قواعد معرفة البدع
قواعد معرفة البدع
Издатель
دار ابن الجوزي للنشر والتوزيع
Номер издания
الأولى
Год публикации
١٤١٩ هـ - ١٩٩٨ م
Место издания
المملكة العربية السعودية
Жанры
قَوَاعِدُ معرفَة الْبِدَع
تأليف
مُحَمَّد بن حُسَيْن الجيزاني
دَار ابْن الْجَوْزِيّ
Неизвестная страница
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
مقدمة
الحمد لله على الإسلام والسنة والعافية؛ فإن سعادة الدنيا والآخرة ونعيمهما مبنيٌّ على هذه الأركان الثلاثة، وما اجتمعن في عبد بوصف الكمال إلا وقد كملت نعمة الله عليه، وإلا فنصيبه من نعمة الله بحسب نصيبه منها (١).
والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد فالناس في تحديد مسمَّى البدعة وضبط معناها فريقان:
فريق بالغ في التبديع، وتساهل في الحكم بالبدعة على كل محدثة أو قضية لم يبلغه دليُلها، وهؤلاء جعلوا باب الابتداع واسعًا وربما أدرجوا تحت مسمّى البدعة شيئًا من الشريعة والسنة.
وفريق تساهل في الأخذ بالبدعة، وتوسَّع في ارتكابها، وهؤلاء جعلوا باب الابتداع ضيقًا، لا يدخل فيه سوى البدع الأمهات، وكبائر المحدثات، وربما وصل الحال بهم إلى إدراج الكثير من البدع والمحدثاث تحت مسمّى الشريعة والسنة.
_________
(١) انظر اجتماع الجيوش الإسلامية (٣٣).
1 / 5
فانظر رحمك الله كيف أن الفريق الأول وسَّعوا مسمّى البدعة حتى أدخلوا فيه ما ليس منه، وهم في المقابل قَصَروا مسمّى الشريعة على ما عرفوه وألفوه من النوازل والأحكام، حتى أخرجوا من مسمّى الشريعة بعض ما هو منها.
وانظر كيف أن الفريق الآخر ضيَّقوا مسمّى البدعة حتى أخرجوا منه بعض أفراده، وهم في المقابل وسَّعوا مسمّى الشريعة والسنة حتى أدخلوا فيه ما ليس منه.
ومن هنا يتبين لك - أيها الناظر - ما عند كل فريق من الخطأ في ضبط معنى البدعة، وهو الذي أثمر الخطأ في معنى السنة، إذ السنة والبدعة معنيان متقابلان، وعُلم بهذا أن كل فريق آخذ بطرف، مائل به عن الوسط.
وقد أشار ابن تيمية إلى نحو ذلك بقوله:
(لكنَّ أعظم المهم في هذا الباب وغيره تمييز السنة من البدعة؛ إذ السنَّة ما أمَر به الشارع، والبدعة ما لم يشرعه من الدين.
فإن هذا الباب كثر فيه اضطرابُ الناس في الأصول والفروع، حيث يزعم كل فريق أنَّ طريقه هو السنة، وطريقَ مخالفه هو البدعة، ثم إنه يحكم على مخالفه بحكم المبتدع، فيقوم من ذلك من الشر ما لا يحصيه إلا الله) (١).
_________
(١) الاستقامة (١/ ١٣).
1 / 6
وكان الواجب إعطاء البدعة معناها دون إجحاف ولا إسراف. وإنما يتمهَّد هذا الواجب بوضْع ضوابط جليَّة لمعنى البدعة ورسْمِ معالم بيِّنة لحدودها، وما يدخل فيها وما لا يدخل.
وبهذا يتأتّى الحكم على آحاد البدع وأعيانها، وذلك عندما تردُّ كلُّ بدعة إلى قواعدها الكليَّة.
من هنا تظهر أهمية تحديد القواعد التي تُعرف بها البدع.
ومن جهة أخرى فإنَّ ضبط الأمور المنتشرة المتعددة، وإجمال الأحكام الكثيرة المتفرقة أوعى لحفظها، وأدعى لرسوخها.
والحكيم إذا أراد التعليم لا بد له أن يجمع بين بيانين: إجمالي تتشوَّف إليه النفس. وتفصيلي تسكن إليه (١).
وبعد إطالة النظر وإمعان الفكر فيما حرَّره أهل العلم في باب البدع والمحدثات (٢) اجتمع لديَّ ثلاث وعشرون قاعدة، عليها يقوم الابتداع في الدين، وإليها يؤول الإحداث المشين.
_________
(١) انظر المنثور في القواعد للزركشي (١/ ٦٥، ٦٦).
(٢) من أبرز ما كُتب في هذا الباب وأنفعه:
١ - البدع والنهي عنها لابن وضاح القرطبي، المتوفي سنة ٢٧٦ هـ.
٢ - الحوادث والبدع للطرطوشي، المتوفي سنة ٥٣٠ هـ.
٣ - الباعث على إنكار البدع والحوادث لأبي شامة، المتوفي سنة ٦٦٥ هـ.
٤ - اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم لتقي الدين ابن تيمية، المتوفي سنة ٧٢٨ هـ.
٥ - الاعتصام للشاطبي، المتوفي سنة ٧٩٠ هـ.
1 / 7
ومن الموافقات اللطيفة أن يوافق عدد هذه القواعد عدد سني البعثة المحمدية ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾.
وقد رأيت أن أجعل بين يديَّ هذه القواعد مدخلين:
أولهما في حد البدعة، وثانيهما في الأصول الجامعة للابتداع.
المدخل الأول في حد البدعة
وفيه ثمان مسائل:
١ - معنى البدعة في اللغة.
٢ - معنى البدعة في الشرع.
٣ - موازنة بين المعنى اللغوي والمعنى الشرعي.
٤ - العلاقة بين الابتداع والإحداث.
٥ - العلاقة بين البدعة والسنة.
٦ - العلاقة بين البدعة والمعصية.
٧ - العلاقة بين البدعة والمصلحة المرسلة.
٨ - خصائص البدعة.
1 / 8
المدخل الثاني في الأصول الجامع للابتداع
وفيه تفصيل الكلام على الأصول الجامعة للابتداع، وهي ثلاثة:
* الأصل الأول: التقرب إلى الله بما لم يشرع.
* الأصل الثاني: الخروج على نظام الدين.
* الأصل الثالث: الذرائع المفضية إلى البدعة.
أما موضوع هذا الكتاب وعمود فسطاطه وهو بيان القواعد التي تُعرف بها البدع فقد قسَّمته إلى ثلاثة أقسام؛ بناء على أن هذه القواعد - وعددها ثلاث وعشرون - راجعة إلى أصول ثلاثة، وذلك على النحو التالي:
الأصل الأول: التقرب إلى الله بما لم يشرع
وتحته عشر قواعد:
١ - العبادة المستندة إلى حديث مكذوب.
٢ - العبادة المستندة إلى الهوى والرأي المجرد.
٣ - العبادة المخالفة للسنة التركية.
٤ - العبادة المخالفة لعمل السلف.
1 / 9
٥ - العبادة المخالفة لقواعد الشريعة.
٦ - التقرب إلى الله بالعادات والمباحات.
٧ - التقرب إلى الله بالمعاصي.
٨ - إطلاق العبادة المقيدة.
٩ - تقييد العبادة المطلقة.
١٠ - الغلو في العبادة.
الأصل الثاني: الخروج على نظام الدين
وتحته ثمان قواعد:
١١ - ما كان من الاعتقادات والآراء معارضًا لنصوص الوحي.
١٢ - ما لم يرد في الوحي ولم يؤثر عن الصحابة والتابعين من اعتقادات.
١٣ - الخصومة والجدال في الدين.
١٤ - الإلزام بشيء من العادات والمعاملات.
١٥ - أن يحصل بفعل العادة أو المعاملة تغييرٌ للأوضاع الشرعية الثابتة.
1 / 10
١٦ - مشابهة الكافرين في خصائصهم.
١٧ - مشابهة الكافرين في محدثاتهم.
١٨ - الإتيان بشيء من أعمال الجاهلية.
الأصل الثالث: الذرائع المفضية إلى البدعة
وتحته خمس قواعد:
١٩ - أن يفعل ما هو مطلوب شرعًا على وجه يُوهم خلاف ما هو عليه في الحقيقة.
٢٠ - أن يفعل ما هو جائز شرعًا على وجه يُعتقد فيه أنه مطلوب شرعًا.
٢١ - أن يعمل بالمعصية العلماء وتظهر من جهتهم، بحيث يعتقد العامة أن هذه المعصية من الدين.
٢٢ - أن يعمل بالمعصية العوام وتشيع فيهم، ولا ينكرها العلماء وهم قادرون على الإنكار، بحيث يعتقد العامة أن هذه المعصية مما لا بأس به.
٢٣ - ما يترتب على فعل البدع المحدثة من الأعمال.
ثم ذيَّلت هذه القواعد بخاتمة تضمنت عرضًا مجملًا لهذه القواعد، وبيان مجالات البدعة.
1 / 11
هذه جملة موضوعات الكتاب.
والمقصود من جمع هذه القواعد وترتبيها أن يستبين طريق الضلالة والابتداع، وأن يرفع الالتباس الناشئ بين السنن والبدع.
وهما أمران لا ثالث لهما: إتباع السنة، وإتباع الهوى.
فمن أراد إتباع السنة فإنه سيأخذ بجادّة الطريق، وهي: النصوص المُحْكمة وعمل السلف الصالح وسبيلهم.
ومن أراد إتباع هواه فسيسلك لذلك بُنيَّات الطريق، وسيجد هنالك: عمومات، أو قياسًا، أو قول صحابي أو تابعي، أو رأيًا لبعض أهل العلم، جميع هذه في ظاهرها أدلة، وما هي - عند التحقيق - بأدلة.
وكلُّ صاحب مذهب لا يعجزه أن يستدل لمذهبه بدليل شرعي؛ صحَّ أو لم يصح، والحقُّ - يا مبتغيه - إنما يُبتغى في إتباع الدليل الناصع واقتفاء السبيل الواضح، لا في موافقة جمهور الناس ومجاراتهم، والتوسعة عليهم.
واعلم أن المتعرِّض لمثل هذا الأمر - أعني مخالفة جمهور الناس وعوائدهم - ينحو نحو الخليفة الصالح عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى في العمل حيث قال: ألا وإني أُعالج أمرًا لا يعين عليه إلا الله، قد
1 / 12
فني عليه الكبير، وكبر عليه الصغير، وفصح عليه الأعجمي، وهاجر عليه الأعرابي حتى حسبوه دينًا لا يرون الحق غيره (١).
أسأل الله جل شأنه أن يرينا الحقَّ حقَّ ويرزقنا إتباعه، وأن يرينا الباطل باطلًا ويرزقنا اجتنابه.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
* * *
_________
(١) انظر الاعتصام (١/ ٣٢).
1 / 13
المدخل الأول
حدُّ البدعة
وفيه ثمان مسائل:
١ - معنى البدعة في اللغة.
٢ - معنى البدعة في الشرع.
٣ - موازنة بين المعنى اللغوي والمعنى الشرعي.
٤ - العلاقة بين الابتداع والإحداث.
٥ - العلاقة بين البدعة والسنة.
٦ - العلاقة بين البدعة والمعصية.
٧ - العلاقة بين البدعة والمصلحة المرسلة.
٨ - خصائص البدعة.
1 / 15
المسألة الأولى: معنى البدعة في اللغة (١)
تأتي مادة (بدع) في اللغة على معنيين:
أحدهما: الشيء المخترع على غير مثال سابق، ومنه قوله تعالى ﴿قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنْ الرُّسُلِ﴾.
وجاء على هذا المعنى قول عمر ﵁: (نعمت البدعة) (٢)، وقول غيره من الأئمة؛ كقول الشافعي: (البدعة بدعتان: بدعة محمودة وبدعة مذمومة؛ فما وافق السنة فهو محمود، وما خالف السنة فهو مذموم) (٣).
قال ابن رجب: (وأما ما وقع في كلام السلف من استحسان بعض البدع فإنما ذلك في البدع اللغوية لا الشرعية، فمن ذلك قول عمر ﵁ لما جمع الناس في قيام رمضان على إمام واحد في المسجد، وخرج، ورآهم يصلون كذلك فقال: نعمت البدعة هذه) (٤).
_________
(١) انظر النهاية في غريب الحديث والأثر (١/ ١٠٦، ١٠٧)، ومختار الصحاح (٤٣، ٤٤)، والمصباح المنير (٣٨)، والاعتصام (١/ ٣٦).
(٢) أخرجه البخاري (٤/ ٢٥٠) برقم ٢٠١٠.
(٣) أخرجه أبو نعيم في الحلية (٩/ ١١٣).
(٤) جامع العلوم والحكم (١/ ١٢٩).
1 / 17
والمعنى الثاني: التعب والكلال، يقال: أبدعت الإبل إذا بركت في الطريق من هزال أو داء أو كلال، ومنه قول الرجل الذي جاء إلى النبي ﷺ فقال: إني أُبدع بي فاحملني فقال: «ما عندي» فقال رجل: يا رسول الله أنا أدله على من يحمله فقال رسول الله ﷺ: «من دل على خير فله مثل أجر فاعله» (١).
وهذا المعنى رجع إلى المعنى الأول؛ لأن معنى أبدعت الإبل: بدأ بها التعب بعد أن لم يكن بها.
المسألة الثانية: معنى البدعة في الشرع
وردت في السنة المطهرة أحاديث نبوية فيها إشارة إلى المعنى الشرعي للفظ البدعة، فمن ذلك:
١ - حديث العرباض بن سارية ﵁، وفيه: قوله ﷺ: «وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة» (٢).
_________
(١) أخرجه مسلم (١٣/ ٣٨ - ٣٩).
(٢) أخرجه أبو داود في سننه، واللفظ له (٤/ ٢٠١) برقم ٤٦٠٧) وابن ماجة (١/ ١٥) برقم ٤٢)، والترمذي (٥/ ٤٤) برقم ٢٦٧٦) وقال: هذا حديث حسن صحيح، والحديث صححه الألباني في ظلال الجنة في تخريج السنة لابن أبي عاصم (١٧) برقم ٢٧.
1 / 18
٢ - حديث جابر بن عبد الله ﵁، وفيه: أن النبي ﷺ كان يقول في خطبته: «إن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار» (١).
وإذا تبيَّن بهذين الحديثين أن البدعة هي المحدثة استدعى ذلك أن يُنظر في معنى الإحداث في السنة المطهرة، وقد ورد في ذلك:
٣ - حديث عائشة ﵂ وهو قوله ﷺ: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» (٢).
٤ - وفي رواية: «من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد» (٣).
هذه الأحاديث الأربعة إذا تؤملت وجدناها تدل على حد البدعة وحقيقتها في نظر الشارع.
ذلك أن للبدعة الشرعية قيودًا ثلاثة تختص بها، والشيء لا يكون بدعة في الشرع إلا بتوفرها فيه، وهي:
_________
(١) أخرجه بهذا اللفظ النسائي في سننه (٣/ ١٨٨)، والحديث أصله في مسلم (٣/ ١٥٣)، وللاستزادة راجع كتاب خطبة الحاجة للألباني.
(٢) أخرجه بخاري (٥/ ٣٠١) برقم ٢٦٩٧، ومسلم (٢/ ١٦) واللفظ له.
(٣) أخرجه مسلم (١٢/ ١٦).
1 / 19
١ - الإحداث.
٢ - أن يضاف هذا الإحداث إلى الدين.
٣ - ألا يستند هذا الإحداث إلى أصل شرعي؛ بطريق خاص أو عام.
وإليك فيما يأتي إيضاح هذه القيود الثلاثة:
١ - الإحداث.
والدليل على هذا القيد قوله ﷺ: «من أحدث»، وقوله: «وكل محدثة بدعة».
والمراد بالإحداث: الإتيان بالأمر الجديد المخترع، الذي لم يسبق إلى مثله (١). فيدخل فيه كل مخترع، مذمومًا كان أو محمودًا، في الدين كان أو في غيره.
_________
(١) سواء في ذلك: ما أُحدث ابتداء أول مرة، إذ لم يسبقه مثيل؛ كعبادة الأصنام أول وجودها، وهذا هو الإحداث المطلق.
وما أُحدث ثانيًا، وقد سبق إلى مثله، ففُعل بعد اندثار؛ كعبادة الأصنام في مكة، فإن عمرو بن لحي هو الذي ابتدعها هنا لك، وهذا هو الإحداث النسبي. ومنه: كل أُضيف إلى الدين وليس منه، كما دل على ذك حديث: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» فيسمى محدثًا بالنسبة إلى الدين خاصة، وهو قد لا يكون محدثًا بالنسبة إلى غير الدين.
1 / 20
وبهذا القيد خرج ما لا إحداث فيه أصلًا؛ مثل فعل الشعائر الدينية كالصلوات المكتوبات، وصيام شهر رمضان، ومثل الإتيان بشيء من الأمور الدنيوية المعتادة كالطعام واللباس ونحو ذلك.
ولما كان الإحداث قد يقع في شيء من أمور الدنيا، وقد يقع في شيء من أمور الدين؛ تحتَّم تقييد هذا الإحداث بالقيدين الآتيين:
٢ - أن يضاف هذا الإحداث إلى الدين.
والدليل على هذا القيد قوله ﷺ: «في أمرنا هذا». والمراد بأمره ها هنا: دينه وشرعه (١).
فالمعنى المقصود في البدعة: أن يكون الإحداث من شأنه أن يُنسب إلى الشرع ويضاف إلى الدين بوجه من الوجوه، وهذا المعنى يحصل بواحد من أصول ثلاثة: الأصل الأول: التقرب إلى الله بما لم يشرع، والثاني: الخروج على نظام الدين، ويلحق بهما أصل ثالث، وهو الذرائع المفضية إلى البدعة.
وبهذا القيد تخرج المخترعات المادية والمحدثات الدنيوية مما لا صلة له بأمر الدين، وكذلك المعاصي والمنكرات التي استحدثت، ولم تكن من قبل، فهذه لا تكون بدعة، اللهم إلا إن فُعلت على وجه التقرب، أو كانت ذريعة إلى أن يظن أنها من الدين.
_________
(١) انظر جامع العلوم والحكم (١/ ١٧٧).
1 / 21
٣ - ألا يستند هذا الإحداث إلى أصل شرعي؛ بطريق خاص ولا عام.
والدليل على هذا القيد: قوله ﷺ: «ما ليس منه»، وقوله: «ليس عليه أمرنا».
وبهذا القيد تخرج المحدثات المتعلقة بالدين مما له أصل شرعي، عام أو خاص، فمما أُحدث في الدين وكان مستندًا إلى دليل شرعي عام: ما ثبت بالمصالح المرسلة؛ مثل جمع الصحابة ﵃ للقرآن، ومما أُحدث في هذا الدين وكان مستندًا إلى دليل شرعي خاص: إحداث صلاة التراويح جماعة في عهد عمر ﵁ فإنه قد استند إلى دليل شرعي خاص. ومثله أيضًا إحياء الشرائع المهجورة، والتمثيل لذلك يتفاوت بحسب الزمان والمكان تفاوتًا بيِّنًا، ومن الأمثلة عليه ذكر الله في مواطن الغفلة.
وبالنظر إلى المعنى الغوي للفظ الإحداث صحَّ تسمية الأمور المستندة إلى دليل شرعي محدثات؛ فإن هذه الأمور الشرعية اُبتدئ فعلها مرة ثانية بعد أن هُجرت أو جُهلت، فهو إحداث نسبي.
ومعلوم أن كل إحداث دل على صحته وثبوته دليل شرعي فلا يسمى - في نظر الشرع - إحداثًا، ولا يكون ابتداعًا، إذ الإحداث والابتداع إنما يطلق - في نظر الشرع - على ما لا دليل عليه.
1 / 22
وإليك فيما يأتي ما يقرر هذه القيود الثلاثة من كلام أهل العلم:
قال ابن رجب: (فكل من أحدث شيئًا ونسبه إلى الدين، ولم يكن له أصل من الدين يرجع إليه؛ فهو ضلالة، والدين منه بريء) (١).
وقال أيضًا: (والمراد بالبدعة: ما أُحدث مما لا أصل له في الشريعة يدل عليه، فأما ما كان له أصل من الشرع يدل عليه فليس ببدعة شرعًا، وإن كان بدعة لغةً) (٢).
وقال ابن حجر: (والمراد بقوله: «كل بدعة ضلالة» ما أحدث ولا دليل له من الشرع بطريق خاص ولا عام) (٣).
وقال أيضًا: (وهذا الحديث [يعني حديث «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد»] معدود من أصول الإسلام وقاعدة من قواعده؛ فإن من اخترع في الدين ما لا يشهد له أصل من أصوله فلا يلتفت إليه» (٤).
_________
(١) جامع العلوم والحكم (٢/ ١٢٨).
(٢) المصدر السابق (٢/ ١٢٧).
(٣) فتح الباري (١٣/ ٢٥٤).
(٤) المصدر السابق (٥/ ٣٠٢)، وانظر أيضًا معارج القبول (٢/ ٤٢٦)، وشرح لمعة الاعتقاد (٢٣).
1 / 23
التعريف الشرعي للبدعة: يمكننا مما سبق تحديد معنى البدعة في الشرع بأنها ما جمعت القيود الثلاثة المتقدمة، ولعل التعريف الجامع لهذه القيود أن يقال: البدعة هي: (ما أُحدث في دين الله، وليس له أصل عام ولا خاص يدل عليه).
أو بعبارة أوجز: (ما أُحدث في الدين من غير دليل).
المسألة الثالثة: موازنة بين المعنى اللغوي للبدعة والمعنى الشرعي
وذلك من وجهين:
١ - أن المعنى اللغوي للبدعة أعم من المعنى الشرعي، فإن بينهما عمومًا وخصوصًا مطلقًا؛ إذ كل بدعة في الشرع داخلة تحت مسمى البدعة في اللغة، ولا عكس؛ فإن بعض البدع اللغوية - كالمخترعات المادية - غير داخلة تحت مسمى البدعة في الشرع (١).
٢ - أن البدعة بالإطلاق الشرعي هي البدعة الواردة في حديث «كل بدعة ضلالة» دون البدعة اللغوية، ولذلك فإن البدعة الشرعية
_________
(١) انظر اقتضاء الصراط المستقيم (٢/ ٥٩٠).
1 / 24
موصوفة بأنها ضلالة، وأنها مردودة، وهذا الاتصاف عام لا استثناء فيه، بخلاف البدعة اللغوية فإنها غير مقصودة بحديث «كل بدعة ضلالة» فإن البدعة اللغوية لا يلازمها وصف الضلالة والذم، ولا الحكم عليها بالرد والبطلان.
المسألة الرابعة: العلاقة بين الابتداع والإحداث
الابتداع والإحداث يردان في اللغة بمعنى واحد؛ إذ معناهما: الإتيان بالشيء المخترع بعد أن لم يكن.
وأما في المعنى الشرعي فقد دلت الأحاديث الأربعة المتقدمة على أن للبدعة في الشرع اسمين: البدعة والمحدثة.
إلا أن لفظ البدعة غلب إطلاقه على (الأمر المخترع المذموم في الدين خاصة).
وأما لفظ المحدثة فقد غلب إطلاقه (على الأمر المخترع المذموم في الدين كان أو في غيره).
وبهذا يعلم أن الإحداث أعم من الابتداع؛ لكون لفظ الإحداث شاملًا لكل مخترع مذموم، في الدين كان أو في غيره، إذ يدخل في معنى
1 / 25