهذا قال سفيان: " ما أنفقت في غير طاعة الله فهو سرف وإن كان قليلا، قال الله تعالى: ﴿وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾ [الأنعام: ١٤١] (٣) ﴿وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ﴾ [غافر: ٤٣] (٤) أي المتجاوزين الحد في أمورهم " (٥) .
وقريب من هذا قول الحافظ ابن حجر (ت ٨٥٢ هـ) في تعريف الإسراف بأنه: " مجاوزة الحد في كل فعل أو قول وهو في الإنفاق أشهر " (٦) .
ويعرفه بعضهم: " بأنه صرف الشيء فيما لا ينبغي زائدا على ما ينبغي " (٧) .
وجاء في منال الطالب في شرح طوال الغرائب: " السرف: التبذير، ووضع العطاء في غير أهله، وقد أسرف يسرف إسرافا، والسرف: الاسم.
قال بعض السلف: كل ما أنفقته في طاعة الله فليس بسرف وإن كثر، وما أنفقته في غير طاعته فهو سرف وإن قل " (٨) . وقال الإمام الطبري (ت ٣١٠ هـ): " أصل الإسراف تجاوز الحد المباح إلى ما لم يبح، وربما كان ذلك في الإفراط وربما كان في التقصير " (٩) .
_________
(١) الفرقان: ٦٧.
(٢) النساء: ٦.
(٣) الأنعام: ١٤١ والأعراف: ٣١.
(٤) غافر: ٤٣.
(٥) المفردات في غريب القرآن ص٢٣٠ - تحقيق محمد سيد الكيلاني.
(٦) فتح الباري ١٠ / ٢٥٣.
(٧) الكليات للكفوي ص١١٣.
(٨) منال الطالب لابن الأثير ص٣٢٢ تحقيق الدكتور محمود الطناحي.
(٩) تفسير الطبري: ٧ / ٥٧٩ تحقيق محمود شاكر، وقد عد الإمام الطبري التقصير من جملة الإسراف - كما تلحظ - ولم أجد من تابعه على ذلك.
1 / 14
ومجمل ما تقدم:
١ - أن السرف هو مجاوزة القصد وحد الاعتدال وهذا نفسه المعنى اللغوي.
غير أن هنا تفسيرًا بمعناه العام وهو تجاوز القصد في كل قول أو فعل. وهو في هذا البحث مقيد بالجانب المالي أو الاقتصادي.
٢ - ثم إن الإسراف في هذا الجانب يقال تارة باعتبار القدر أو الكم وتارة بالكيفية، حسب إشارة الأصفهاني السابقة.
٣ - وأن ما أنفق في غير طاعة الله فهو سرف بإطلاق قل أو كثر، وهذا يدخل في الإسراف في الكيف.
٤ - وما أنفق في المباحات فما تجاوز القصد فهو سرف، وهذا سرف في الكم.
٥ - وأما ما أنفق في طاعة الله ففي الإسراف فيه نظر، وستأتي له إشارة.
وكأن التعريفات السابقة لا تفرق بين لفظتي السرف والإسراف، وهو الظاهر.
غير أن بعض أهل العلم يفرق بينهما فيجعل الإسراف: " ما لم يقدر على رده إلى الصلاح، والسرف: ما يقدر على رده إلى الصلاح " (١) ويرى الطبري أن الإسراف هو الإفراط، والسرف هو التقصير (٢) ولم يظهر لي هذا التفريق، لذا فلن ألتزم به في البحث.
وفي سياق إبراز حقيقة السرف يرد السؤال التالي: هل الإسراف في الإنفاق في طاعة الله يعد إسرافا مذموما؟ .
لقد سبق قول بعض السلف: " ما أنفقته في طاعة الله فليس بسرف وإن كثر ".
وفي هذا المعنى قيل لحاتم الطائي: " لا خير في السرف، فقال: لا سرف في الخير " (٣) .
ويذهب بعض العلماء إلى عدم مشروعية السرف في هذا لقوله تعالى:. . ﴿وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾ [الأنعام: ١٤١] (٤) فقد
_________
(١) تفسير الطبري ٧ / ١١١.
(٢) ينظر: تفسير الطبري ٧ / ٥٧٩.
(٣) ينظر: الجامع لأحكام القرآن ٧ / ١١٠.
(٤) الأنعام: ١٤١.
1 / 15
ورد في سبب نزول الآية أن ثابت بن قيس بن شماس عمد إلى خمسمائة فجذها ثم قسمها في يوم واحد ولم يترك لأهله شيئا فنزلت. . . ﴿وَلَا تُسْرِفُوا﴾ [الأنعام: ١٤١] (١) .
قال الإمام الطبري: بعد أن ساق الخلاف في معنى الآية الكريمة:
" والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إن الله - تعالى ذكرُه - نهى بقوله:. . ﴿وَلَا تُسْرِفُوا﴾ [الأنعام: ١٤١] عن جميع معاني الإسراف ولم يخصص منها معنى دون معنى، وإذا كان ذلك كذلك، وكان الإسراف في كلام العرب: الإخطاء بإصابة الحق في العطية، إما بتجاوز حده في الزيادة وإما بتقصير عن حده الواجب - كان المفرق ماله والباذله للناس حتى أجحفت به عطيته مسرفًا بتجاوزه حد الله إلى ما ليس له، وكذلك المقصر في بذله فيما ألزمه الله بذله فيه، وذلك كمنعه ما ألزمه إيتاءه منه أهل سهمان الصدقة إذا وجبت فيه أو منعه من ألزمه الله نفقته من أهله وعياله ما ألزمه منها، وكذلك السلطان في أخذه من رعيته ما لم يأذن الله بأخذه، كل هؤلاء فيما فعلوا من ذلك مسرفون " (٢) .
والذي يظهر أن الإسراف مذموم حتى وإن كان في الخير، هذا هو الأصل، لكن بشرط أن يترتب على هذا الإسراف نوع إجحاف على المسرف في نفسه أو من يعول. أما إذا لم يترتب عليه شيء من ذلك فليس بسرف (٣) .
قال البخاري (ت ٢٥٦ هـ) في صحيحه: " باب لا صدقة إلا عن ظهر غنى، ومن تصدق وهو محتاج أو أهله محتاج أو عليه دين، فالدين أحق أن يقضى من الصدقة والعتق والهبة، وهو رد عليه ليس له أن يتلف أموال الناس، وقال
_________
(١) انظر: تفسير الطبري ١٢ / ١٧٤. الطبعة المحققة.
(٢) تفسير الطبري ١٢ / ١٦٧، وتلحظ هنا أن الطبري جعل منع حق المال إسرافا وفي هذا تجوز من الطبري ﵀.
(٣) يراجع: نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج للرملي الشافعي ٤ / ٣٥١.
1 / 16
النبي ﷺ: «من أخذ أموال الناس يريد إتلافها أتلفه الله» إلا أن يكون معروفا بالصبر فيؤثر على نفسه ولو كان به خصاصة كفعل أبي بكر ﵁ حين تصدق بماله، وكذلك آثر الأنصار المهاجرين، ونهى النبي ﷺ عن إضاعة المال، فليس له أن يضيع أموال الناس بعلة الصدقة " (١) .
ونقل الحافظ ابن حجر (ت ٨٥٢ هـ) هنا عن الطبري قوله: " قال الجمهور: من تصدق بماله كله في صحة بدنه وعقله حيث لا دين عليه، وكان صبورا على الإضاقة ولا عيال له، أو له عيال يصبرون أيضا فهو جائز، فإن فقد شيء من هذه الشروط كره، وقال بعضهم: هو مردود " (٢) .
ومما يدل على صحة النفقة بكل المال إذا لم يكن في ذلك إضرار قوله ﷺ: «لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق. . .» (٣) الحديث. قال ابن المنير (ت ٦٨٣ هـ) فيما نقله عنه ابن حجر: " في هذا الحديث حجة على جواز إنفاق جميع المال وبذله في الصحة والخروج عنه بالكلية في وجوه البر، ما لم يؤد إلى حرمان الوارث ونحو ذلك مما منع منه الشرع " (٤) .
ضابط السرف: ومن متممات مفهوم السرف وحقيقته معرفة تطبيق ذلك على واقع الحال.
فإن مما هو معروف أن الناس متفاوتون في الغنى والفقر وفي طبيعة المتطلبات. فهذا غني وذاك فقير، وبينهما درجات.
وهذا يعيش منفردا بنفسه، وآخر يعيش معه أسرة صغيرة، وثالث معه أسرة
_________
(١) صحيح البخاري، ك: الزكاة - الباب ١٨.
(٢) فتح الباري ٣ / ٢٩٥.
(٣) رواه البخاري في صحيحه، ك: الزكاة الباب ٥.
(٤) فتح الباري ٣ / ٢٧٧.
1 / 17
كبيرة، وهذا ذو جاه ومكانة بين قومه، وآخر ليس كذلك. . . وهكذا، يضاف إلى ذلك الأعراف السائدة في كل بلد أو قبيلة.
فكل دلك - وما أشبهه - لا بد من مراعاته عند الحكم على تصرف الإنسان المالي بأنه إسراف أو تقتير أو وسط بينهما.
يقول القرطبي (ت ٦٧١ هـ) عند تفسيره قوله تعالى: ﴿وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ﴾ [الإسراء: ٢٩] (١) " وهذه من آيات فقه الحال فلا يبين حكمها إلا باعتبار شخص من الناس " (٢) وعلى هذا فمعرفة الإسراف من عدمه تعود إلى العرف والعادة، والعادة مُحَكَّمة كما يقول علماء الفقه وأصوله (٣) .
[ثانيا التعريف بالمصطلحات والألفاظ ذات الصلة]
[التبذير]
ثانيا: التعريف بالمصطلحات والألفاظ ذات الصلة: هناك عدد من المصطلحات والألفاظ لها صلة وثيقة بالمصطلح الرئيس السابق " السرف "، يجدر بنا أن نستوضحها حتى تستكمل الصورة بيانا، ويزاد الطريق اتساعا وإضاءة.
ولعل من أهم هذه المصطلحات والألفاظ: التبذير، إضاعة المال، الترف، الاقتصاد، الإنفاق، الجود والسخاء، البخل والشح، الفرح.
(١) أما التبذير فقال ابن فارس: " الباء والذال والراء أصل واحد، وهو نثر الشيء، وتفريقه، يقال: بذرت البذر أبذره بذرًا قال تعالى:. . ﴿وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا - إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ﴾ [الإسراء: ٢٦ - ٢٧] (٤) (٥) .
_________
(١) الإسراء: ٢٩.
(٢) الجامع لأحكام القرآن ١٠ / ٢٥١، وينظر: المحرر الوجيز لابن عطية ١٢ / ٤٠.
(٣) ينظر: الأشباه والنظائر للسيوطي، ص٨٩ الطبعة الأولى ١٣٩٩ هـ.
(٤) سورة الإسراء: ٢٦، ٢٧.
(٥) معجم مقاييس اللغة ١ / ٢١٦.
1 / 18
وفي عرف الشرع قال ابن الأثير (ت ٦٠٦ هـ): " تبذير الأموال: تفريقها وإعطاؤها إسرافا بغير حساب " (١) .
وجاء في تفسير القرطبي: قال الشافعي (ت ٢٠٤ هـ): " التبذير إنفاق المال في غير حقه، ولا تبذير في عمل الخير، وهذا قول الجمهور، وقال أشهب عن مالك: التبذير هو أخذ المال من حقه ووضعه في غير حقه وهو الإسراف " (٢) .
ويفهم من ذلك أنه لا فرق بين التبذير والإسراف.
غير أن بعضهم يفرق بينهما " فالإسراف: هو صرف الشيء فيما لا ينبغي زائدا على ما ينبغي، بخلاف التبذير فإنه صرف الشيء فيما لا ينبغي، والإسراف: تجاوز في الكمية، فهو جهل بمقادير الحقوق، والتبذير: تجاوز في موضع الحق، فهو جهل بمواقعها، يرشدك إلى هذا قوله تعالى في تعليل الإسراف. . . ﴿إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾ [الأعراف: ٣١] (٣) وفي تعليل التبذير ﴿إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ﴾ [الإسراء: ٢٧] (٤) فإن تعليل الثاني فوق الأول " (٥) .
وعلى هذا فالإسراف أعم من التبذير، فالتبذير يكون في المال خاصة، أما الإسراف فيكون في المال وغيره، بل إن الإسراف في المال يكون في طاعة الله وليس مذموما كما تقدم بشرطه.
أما التبذير فهو مذموم جملة وتفصيلا.
[إضاعة المال]
(٢) أما إضاعة المال فقال ابن حجر (ت ٨٥٢ هـ): " قال الجمهور: إن
_________
(١) منال المطالب ص٦٠٢.
(٢) تفسير القرطبي ١٠ / ٢٤٧.
(٣) الأعراف: ٣١.
(٤) الإسراء: ٢٧.
(٥) الكليات للكفوي ص١١٣.
1 / 19
المراد به السرف في إنفاقه، وعن سعيد بن جبير: إنفاقه في الحرام " (١) .
وقال في موضع آخر: " إنه ما أنفق في غير وجهه المأذون فيه شرعا، سواء كانت - أي النفقة - دينية أو دنيوية، فمنع منه لأن الله تعالى جعل المال قياما لمصالح العباد " (٢) فالإضاعة إذن من الإسراف.
وقد ورد النهي عن إضاعة المال بهذا اللفظ في قوله عن «. . . وكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال» (٣) .
[الترف]
(٣) وأما الترف: فقال ابن فارس: " التاء والراء والفاء كلمة واحدة، يقال رجل مترف: منعم، وتَرَّفَهُ أهلُه: إذا نعموه بالطعام الطيب والشيء يخص به " (٤) .
" والمترف: المتنعم المتوسع في ملاذ الدنيا وشهواتها " (٥) .
وعند قوله تعالى:. . ﴿وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ﴾ [هود: ١١٦] (٦) .
يقول الشوكاني (ت ١٢٥٠ هـ): " والمعنى أنه اتبع الذين ظلموا بسبب مباشرتهم الفساد وتركهم للنهي عنه ما أترفوا فيه، والمترف: الذي أبطرته النعمة، يقال: صبي مترف: منعم البدن، أي صاروا تابعين للنعم التي صاروا بها مترفين من خصب العيش ورفاهية الحال وسعة الرزق وآثروا ذلك على الاشتغال بأعمال
_________
(١) فتح الباري ٥ / ٦٨.
(٢) المرجع السابق ١٠ / ٤٠٨.
(٣) رواه البخاري في صحيحه. ك: الاستقراض - الباب ١٩.
(٤) معجم مقاييس اللغة ١ / ٣٤٥.
(٥) النهاية في غريب الحديث ١ / ١٨٧، وينظر: تفسير القرطبي ١٥ / ٥٢٩.
(٦) هود: ١١٦.
1 / 20
الآخرة، واستغرقوا أعمارهم في الشهوات النفسانية " (١) .
وقد وردت مادة (ترف) في القرآن الكريم ثماني مرات، وكلها جاءت في سياق الذم للترف والمترفين، كقوله تعالى معللا تعذيب أصحاب الشمال ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ﴾ [الواقعة: ٤٥] (٢) . قال الشيخ عبد الرحمن السعدي (ت ١٣٧٦ هـ) في تفسير الآية: " أي قد ألهتهم دنياهم وعملوا لها وتنعموا، وتمتعوا بها، فألهاهم الأمل عن إحسان العمل، فهذا هو الترف الذي ذمهم الله عليه " (٣) .
ومن يتأمل في واقع الترف وأهله يلحظ أنه يجيء تاليًا ونتيجة للسرف والتبذير، وكفى بهما ضررًا وشرًا.
[الاقتصاد]
(٤) أما الاقتصاد: فمصدر اقتصد.
قال في تاج العروس: " القصد في الشيء: ضد الإفراط وهو ما بين الإسراف والتقتير، والقصد في المعيشة: ألا يسرف ولا يقتر، وقصد في الأمر: لم يتجاوز فيه الحد ورضي بالتوسط "؛ لأنه في ذلك يقصد الأسدّ كالاقتصاد، يقال: فلان مقتصد في المعيشة وفي النفقة وقد اقتصد، واقتصد في أمره: استقام. . . واقتصد في النفقة: توسط بين التقتير والإسراف، قال ﷺ: «ولا عال من اقتصد» (٤) ومن الاقتصاد ما هو محمود مطلقا، وذلك فيما له طرفان: إفراط وتفريط، كالجود فإنه بين الإسراف والبخل، وكالشجاعة فإنها بين التهور والجبن، وإليه الإشارة بقوله تعالى ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا﴾ [الفرقان: ٦٧] (٥) .
_________
(١) فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني ٢ / ٥٣٤، الطبعة الثالثة.
(٢) الواقعة: ٤٥.
(٣) تيسير الكريم الرحمن ص ٧٧٤، مؤسسة الرسالة ١٤١٧هـ.
(٤) سبق تخريجه في التمهيد: ص ٨.
(٥) الفرقان: ٦٧.
1 / 21
ومنه ما هو متردد بين المحمود والمذموم وهو فيما يقع بين محموِد ومذموم، كالواقع بين العدل والجور، وعلى ذلك قوله تعالى:. . ﴿فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ﴾ [فاطر: ٣٢] (١) .
وعلى أي حال فالاقتصاد يعني التوسط في النفقة بين الإسراف والشح على أن مفهوم هذه اللفظة تطور، وصار مصطلحا شائعا بين دوائر العلم والسياسة والمال.
" فقد أطلق على طريقة تنظيم إدارة شئون الأسرة، ثم شمل مجموع العلاقات المادية الداخلية والخارجية للأمم " " وتعني هذه اللفظة أيضا النظام الذي تتبعه دولة ما (اقتصاد حر، اقتصاد موجه، اقتصاد اشتراكي) " (٢) .
[الإنفاق]
(٥) وأما الإنفاق فهو مصدر أنفق.
قال ابن فارس (ت ٣٩٥ هـ): " النون والفاء والقاف أصلان صحيحان، يدل أحدهما على انقطاع شيء وذهابه، والآخر على إخفاء شيء وإغماضه. . . فالأول نفقت الدابة نفوقا: ماتت، ونفق السعر نفاقا، وذلك أنه يمضي فلا يكسر ولا يقف، وأنفقوا: نفقت سوقهم، والنفقة؛ لأنها تمضي لوجهها، ونفق الشيء: فني. . . . والأصل الآخر النفق: سرب في الأرض له مخلص إلى مكان. . . " (٣) .
والأصل الأول هو الذي يهمنا؛ لأنه المتعلق بموضوع البحث.
وجاء في البحر المحيط: " الإنفاق: الإنفاد، أنفقت الشيء وأنفدته بمعنى واحد، والهمزة للتعدية يقال: نفق الشيء: نفد، وأصل هذه المادة تدل على الخروج والذهاب " (٤) .
_________
(١) فاطر: ٣٢. تاج العروس ٩ / ٣٦.
(٢) القاموس الاقتصادي للدكتور محمد بشير علية، الطبعة الأولى ١٩٨٥.
(٣) معجم مقاييس اللغة ٥ / ٤٥٤ - ٤٥٥.
(٤) البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي ١ / ١٦٣، شارك في تحقيقه عدد من الأساتذة.
1 / 22
فالإنفاق إذن: هو الإفناء والإذهاب والإنفاد.
وهو يكون في المال وفي غيره كما يقول الراغب الأصفهاني (ت ٥٠٢ هـ) (١) .
وعلى هذا فالإنفاق شامل لكل ما يستهلكه الإنسان من أشياء مباحة.
ويرى بعضهم أن الإنفاق خاص بصرف المال في الحاجات المختلفة (٢) .
ثم إذا تجاوز حده فهو الإسراف إلا فلا.
[الجود]
(٦) وأما الجود فقال ابن فارس (ت ٣٩٥ هـ): " الجيم والواو والدال أصل واحد، وهو التسمح بالشيء وكثرة العطاء، يقال: رجل جواد بين الجود وقوم أجواد (٣) .
وجاء في المصباح المنير: " جاد بالمال: بذله، وجاد بنفسه: سمح بها عند الموت وفي الحرب، مستعار من ذلك " (٤) .
وأما السخاء، فقال ابن فارس: " السين والخاء والحرف المعتل أصل واحد يدل على اتساع في شيء وانفراج.
ثم قال: قال أهل اللغة: السخاء: الجود، يقال سخا يسخو سخاوة وسخاء يمد ويقصر، والسخي: الجواد " (٥) .
ويقول الأصفهاني (ت ٥٥٢ هـ): " السخاء: هيئة للإنسان داعية إلى بذل المقتنيات حصل معه البذل أم لم يحصل، وذلك خلق، ويقابله الشح. والجود بذل المقتنى، ويقابله البخل. . . . ويدل على صحة هذا الفرق أنهم جعلوا
_________
(١) المفردات في غريب القرآن ص٥٠٢.
(٢) انظر: معجم لغة الفقهاء، وضع الدكتور محمد رواس قلعجي وزميله ص٩٣، والمعجم الوسيط ص ٩٤٢.
(٣) معجم مقاييس اللغة ١ / ٤٩٣.
(٤) ص١١٤.
(٥) معجم مقاييس اللغة ٣ / ١٤٦ - ١٤٧.
1 / 23
الفاعل من السخاء والشح على بناء الأفعال الغريزية فقالوا: شحيح وسخي، وقالوا: جواد وباخل، وأما قولهم: بخيل فمصروف عن لفظ الفاعل للمبالغة، كقولهم: راحم ورحيم، ولكون السخاء غريزة لم يوصف الباري ﷾ به " (١) ويزيد أبو هلال العسكري (ت ٣٩٥ هـ) مسألة التفريق بين الجود والسخاء إيضاحا فيقول: " الفرق بين السخاء والجود أن السخاء هو أن يلين الإنسان عند السؤال ويسهل مهره للطالب، من قولهم سخوت النار أسخوها سخوا إذا لينتها. . . . ولهذا لا يقال لله تعالى سخي، والجود: العطاء من غير سؤال، من قولك جادت السماء إذا جادت بمطر غزير، والفرس الجواد: الكثير الإعطاء للجري، والله تعالى جواد لكثرة عطائه فيما تقضيه الحكمة " (٢) .
ومن هذا يتبين أن الجود والسخاء هما البذل للغير وليسا لحظ النفس، ولا يدخلان في مفهوم الإسراف.
[البخل]
(٧) وأما البخل فقال الفيومي (ت ٧٧٠ هـ): " البخل في الشرع منع الواجب، وعند العرب منع السائل مما يفضل عنده " (٣) .
وقال الراغب (ت ٥٠٢ هـ): " البخل: إمساك المقتنيات عما لا يحق حبسها عنه، ويقابله الجود، يقال: بخل فهو باخل، وأما البخيل فالذي يكثر منه البخل كالرحيم من الراحم، والبخل ضربان: بخل بقنيات نفسه وبخل بقنيات غيره، وهو أكثرهما ذما دليلنا على ذلك قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ﴾ [النساء: ٣٧] (٤) (٥) .
_________
(١) الذريعة إلى مكارم الشريعة للأصفهاني ص٤١٢، تحقيق أبي اليزيد العجمي.
(٢) الفروق اللغوية ص١٤٢، تحقيق حسام الدين القدسي ١٤٠١ هـ.
(٣) المصباح المنير ص٣٨. دار الكتب العلمية ١٤١٤هـ، ولعل الفيومي أخذ التعريف من أبي حامد الغزالي في إحياء علوم الدين ٣ / ٢٥٤ حيث يقول (الإمساك حيث يجب البذل بخل) .
(٤) النساء: ٣٧.
(٥) المفردات ص٣٨.
1 / 24