The Excuse of Ignorance Under Shariah Scrutiny
العذر بالجهل تحت المجهر الشرعي
Издатель
دار الكتاب والسنة
Номер издания
الثانية
Год публикации
١٤١٦ هـ - ١٩٩٥ م
Место издания
باكستان
Жанры
العذر بالجهل تحت المجهر الشرعي
تأليف
أبي يوسف مدحت بن الحسن آل فراج
قدم له
فضيلة الشيخ العلامة
عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين - حفظه الله -
دار الكتاب والسنة
Неизвестная страница
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تقديم
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له قيوم السموات والأرضين وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الصادق الأمين صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
فإن ربنا سبحانه خلق الخلق لعبادته وأمرهم بتوحيده وطاعته وأنزل بذلك الكتب وأرسل الرسل وأوضح السبل لئلا يكون للناس حجة بعد الرسل وقد كلف جميع العباد بأن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا ووعد من وحده بالثواب وتوعد من أشرك به بالعذاب وقد حكى عن رسله أنهم دعوا الأمم إلى معرفة ربهم وطاعته فأنجى من اتبعهم وأهلك من خالفهم وأخبر عن الهالكين أن منهم الاتباع والرؤساء وكلهم في العذاب يتلاومون (قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاء أَضَلُّونَا) وحكى أن الاتباع يحتجون على ربهم بقولهم: (رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا) ولم يعذرهم بذلك وقد حاول بعض الخلف أن يعذر أهل الفترات وأهل الجهل مع وجود النصوص الدالة على تكليف الجميع وقد كتب الأخ في الله/ أبو يوسف مدحت بن الحسن ال فراج هذه الرسالة وسماها العذر بالجهل تحت المجهر الشرعي وقد استوفى الأدلة والنقول عن العلماء والأئمة وأوضح الأدلة وناقش الشبهات التي يتشبث بها المخالفون وبذلك يعلم أن كل فرد في أقطار البلاد قد من الله عليه بالعقل والإدراك والسمع والبصر يتمكن من البحث والسؤال ومعرفة الحق والواجب وإذا أهمل وفرط مع القدرة فليس بمعذور وبذلك تكون هذه الرسالة أوفى ما كتب في هذا الباب فجزى الله الكاتب الباحث خير الجزاء ونفع بهذه الرسالة وأمثاله وبارك في جهوده والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين
1 / 7
المقدمة
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ).
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا).
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا).
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ﷺ وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
لقد كثر في وقتنا هذا الكثير من التخبّط في أحكام التكفير والتبديع والتفسيق بين إفراط وتفريط، ولا يكون هذا إلا بسبب عدم ضبط قضية الإيمان إذ هي ميزان الأحكام الذي يجب أن توزن بها لا بغيرها.
وقد تسيّد فكر الإرجاء الساحة الإسلامية، وغلب على كثير من عقول الشيوخ والدعاة وطلاب العلم، وتستّر وتترّس الكفر والطغيان ودعاة العلمانية به حتى علت ورفرفت راياتهم وأعلامهم على ديار المسلمين، وأصبح في كل بيت من بيوتهم لهم فيه ذكر، نشأ على هذا الصغير، وهرم عليه الكبير، واشتدت غربة الإسلام وظلمة الفتن، وأصبح الرجل يُكفَّر بإخلاص التوحيد، ويبدع باتباع السنة، وأصبح المعروف منكرًا، والمنكر معروفًا، ولبست الطواغيت ثياب أمراء المؤمنين، وارتدى الزنادقة ثياب المصلحين الزهاد، وظهر أهل البدع بثياب أهل السنة وبدا الفساق والمجرمون بثياب أهل العدل والتقى: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ
1 / 9
وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ).
إلا أنه لا تزال طائفة من أمتنا على الحق قائمين ولأهل الزيغ والضلال مجاهدين، لا يضرهم من خالفهم، ولا من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك: "نسأل الله أن نكون منهم".
وغدونا نسمع: شتى أنواع الكفر البواح والإلحاد. والحركة الإسلامية مكتوفة الأيدي لا تستطيع أن توقف هذا التيار الإلحادي الخبيث لأن دعاته من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا، وهذا لظنهم الخاطئ أن الكتب ما أنزلت، والرسل ما أرسلت، والسيوف التي جردت، والأعناق التي ضربت، ولهيب الحرب الذي لم يطفأ بعد بين المسلمين والكافرين ما كان هذا كله إلا للتلفظ بقول: لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ﷺ فقط دون الانخلاع من الشرك والكفر بالطواغيت، وإفراد الله -جل ثناؤه- بالتلقي والتوجه والطاعة له وحده لا شريك له.
وأصبح المسلم في حسهم هو الذي ينطق بالشهادتين وإن لم يعلم معناها ويعمل بمقتضاها وينخلع من الشرك ويبرأ منه، ونتج عن هذا الفكر العقيم أن ضجت الأرض من كثرة الشرك والمشركين وانتشر الجهل وكاد أن يتنسّخ العلم -خاصة علم التوحيد- الذي هو أصل الأصول، ويلزم من هذا الاعتقاد الخاطئ أن الجهل خير من العلم، لأن العبد الذي يتلفظ بالشهادتين وهو منذ أن قالها وهو مكذب لها بفعله وعمله، يطوف بالقبور، ويستغيث بالأموات في الرخاء والشدة، ويحبهم كحب الله، ويفضّل حكم الطواغيت على حكم الله الواحد القهار، غير مؤاخذ بهذا كله لأنه جاهل ومعذور بجهله، وإن مات على ما هو عليه من الشرك والجهل فهو مسلم من أهل الجنة إن عاجلًا أو آجلًا. وأما إن أقيمت عليه الحجة، وأتاه العلم، وارتفع الجهل فإن لم ينقد لها فهو من الكافرين، وإن مات على هذا حرّم عليه دخول الجنة، ومن المعلوم أن أكثر الناس لا ينقادون ولا يستجيبون فأصبح على هذا الزعم الخاطئ أن الجهل يسوق أصحابه إلى الجنة بيقين، والعلم قد يسوق إلى النيران والخلود فيها. ونتج عن هذا: أن عطل كثير من الدعاة الدعوة إلى التوحيد حتى لا يقيمون الحجة على الناس فيوردوهم المهالك، وإن لم يكن في هذا الفكر الخاطئ إلا هذا، لكفى بيان خطئه وتجنبه الصراط المستقيم-
لذلك كتبت -بعون الله وفضله وحده لا شريك له- هذا البحث في هذه المسألة،
1 / 10
وهي هل يعذر المشرك بجهله أم لا؟ وقد قسمته إلى أربعة أبواب:
الباب الأول: بينت فيه: أن وصف الشرك وحكمه ثابت قبل قيام الحجة وبلوغ الرسالة، وأن الحجة عليه: الميثاق والعقل والفطرة، وأن العذاب في الدارين لا يكون إلا بعد بلوغ الرسالة وقيام الحجة.
الباب الثاني: تحدثت فيه عن الإسلام الذي يجب على كل عبد أن يحققه حتى ينتقل من ملل الكفر والشرك إلى الإسلام في الظاهر، والله يتولى السرائر، وختمته بذكر قضية الإيمان وضوابطها وتحديد العلاقة بين حقيقتي الإيمان والإسلام.
الباب الثالث: ذكرت فيه حكم من دان واستقام على الإسلام في الظاهر ثم وقع في ردة أو ابتداع بسبب الجهل والتأويل الفاسد والخطأ.
الباب الرابع: وفيه الرد على الشبهات في هذه القضية، وبيان موقف الأئمة: ابن تيمية وتلميذه ابن القيم ومحمد بن عبد الوهاب ﵏ من تلك القضية.
وأريد أن أنبّه على أمر جلل جد خطير، وهو أن كثيرًا من الرسائل التي كتبت في هذه القضية كان أكبر همّ أصحابها إثبات أن العالم الفلاني هذا أو ذاك يعذر أم لا يعذر؟ ثم يأتي بالنصوص من الكتاب والسنة محتجًا ومقررًا بها قول العالم، وأصبحت النصوص محكومة لا حاكمة يستدل لها لا بها-.
لذلك حرصت في هذا البحث من أوله إلى آخره أن تكون دلائل مسائله وأحكامه من الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة وأئمتها، وأن تكون النصوص حاكمة لا محكومة يستدل بها لا لها بتفسير السلف والأئمة المجمع على إمامتهم، فلم أنقل في هذا البحث عن أحد منهم ببدعة أو من الفرق الضالة وحرصت أشد الحرص أن تكون غالب أحاديث البحث من الصحيحين حتى تصح وتستقيم المسائل والدلائل بمشيئة الله وعونه.
وأنا لا أدّعي العصمة في كل ما كتبت فهي ليست لأحد بعد النبي ﷺ فكل ما فيه من حق فمن الله ورسوله ﷺ وما فيه من خطأ فمني ومن الشيطان والله ورسوله ﷺ منه بريئان.
وهنيئًا لك أخي القارئ ما فيه من صفو، وما فيه من كدر فراجع على كاتبه لا عليك، أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يغفره لي وحسبي أني قد بذلت وسعي قدر طاقتي أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يتقبله مني ويجعله ابتغاء مرضاته خالصًا لوجهه
1 / 11
ليس لأحد فيه من دونه من شيء، وصلي الله على محمد وآله وصحبه ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين وآخر دعواي أن الحمد لله رب العالمين.
المؤلف
1 / 12
الباب الأول
إثبات وصف الشرك مع الجهل وقبل قيام الحجة الرسالية
وفيه فصلان:
الفصل الأول: الأدلة على إثبات وصف الشرك مع الجهل وقبل قيام الحجة الرسالية.
الفصل الثاني: علة ثبوت وصف الشرك قبل قيام الحجة.
1 / 13
الفصل الأول
الأدلة على إثبات وصف الشرك مع الجهل وقبل قيام الحجة الرسالية
وفيه مبحثان:
المبحث الأول: فتور الرسالات قبل البعثة.
المبحث الثاني: اقتران وصفي الشرك والجهل.
1 / 15
الفصل الأول
إثبات وصف الشرك مع الجهل وقبل قيام الحجة الرسالية
الدليل الأول: قوله -تعالى-: (وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ). [التوبة: ٦].
قال الإمام الطبري: يقول -تعالى ذكره- لنبيه وإن استأمنك يا محمد من المشركين الذين أمرتك بقتالهم وقتلهم بعد انسلاخ الأشهر الحرم أحد ليسمع كلام الله منك وهو القرآن الذي أنزله الله عليه "فأجره": يقول: فأمّنه حتى يسمع كلام الله وتتلوه عليه ثم أبلغه مأمنه، يقول: ثم رده بعد سماع كلام الله إن هو أبى أن يسلم ولم يتعظ بما تلوته عليه من كلام الله فيؤمن إلى مأمنه .... (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ). يقول: تفعل ذلك بهم من إعطائك إياهم الأمان ليسمعوا القرآن وردك آياهم إذا أبوا الإسلام إلى مأمنهم من أجل أنهم: قوم جهلة لا يفقهون عن الله حجة، ولا يعلمون ما لهم بالإيمان بالله لو آمنوا، وما عليهم من الوزر والإثم لتركهم الإيمان بالله اهـ.
وقال الإمام البغوي: (حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللهِ). فيما له وعليه من الثواب والعقاب ... (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ). أي: لا يعلمون دين الله وتوحيده فهم محتاجون إلى سماع كلام الله. قال الحسن: هذه الآية محكمة إلى قيام الساعة اهـ.
وقال الإمام الشوكاني في تفسيره: (بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ)، أي: بسبب فقدانهم للعلم النافع المميز بين الخير والشر في الحال والمآل اهـ.
قلت: فهذا النص القرآني المحكم في دلالته يثبت في وضوح حكم الشرك مع الجهل الشديد المطبق في وقت اندرست فيه الشرائع، وطمست فيه السبل، واشتدت الفتن حتى إذا أخرج العبد يده فيها لم يكد يراها من شدة الظلمات لذلك سميت بالجاهلية لكثرة الجهالات.
قال الإمام النووي تعليقًا على حديث ابن جدعان: وأما الجهالية فما كان قبل النبوة سمّوا بذلك لكثرة جهالتهم (١).
_________
(١) صحيح مسلم جـ: ٣ ص: ٨٧.
1 / 17
وقال ابن تيمية موصّفًا إياها اعلم أن الله أرسل محمدًا إلى الخلق وقد مقت أهل الأرض عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب ماتوا -أو أكثرهم- قبل مبعثه، والناس إذ ذاك أحد رجلين: إما كتابي معتصم بكتاب -إما مبدّل، وإما منسوخ- وإما بدين دارس بعضه مجهول وبعضه متروك، وإما أُمّي من عربي وعجمي مقبل على عبادة ما استحسنه وظن أنه ينفعه من نجم أو وثن أو قبر أو تمثال أو غيره ذلك. والناس في جاهلية جهلاء من مقالات يظنونها علمًا وهي جهل. وأعمال يحسبونها صلاحًا وهي فساد وغاية البارع منهم علمًا وعملًا أن يُحصّل قليلاُ من العلم الموروث عن الأنبياء المتقدمين مشوب بأهواء المبدلين والمبتدعين قد اشتبه عليه حقه بباطله، أو يشتغل بعلم القليل منه مشروع وأكثره مبتدع لا يكاد يُؤثّر في صلاحه إلا قليلًا وأن يكدح بنظره نظر المتفلسفة فتذوب مهجته في الأمور الطبيعية والرياضية وإصلاح الأخلاق حتى يصل إن وصل بعد الجهد الذي لا يوصف إلى نزر قليل مضطرب لا يروي غليلا ولا يشفي عليلا ولا يغني من العلم الإلهي شيئًا، باطله أضعاف حقه -إن حصل- وأنّى له ذلك مع كثرة الاختلاف بين أهله والاضطراب وتعذر الأدلة عليه والأسباب (١) اهـ.
الدليل الثاني: قوله -تعالى-: (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ). [البينة: ١].
قال ابن تيمية: وممن ذكر هذا أبو الفرج بن الجوزي. قال: (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ). اليهود والنصارى (وَالْمُشْرِكِينَ) وهم عبدة الأوثان (مُنفَكِّينَ) أي منفصلين وزائلين ... والمعنى لم يكونوا زائلين عن كفرهم وشركهم حتى أتتهم البينة. لفظه لفظ المستقبل ومعناه: الماضي والبينة الرسول وهو محمد، ﷺ، بيّن لهم ضلالهم وجهلهم ... ولفظ البغوي نحو هذا قال: لم يكونوا منتهين عن كفرهم وشركهم .. (حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ). لفظه مستقبل ومعناه: الماضي أي حتى أتتهم البينة -الحجة الواضحة- بعني محمدًا أتاهم بالقرآن فبين لهم ضلالتهم وجهالتهم ودعاهم إلى الإيمان، فأنقذهم الله به من الجهل والضلالة (٢) اهـ.
_________
(١) اقتضاء الصراط المستقيم ص: ٢.
(٢) جـ: ١٦ ص: ٤٨٣، ٤٨٦ لمجموع الفتاوى.
1 / 18
وقال الشوكاني: قال الواحدي: ومعنى الآية إخبار الله -تعالى- عن الكفار أنهم لن ينتهوا عن كفرهم وشركهم بالله حتى أتاهم محمد، ﷺ، بالقرآن، فبين لهم ضلالتهم وجهالتهم ودعاهم إلى الإيمان وهذا بيان عن النعمة والإنقاذ به من الجهل والضلال اهـ.
قلت: وهذه الآية تنص بوضوح على إثبات وصف الشرك والكفر قبل البعثة المحمدية والحجة القرآنية، ويلاحظ اقتران وصفي الجهل والشرك في عبارات السلف وهذا مع وصف القرآن لهم بالجهل والغفلة في الكثير الكثير من الآيات على سبيل المثال لا الحصر قوله -تعالى-: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ). [الجمعة: ٢].
قال الطبري: .... يقول -تعالى ذكره-: وقد كان هؤلاء الأميون من قبل أن يبعث الله فيهم رسولًا منهم في جور عن قصد السبيل، وأخذ على غير هدي مبين، يقول: يبين لمن تأمله أنه ضلال وجور عن الحق وطريق الرشد اهـ.
وقال ابن كثير: ... فبعثه الله ﷾ وله الحمد والمنة على حين فترة من الرسل، وطموس من السبل، وقد اشتدت الحاجة إليه، وقد مقت الله أهل الأرض عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب، أي نذرًا يسيرًا مما بعث الله به عيسى بن مريم اهـ.
قلت: وقد يقول قائل: إن حكم الشرك ثابت لأصحابه قبل بعثة النبي، ﷺ، بسبب أن الحجة الرسالية كانت قائمة عليهم، والجهل والغفلة التي كانوا فيها بسبب إعراضهم عن الحجة وليس بسبب فقدها.
أقول وبالله تعالى التوفيق: إن كلام السلف السالف ذكره يرد هذا الظن لنصهم على توصيف هذا الوقت بأنه كان وقت فترة من الرسل، وطموس من السبل، ومع هذا أسوق آيتين من كتاب الله يدلان على فقد الحجة الرسالية قبل بعثته، ﷺ، للعرب والعجم.
المبحث الأول: فتور الرسالات قبل بعثة النبي ﷺ-:
الآية الأولى قوله -تعالى-: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ أَن تَقُولُواْ مَا جَاءنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءكُم بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). [المائدة: ١٩].
1 / 19
قال القرطبي: (يُبَيِّنُ لَكُمْ). انقطاع حجتهم حتى لا يقولوا: غدًا ما جاءنا رسول (عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ) أي سكون يقال: فتر الشيء: سكن، وقيل "عَلَى فَتْرَةٍ" على انقطاع ما بين النبيين عن أبي عليّ وجماعة أهل العلم وحكاه: الرماني اهـ.
وقال ابن كثير: ... والمقصود أن الله بعث محمدًا، ﷺ، على فترة من الرسل، وطموس من السبل، وتغير الأديان، وكثرة عبادة الأوثان والنيران والصلبان فكانت النعمة به أتم النعمة والحاجة إليه أمر عمم، فإن الفساد قد عم جميع البلاد والطغيان والجهل قد ظهر في سائر العباد إلا قليلًا من المتمسكين ببقايا من دين الأنبياء ... " ... ثم إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من بني إسرائيل ... ". ثم رواه الإمام أحمد ومسلم والنسائي من غير وجه ...
فكان الذين قد التبس على أهل الأرض كلهم حتى بعث الله محمدًا، ﷺ، فهدى الخلائق وأخرجهم الله به من الظلمات إلى النور وتركهم على المحجة البيضاء والشريعة الغراء، ولهذا قال -تعالى-: (أَن تَقُولُواْ مَا جَاءنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ). أي: لئلا تحتجوا وتقولوا يا أيها الذين بدلوا دينهم وغيروه ما جاءنا من رسول يبشر بالخير وينذر من الشر، فقد جاءكم بشير ونذير يعني محمدًا، ﷺ، اهـ.
وقال الطبري: على فترة من الرسل يقول: على انقطاع من الرسل، والفترة في هذا الموضع الإنقطاع يقول: قد جاءكم رسولنا يبين لكم الحق والهدى على انقطاع من الرسل ... (أَن تَقُولُواْ مَا جَاءنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ) ... فمعنى الكلام: قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل كي لا تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير يعلمهم -عزّ ذكره- أنه قد قطع عذرهم برسوله ﷺ، وأبلغ إليهم في الحجة اهـ.
وقال الشوكاني: (أَن تَقُولُواْ مَا جَاءنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ). تعليل: لمجيء الرسول بالبيان على حين فترة: أي كراهة أن تقولوا هذا القول معتذرين عن تفريطكم "أي لا تعتذروا فقد جاءكم بشير ونذير وهو محمد، ﷺ اهـ.
الآية الثانية: قوله -تعالى-: (وَلَوْلَا أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ). [القصص: ٤٧].
قال الطبري يقول -تعالى ذكره-: ولولا أن يقول هؤلاء الذين: أرسلتك يا محمد، ﷺ، إليهم لو حلّ بهم بأسنا أو أتاهم عذابنا من قبل أن نرسلك إليهم على كفرهم بربهم
1 / 20
واكتسابهم الآثام واجترامهم المعاصي: ربنا هلاّ أرسلت إلينا رسولًا من قبل أن يحل بنا سخطك وينزل بنا عذابك فنتبع أدلتك وآي كتابك الذي تنزلُه على رسولك وتكون من المؤمنين بألوهيتك المصدقين رسولك فيما أمرتنا ونهيتنا. لعاجلناهم العقوبة على شركهم من قبل ما أرسلناك إليهم، ولكنا بعثناك إليهم نذيرًا بأسنا على كفرهم لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل اهـ.
قال الشوكاني: ... قال الزجاج: وتقدير ما أرسلنا إليهم رسلًا: يعني أن الحامل على إرسال الرسل هو إزاحة عللهم فهو كقوله -سبحانه-: (لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) ... ومعنى الآية: أنا لو عذبناهم لقالوا: طال العهد بالرسل ولم يرسل الله إلينا رسولًا ويظنون أن ذلك عذر لهم ولا عذر لهم بعد أن بلغتهم أخبار الرسل، ولكنا أكملنا الحجة وأزحنا العلة وأتمننا البيان بإرسالك يا محمد إليهم اهـ.
وقال القرطبي: (فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا). أي هلاّ: (أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا).
لما بعثنا الرسل وقيل: لعاجلناهم بالعقوبة. وبعث الرسل أزاحة لعذر الكفار ....
فال القشيري: والصحيح أن المحذوف لولا كذا لما احتيج إلى تجديد الرسل أي: هؤلاء الكفار غير معذورين إذ بلغتهم الشرائع السابقة والدعاء إلى التوحيد، ولكن تطاول العهد فلو عذبناهم فقد يقول قائل منهم: طال العهد بالرسل ويظن أن ذلك عذر، ولا عذر لهم بعد أن بلغهم خبر الرسل، ولكن أكملنا إزاحة العذر وأكملنا البيان فبعثناك يا محمد، ﷺ، إليهم وقد حكم الله بأنه لا يعاقب عبدًا إلا بعد إكمال البيان والحجة وبعثة الرسل اهـ.
وقال ابن كثير: أي وأرسلناك إليهم لتقيم عليهم الحجة ولينقطع عذرهم إذا جاءهم
1 / 21
عذاب من الله بكفرهم فيحتجوا بأنهم لم يأتهم رسول ولا نذير اهـ.
وقال البغوي: (وَلَوْلَا أَن تُصِيبَهُم). عقوبة ونقمة (بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ). من الكفر والمعصية. (فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا) هلا (أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ). وجواب لولا محذوف أي: تعاجلناهم بالعقوبة. يعني: لولا أنهم يحتجون بترك الإرسال إليهم لعاجلناهم بالعقوبة على كفرهم، وقيل: معناه لما بعثناك إليهم رسولًا ولكن بعثناك إليهم لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل اهـ.
قلت: فمن هذين النصين يعلم أن القوم قبل بعثة النبي، ﷺ، لو عاجلهم المولى -سبحانه- العقوبة على شركهم واكتسابهم الآثام، لاحتج القوم بأنهم في زمن فترة من الرسل وأنهم ما جاءهم من رسول يبشر بالخير وينذر من الشر، فبعث الله محمدًا ﷺ ليقطع عذرهم في العذاب، ومع هذا فقد اتفق السلف على أنهم مشركون كافرون غير مسلمين إلا أنهم لا يعذبون إلا بعد الحجة الرسالية على خلاف بينهم في هذا الأخير.
فهؤلاء القوم كانوا في زمن فترة من الرسل. وفي جهل شديد ومع هذا كانوا مشركين.
الدليل الثالث: شرك قوم نوح، ﷺ، وهو أول شرك وقع على وجه الأرض، ومن المعلوم بيقين أن آدم، ﵇، قد ترك ذريته على التوحيد الخالص. ثم بدأ يدب الشرك في ذريته بسنن شيطانية التي تحدث عنها حبر الأمة ابن عباس ﵄ فأصبحوا مشركين فبعث الله نوحًا وهو أول رسول إلى أهل الأرض بنص حديث الشفاعة الصحيح.
ومن المعلوم أيضًا أن نوحًا ﵇ كان يخاطب قومه على أنهم: مشركون لا مسلمون.
فأين الرسول الذي أقام الحجة عليهم قبله حتى يثبت لهم وصف الشرك وحكمه؟
قال الله -تعالى-: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ). [البقرة: ٢١٣].
قال ابن كثير: قال ابن جرير ... عن ابن عباس ﵁ قال: كان بين نوح وآدم عشرة قرون كلهم على شريعة من الحق فاختلفوا فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين.
قال: وكذلك هي قراءة عبد الله ... الناس كانوا على ملة آدم حتى عبدوا الأصنام فبعث الله إليهم نوحًا، ﵇، فكان أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض اهـ.
وقال ابن تيمية: وذلك أن الناس كانوا بعد آدم، ﵇، وقبل نوح، ﵇، على التوحيد والإخلاص كما كان عليه أبوهم آدم أبو البشر، ﵇، حتى ابتدعوا الشرك وعبادة الأوثان -بدعة من تلقاء أنفسهم- لم ينزّل الله بها كتابًا ولا أرسل بها رسولًا. بشبهات زينها الشيطان من جهة المقاييس الفاسدة والفلسفة الحائدة. قوم منهم
1 / 22
زعموا: أن التماثيل طلاسم الكواكب السماوية والدرجات الفلكية والأرواح العلوية وقوم اتخذوها على صورة من كان فيهم من الأنبياء والصالحين، وقوم جعلوها لأجل الأرواح السفلية من الجن والشياطين وقوم على مذاهب أخر. وأكثرهم لرؤسائهم مقلدون وعن سبيل الهدى ناكبون، فابتعث الله نبيه نوحًا، ﵇، يدعوهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وينهاهم عن عبادة ما سواه وإن زعموا أنهم يعبدونهم ليتقربوا بهم إلى الله زلفى ويتخذوهم شفعاء (١). اهـ.
وفي صحيح البخاري عن ابن عباس ﵄: صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب ... أسماء رجال صالحين من قوم نوح فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصابًا وسموها بأسمائهم ففعلوا فلم تُعبد حتى إذا هلك أولئك وتنسّخ العلم عبدت (٢) اهـ.
قلت: انظر رحمني الله وإياك قول ابن عباس ﵄ -أنها- أي الأصنام- لم تعبد في بادئ الأمر، وأن العلة في عبادتها: تنسخ العلم وانتشار الجهل.
وذلك لأن المشرك أينما كان يظن أن ما هو عليه من الديانة تقربه إلى الله زلفى فكيف يتقرب العبد إلى الله بأمر يعتقد بطلانه؟
وذلك لأن الشرك منبعه ومبعثه: الاعتقاد، بخلاف المعصية فإن منبعها ومبعثها: الشهوة المحضة.
فالزاني والسارق وشارب الخمر يعلم قبح وحرمة معصيته ولكن يحمله على اقترافها الشهوة العارمة بخلاف الذبح والنذر والدعاء والاستغاثة فهذه الحامل على فعلها: الاعتقاد لا الشهوة.
لذلك لن تجد عبدًا يعلم قبح وحرمة الشرك وأنه يسوق صاحبه إلى الخلود في النيران ويحرم عليه دخول الجنة ويحبط عمله بالكلية ثم يفعله بعد هذا قربة إلى الله؟.
_________
(١) جـ: ٢٨ ص: ٦٠٣، ٦٠٤ لمجموع الفتاوى.
(٢) راجع فتح الباري جـ: ٨ ص: ٥٣٥.
1 / 23
المبحث الثاني: اقتران وصفي الشرك والجهل:
لذلك اعلم أن الشرك قرين الجهل. والتوحيد قرين العلم لا ينفكان.
يقول الله -جل ثناؤه-: (ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ). [يوسف: ٤٠].
قال ابن كثير: أي فلهذا كان أكثرهم مشركين اهـ.
وهذا المعنى -وهو جهالة أكثر الناس- مستقر في كثير من الآيات كقوله -تعالى-: (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ). [لقمان: ٢٥]. وقوله -تعالى-: (مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) [الدخان: ٣٩]. وقوله -تعالى: - (إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ) [الأنفال: ٣٤].
وهذا في الكثير الكثير من الآيات وصف أكثر الناس بالجهل وعدم العلم، وكذلك أيضًا وصف القرآن في العديد من الآيات أن أكثر الناس مشركون ضالون عن سواء السبيل كقوله -تعالى-: (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ) [يوسف: ١٠٦]. (وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللهِ) [الأنعام: ١١٦]. فعلم بنصوص القرآن المستقرأة البينة الواضحة الدلالة: أن أكثر الناس يجمعون بين الشرك والجهل. فعندما يقول الله -تعالى-: (إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ) [النساء: ٤٨]. ثم نقصره على العالم والمعاند فقط فهذا لا يكون إلا للنادر القليل ومن المعلوم أن النصوص نزلت لأجل المشاع الغالب ذكره وليس للنادر القليل الذكر.
يقول الإمام أبو بطين (بعد نقله عن شيخ الإسلام ابن تيمية: إن من فعل الشرك فهو مشرك يستتاب فإن تاب وإلا قتل). قال: فقد جزم ﵀ في مواضع كثيرة تكفر من فعل ما ذكره من أنواع الشرك وحكى إجماع المسلمين على ذلك ولم يستثن الجاهل ونحوه وقال -تعالى-: (إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ). وقال عن المسيح أنه قال: (مَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ).
فمن خص ذلك الوعيد بالمعاند فقط وأخرج الجاهل والمتأوّل والمقلد فقد شاق الله ورسوله، وخرج عن سبيل المؤمنين. والفقهاء: يصدرون باب حكم المرتد بمن أشرك بالله
1 / 24
ولم يقيدوا ذلك بالمعاند وهذا أمر واضح ولله الحمد (١) اهـ.
وبهذا يعلم فقه ابن عباس ﵄ عندما علّل ووقت اقتراف الشرك في قوم نوح بتنسخ العلم، فقال: فلم تعبد (أي الأصنام) حتى إذا هلك أولئك وتنسخ العلم عُبدت. فهؤلاء القوم كانوا بداية على التوحيد ومن نسل موحد ثم دب فيهم الشرك بنوع من الجهل والتأويل وتخرصًا وحسبانًا أنه يقربهم إلى الله زلفى بدعة من تلقاء أنفسهم لم ينزّل الله بها من سلطان، فأصبحوا مشركين، فعند هذا بعث الله إليهم نوحًا، ﵇، بشيرًا ونذيرًا ليقيم الحجة الموجبة للعذاب في الدارين لمن خالفها.
قال -تعالى- في سورة هود: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ (٢٥) أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللهَ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (٢٦».
قال ابن كثير: يخبر -تعالى- عن نوح، ﵇، وكان أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض من المشركين عبدة الأصنام أنه قال لقومه: (إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ). أي: ظاهر النذارة لكم من عذاب الله إن أنتم عبدتم غير الله ...
وقوله: (إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ). أي: إن استمررتم على ما أنتم عليه عذّبكم الله عذابًا إليمًا موجعًا شاقًا في الدار الآخرة اهـ.
قلت: وما يقال في قوم نوح، ﵇، يقال في كل أمة بين رسولين لأن الرسل ترسل لأقوامهم -المشركين الجاهلين- بالإسلام العام فيكفر أكثر أقوامهم ويؤمن لهم من وفقه الله للهداية ثم يفصل الله بينهم وبين أقوامهم، ويبقى الموحدون -بعد هلاك الكفار بالرسالات- ثم يمكثوا ما شاء الله لهم على التوحيد. حتى إذا تنسخ العلم لديهم دب فيهم الشرك وأتُوا من قبل جهلهم وتخرصهم على ربهم بغير سلطان لديهم من الله -جل ثناؤه- فعند هذا يبعث الله رسولًا ليخرجهم: من الظلمات إلى النور، ومن الشرك إلى التوحيد، ومن الجهل إلى العلم ويتوعدهم بالعذاب في الدارين إن استمروا على شركهم وكفرهم بعد الحجة الرسالية. وهذا لقوله -تعالى-: (رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) [النساء: ١٦٥].
_________
(١) الانتصار لحزب الله الموحدين.
1 / 25
ومن هذا يعلم: أن اسم المشرك ثابت قبل بلوغ الرسالة، والعذاب في الدارين لا يكون إلا بعدها.
قال ابن تيمية نقلًا عن محمد بن نصر المروزي: قالوا: ولما كان العلم بالله إيمانًا والجهل به كفرًا، وكان العمل بالفرائض إيمانًا والجهل بها قبل نزولها ليس بكفر، لأن أصحاب رسول الله، ﷺ، قد أقروا بالله أول ما بعث الله رسوله، ﷺ، إليهم ولم يعلموا الفرائض التي افترضت عليهم بعد ذلك، فلم يكن جهلهم بذلك كفرًا. ثم أنزل الله عليهم الفرائض فكان إقرارهم والقيام بها إيمانًا وإنما يكفر من جحدها لتكذيبه خبر الله. ولو لم يأت خبر من الله ما كان بجهلها كافرًا وبعد مجيء الخبر من لم يسمع بالخبر من المسلمين لم يكن بجهلها كافرًا والجهل بالله في كل حال كفر قبل الخبر وبعد الخبر (١) اهـ.
وقال صاحب بدائع الصنائع فإن أبا يوسف روى عن أبي حنيفة ﵀ هذه العبارة فقال: كان أبو حنيفة ﵁ يقول: لا عذر لأحد من الخلق في جهله معرفة خالقه لأن الواجب على جميع الخلق معرفة الرب ﷾ وتوحيده لما يرى من خلق السموات والأرض وخلق نفسه وسائر ما خلق الله ﷾ فأما الفرائض فمن لم يعلمها ولم تبلغه فإن هذا لم تقم عليه حجة حكمية بلفظه (٢) اهـ.
وقال ابن تيمية في وكذاك أخبر عن هود أنه قال لقومه: (... إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ). فجعلهم مفترين قبل أن يحكم بحكم يخالفونه لكونهم جعلوا مع الله إلهًا آخر. فاسم المشرك ثبت قبل الرسالة فإنه يشرك بربه ويعدل به ويجعل معه آلهة أخرى ويجعل له أندادا قبل الرسالة، ويثبت أن هذه الأسماء مقدم عليها، وكذلك اسم الجهل والجاهلية يقال جاهلية وجاهلًا قبل مجيء الرسول وأما التعذيب فلا، والتولي عن الطاعة كقوله: (فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى، وَلَكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى). فهذا لا يكون إلا بعد الرسول (٣) اهـ.
الدليل الرابع: قوله -تعالى-: (ذَلِكَ أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ) [الأنعام: ١٣١].
_________
(١) جـ: ٧ ص: ٣٢٥ مجموع الفتاوى.
(٢) بدائع الصنائع جـ: ٧ ص: ١٣٢ - دار الكتب العلمية.
(٣) جـ: ٢ ص: ٣٧ لمجموع الفتاوى.
1 / 26
قال القرطبي: ... أي إنما فعلنا ذلك بهم لأني لم أكن أهلك القرى بظلمهم أي: بشركهم قبل إرسال الرسل إليهم فيقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير. وقيل: لم أكن أهلك القرى بشرك من أشرك منهم فهو مثل: (وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى). ولو أهلكهم قبل بعثة الرسل فله أن يفعل ذلك اهـ.
وقال البغوي: أي: الذي قصصنا عليك من أمر الرسل، وعذاب من كذبهم لأنه لم يكن ربك مهلك القرى بظلم أي: لم يكن مهلكهم بظلم أي: يشرك من أشرك: (وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ). لم ينذروا حتى نبعث إليهم رسلًا ينذرونهم اهـ.
وقال الشوكاني: (يظُلْمٍ» (١) (-سببيه: أي: لم أكن أهلك القرى بسبب ظلم من يظلم منهم والحال أن أهلها غافلون. لم يرسل الله إليهم رسولًا. والمعنى: أن الله أرسل الرسل إلى عباده لأنه لا يهلك من عصاه بالكفر من القرى. والحال أنهم غافلون عن الإعذار والإنذار بإرسال الرسل وإنزال الكتب اهـ.
قلت: فهذا النص بفهم السلف يثبت وصف الشرك قبل البعثة والناس في غفلة إلا أن العذاب لا يكون إلا بعد الرسالة-.
والآن بمشيئة الله وعونه أسوق آية من كتاب الله هي الفصل في هذه المسألة ومنها يعلم علة هذا الحكم وهو ثبوت وصف الشرك بمجرد التلبس به دون إقامة حجة وبلوغ رسالة وهذا الحكم عام مطرد بين جميع الخلق وكافة الأمم ألا وهي آية الميثاق، وقبل الحديث عنها أنبه على أن العلماء قد اتفقوا على أن هذه الآية حجة مستقلة في الإشراك واختلفوا هل هي حجة مستقلة في العذاب أم لا؟ على قولين.
واختلفوا هل الإشهاد أخذ حقيقة بلسان المقال أم مجازًا وهو بلسان الحال؟ على قولين:
فهذا ما اتفقوا عليه وهذا ما اختلفوا فيه حتى لا تختلط المفاهيم وتنضبط الأحكام.
* * *
_________
(١) (بظلم) - إشارة إلى قوله تعالى (وما كان ربك ليهلك القرى بظلم -، سببيه بتشديد الياء
1 / 27
الفصل الثاني
علة ثبوت وصف الشرك قبل قيام الحجة
وفيه أربعة مباحث:
المبحث الأول: حجية الميثاق.
المبحث الثاني: توحيد الربوبية يستلزم توحيد الإلهية وهو الحجة عليه.
المبحث الثالث: الميثاق حجة في بطلان الشرك والعذاب عليه بعد الحجة الرسالية.
المبحث الرابع: التحسين والتقبيح العقلي للأفعال قبل بلوغ الشرائع.
1 / 29