Жизнь Мухаммада (СААС)
حياة محمد صلى الله عليه وآله وسلم
Издатель
-
Номер издания
-
Жанры
يقول الدكتور / عبد الرحمن صالح المحمود (*)
أما الكتابات المعاصرة في سيرة الرسول ﷺ فينبغي أن نعلم أن هذه الكتابات قسمان: منها قسم تأثر فيه أصحابه بدراسات المستشرقين والمبشرين. وينبغي أن أشير في هذه المناسبة إلى أن المستشرقين والمبشرين ألفوا كتبًا كثيرة عن النبي ﷺ، وكثير من هذه الكتب وبعضها قد ترجم إلى العربية، وكثير منها مملوء حقدًا وبغضًا وسبًا وشتمًا لرسول الله ﷺ ولأصحابه، فينبغي أن نحذر من هذه الدراسات الاستشراقية، وتبعهم على ذلك بعض أذنابهم ممن ينسبون إلى المسلمين، وكان من الدراسات التي تأثرت بهم ما كتبه طه حسين في كتابه (على هامش السيرة)، فهذا الكتاب مملوء بالخرافات، ولا ينبغي أن يعتمد عليه أبدًا. وكذلك أيضًا هناك كتب أخرى وإن كانت أقل خطورة من هذا الكتاب إلا أنها تأثرت بتلك الدراسات الاستشراقية وبالغزو الاستعماري. ومنها ما كتبه محمد حسين هيكل في كتابه (حياة محمد)، أو في كتابه الآخر (في منزل الوحي)، فالكتابان وإن كانا جميلين بديعين إلا أنه قلد فيهما مناهج المستشرقين والمبشرين، فمثلًا: أراد أن يجعل من النبي ﷺ وكأنه واحدًا من البشر العاديين، ومن ثم سمى كتابه (حياة محمد)، يعني: يريد ألا يجعل هناك معجزة إلا القرآن، فيبعد عن سيرة النبي ﷺ ما يسميه هؤلاء مخالفًا للعقل من المعجزات ومن المغيبات، ويريد أن يعرض سيرة النبي ﷺ عرضًا كما يقول: ليتناسق مع مقتضيات الحياة ومع بذل الأسباب البشرية، فجاء عرضه في سيرته بعيدًا عن تلك القضايا المهمة في حياة النبي ﷺ والتي هي من معجزاته ودلائل نبوته ﵊. ومثله ما كتبه العقاد في كتابه (عبقرية محمد)، وعنوانه يدل على مقصده منه! فمحمد رسول الله ﷺ، ورسول الله ﷺ لا يُقاس بغيره من العظماء، وإنما يجب أن تختص دراسته بكونه نبيًا ورسولًا من عند الله ﵎. ثم إنه بدأت دراسات جادة وجيدة لسيرة النبي ﷺ ولنقد كتب السيرة، ومن تلك الدراسات الجيدة ما كتبه عدد من الباحثين في جامعة أم القرى وفي الجامعة الإسلامية، فإن هؤلاء كتبوا عدة رسائل درسوا فيها بعض المسائل المتعلقة بسيرة النبي ﷺ دارسة حديثية نقدية ممتازة، فمثلًا: درسوا بيعة العقبة وأحداثها، ودرسوا هجرة النبي ﷺ وأحداثها، ودرسوا غزوة بدر، ومن هذه الدراسات ما يتعلق بغزوة بني المصطلق، وما يتعلق منها بصلح الحديبية، وما يتعلق منها بغزوة تبوك، وقد طبعت أكثر هذه الدراسات، وهي دراسات مهمة جدًا. وكان للشيخ محمد أمين المصري رحمه الله تعالى فضل في ذلك بعد الله تعالى؛ فإنه أول من اقترح هذه الدراسات، وأشرف على عدد من هذه البحوث، وتوفي رحمه الله تعالى منذ زمن، ثم تابع الإشراف على هذه الرسائل الأستاذ الشيخ الدكتور أكرم العمري، وهو موجود الآن في المدينة، وقد حرص الدكتور أكرم العمري على متابعة سيرة النبي ﷺ وعلى متابعة هذه الرسائل لإخراج سيرة جيدة متكاملة مبنية على الدراسة الحديثية المؤصلة. ومن الدراسات التي اهتمت بالسيرة النبوية ما كتبه الأستاذ محمد سرور زين العابدين (دراسات في السيرة النبوية)، فإن هذا الكتاب قد طبع، ودرس فيه كثيرًا من مناهج السيرة النبوية، ونقد نقدًا ممتازًا كثيرًا من مناهج المستشرقين وأذنابهم من المستغربين، ودراسته هذه مطبوعة. ومنها أيضًا ما كتبه أكرم العمري الذي أشرت إليه قبل قليل؛ فإنه له دراسات ممتازة جدًا، حول سيرة النبي ﷺ، ومن تلك الدراسات الممتازة له ما كتبه بعنوان: (المجتمع المدني في عهد النبوة)، وهو جزءان: جزء يتعلق بخصائص هذا العهد وتنظيماته الأولى، والجزء الثاني يتعلق بالجهاد ضد المشركين، وقد طبعت هذين الجزأين الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، وفيه دراسة ممتازة جدًا وتأصيل جيد لدراسة سيرة النبي ﵊. وهناك دراسات كثيرة ومتعددة اختلفت مناهجها وسبلها، وتعدادها يطول بنا
_________
(*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: عن محاضرة له بعنوان: مقدمة في السيرة
Неизвестная страница
بسم الله الرحمن الرحيم
تعريف بالكتاب
بقلم المغفور له الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغي منذ وجد الإنسان على الأرض وهو مشوق إلى تعرّف ما في الكون المحيط به من سنن وخصائص، وكلما أمعن في المعرفة ظهرت له عظمة الكون أكثر من ذي قبل، وظهر ضعفه وتضاءل غروره. ونبيّ الإسلام صلوات الله عليه شبيه بالوجود. فقد جدّ العلماء منذ أشرقت الأرض بنوره يتلمسون نواحي العظمة الإنسانية فيه، ويتلمسون مظاهر أسماء الله جلّت قدرته في عقله وخلقه وعلمه. ومع أنهم استطاعوا الوصول إلى الشيء من المعرفة، فقد فاتهم حتى الآن كمال المعرفة؛ وأمامهم جهاد طويل، وبعد شاسع، وطريق لا نهاية له.
والنبوّة هبة الله لا تنال بالكسب؛ لكن حكمة الله وعلمه قاضيان بأن تمنح للمستعد لها والقادر على حملها. الله أعلم حيث يجعل رسالته. ومحمد ﷺ أعدّ لأن يحمل الرسالة للعالم أجمعه، أحمره وأسوده، إنسه وجنه، وأعدّ لأن يحمل رسالة أكمل دين، ولأن يختم به الأنبياء والرسل، وليكون شمس الهداية وحده إلى أن تنفطر السماء وتنكدر النجوم، وتبدّل الأرض غير الأرض والسموات.
عصمة الأنبياء في التبليغ وأداء أمانة الوحي قضية فرغ العلماء منها، فليس للأنبياء فضل الاختيار في التبليغ وأداء الأمانة بعد طبعهم بخاتم النبوّة واختيارهم لها. وهذا التبليغ نتيجة حتمية للنبوّة لا مردّ لها. غير أن الوحي لا يلازم الأنبياء في كل عمل يصدر عنهم وفي كل قول يبدر منهم، فهم عرضة للخطأ، يمتازون عن سائر البشر بأن الله لا يقرّهم على الخطأ بعد صدوره، ويعاتبهم عليه أحيانا.
أمر محمد ﷺ بأن يبلغ عن ربه، ولم تبين له الطرق التي يتبعها في التبليغ وفي حماية الدعوة، وترك له أن يتصرف بعقله وعمله وفطنته، كما يتصرف غيره من العلماء والعقلاء. وجاء الوحي مفصلا قاطعا في كل ما يخص ذات الإله ووحدته وصفاته وكيفية عبادته؛ ولم يكن كذلك فيما يخص النظم الاجتماعية للأسرة والقرية والمدينة والدولة منفردة ومرتبطة بغيرها من الدول. فهناك مجال واسع للبحث عن عظمة النبي ﷺ قبل الوحي، وهناك مدى فسيح للبحث عن تلك العظمة بعد الوحي. فقد صار مبلغا عن ربه داعيا إليه، حاميا لتلك الدعوة ولحرّية الداعين، مدافعا عنهم؛ وأصبح حاكم الأمة الإسلامية وقائد حربها ومفتيها وقاضيها ومنظّم جميع الصّلات والروابط فيها، وبينها وبين غيرها من الأمم. وقد أقام العدل في ذلك كله، وألّف بين
1 / 5
أمم وطوائف ما كان العقل يسيغ إمكان التأليف بينها؛ وظهرت الحكمة والرصانة وبعد النظر وكمال الفطنة وسرعة الخاطر وقوّة الحزم في كل ما صدر عنه من قول أو فعل، وتفجّرت منه ينابيع العلم والمعرفة، وينابيع البلاغة التي يطأطئ البلغاء رؤوسهم أمامها إجلالا وهيبة؛ وفارق الدنيا وهو راض عن عمله مرضيّ من الله ومن المسلمين.
وكل هذه النواحي تستحق الدرس والتمحيص، وليس في مقدور شخص واحد أن يفيها حقها، بل ليس في مكنة شحص واحد أن يوفي على الغاية في ناحية من هذه النواحي.
وسيرة محمد صلوات الله عليه وعلى آله، كسائر العظماء، أضيف إليها ما ليس منها، إما عن حب وهوى وحسن قصد، وإما عن سوء قصد وحقد. غير أنها تمتاز عن سائر العظماء جميعهم بأن منها شيئا كثيرا ضمه الوحي الإلهي وضمن حفظه القرآن المطهر، وشيئا كثيرا روي على لسان الحفاظ الثقات من المحدّثين، وعلى هذه الأسس الصحيحة يجب أن تبنى السيرة، وأن يستنبط العلماء منها حكمها وأسرارها ودقائقها، وأن تحلل التحليل العلمي النزيه، ملاحظا في ذلك ظروف الوسط وحال البيئة ونواحيها المختلفة من عقائد ونظم وعادات.
وقد أخرج الدكتور هيكل للناس كتابه «حياة محمد» في سيرة محمد ﷺ، ويسرّ لي أن أطّلع على جزء منه قبل إتمام طبعه. والدكتور هيكل معروف لقراء اللغة العربية، غنيّ باثاره فيها عن التعريف. وقد درس القانون واطلع على المنطق والفلسفة، ومكّنته ظروفه وطبيعة عمله من الاتصال بالثقافة القديمة والثقافة الحديثة وأوفى منهما على حظ عظيم، وناظر وجادل وهجم ودافع في المعتقدات والآراء وقواعد الاجتماع وفي السياسة وغيرها، فنضج عقله وكمل علمه وأتّسع اطلاعه وامتدّ أفقه، فأصبح يدافع عن آرائه بمنطق قويّ وحجج باهرة وأسلوب أختص به لا تخفي نسبته إليه. بهذه الثقافة وهذه القوّة نسج الدكتور كتابه وقال في مقدّمته: «لست مع ذلك أحسب أني أوفيت على الغاية من البحث في حياة محمد؛ بل لعلي أكون أدنى إلى الحق إذا ذكرت أني بدأت هذا البحث في العربية على الطريقة الحديثة. وقد تأخذ القارئ الدهشة إذا ذكرت ما بين دعوة محمد والطريقة العلمية الحديثة من شبه قوىّ. فهذه الطريقة العلمية تقتضيك إذا أردت بحثا أن تمحو من نفسك كل رأي وكل عقيدة سابقة في هذا البحث، وأن تبدأ بالملاحظة والتجربة، ثم بالموازنة والترتيب، ثم بالاستنباط القائم على هذه المقدمات العلمية. فإذا وصلت إلى نتيجة من ذلك كله كانت نتيجة علمية خاضعة بطبيعة الحال للبحث والتمحيص، ولكنها تظل علمية ما لم يثبت البحث العلمي تسرب الخطأ إلى ناحية من نواحيها.
وهذه الطريقة العلمية هي أسمى ما وصلت إليه الإنسانية في سبيل تحرير الفكر، وها هي ذي مع ذلك طريقة محمد وأساس دعوته» .
أمّا أن هذه الطريقة طريقة القرآن فذلك حق لا ريب فيه؛ فقد جعل العقل حكما والبرهان أساس العلم، وعاب التقليد وذم المقلّدين، وأنّب من يتبع الظن وقال: «إن الظّنّ لا يغني من الحقّ شيئا» وعاب تقديس ما عليه الآباء، وفرض الدعوة بالحكمة لمن يفقهها. ولم تكن معجزة محمد ﷺ القاهرة إلا في القرآن، وهي معجزة عقلية. وما أبدع قول البوصيري:
لم يمتحنّا بما تعيا العقول به ... حرصا علينا، فلم نرتب ولم نهم
وأما أن هذه الطريقة حديثة فهذا ما يعتذر عنه. وقد ساير الدكتور غيره من العلماء في هذا. لأنها طريقة القرآن كما اعترف هو، ولأنها طريقة علماء سلف المسلمين. أنظر كتب الكلام تراهم يقررون أن أوّل واجب على المكلف معرفة الله، فيقول آخرون: لا، إن أوّل واجب هو الشك. ثم إنه لا طريق للمعرفة إلا
1 / 6
البرهان. وهو وإن كان نوعا من أنواع القياس إلا أنه يجب أن تكون مقدّماته قطيعة حسية، أو منتهية إلى الحس، أو مدركة بالبداهة، أو معتمدة على التجربة الكاملة أو الاستقراء التام، على ما هو معروف في المنطق. وكل خطأ يتسرّب إلى إحدى المقدّمات أو إلى شكل التأليف مفسد للبرهان.
وقد جرى الإمام الغزالي على الطريقة نفسها. وقد قرّر في أحد كتبه أنه جدد نفسه من جميع الآراء ثم فكر وقدّر، ورتب وأزن، وقرّب وباعد، وعرض الأدلة وهذبها وحللها؛ ثم اهتدى بعد ذلك كله إلى أن الإسلام حق، وإلى ما اهتدى إليه من الآراء. وقد فعل هذا ليجافي التقليد، وليكون إيمانه إيمان المستيقن المعتمد على الدليل والبرهان، ذلك الإيمان الذي لا يختلف المسلمون في صحته ونجاة صاحبه.
وأنت واجد في كتب الكلام في مواضيع كثيرة حكاية تجريد النفس عما ألفته من العقائد، ثم البحث والنظر. فطريق التجريد طريق قديم، وطريق التجربة والاستقراء طريق قديم، والتجربة والاستقراء التام وليدا الملاحظة، فليس هناك جديد عندنا، ولكن هذه الطريقة القديمة بعد أن نسيت في التطبيق العلمي والعملي في الشرق، وبعد أن نشأ التقليد وأهدر العقل، وبعد أن أبرزها الغربيون في ثوب ناضج وأفادوا منها في العلم والعمل، رجعنا نأخذها عنهم ونراها طريقة في العلم جديدة.
هذا القانون العلمي في البحث معروف قديما وحديثا. والمعرفة سهلة ولكن العمل عسير. ولا يتفاوت الناس كثيرا في معرفة القانون، ولكنهم يتفاوتون جدّ التفاوت في تطبيق القانون.
تجريد النفس والملاحظة والتجربة والموازنة والاستنباط كلمات سهلة؛ لكن الإنسان الرازح تحت أحمال الوراثة في دمه وعقله، وأحمال البيئة في البيت والقرية والمدينة والدولة والمدرسة، وأحمال المعتقدات والمزاج والصحة والمرض والشهوات، كيف يسهل عليه تطبيق القانون؟ هذا هو موضع الداء قديما وحديثا وهو سبب تعدّد المذاهب والآراء وسبب تبدلها وتنقلها من قطر إلى قطر، ومن أمة إلى أمة. والفلسفة والآداب تبدّل ثيابها على تعاقب الأجيال كما تبدّل النساء أزياءها، وقلّ أن تجد فيها شيئا يصونه حرز أو بقية حصن؛ بل سرى التبدّل إلى قواعد العلم التي لم تكن طوال الأجيال الماضية موضعا للشك. ونظرية النسبية اضطرب لها العلماء وسرعان ما قام من يهدمها. والآراء في الأمراض وأسبابها وطرق علاجها وفي التغذية لا تزال مطيعة للتبدّل والتحول. وهكذا إذا أمعنّا النظر لا نجد أمانا لما أنتجه العقل وحده إلا ما كان البرهان بشروطه متوافرا فيه.
ولكن ما نسبة هذه الأشياء التي يتوافر فيها البرهان إلى غيرها مما تمليه الظنون وتسطره الأوهام وتمجه الأذهان المريضة، وتفرضه السياسة؛ ويبدعه العلماء الذين يجدون كل اللذة في مخالفة غيرهم وإحداث هذه المذاهب والآراء! ولعل هذه الحيرة ستخفف غلواء العلماء المعتزين بالعقل وحده، وتلويهم يوما من الأيام إلى الدخول في حمى الحق وحصن اليقين؛ وهو الوحي الصادق، وهو القرآن الكريم والسنة الصحيحة المطهرة.
نعود بعد هذا إلى الدكتور هيكل وكتابه.
يقول بعض علماء الكلام أن الاطلاع على علم تشريح الأفلاك وعلم تشريح الإنسان يدل أوضح الدلالة على شمول العلم الإلهي لدقائق الوجود. وأنا أقرّر أيضا أن العلم والكشف عن سنن الوجود وعجائبه سيكون نصير الدين، وسيقرّب إلى العقل الإنساني طريق فهم ما كان غامضا مبهما، وما كان فوق طاقة العقل إدراكه من قبل، مصداقا لقوله تعالى: (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ، أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) .
1 / 7
والكهرباء وما نشأ عنها من المخترعات قرّبت إلى العقل فهم إمكان تحول المادة إلى قوّة وتحوّل القوّة إلى مادة. وعلم استحضار الأرواح فسر للناس شيئا كثيرا مما كانوا فيه يختلفون، وأعان على فهم تجرد الروح وإمكان انفصالها وفهم ما تستطيعه من السرعة في طيّ الأبعاد، وقد انتفع الدكتور هيكل بشيء من هذا في تقريب قصة الإسراء فأتى بشيء طريف.
ويطول بي القول إذا أنا عرضت لما في كتاب الدكتور هيكل من حسنات، وحسبي أن أنبه إلى تلك الحسنات إجمالا، وسيدرك الناس جماله بأنفسهم ويستمتعون بلذة نتاج الفكر تهدية الأسانيد الصحيحة، ويهديه المنطق الدقيق وتسعده الفطرة الصادقة، وسيرون أن الدكتور كان مخلصا الإخلاص كله للحقيقة، عامر القلب بما في الوحي المحمدي من هدى ونور، وبما في سيرة النبي ﷺ من جمال وجلال وعظمة وعبرة، مطمئنّا كل الاطمئنان إلى أن هذا الدين المحمدي سينقذ البشر مما هم فيه من الحيرة، وينشلهم من ظلمة المادّة ويبصّرهم بنور الإيمان، ويوجههم إلى النور الإلهي، فيدركون به سعة رحمته التي وسعت كل شيء، وعظمة مجده الذي تسبّح به السموات والأرض وكل شيء فيهما، وعزّته التي تتضاءل أمامها الموجودات. ألا تراه يقول: «وأذهب أبعد مما تقدّم فأقول: إن هذا البحث جدير بأن يهدي الإنسانية طريقها إلى الحضارة الجديدة التي نلتمسها. وإذا كانت نصرانية الغرب تستكبر أن تجد النور الجديد في الاسلام ورسوله وتلتمس هذا النور في «ثيوز وفية» الهند وفي مختلف مذاهب الشرق الأقصى، فإن رجال هذا الشرق من المسلمين واليهود والنصارى خليقون بأن يقوموا بهذه البحوث الجليلة بالنزاهة والإنصاف اللذين يكفلان وحدهما الوصول إلى الحق.
«فالتفكير الإسلامي على أنه تفكير علمي على الطريقة الحديثة في صلة الإنسان بالحياة المحيطة به، هو من هذه الناحية واقعي بحت، ينقل تفكيرا ذاتيّا حين يتصل الأمر بصلات الإنسان بالكون وخالق الكون» .
فيقول: «لكن طلائع القضاء على الوثنية التي تتحكم في عالمنا الحاضر وتوجه الحضارة الحاكمة فيه تبدو واضحة لكل من يتتبع سير العالم وأحداثه. فلعل هذه الطلائع تتواتر وتقوى دلالتها إذا انجلت أمام العالم تلك المسائل الروحية بالتخصص لدراسة حياة محمد وتعاليمه وعصره، والثورة الروحية التي انتشرت في العالم كأثر من آثاره» .
وهذا الاطمئنان يؤيده الواقع؛ فإن ما يرى الآن من عناية الغرب ببحث آثار الشرق، ومن عناية علمائه بدراسة الإسلام من نواحيه المختلفة ودراسة تاريخه وأممه قديما وحديثا، ومن إنصاف بعضهم للنبي ﷺ، وما أيدته التجارب من أن الحق لا محالة غالب؛ كل ذلك يرشدنا إلى أن الإسلام سينشر لواءه على العالم وسيكون أشد الناس عداوة له اليوم هم أشد الناس غيرة عليه ودفاعا عنه، وسيكون هؤلاء الغرباء عنه هم أنصاره وأهله، وكما نصره أول أمره الغرباء عن البيئة التي نشأ فيها، فسينصره آخر الأمر الغرباء عن لغته ووطنه. وقد بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ، فطوبى للغرباء! وإذا كان النبي ﷺ خاتم الأنبياء وليس للعالم بعده هاد مرشد، وكان دينه أكمل دين بنص الوحي القاطع، فلا يمكن أن يقف أمره على ما هو عليه الآن، ولا بد أن يمحو نوره نور غيره كما تمحو الشمس أضواء غيرها من الكواكب.
وقد وفّق الدكتور في تنسيق الحوادث وربط بعضها ببعض، فجاء كتابه عقدا منضدا وسلسلة متينة محكمة الحلقات. وقد أبدع في بيان الأسباب والأغراض والحكم بيانا قويّا واضحا يجعل القارئ مطمئن النفس رضيّ
1 / 8
القلب يستمتع بما يقرأ ويثلج صدره ببرد اليقين، فيملك عليه أمره، ويجبره على متابعة القراءة حتى يوفي على آخر ما بيده من البحث.
وفي الكتاب بحوث قيمة ليست من السيرة، ولكنها اتصلت بها بسبب الإسهاب في بيان أغراضها.
وأختم كلمتي هذه بقول سيد الخلق صلوات الله عليه وعلى آله الأطهار ومن اتبعه: «أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، من أن تنزل عليّ غضبك، أو تحلّ بي سخطك.
لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوّة إلا بالله» .
١٥ من فبراير سنة ١٩٣٥ محمد مصطفى المراغي
1 / 9
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ
1 / 11
تقديم الكتاب
محمد ﵊
بهذا الاسم الكريم تنطق ملايين الشفاه، وله تهتز ملايين القلوب كل يوم مرّات. وهذه الشفاه والقلوب به تنطق وله تهتزّ منذ أربعمائة وألف سنة إلا خمسين. وبهذا الاسم الكريم ستنطق ملايين الشفاه وتهتزّ ملايين القلوب إلى يوم الدين. فإذا كان الفجر من كل يوم وتبيّن الخيط الأبيض من الخيط الأسود، أهاب المؤذّن بالناس أن الصلاة خير من النوم، ودعاهم إلى السجود لله والصلاة على رسوله، فاستجاب له الألوف والملايين في مختلف أنحاء المعمورة يحيون بالصلاة رحمة الله وفضله متجلّيين في مطلع كل نهار. وإذا كانت الظهيرة وزالت الشمس أهاب المؤذّن بالناس لصلاة الظهر، ثم لصلاة العصر فالمغرب فالعشاء. وفي كل واحدة من هذه الصلوات يذكر المسلمون محمدا عبد الله ونبيّه ورسوله في ضراعة وخشية وإنابة، وهم فيما بين الصلوات الخمس ما يكادون يسمعون اسمه حتى تجف قلوبهم بذكر الله وبذكر مصطفاه. كذلك كانوا وكذلك سيكونون حتى يظهر الله الدين القيم ويتم نعمته على الناس أجمعين.
الإمبراطورية الإسلامية الأولى
ولم يك محمد في حاجة إلى زمان طويل ليظهر دينه وينتشر في الخافقين لواؤه، فقد أكمل الله للمسلمين دينهم قبيل وفاته، ويومئذ وضع هو خطّة انتشار الدين فبعث إلى كسرى وإلى هرقل وإلى غيرهما من الملوك والأمراء كي يسلموا، ولم تمض خمسون ومائة سنة من بعد ذلك حتى كان علم الإسلام خفاقا من الأندلس في غرب أوروبا إلى الهند وإلى التركستان وإلى الصين في شرق آسيا، وبذلك وصلت الشام والعراق وأفغانستان، وقد أسلمت كلها، ما بين بلاد العرب ومملكة ابن السماء، كما وصلت مصر وبرقة وتونس والجزائر ومرّاكش ما بين أوروبا وإفريقيّة ومبعث محمد ﵇. ومن يؤمئذ إلى يومنا هذا بقي علم الإسلام مرفوفا على هذه الربوع جميعا، خلا الأندلس التي أغارت النصرانية عليها فعذّبت أهلها وأذاقتهم ألوانا من الشدّة والبأس. ولم يطق أهلها صبرا على الحياة، فعاد منهم من عاد إلى إفريقيّة، وردّ الهول والفزع من أرتدّ منهم عن دينه ودين أبيه إلى دين العتاة والمعذّبين.
على أن ما خسره الإسلام في الأندلس من غرب أوروبا كان له عنه العوض حين فتح العثمانيون
1 / 13
القسطنطينية ومكنّوا لدين محمد فيها. هنالك امتدّت كلمته إلى البلقان كلها، وانبلج نوره في روسيا وفي بولونيا، وخفقت أعلامه على أضعاف ما كانت تخفق عليه من أرض إسبانيا. ومن يوم انتشر الإسلام في صولته الأولى إلى يومنا لم يتغلّب عليه من الأديان متغلّب، وإن تغلّب على أممه من شدائد الظلم وألوان التحكم ما جعلها أشدّ بالله إيمانا، ولحكمه إسلاما، وفي رحمته وفي غفرانه أملا ورجاء.
الإسلام والمسيحية
هذه القوّة التي انتشر الإسلام بها سرعان ما وقفته وجها لوجه أمام المسيحية وقفة نضال مستميت. لقد تغلّب محمد على الوثنية، ومحا من بلاد العرب، كما محا خلفاؤه الأوّلون من بلاد الفرس والأفغان وطائفة كبيرة من بلاد الهند، أثرها. ولقد تغلّب خلفاء محمد على المسيحية في الحيرة واليمن والشام ومصر إلى مهد المسيحية مدينة قسطنطين. أفقدر على المسيحية ما قدّر على الوثنية من اضمحلال وهي دين كتاب من الأديان التي أشاد بها محمد ونزل الوحي بنبوّة صاحبها؟ وهل قدّر لهؤلاء العرب، عرب البادية الزاحفين من شبه الجزيرة الصحراوية القاحلة، أن يضعوا أيديهم على حدائق الأندلس وبزنطية وسائر البلاد المسيحية؟ الموت ولا هذا! واستمر القتال بين أتباع عيسى وأتباع محمد قرونا متتالية. ولم يقف القتال عند حرب الأسنّة والمدافع، بل تعدّاها إلى ميادين الجدل والنضال الكلامي، جاء المقاتلون فيها بأسماء محمد وعيسى، وجعل كل فريق يلتمس الوسيلة لتأليب السواد واستثارة حماسة الجماهير وتعصّبها.
المسلمون وعيسى
على أن الإسلام حال بين المسلمين وبين الحط من مقام عيسى، أنه عبد الله آتاه الكتاب وجعله نبيا، وجعله مباركا أينما كان، وأوصاه بالصلاة والزكاة ما دام حيّا، وبرّا بوالدته ولم يجعله جبارا شقيّا فسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيّا. أمّا المسيحيون فقد جعل الكثيرون منهم يعرّضون بمحمد وينعتونه بأوصاف يبرأ منها المهذّب من الرجال، شفاء لما في نفوسهم من غلّ، واستفزازا وحفزا لشهوات الناس الدنيا. وعلى رغم ما يقال من أن الحروب الصليبية وضعت أوزارها منذ مئات السنين ظلّ تعصّب الكنيسة المسيحية على محمد على أشدّه إلى عصور قريبة. ولعله كذلك ما يزال إن لم يك أشدّ، وإن كان خفيا يعمل في ظلمات التبشير بالدون من الوسائل. ولم يقف الأمر عند الكنيسة بل تعدّاها إلى كتّاب وفلاسفة في أوروبا وفي أمريكا لم تك تصلهم بالكنيسة صلة تذكر.
المسيحيون المتعصبون ومحمد
ولقد يعجب الإنسان أن يظل تعصب المسيحية على الإسلام بهذه الشدة في عصر يزعمون أنه عصر النور والعلم، وأنه لذلك عصر التسامح وسعة الأفق. ويزداد الإنسان عجبا إذ يذكر المسلمين الأوّلين وكيف كان اغتباطهم بانتصار المسيحية على المجوسية عظيما حين ظفرت جيوش هرقل بأعلام فارس وكسرت عسكر كسرى. فقد كانت فارس صاحبة النفوذ في جنوب شبه جزيرة العرب منذ أخرج كسرى الأحباش من اليمن.
ثم إن كسرى وجّه جيوشه- سنة ٦١٤ ميلادية- تحت إمرة قائد من قوّاده يدعي شهر براز «١» لغزو الروم، فظهر عليهم حين التقى بهم بأذرعات وبصرى، أدنى الشام إلى أرض العرب، فقتلهم وخرب مدائنهم وقطع
_________
(١) يذكر الدكتور بتلر في كتابه (فتح العرب لمصر) أن اسم هذا القائد خوريام، وأن (شهربرز) و(شهربراز) و(شراوزيه) وغيرها من الأسماء التي لقب بها في الكتب المختلفة ليست إلا تحريفا للاسم الفارسي (شهر- وزر) وهو لقب معناه (الخنزير البري للملك) رمزا للقوة الباسلة، فكانت صورته مائلة لذلك على خاتم فارس القديمة وكذلك على خاتم أرمينية. (راجع فتح العرب لمصر ص ٥٣) .
1 / 14
زيتونهم. وكان العرب، ولا سيما أهل مكة، يتتبعون أخبار هذه الحرب بتلهف وشغف؛ فقد كانت القوّتان المتناحرتان أكبر ما تعرف أمم الأرض يومئذ، وكانت بلاد العرب تجاورهما، وتخضع بعض أجزائها لفارس وتتاخم الروم بعض أجزائها الآخرى. وشمت كفار مكة بالمسيحيين وفرحوا لهزيمتهم؛ لأنهم أهل كتاب كالمسلمين، وحاولوا أن يلصقوا بدينهم عار أندحارهم. أمّا المسلمون فشقّ عليهم أمر الروم لأنهم أهل كتاب مثلهم، فكان محمد وأصحابه يكرهون أن يظهر المجوس عليهم. وأدّى هذا الخلاف بين مسلمي مكة وكفّارها إلى تنادر الفريقين وإلى تهكم الكفار بالمسلمين، حتى أبدى أحدهم من السرور أمام أبي بكر ما غاظه ودفعه إلى أن يقول: لا تعجل بالمسرّة، فسيأخذ الروم بثأرهم. وأبو بكر معروف بالهدوء ووداعة النفس. فلما سمع الكافر قوله أجابه متهكما: كذبت. فغضب أبو بكر وقال: كذبت أنت يا عدوّ الله! وهذا رهان عشرة جمال على أن تغلب الروم المجوس قبل عام. وعرف محمد أمر هذا الرهان فنصح إلى أبي بكر أن يزيد في الرهان وأن يطيل المدة. فزاد أبو بكر في الرهان إلى مائة بعير إن هزمت الفرس قبل تسع سنين. وانتصر هرقل سنة ٦٢٥ وهزم فارس واسترد منها الشام واستعاد الصليب الأعظم وكسب أبو بكر رهانه. وفي النبوءة بهذا النصر نزل قوله تعالى في صدر سورة الروم: (الم. غُلِبَتِ الرُّومُ. فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ. فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ. بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ.
وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) .
المبادئ الأولية في الدينين
كان اغتباط المسلمين يومئذ بانتصار هرقل والنصارى عظيما، وظلّت صلة الإخاء بين الذين اتبعوا محمّدا والذين آمنوا بعيسى عظيمة طوال حياة النبيّ وإن تكرر بين الفريقين ما كان من مجادلة، على خلاف ما كان بين المسلمين واليهود من تهادن أوّل الأمر ثم عداوة استمرّت وكان لها من الآثار والنتائج الدامية ما أجلى اليهود عن شبه جزيرة العرب جمعاء. ومصداق ذلك قوله تعالى: (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) «١» .
ثم إنك لترى الدينين يصوّران الحياة والخلق صورة تكاد تكون واحدة. وهما في تصوير الإنسانية ومبدأ خلقها سواء: خلق الله آدم وحوّاء وأسكنهما الجنة وأوحى إليهما ألّا يسمعا إلى نزع الشيطان فيأكلا من الشجرة فيخرجهما من الجنة. والشيطان عدوّهما الذي أبى أن يسجد لآدم فيما أوحاه الله لمحمد، والذي أبى أن يقدّس كلمة الله، على رواية كتب النصارى المقدّسة، ووسوس الشيطان لحوّاء وزيّن لها، فزيّنت لآدم فأكلا من شجرة الخلد فبدت لهما سوآتهما، فاستغفرا ربهما فبعثهما على الأرض بعض ذرّيتهم لبعض عدوّ، يغريهم الشيطان فيضلّ قوم ويقاوم الهلاك آخرون. ولتقوى الإنسانية على حرب الغواية بعث الله نوحا وإبراهيم وموسى وعيسى والنبيين، وبعث مع كل رسول كتابا بلسان قومه مصدّقا لما بين يديه ليبيّن لهم. وكما يقوم في صف الشيطان أنصاره من أرواح الشر، تقوم الملائكة تسبّح بحمد ربها وتقدّس له. وهؤلاء وأولئك يتنازعون أسباب الحياة والكون جميعا حتى يوم البعث، يوم تجزى كلّ نفس بما كسبت ولا يسأل حميم حميما.
وإنك لتجد في القرآن من ذكر عيسى ومريم وإكرام الله لهما وتقديمه إياهما ما تشعر معه حق الشعور بهذا
_________
(١) سورة المائدة آية ٨٢.
1 / 15
الإخاء، وما يجعلك تسائل: ما بال المسلمين والنصارى إذا ظلوا على القرون خصوما متقاتلين؟ والجواب عن سؤالك أنّ بين الإسلام والنصرانية خلافا على مسائل أساسية كانت موضع جدل شديد في عهد النبيّ، وأن لم يتعدّ الأمر الجدل إلى العداوة والبغضاء. فالنصرانية لا تقرّ بنبوّة محمد كما يقرّ الاسلام بنبوّة عيسى، والنصرانية تقول بالتثليث، والإسلام ينكر كل ما سوى التوحيد أشد الإنكار. والنصارى يؤلهون عيسى ويتلمّسون الدليل على ألوهيته في أنّه تكلّم في المهد وأوتي من المعجزات ما لم يؤته غيره مما هو عمل الخالق جلّ شأنه. وهم كانوا أيّام الإسلام الأولى يحاجون المسلمين في ذلك بالقرآن ويقولون: أو ليس يقرّ القرآن الذي نزل على محمد رأينا حين يقول: (إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ. وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ. قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْرًا فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ. وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ. وَرَسُولًا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ، وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ، وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) «١» .
فالقرآن قد ذكر إذا أنّه يحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص، ويخلق من الطين طيرا، ويخبر بالغيب، وكل هذه خصائص إلهيّة. هذا رأي نصارى عهد النبي الذين كانوا يحاجونه ويجادلونه ويذهبون إلى عيسى إله مع الله. ولقد ذهبت طائفة منهم إلى تأليه مريم أن ألقى الله إليها بكلمته. وكان أصحاب هذا الرأي من نصارى ذلك العهد يعتبرون مريم ثالث الثلاثة. الآب والإبن والروح القدس. ولم يكن أصحاب هذا القول بألوهية عيسى وأمه إلا طائفة من طوائف النصرانية الكثيرة المتفرّقة يومئذ شيعا وأحزابا.
مجادلة النصارى للنبي
كان نصارى شبه الجزيرة يجادلون محمدا على اختلاف نحلهم على أساس مذاهبهم. فكانوا يقولون إن المسيح هو الله، ويقولون هو ولد الله، ويقولون هو ثالث ثلاثة، وكان القائلون بألوهيته يحتجون بما سبق بيانه. ويحتج القائلون بأنه ولد الله بأنّه لم يكن له أب يعلم، وأنّه تكلّم في المهد صبيا مما لم يقع لأحد من بني آدم. ويحتج القائلون بأنه ثالث ثلاثة بأن الله يقول أمرنا وخلقنا وقضينا، ولو كان واحدا لقال أمرت وخلقت وقضيت. وكان محمد يستمع لهم جميعا ويجادلهم بالتي هي أحسن. وهو لم يكن في جدالهم يشتدّ في جدال المشركين وعبّاد الأصنام، بل كان يحاجّهم بالوحي من طريق المنطق ومن كتبهم وما جاء فيها. فالله تعالى يقول: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا. وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) «٢» وقال تعالى: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ.
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) «٣» وقال جل شأنه: (وَإِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ
_________
(١) سورة آل عمران الآيات من ٤٥ الى ٤٩.
(٢) سورة المائدة آيتا ١٧، ١٨.
(٣) سورة المائدة آيتا ٧٢ و٧٣.
1 / 16
دُونِ اللَّهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ. ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ. إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) «١» .
تقول المسيحيّة بالتثليث وبأن عيسى ابن الله، والإسلام ينكر إنكارا صريحا باتّا أن يكون لله ولد. (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ. اللَّهُ الصَّمَدُ. لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ. وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ) «٢» . (ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ) «٣» . (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) «٤» .
والإسلام دين توحيد في أشدّ معاني التوحيد صفاء وقوة، وفي أشد معاني التوحيد بساطة ووضوحا. وكل ما يمكن أن يلقي ظلا على فكرة التوحيد أو صورته ينكره الإسلام ويراه كفرا. (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ)
«٥» .
فمهما يكن للصورة المسيحية في التثليث من صلة تاريخية ببعض الأديان القديمة فهي ليست من الحق عند محمد في شيء. إنما الحق هو الله وحده، لا شريك له، لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد. فلا عجب إذا أن تكون بين محمد ونصارى عهده تلك المجادلة بالتي هي أحسن، وأن يؤيد الوحي محمدا بما تلوت من الآيات.
مسألة صلب المسيح
ومسألة أخرى يختلف فيها الإسلام والنصرانية، وكانت مثار جدل بينهما في عهد النبيّ: تلك مسألة صلب عيسى ليفتدي بدمه خطايا الخلق. فالقرآن صريح في نفي أن اليهود قتلوا المسيح أو صلبوه، إذ يقول:
(وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلُوهُ يَقِينًا. بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) «٦» .
ولئن كانت فكرة افتداء المسيح بدمه خطايا إخوته من بني آدم جميلة لا ريب ويستحق ما كتب فيها دراسة من نواحيه الشعرية والخلقية والنفسية، لقد كان المبدأ الذي قرّره الإسلام من أنه لا تزر وازرة وزر أخرى، وأنّ كل أمرئ يوم القيامة مجزىّ بأعماله إن خيرا فخير وإن شرّا فشرّ، يجعل التقريب المنطقيّ بين العقيدتين غير ممكن، ويجعل منطق الإسلام من الدقة بحيث لا تجدي معه محاولات التوفيق، مع التناقض الواضح بين فكرة الافتداء وفكرة الجزاء الذاتي. (لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئًا) «٧» .
الروم والمسلمون
هل فكر أحد من نصارى يومئذ في هذا الدين الجديد وفي إمكان التوفيق بين فكرة التوحيد فيه وبين ما جاء به عيسى؟ نعم، وآمن به منهم كثيرون. ولكن الروم الذين اغتبط المسلمون بنصرهم واعتبروه نصرا للأديان الكتابية؛ لم يكلف سادتهم أنفسهم مؤونة البحث في الدين الجديد، ولم يلبثوا أن نظروا إلى الأمر من ناحيته السياسية، وفكروا فيما يصيب ملكهم إذا تمّ للدين الجديد الغلب. لذلك بدؤا يأتمرون به وبأهله،
_________
(١) سورة المائدة الآيات من ١١٦ الى ١١٨.
(٢) سورة الاخلاص.
(٣) سورة مريم آية ٣٥.
(٤) سورة آل عمران آية ٥٨.
(٥) سورة النساء آية ٤٨.
(٦) سورة النساء آيتي ١٥٧ و١٥٨.
(٧) سورة لقمان ٣٣.
1 / 17
حتى أرسلوا جيشا عرموما عدّته مائة ألف في رواية، ومائتا ألف في رواية أخرى، مما أدّى إلى غزوة تبوك. وقد انسحب فيها الروم أمام المسلمين الذين خرجوا ومحمد على رأسهم لدفع عدوان لم يكن له ما يسوّغه.
من يومئذ وقف المسلمون والنصارى موقف خصومة سياسية حالف النصر فيها المسلمين قرونا متتالية امتدّت إمبراطوريتهم في أثنائها إلى الأندلس غربا وإلى الهند والصين شرقا. وآمنت أكثر أجزاء هذه الإمبراطورية بالدين الجديد واستقرّت فيها لغته العربية. فلما آن لدورة التاريخ أن تدور، طرد النصارى المسلمين من الأندلس، وحاربوهم الحروب الصليبية، وأخذوا يطعنون في دينهم ونبيهم طعنا كله فحش وكذب وافتراء؛ ونسوا في فحشهم ما بلّغ محمد ﵇ في أحاديثه، وما بلّغ القرآن في الوحي الذي نزل عليه، من رفع مقام عيسى ﵇ إلى المستوى الذي رفعه الله إليه.
كتّاب المسيحية ومحمد
جاء في موسوعة لآروس الفرنسيّة خلال العرض لآراء كتّاب المسيحية إلى النصف الأول من القرن التاسع عشر ممن نالوا من محمد شرّ نيل ما يأتي: «بقي محمد مع ذلك ساحرا ممعنا في فساد الخلق، لصّ نياق، كردينالا لم ينجح في الوصول الى كرسي البابوية، فاخترع دينا جديدا لينتقم من زملائه. واستولى القصص الخيالي والخليع على سيرته. وسيرة باهورميه (محمد) تكاد تقيم أدبا من هذا النوع. وقصة محمد التي نشرها رينا وفرانسيسك ميشيل سنة ١٨٣١ تصوّر لنا الفكرة التي كانت لدى أهل العصور الوسطى عنه. وفي القرن السابع عشر نظر بيل في تاريخ أبي القرآن نظرة تاريخية. مع ذلك ظلّت مقرّرات ظالمة ثابتة في نفسه عنه. على أنه يعترف مع ذلك بأن النظام الخلقي والاجتماعي الذي أقامه لا يختلف عن النظام المسيحي لولا القصاص وتعدّد الزوجات» .
وإن واحدا من المستشرقين الذين عرضوا لحياة محمد بشيء من الإنصاف ذلك هو الكاتب الفرنسي إميل درمنجم- ليذكر بعض هذا الذي كتب إخوانه في الدين فيقول «١»: «لمّا نشبت الحرب بين الإسلام والمسيحية اتّسعت هوّة الخلف وسوء الفهم بطبيعة الحال وازدادت حدّة. ويجب أن يعترف الإنسان بأن الغربيين كانوا السابقين إلى أشدّ الخلاف. فمن البزنطيين من أوقروا الإسلام احتقارا من غير أن يكلّفوا أنفسهم- فيما خلا جان داماسيين- مؤونة دراسته. ولم يحارب الكتّاب والنظامون مسلمي الأندلس إلا بأسخف المثالب. فقد زعموا أن محمدا لص نياق، وزعموه متهالكا على اللهو، وزعموه ساحرا، رئيس عصابة من قطّاع الطرق، بل زعموه قسّا رومانيّا مغيطا محنقا أن لم ينتخب لكرسي البابوية.. وحسبه بعضهم إلها زائفا يقرّب له عباده الضحايا البشرية. وإن چبيردنوچن نفسه، وهو رجل جدّ، ليذكر أن محمدا مات في نوبة سكربيّن؛ وأن جسده وجد ملقى على كوم من الرّوث وقد أكلت منه الخنازير، وذلك ليفسر السبب الذي من أجله حرّم لحم ذلك الحيوان. وذهبت الأغنيات إلى حدّ أن جعلت محمدا صنما من ذهب وجعلت المساجد الإسلامية برابيّ ملأى بالتماثيل والصور!! وقد تحدث واضع أغنية أنطاكية حديث من رأى صنم «ماحوم» مصنوعا من ذهب ومن فضة خالصين وقد جلس فوق فيل على مقعد من الفسيفساء. أمّا أغنية رولان التي تصوّر فرسان شارلمان يحطّمون الأوثان الإسلامية فتزعم أن مسلمي الأندلس يعبدون ثالوثا مكوّنا من ترفاجان وماهوم وأبلون.
وتحسب «قصة محمد» أن الإسلام يبيح للمرأة تعدّد الأزواج!
_________
(١) راجع كتاب در منجم (حياة محمد) ص ١٣٥ وما بعدها.
1 / 18
«وقد ظلت حياة الأحقاد والخرافات قوية متشبثة بالحياة. فمنذ رودلف دلوهيم إلى وقتنا الحاضر قام نيكولا دكيز، وقيقس، ومراتشي، وهوتنجر وببيلياندر، وبريدو وغيرهم، فوصفوا محمدا بأنه دجّال، والإسلام بأنه مجموعة الهرطقات كلها وأنه من عمل الشيطان، والمسلمون بأنهم وحوش، والقرآن بأنه نسيج من السخافات، وقد كانوا يعتذرون عن الحديث الجد في أمر هذا مبلغ سخافته. مع ذلك فإن بيير المحترم (قنرابل) مؤلف أول رسالة غريبة ضد الإسلام قد ترجم القرآن في القرن الثاني عشر إلى اللاتينية. وفي القرن الرابع عشر كان بيير باسكال من الذين توسّعوا في الدراسات الإسلامية. وقد وصف إنّوسان الثامن محمدا يوما بأنه عدوّ المسيح. أما القرون الوسطى فلم تكن تحسب محمدا إلا هرطيقا. وكان لريمون ليون في القرن الثامن عشر، ولغليوم بستل في القرن السادس عشر، ولرولان وجانييه في القرن الثامن عشر، وللقسيس دبرجلي ولرينان في القرن التاسع عشر آراء وأحكام مختلفة. على أن الكونت بولنفلييه وشول وكوسّان دبرسفال ودوزي وسبرنجر وبارتلمي سانتيلير ودكاستري وكارليل وغيرهم يظهرون على وجه الإجمال إنصافا للإسلام ونبيه، ويشيدون في بعض الأحيان بهما. مع ذلك فإن بهما. مع ذلك فإن دروتي يتحدث في سنة ١٨٧٦ عن محمد قائلا: «هذا الأعرابي المنافق القذر»، كما طعن عليه فوستر من قبل ذلك سنة ١٨٢٢. وما يزال للإسلام حتى اليوم محاربون متحمسون» .
أرأيت الحضيض الذي هوت إليه هذه الطائفة من كتّاب الغرب؟ أرأيت إصرارهم، مع توالي القرون، على الضلال وعلى إثارة العداوة والبغضاء بين أبناء الإنسانية؟! ومن هؤلاء من جاؤا في العصور التي يسمونها عصور العلم والبحث والتفكير الحر وتقرير الإخاء بين الإنسان والإنسان. قد يخفف من أثر هذا الضلال قيام أولئك المنصفين إلى حدّ ما، ممن أشار إليهم درمنجم، ومنهم من يقرّ بصدق إيمان محمد بالرسالة التي عهد الله إليه تبليغها من طريق الوحي، ومنهم من يشيد بعظمة محمد الروحية وبسموّ خلقه ورفعة نفسه وجمّ فضائله، ومن يصوّر ذلك في أقوى أسلوب وأتمه روعة. وإن بقي الغرب مع ذلك ينال من الإسلام ونبيه أشدّ النيل، ثمّ تبلغ منه الجرأة حتى يبث المبشرين في أنحاء البلاد الإسلامية يذيعون مثالبهم الوضيعة، ويحاولون صرف المسلمين عن دينهم إلى المسيحية.
سبب الخصومة بين الإسلام والمسيحية
يجب لذلك أن نبحث عن السبب الذي ترجع إليه هذه الخصومة الهوجاء وهذه الحرب العنيفة التي تثيرها المسيحية على الإسلام. وعندنا أن جهل الغرب بحقيقة الإسلام وبسيرة النبي في مقدّمة ما يدعو إلى هذه الخصومة. والجهل ولا ريب من أعقد أسباب الجمود والتعصب وأشدّها استعصاء. ولقد تراكم هذا الجهل على مرّ القرون وقامت له في نفوس الأجيال تماثيل وأوثان يحتاج تحطيمها إلى قوة روحية كبرى كقوّة الإسلام أول ظهوره، على أنّا نحسب أن ثمة سببا غير الجهل هو الذي دفع أهل الغرب إلى هذا التعصب وإلى إثارة الحرب الضروس الشعواء التي أثاروها ويثيروها على الإسلام وعلى المسلمين آنا بعد آن. وليس ينصرف ذهننا إلى ما قد يدور بالخاطر من صروف السياسة وحب الظّفر بالشعوب لاستغلالها: فتلك في اعتقادنا نتيجة لا سبب لهذا التعصب المستعصي حتى على العلم وعلى بحوثه. أما السبب في رأينا فيرجع إلى أن المسيحية، وما تدعو إليه من الزهد في الحياة واعتزال العالم ومن العفو والمغفرة ومن المعاني النفسانية السامية، ليست مما يلائم طبيعة الغرب الذي عاش ألوف السنين على دين تعدّد الآلهة، والذي يدعوه مركزه الجغرافي إلى حياة الكفاح لمغالبة الزمهرير والضنك وسوء الحال. فإذا قضت الظروف التاريخية عليه بأن يدين بالمسيحية فلا مفرّ له من أن يسبغ عليها
1 / 19
ثوب الكفاح، وأن يخرجها بذلك عن طبيعتها السمحة الجميلة، وأن يفسد فيها هذا التناسق الروحي الذي يجعل منها حلقة في سلسلة الوحدة التي أتمها الإسلام: هذه الوحدة التي تؤاخي بين الروح والجسد، وتزاوج بين العاطفة والعقل، وتسلك الفرد والإنسانية جميعا في نظام الكون على أنهما بعض منه متّسق وإياه في لا نهاية الزمان والمكان. هذا في رأينا هو مرجع السبب في تعصّب الغرب في موقفه من الإسلام موقفا تجافت الحبشة المسيحية عنه حين احتمى المسلمون بها أوّل ما دعا النبي إلى دين الله.
وإلى هذا السبب في رأيي، يرجع إغراق الغربيين وغلوّهم في التدين وفي الإلحاد جميعا، إغراق تعصب وكفاح لا يعرف الهوادة ولا يعرف التسامح. وإذا كان التاريخ قد عرف منهم قدّيسين احتذوا في حياتهم مثال التاريخ قد عرف كذلك أن حياة أمم الغرب كانت دائما حياة نضال وكفاح وحروب دامية باسم السياسة أو باسم الدين، وعرف أن بابوات الكنيسة وأرباب السلطة الزمنية كانوا في نزاع دائم يغالب بعضهم بعضا، فيتغلّب هذا يوما ويتغلّب ذاك يوما آخر. ولمّا كان الفوز في القرن التاسع عشر قد تم للسلطة الزمنية، حاولت هذه السلطة أن تقضي على الحياة الروحية باسم العلم، وأن تزعم أن العلم سيحل من الحياة الإنسانية محل الإيمان من الحياة الروحية. وها هي ذي عرفت اليوم، بعد جهاد طويل، سوء رأيها، وأن ما قصدت إليه مستحيل تحقيقه. والصيحة تعلو اليوم من جوانب الغرب المختلفة يريد أهله حياة روحيّة أضاعوها، فهم يتلمّسوها في الثيوزوفيّة وغير الثيوزوفية «١» ولو أن المسيحية كانت تلائم غرائز الكفاح التي تنشأ بحكم الطبيعة كجزء من حياة أهل الغرب، لرأيتهم، وقد شعروا بعجز الفكرة الماديّة عن أن تلهمهم المدد الروحّي، يعودون إلى الدين المسيحي الجميل دين عيسى بن مريم، إن لم يهدهم الله إلى الإسلام، ولما كانوا في حاجة إلى هذه الهجرة إلى الهند وإلى غيرها يستمدّون منها حياة روحية يشعر الإنسان بالحاجة إليها حاجته إلى التنفّس لأنها بعض طبعه، بل لأنها بعض نفسه وكيانه.
الاستعمار والدعوة ضد الإسلام
وقد عاون الاستعمار الغربي اهله على الاستمرار في الحملة التي أثاروها على الإسلام وعلى محمد، ودعاهم ليقولوا ما قال أهل مكة حين أرادوا أن يحملوا النصرانية عار هزيمة هرقل والروم أمام فارس، فقد قالوا ولا يزال الكثيرون منهم يقولون إن الإسلام هو السبب في انحطاط الشعوب الآخذة به وفي خضوعهم لغيرهم.
وهذه فرية يكفي لإدحاضها أن يذكر قائلها أن الشعوب الإسلامية ظلّت صاحبة الحضارة الغالبة وصاحبة السيادة على العالم المعروف كله قرونا متوالية، وأنها كانت محطّ رجال العلم والعلماء، وموئل الحرية التي لم يعرفها الغرب إلا من أمد قريب. فإذا أمكن أن ينسب انحطاط طائفة من الشعوب إلى الدين الذي تؤمن به فلا يكون هذا الإسلام، وهو الذي حفز بدو شبه جزيرة العرب وأثارهم ومكّن لهم من حكم العالم.
_________
(١) الثيوزفية مذهب استنبطته مدام بلافاتسكي الأمريكية من أديان الهند ومن البوذية والبرهمية منها بنوع خاص، ودعته دين الحكمة. وقد تأسست لهذا المذهب جمعية في أمريكا كانت مدام فلافاتسكي رئيستها، وتأسست فروع لهذه الجمعية في بلاد أوربا المختلفة. على أن مدام بلافاتسكي ما كادت تموت حتى انقسمت الجمعية الثيوزوفية إلى ثلاث شعب. ومذهب هذه الجمعية يقوم على وحدة الحياة، يدعو إلى نوع من الرياضة الصوفية لبلوغ مرتبة (النرفانا) البوذية. وهذه المرتبة يبلغها صاحبها حين يصل من رياضته إلى الفصل التام بين الروح والتأثر لماديات الحياة، وحين تسمو الروح بذلك إلى مكان من القدسية والطهر تتصل فيه الأرواح العليا. ومذهب الثيوزوفية يدعو كذلك الى إخاء الإنسانية إخاء عاما تزول معه فوارق الجنس واللغة وكل ما يعتبره الناس عوائق دون هذا الإخاء.
1 / 20
الإسلام وما صارت إليه الشعوب الإسلامية
على أنّ لهؤلاء الذين يحمّلون الإسلام وزر انحطاط الشعوب الإسلامية من العذر أن أضيف إلى دين الله شيء كثير لا يرضاه الله ورسوله، واعتبر من صلب الدين ورمي من ينكره بالزندقة. وندع الدّين جانبا ونقف عند سيرة صاحبه ﵇. فقد أضافت أكثر كتب السيرة إلى حياة النبي ما لا يصدقه العقل ولا حاجة إليه في ثبوت الرسالة، وما أضيف من ذلك قد اعتمد عليه المستشرقون واعتمد عليه الطاعنون على الإسلام ونبيّه وعلى الأمم الإسلامية واتخذوه تكأتهم في مطاعنهم المثيرة لنفس كل منصف. اعتمدوا عليه وعلى ما ابتدعوه من عندهم وما زعموا أنهم يكتبونه على الطريقة العلمية الحديثة، هذه الطريقة التي تعرض الحوادث والناس والأبطال فتصدر بعد ذلك حكمها عادلا إن هي رأت لإصدار حكم محلا. فإذا أنت وقفت عندما كتبه هؤلاء رأيته تمليه شهوة الجدل والتجريح، مصوغا في عبارة لا تخلو من براعة تستهوي إخوانهم في العقيدة إلى الظن بأن البحث العلمي المجرّد النزّاع إلى الحقيقة وحدها يريد أن يستشفّها من وراء كل الحجب، هو الذي وجّه هؤلاء المتعصّبين من الكتّاب والمؤرخين. على أن السكينة التي ينزلها الله على نفوس الراضين من الناس، كتّابا وعلماء، قد أدّت باخرين من أحرار الفكر ومن المسيحيين ليكونوا أدنى إلى العدل وأحرص على النّصفة.
الجمود والاجتهاد عند المسلمين
ولقد قام بعض علماء المسلمين في ظروف مختلفة فحاولوا إدحاض مزاعم أولئك المتعصبين من أبناء الغرب. واسم الشيخ محمد عبده هو أنصح الأسماء في هذا الصدد. لكنهم لم يسلكوا الطريقة العلمية التي زعم أولئك الكتّاب والمؤرخون الأوروبيون أنهم يسلكونها لتكون لحجتهم قوّتها في وجه خصومهم. ثم إن هؤلاء العلماء المسلمين، والشيخ محمد عبده في مقدمتهم، قد اتهموا بالإلحاد والكفر والزندقة، فأضعف ذلك من حجتهم أمام خصوم الإسلام. ولقد كان اتّهامهم هذا عميق الأثر في نفوس شباب المسلمين المتعلمين.
شعر هؤلاء الشبان بأن الزندقة تقابل حكم العقل ونظام المنطق في نظر جماعة من علماء المسلمين، وأن الإلحاد عندهم قرين الاجتهاد، كما أن الإيمان قرين الجمود.. لذلك جزعت نفوسهم وانصرفوا يقرؤن كتب الغرب يتلمّسون فيها الحقيقة، اقتناعا منهم بأنهم لن يجدوها في كتب المسلمين. وهم لم يفكروا في كتب المسيحية والتاريخ المسيحي بطبيعة الحال؛ إنما فزعوا إلى كتب الفلسفة يتلمّسون في أسلوبها العلمي ريّ ما في نفوسهم من ظمأ محرق للحق، وفي منطقها ضياء للجذوة المقدّسة الكمينة في النفس الإنسانية، ووسيلة إلى الاتصال بالكون وحقيقته العليا. وهم واجدون في كتب الغرب، سواء منها كتب الفلسفة وكتب الأدب الفلسفي وكتب الأدب نفسه، الشيء الكثير مما يغزي الإنسان بالأخذ به، لروعة أسلوبها ودقة منطقها وما يظهر فيها من صدق القصد وخالص التوجه إلى المعرفة ابتغاء الحق. لذلك انصرفت نفوسهم عن التفكير في الأديان كلها وفي الرسالة الإسلامية وصاحبها، حرصا منهم على ألا تثور بينهم وبين الجمود حرب لا ثقة لهم بالانتضار فيها، ولأنهم لم يدركوا ضرورة الاتصال الروحي بين الإنسان وعوالم الكون اتصالا يرتفع به الإنسان إلى أرقى مراتب الكمال وتتضاعف به قوته المعنوية.
انصرف هؤلاء الشبان عن التفكير في الأديان كلها وفي الرسالة الإسلامية وصاحبها. وزادهم انصرافا ما رأوا العلم الواقعيّ والفلسفة الواقعية (الوضعية) يقررانه من أن المسائل الدينية لا تخضع للمنطق ولا تدخل في حيز التفكير العلمي، وأن ما يتصل بها من صور التفكير التجريديّ (الميتافيزيقي) ليس هو أيضا من الطريقة العلمية في شيء. ثم إنهم رأوا الفصل بين الكنيسة والدولة واضحا صريحا في البلاد الغربية، ورأوا البلاد التي
1 / 21
تقرّر دساتيرها أن ملكها هو حامي البروتستنتية أو الكثلكة، أو تقرّر أن دين الدولة الرسمي المسيحية، لا تقصد من ذلك إلى أكثر من مظاهر الأعياد والمواسم وما يتصل بها؛ فازدادوا انخراطا في هذا التفكير العلمي وحرصا على الأخذ منه ومما يتصل به من فلسفة وأدب وفن بأوفر نصيب. فلما آن لهم أن ينتقلوا من الدرس إلى الحيّاة العملية، شغلتهم هذه الحياة عن التفكير في المسائل التي انصرفوا من قبل عن التفكير فيها، وظل اتجاههم الفكري في تياره الأول، ينظر إلى الجمود العقلي مشفقا مزدريا، وينهل من ورد التفكير الغربي والفلسفة الغربية، فيجد فيهما لذّة ويزداد بهما إعجابا وعلى ما نهل صدر شبابه منهما حرصا.
وليس ريب في أن الشرق اليوم في حاجة أشد الحاجة إلى النّهل من ورد الغرب في التفكير وفي الأدب والفن. فقد قطع ما بين حاضر الشرق الإسلامي وماضيه قرون من الجمود والتعصّب غشّت على تفكيره السليم القديم بطبقة كثيفة من الجهل وسوء الظن بكل جديد. فلا مفرّ لمن يريد أن يصهر هذه الطبقة من الاستعانة بأحدث صور التفكير في العالم، ليستطيع من هذه السبيل أن يصل بين الحاضر الحيّ وثروة الماضي وتراثه العظيم.
جهود التجديد الإسلامي
ومن الحق علينا للغرب أن نقول: إن ما يقوم به علماؤه اليوم من بحوث نفيسة في تاريخ الدراسات الإسلامية والدراسات الشرقية، قد مهد لأبناء الإسلام وأبناء الشرق أن يتزيّدوا من هذه البحوث في تلك الدراسات وأن يكونوا أكبر رجاء في الاهتداء إلى الحق، فهم أقرب بطبعهم إلى حسن إدراك الروح الإسلامي والروح الشرقيّ. وما دام التوجيه الجديد قد بدأ في الغرب، فواجب عليهم أن يتابعوه وأن يصححوا أغلاطه وأن يبثوا فيه الروح الصحيح الذي يعيده إلى الحياة ويصله بالحاضر، لا على أنه مجرّد دراسة وبحث، بل على أنه ميراث روحي وعقلي يجب أن يتمثّله الوارثون، وأن يضيفوا إليه، وأن يزيدوا سنا ضيائه بما يزيد الحقيقة الكامنة فيه ضياء ونورا.
المبشرون والجامدون
وقد توفّر منهم كثيرون على هذه البحوث يقومون اليوم بها على الطريقة العلمية الصحيحة؛ والمستشرقون أنفسهم يقدرون لهم ذلك ويشيدون بفضلهم فيه.
وبينما يقوم هذا التعاون العلمي الجدير بأن يؤتي خير الثمرات، إذا بنشاط رجال الكنيسة المسيحية لا يفتر في الطعن على الإسلام وعلى محمد طعنا لا يقلّ عما تلوت منه فيما سبقت الإشارة إليه. والاستعمار الغربي يؤيد بقوّته أصحاب هذه المطاعن باسم حرية الرأي، مع أن أصحاب هذه المطاعن قد أجلوا عن بلادهم وحيل بينهم وبين ما يسمونه تثبيت الإيمان في نفوس إخوانهم في الدين. وهذا الاستعمار يؤيّد كذلك دعاة الجمود من المسلمين. وكذلك تضافر عمل الاستعمار على تأييد ما دسّ على الإسلام منه، وعلى سيرة الرسول من خرافات لا يسيغها العقل ولا يقبلها الذوق، وعلى تأييد الطاعنين على الإسلام وعلى محمد بما دسّ على الإسلام وعلى سيرة الرسول.
كيف فكرت في وضع هذا الكتاب
أتاحت لي ظروف حياتي العملية أن أرى ذلك كله في مختلف بلاد الشرق الإسلامي، بل في البلاد الإسلامية كلها، وأن أتبين ما يقصد إليه من القضاء على الروح المعنوية في هذه البلاد بالقضاء على حرية الرأي
1 / 22
وحرية البحث ابتغاء الحقيقة. وقد شعرت بأن عليّ واجبا أقوم به في هذا الموضوع لإفساد الغاية التي ترمي هذه الخطة إليها، والتي تضر الإنسانية كلها ولا يقف ضررها عند الإسلام والشرق. وأيّ أذى يصيب الإنسانية أكبر من العقم والجمود يصيبان نصفها الأكبر والأعرق في الحضارة على حقب التاريخ! ولذلك فكرت في هذا وأطلت التفكير، وهداني تفكيري آخر الأمر إلى دراسة حياة محمد صاحب الرسالة الإسلامية وهدف مطاعن المسيحية من ناحية، وجمود الجامدين من المسلمين من الناحية الآخرى، على أن تكون دراسة علمية على الطريقة الغربية الحديثة، خالصة لوجه الحق، ولوجه الحق وحده.
بدأت أراجع تاريخ محمد، وأعيد النظر في سيرة ابن هشام وطبقات ابن سعد ومغازي الواقدي، وعدت إلى كتاب سيد أمير على (روح الإسلام)، ثم حرصت على أن أقرأ ما كتب بعض المستشرقين، فقرأت كتاب درمنجم وكتاب وشنطن إرفنج، ثم انتهزت فرصة وجودي بالأقصر في شتاء سنة ١٩٣٢ وبدأت أكتب. ولقد تردّدت يومئذ في أن أجعل البحث الذي أطالع قرّائي به من وضعي أتى خيفة ما قد يقوم به أنصار الجمود والمؤمنون بالخرافات من ضجة تفسد عليّ ما أريد. لكن ما لقيت من إقبال وتشجيع من طائفة شيوخ المعاهد، وما أبدى لي بعضهم من ملاحظات تدلّ على العناية بالبحث الذي أقوم به، جعلني أفكر تفكيرا جدّيا في إنفاذ ما اعتزمت من كتابة حياة محمد على الطريقة العلمية الصحيحة كتابة مفصّلة، ودعاني إلى التفكير في أمثل الوسائل لتمحيص السيرة تمحيصا علميّا جهد ما أستطيع.
القرآن أصدق مرجع
ولقد تبّينت أن أصدق مرجع للسيرة إنما هو القرآن الكريم فإن فيه إشارة إلى كل حادث من حياة النبيّ العربي يتخذها الباحث منارا يهتدي به في بحثه، ويمحص على ضيائه ما ورد في كتب السنّة وما جاء في كتب السيرة المختلفة. وأردت جاهدا أن أقف على ما ورد في القرآن متصلا بحياة النبي، فإذا معونة صادقة في هذا الباب يقدّمها إليّ الأستاذ أحمد لطفي السيّد الموظف بدار الكتب المصرية، هي مجموعة وافية مبوّبة لآيات القرآن المتصلة بحياة من أوحى الكتاب الكريم إليه. وأخذت أدقق في هذه الآيات، فرأيت أن لا بدّ من الوقوف على أسباب نزولها وأوقات هذا النزول ومناسباته. وأعترف بأني، على ما بذلت في ذلك من جهد، لم أوفق لكل ما أردت منه. فكتب التفسير تشير أحيانا إليه وتهمل هذه الإشارة في أكثر الأحايين. ثم إن كتاب «أسباب النزول» للواحدي، وكتاب «الناسخ والمنسوخ» لإبن سلامة، إنما تناولا هذا الموضوع الجليل الجدير بكل تدقيق واستيفاء تناولا موجزا. على أنني وقفت فيهما وفيما رجعت إليه من كتب التفسير على مسائل عدّة استطعت أن أمحص بها ما ورد في كتب السيرة، ووجدت فيهما وفي كتب التفسير نفسها أشياء جديرة بمراجعة العلماء المتبحّرين في علوم الكتاب والسنّة وتحقيقهم إياها من جديد تحقيقا دقيقا.
المشورة الصادقة
ولما تقدم بي البحث بعض الشيء ألفيت المشورة الصادقة تصل إليّ من كل صوب، ومن ناحية الشيوخ أكثر من كل ناحية أخرى بطبيعة الحال. وكانت المعونة الكبرى معونة دار الكتب ورجالها الذين أمدّوني من ألوان المعونة بما لا يفي الشكر بحسن تقديره. ويكفي أن أذكر أن الأستاذ عبد الرحيم محمود المصحح بالقسم الأدبي بدار الكتب كان يكفيني مؤونة الذهاب إلى الدار في كثير من الأحيان ويستعير لي ما أريد استعارته من الكتب مشمولا بعطف مدير الدار وكبار القائمين بالأمر فيها، وأن أذكر أني في كل مرة ذهبت إلى الدار كنت أجد أجمل العون في البحث عما أريد البحث فيه من موظّفي الدار كبارا وصغارا، من عرفت منهم ومن لم أعرف.
1 / 23
ثم إنه كانت تستغلق عليّ بعض المسائل أحيانا فأفضي إلى من آنس فيه المعرفة من أصدقائي بما استغلق عليّ فأجد في كثير من الأحيان خير العون. وجدت ذلك غير مرّة عند الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغي، ووجدته عند صديقي الضليع جعفر (باشا) وهو الذي أعارني عدّة كتب كصحيح مسلم وتواريخ مكة، ودلنيّ على غير مسألة من المسائل وهداني إلى موضعها، وقد أعارني صديقي الأستاذ مكرم عبيد (باشا) كتاب المستشرق السير وليم موير «حياة محمد» وكتاب الأب لامنس «الإسلام» . هذا إلى ما وجدت من عون في مؤلّفات المعاصرين القيامة ككتاب «فجر الإسلام» للأستاذ أحمد أمين، و«قصص الأنبياء» للأستاذ عبد الوهاب النّجار، و«في الأدب الجاهلي» للدكتور طه حسين، و«اليهود في بلاد العرب» لإسرائيل ولفنسن، وغير هذه من كتب المعاصرين كثير ذكرته في بيان المراجع القديمة والحديثة التي استعنت بها على وضع هذا الكتاب.
ولقد كنت كلما أزددت توسعا في البحث أرى مسائل تنجم أمامي وتستدعي التفكير ومزيدا من البحث لحلها. وكما عاونتني كتب السيرة وكتب التفسير في الاهتداء إلى غاية من تفكيري أطمئن اليها، عاونتني كذلك كتب المستشرقين في الاهتداء إلى غاية أطمئن إليها. على أنني رأيتني مضطرّا في كل المواقف لأقصر بحثي في حدود حياة محمد نفسه ما لم أضطرّ إلى تناول مسائل أخرى متصلة بهذا البحث اضطرارا. ولو أنني أردت أن أبحث كل ما اتصل بهذه الحياة الفيّاضة العظيمة، لاحتاج الأمر إلى وضع مجلّدات عدّة في حجم هذا الكتاب.
ويحسن أن أذكر أن كوسّان دبرسفال وضع ثلاثة مجلّدات بعنوان «رسالة في تاريخ العرب»، جعل المجلّدين الأوّلين منها في تاريخ قبائل العرب وحياتها، وجعل الثالث عن محمد وخليفتيه الأوّلين أبي بكر وعمر. وطبقات ابن سعد تقع في مجلّدات كثيرة يتناول جزؤها الأوّل حياة محمد، وسائر أجزائها حياة أصحابه. ولم يكن غرضي أوّل ما بدأت البحث ليتجاوز حياة محمد. فلم أرد في أثنائه أن أتركه يتشعّب فيحول ذلك بيني وبين الغاية التي إليها قصدت.
في حدود السيرة لا أتعداها
وشيء آخر كان يمسكني في حدود هذه الحياة؛ ذلك روعة جلالها وباهر ضيائها جلالا وضياء يتوارى دونهما كل ما سواهما. فما كان أعظم أبا بكر! وما كان أعظم عمر إذ كان كل منهما في خلافته علما يحجب سواه! وما أشدّ ما كان للسابقين الأوّلين إلى صحبة محمد من عظمة ثبتت على الأجيال وهي بعد مما تفاخر به الأجيال.
لكن هؤلاء جميعا كانوا يستظلّون أثناء حياة النبي بجلال عظمته وبستضيئون بباهر لألائه. فليس من اليسير على من يبحث في سيرة الرسول أن يدعها لشيء سواها. وهو أشد شعورا بذلك إذا تناول البحث على الطريقة العلمية الحديثة على نحو ما حاولت أن أفعل، هذه الطريقة التي تجلو عظمة محمد على نحو يبهر العقل والقلب والعاطفة جميعا، ويغرس فيها من الإجلال للعظمة والإيمان بقوتها ما لا يختلف فيه المسلم وغير المسلم.
وأنت إذا طرحت جانبا أولئك المتعصّبين الحمقى الذين جعلوا النيل من محمد دأبهم كالمبشرين وأشباههم، فإنك واجد هذا الإجلال للعظمة والإيمان بقوتها في كتب العلماء المستشرقين واضحين جليين. عقد كارليل في كتابه «الأبطال» فصلا عن محمد صوّر فيه الجذوة الإلهية المقدّسة التي أوحت إلى محمد ما أوحت فصوّر العظمة في جلال قوّتها. وموير، وإرفنج، وسبرنجر، وفيل، وغيرهم من المستشرقين والعلماء قد صوّر كل واحد منهم عظمة محمد تصويرا قويا وإن وقف هذا أو ذاك منهم عند مسائل اعتبرها ماخذ على صاحب الرسالة الإسلامية، لغير شيء إلا أنه لم يمتحنها ولم يمحصها التمحيص العلميّ الدقيق، ولأنه اعتمد فيها على ما
1 / 24
ورد في بعض كتب السيرة أو كتب التفسير من الروايات المضطربة، متناسيا أن أوّل كتب السيرة إنما كتب بعد قرنين من عصر محمد دسّت أثناءهما في سيرته وفي تعاليمه إسرائيليات كثيرة، ووضعت أثناءهما ألوف الأحاديث المكذوبة. ومع أن المستشرقين يقرّرون هذه الحقيقة، تراهم لا يأبون مع ذلك تناسيها ليقرّروا أمورا يعتبرونها صحيحة مع أن أقل التمحيص ينفها. من ذلك مسألة الغرانيق، ومسألة زيد وزينب، ومسألة أزواج النبيّ، مما أتيح لي امتحانه وتمحيصه في هذا الكتاب.
الكتاب بداءة البحث
لست مع ذلك أحسبني أوفيت على الغاية من البحث في حياة محمد. بل لعلي أكون أدنى إلى الحق إذا ذكرت أني بدأت هذا البحث في العربية على الطريقة العلمية الحديثة، وأن ما بذلت في هذه السبيل من مجهود لا يخرج هذا الكتاب عن أنه بداءة البحث من ناحية علمية إسلامية في هذا الموضوع الجليل. وإذا كان جماعة من العلماء والمؤرخين قد انقطعوا لبحث عصر من العصور، كما انقطع أولار في فرنسا لبحث عصر الثورة الفرنسية، وكما انقطع غيره من العلماء لبحث عصر أو عصور معيّنة من التاريخ في مختلف الأمم، فحياة محمد جديرة بأن ينقطع لبحثها على طريقة علمية جامعية أكثر من أستاذ يتخصص فيها ويتوافر عليها. وليس يساورني شك في أن الانقطاع والبحث العلميّ، في هذه الفترة القصيرة من حياة بلاد العرب واتصالها بحياة الأمم المختلفة في ذلك العصر، تؤتي نتائجه العالم كله، لا الإسلام والمسلمين وحدهم، خير الثمرات. فهي تجلو أمام العلم كثيرا من المسائل النفسية والروحية فضلا عما تفيض عليه من ضياء في نواحي الحياة الاجتماعية والخلقية والتشريعية لا يزال العلم يتردد أمامها متأثرا بهذا النزاع الديني بين الإسلام والنصرانية، وبهذه المحاولات العقيمة التي يقصد منها إلى «تغريب» الشرقيين أو تنصير المسلمين، مما ثبت على الأجيال إخفاقه واستحالته وسوء أثره في علاقات أجزاء الإنسانية بعضها ببعض.
وأذهب إلى أبعد مما تقدّم فأقول: إن هذا البحث جدير بأن يهدي الإنسانية طريقها إلى الحضارة الجديدة التي تتلمّسها. وإذا كانت نصرانية الغرب تستكبر أن تجد النور الجديد في الإسلام ورسوله وتشيم هذا النور في ثيوزوفية الهند وفي مختلف مذاهب الشرق الأقصى فإن رجال هذا الشرق من المسلمين واليهود والنصارى جميعا خليقون أن يقوموا بهذه البحوث الجليلة بالنزاهة والإنصاف اللذين يكفلان وحدهما الوصول إلى الحق.
فالتفكير الإسلامي- على أنه تفكير علمي الأساس على الطريقة الحديثة في صلة الإنسان بالحياة المحيطة به، وهو من هذه الناحية واقعي بحت- ينقلب تفكيرا ذاتيا حين يتصل الأمر بعلاقة الإنسان بالكون وخالق الكون، ويبدع لذلك في النواحي النفسية والنواحي الروحية آثارا يقف العلم بوسائله حائرا أمامها، لا يستطيع أن يثبتها ولا أن ينفيها، وهو لا يعتبرها حقائق علمية. ثم هي تظل مع ذلك قوام سعادة الإنسان في الحياة ومقوّمة سلوكه فيها. فما الحياة؟ وما صلة الإنسان بهذا الكون؟ وما حرصه على الحياة؟ وما هي العقائد المشتركة التي تبعث في الجماعات القوّة المعنوية التي تضمحل بضعف هذه العقائد المشتركة؟ وما الوجود؟ وما وحدة الوجود؟ وما مكان الإنسان من الوجود ووحدته؟ هذه مسائل خضعت للمنطق التجريدي ووجدت منه أدبا مترامي الأطراف. لكنك تجد حلّها في حياة محمد وتعليمه أدنى لتبلغ الناس سعادتهم من هذا المنطق التجريديّ الذي أفني فيه المسلمون قرونا منذ العهد العباسي، وأقنى فيه الغربيون ثلاثة قرون منذ القرن السادس عشر إلى القرن التاسع عشر مما انتهى بالغرب إلى العلم الحديث على نحو ما انتهى بالمسلمين فيما مضى، ثم وقف العلم في الماضي كما أنه مهدّد اليوم بالوقوف دون إسعاد الإنسانية. ولا سبيل إلى درك هذه السعادة إلا العود إلى
1 / 25