القول البين الأظهر في الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
القول البين الأظهر في الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
Издатель
الكتاب منشور على موقع وزارة الأوقاف السعودية بدون بيانات
Жанры
القول البين الأظهر
في الدعوة إلى الله
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله الراجحي
خطبة الرسالة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، نحمده ونستعينه، وأستغفره وأستهديه، أمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، ونهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، موعظة منه سبحانه لعباده لعلهم يتذكرون، والصلاة والسلام على عبده ورسوله نبينا محمد أفضل داع إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة على بصيرة، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويصبر على ما أصابه، احتسابًا لوجه الله، وأداءً لرسالة ربه، وتبليغًا للأمانة، ونصحًا للخلق وإرشادًا لهم، وعلى آله وأصحابه وأتباعه المقتدين به في النصح للخلق ودعوتهم إلى الله وأمرهم بالخير ونهيهم عن الشر، فهم الذين قال الله فيهم ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ (١) .
أما بعد:
_________
(١) سورة يوسف آية: ١٠٨.
1 / 1
فإن الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أصل عظيم من أصول الإسلام حتى ألحقه بعض العلماء بأركان الإسلام التي لا يقوم بناؤه إلا عليها، ولا غرو فإن صلاح العباد في معاشهم متوقف على طاعة الله ورسوله، وتمام الطاعة متوقف على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبه كانت هذه الأمة خير أمة أخرجت للناس.
فلما كان هذا الأصل بهذه المنزلة العظيمة من الدين، ولما تساهل أكثر الناس به في هذا الزمن، فأضاعه كثير منهم، وداهن فيه آخرون حتى انتشرت المنكرات وعمت وطمت، وامتلأ منها البر والبحر والجو، رأيت أن أكتب في ذلك رسالة مختصرة، أبين فيها عظم هذا الواجب، وما يترتب على الإخلال به، وما يتبع ذلك من المباحث، مع قصر الباع في ذلك، قيامًا ببعض الواجب، وإن كنت لست من أهل تلك المسالك، ورتبت الرسالة على مقدمة وثلاثة أبواب وخاتمة.
فالمقدمة تشتمل على ما يلي:
١- معنى المعروف والمنكر لغةً.
٢- معنى المعروف والمنكر شرعًا.
٣- المراد بالمعروف والمنكر عند اجتماعهما وانفراد أحدهما.
٤- عظم شأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله.
٥- واجب العلماء وتحذيرهم من التقصير في العمل.
1 / 2
والباب الأول: في القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفيه ثلاثة فصول:
الفصل الأول: في حكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
والفصل الثاني: في حكم ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من القادر.
والفصل الثالث: في شروط المتصدي للدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
والباب الثاني: في إنكار المنكر، وفيه ثلاثة فصول:
الفصل الأول: في كيفية الإنكار.
والفصل الثاني: في درجات الإنكار.
والفصل الثالث: في مرتبتي تغيير المنكر أو طريقي الدعوة إلى الله.
والباب الثالث: في الأحوال التي يسقط فيها وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفيه ثلاثة فصول:
الفصل الأول: في الحال الأولى.
والفصل الثاني: في الحال الثانية.
والفصل الثالث: في الحال الثالثة.
والخاتمة تشتمل على ما يلي:
١- خطر المداهنة في دين الله.
٢- الفرق بين المداراة والمداهنة.
٣- الحكمة في مشروعية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
٤- المفاسد المترتبة على ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
٥- الحامل على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
1 / 3
وقد أوردت فيها آيات من كتاب الله وأحاديث من سنة رسول الله ﷺ ورقمت الآيات وخرجت الأحاديث تيسيرًا على الباحث عند الرجوع إليها، كما نقلت نصوصًا من أقوال العلماء والمفسرين، وبينت مصادرها في أواخر الصفحات ليطمئن القارئ وليكون على ثقة، للاتفاق على جلالة هؤلاء العلماء وعلمهم وورعهم، وذكرت في آخر الرسالة بيانًا بأسماء المراجع والكتب التي استفدت منها في بناء الرسالة، وفهرست الموضوعات إكمالًا للفائدة وتسهيلًا لمن يطلب البحث عن جزئية من جزئيات الرسالة، وسميتها -القول البيّن الأظهر في الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- والله أسأل أن ينفع بها، وأن يجعل العمل لوجهه خالصًا، وأسأله الاستقامة والثبات على الإسلام، وأن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا وأن يهب لنا من لدنه رحمة إنه هو الوهاب، ومن الله أستمد العون والتوفيق والسداد وأستلهمه الرشاد وهو حسبي ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على محمد وآله وصحبه.
الكاتب
1 / 4
١- بيان معنى -المعروف والمنكر- لغةً:
المعروف في اللغة، يدور معناه غالبًا على ما تعارف عليه الناس وعلموه ولم ينكروه، والمنكر في اللغة، يدور معناه غالبا على ما جهله الناس واستنكروه وجحدوه.
قال في القاموس: عرفه يعرفه معرفة وعرفانًا وعرفه بالكسر، وعِرِفّانا بكسرتين مشدّدة الفاء، علمه، والمعروف ضد المنكر (١) .
والنّكُر بالضم وبضمتين، المنكر كالنكراء، والأمر الشديد، والنكرة خلاف المعرفة، وتناكر تجاهل، والقوم تعادوا، ونكر فلان الأمر كفرح نكرًا -محركة-، ونُكُرًا ونُكُورًا بضمها، ونكيرًا، وأنكره واستنكره وتناكره جهله، والمنكر ضد المعروف اهـ (٢) .
_________
(١) انظر ج٣ ص ١٧٨ -١٧٩.
(٢) انظر ج٢ ص ١٥٣ -١٥٤.
1 / 5
وقال في لسان العرب: عرف العرفان العلم ... والمعروف ضد المنكر، والعُرف ضد النكر، يقال: أولاه عرفًا أي معروفًا، والمعروف والعارفة خلاف النكر، والمعرف كالعرف، وقوله تعالى: ﴿وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا﴾ (١) أي مصاحبًا معروفًا (٢) والإنكار: الجحود، وقوله: ﴿إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ﴾ (٣) أي أقبح الأصوات، والنُّكْر، والنُكُر: الأمر الشديد، والمنكر من الأمر خلاف المعروف، وقد تكرر في الحديث الإنكار والمنكر وهو ضد المعروف، وكل ما قبحه الشرع وحرمه وكرهه فهو منكر، والنكْر والنّكْراء -ممدود-: المنكر، وفي التنزيل العزيز: ﴿لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا﴾ (٤) ونكر الأمر نكيرًا، وأنكره إنكارًا ونُكْرًا، جهله عن كراع، وفي التنزيل العزيز: ﴿وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً﴾ (٥) اهـ (٦) .
وقال في المعجم الوسيط: العُرْفُ: المعروف، وهو خلاف النكر، وما تعارف عليه الناس في عاداتهم ومعاملاتهم (٧) .
_________
(١) سورة لقمان آية: ١٥.
(٢) انظر ج٩ ص ٢٣٦ -٢٣٩.
(٣) سورة لقمان آية: ١٩.
(٤) سورة الكهف آية: ٧٤.
(٥) سورة هود آية: ٧٠.
(٦) انظر ج٥ ص ٢٣٣ -٢٣٤.
(٧) انظر ج٢ ص ٦٠١.
1 / 6
نَكر فلان نَكَرا ونُكرا ونكارة، فطن وجاد رأيه.. والشيء جهله، وفي التنزيل العزيز: ﴿فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ﴾ (١) ونَكُر الأمر نكارة، صعب واشتدّ وصار منكرًا، وأنكر الشيء جهله، وفي التنزيل العزيز: ﴿فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ﴾ (٢) وحقه جحده، وفي التنزيل العزيز: ﴿يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا﴾ (٣) (٤) .
_________
(١) سورة هود آية: ٧٠.
(٢) سورة يوسف آية: ٥٨.
(٣) سورة النحل آية: ٨٣.
(٤) انظر ج٢ ص ٩٦٠.
1 / 7
٢- بيان معنى -المعروف والمنكر- شرعًا
المعروف في الشرع: كل ما يعرفه الشرع ويأمر به ويمدحه ويثني على أهله، ويدخل في ذلك جميع الطاعات، وفي مقدمتها توحيد الله ﷿ والإيمان به.
والمنكر في الشرع: كل ما ينكره الشرع وينهى عنه ويذمه ويذم أهله، ويدخل في ذلك جميع المعاصي والبدع، وفي مقدمتها الشرك بالله ﷿ وإنكار وحدانيته أو ربوبيته أو أسمائه أو صفاته.
وعبارات المفسرين في تفسير المعروف والمنكر- لا تتجاوز ذلك.
فقيل: المعروف: كل قول حسن وفعل جميل وخلق كامل للقريب والبعيد.
وقيل: المعروف: الخير كله، والمنكر: جميع الشر.
وقيل: المعروف: ما عرف حسنه شرعًا وعقلًا، والمنكر: ما عرف قبحه شرعًا وعقلًا.
وقيل: المعروف: الإحسان والطاعة، وكل ما عرف في الشرع والعقل حسنه (١) .
وقيل: المعروف: طاعة الله وما يعرفه الشرع وأعمال البر كلها.
وقيل: المعروف: الإيمان، والمنكر الشرك، وقيل: المعروف السنة، والمنكر البدعة (٢) .
وقيل: المعروف: خلع الأنداد ومكارم الأخلاق وصلة الأرحام، والمنكر عبادة الأصنام وقطع الأرحام، وقيل المعروف: الطاعات والفضائل أجمع.
_________
(١) انظر تفسير ابن سعدي ج -١ ص ١٩٤ -١٩٦، جـ٢ ص ٧٧، جـ٣ ص٦٥ -٦٦.
(٢) انظر تفسير البغوي جـ٢ ٥٨٠، جـ٤ ص ٢٤٩.
1 / 8
وقيل: العرف: صلة الأرحام، وتقوى الله في الحلال والحرام، وغض الأبصار، والاستعداد لدار القرار.
وقيل: المعروف: عبادة الله وتوحيده وكل ما أتبع ذلك، والمنكر: عبادة الأوثان وكل ما أتبع ذلك (١) وهذه الأقوال كلها حق ولا تنافي بينها.
وقال ابن الأثير في النهاية في غريب الحديث:
(عرف) قد تَكرر ذكر -المعروف- في الحديث، وهو اسم جامع لكل ما عرف من طاعة الله والتقرب إليه والإحسان إلى الناس، وكل ما ندب إليه الشرع، ونهى عنه، من المحسِّنات والمقبِّحات، وهو من الصفات الغالبة، أي أمر معروف بين الناس، إذا رأوه لا ينكرونه، والمعروف النصفة وحسن الصحبة مع الأهل وغيرهم من الناس، والمنكر ضد ذلك جميعه اهـ (٢) .
وقال: وقد تكرر ذكر -الإنكار والمنكر- في الحديث، وهو ضد المعروف، وكل ما قبّحه الشرع وحرّمه وكرهه فهو منكر، يقال: أنكر الشيء ينكره إنكارًا فهو مُنكِر، ونَكِره ينكَرهُ نُكْرًا فهو منكور، واستنكره فهو مستنكر، والنكير الإنكار، والإنكار الجحود، اهـ (٣) .
_________
(١) انظر تفسير القرطبي جـ٩٩، ٣٤٤ وحـ٨ ص٢٠٣، وحـ١٤ ص٨.
(٢) انظر جـ٣ ص٢١٦.
(٣) انظر جـ٥ ص١١٥.
1 / 9
٣- بيان المراد بالمعروف والمنكر عند اجتماعهما وانفراد أحدهما
إذا أطلق الأمر بالمعروف من غير أن يقرن بالنهي عن المنكر- فإنه يدخل فيه النهي عن المنكر، وذلك لأن ترك المنهيات من المعروف، ولأنه لا يتم فعل الخير إلا بترك الشرّ، ومثال ذلك قول الله تعالى: ﴿لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ﴾ (١) فإن الأمر بالمعروف يتضمن النهي عن المنكر.
وكذلك إذا أطلق النهي عن المنكر -من غير أن يقرن بالأمر بالمعروف- فإنه يدخل فيه الأمر بالمعروف، وذلك لأن ترك المعروف من المنكر، ولأنه لا يتم ترك الشر إلا بفعل الخير.
ومثال ذلك قول الله تعالى: ﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ﴾ (٢) فإن نهيهم عن السوء يتضمن أمرهم بالخير.
وأما عند اقتران أحدهما بالآخر فيفسر -المعروف - بفعل الأوامر، ويفسر -المنكر- بترك النواهي، وأمثلة ذلك كثيرة في كتاب الله تعالى.
_________
(١) سورة النساء آية: ١١٤.
(٢) سورة الأعراف آية: ١٦٥.
1 / 10
كقوله تعالى: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ (١) .
_________
(١) سورة التوبة آية: ٧١.
1 / 11
٤- عظم شأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله أصل عظيم من آكد الأصول الإسلامية وأوجبها وألزمها، حتى ألحقه بعض العلماء بالأركان التي لا يقوم بناء الإسلام إلا عليها، وإنما أرسلت الرسل وأنزلت الكتب للأمر بالمعروف الذي رأسه وأصله التوحيد، وللنهي عن المنكر الذي رأسه وأصله الشرك والعمل لغير الله، وشرع الجهاد لأجل ذلك، وإن كان الجهاد قدرًا زائدًا على مجرد الأمر والنهي.
إذ بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله يتوقف قيام الدين، فلولاه ما قام الإسلام، ولا ظهر دين الله، ولا علت كلمته، ويتوقف أيضًا قيام الدولة الإسلامية واستقامتها وصلاحها على القيام به، كما أن صلاح العباد متوقف على القيام به.
1 / 12
وبيان ذلك: أن جماع الدين وجميع الولايات هو أمر ونهي، والأمر الذي بعث الله به رسوله هو الأمر بالمعروف، والنهي الذي بعث الله به رسوله هو النهي عن المنكر، وبهذا نعت الله النبي والمؤمنين فقال تعالى: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ (١) وجميع الولايات -كولاية الحكم، وولاية الحرب، وولاية المال، وولاية الحسبة، وغيرها، إنما مقصودها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وولي الأمر إنما نُصِّب ليأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وهذا هو مقصود الولاية، ولهذا يجب على كل ولي أمر أن يستعين بأهل الصدق والعدل، فإن تعذر ذلك استعان بالأمثل فالأمثل.
_________
(١) سورة التوبة آية: ٧١.
1 / 13
بل إن صلاح العباد جميعهم يكون بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إذ إن صلاح العباد ومعائشهم في طاعة الله ورسوله، ولا يتم ذلك إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبه صارت هذه الأمة خير أمة أخرجت للناس كما قال تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ (١) ولا يرى تركه والمداهنة فيه إلا من أضاع حظه ونصيبه من العلم والإيمان، فما أَجَلَّ هذا الأصل وما أَعْظَمَهُ وأخطر شأنه في الإسلام؟ (٢) .
_________
(١) سورة آل عمران آية: ١١٠.
(٢) انظر مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية ج٢٨ ص٧٥ -٦٧ وص٣٠٦، وانظر الدرر السنية في الأجوبة النجدية جـ٧ ص٣٣ -٣٤.
1 / 14
٥- واجب العلماء وتحذيرهم من التقصير في العمل
العلماء عليهم واجب عظيم ومسئولية خطيرة، فإن عليهم أمر الناس وإرشادهم إلى الخير، ونهيهم وتحذيرهم من الشرّ، وعليهم نصيحتهم وترغيبهم في الخير، وترهيبهم من الشر، وعليهم أن يبذلوا ما بأيديهم من العلم النافع الدال على العمل الصالح، ولا يكتموا منه شيئًا، فإن الله تعالى لما ذمَّ اليهود على حرصهم ومبادرتهم الإثم والعدوان، وأكلهم الحرام في قوله تعالى: ﴿وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ (١) بيّن واجب العلماء وحضّهم على القيام به، وهو نهيهم للناس عن المعاصي والآثام التي تصدر منهم، ليزول ما عندهم من الجهل وتقوم عليهم الحجة، فقال تعالى: ﴿لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ﴾ (٢) أي هلَّا ينهاهم العلماء المتصدون لنفع الناس الذين مَنَّ الله عليهم بالعلم والحكمة عمَّا وقعوا فيه من الإثم وأكل الحرام.
_________
(١) سورة المائدة آية: ٦٢.
(٢) سورة المائدة آية: ٦٣.
1 / 15
وقد وبَّخَ الله العلماء في تركهم واجب النهي عن المنكر والأمر بالمعروف فقال تعالى في الآية السالفة الذكر: ﴿لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾ (١) .
_________
(١) سورة المائدة آية: ٦٣.
1 / 16
كما أخذ الله الميثاق على أهل العلم أن يبينوا للناس ما أنزل إليهم من ربهم، وحذّرهم من الكتمان وتوعدهم عليه فقال تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ﴾ (١) وقال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ﴾ ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ (٢) وقال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ﴾ (٣) وفي حديث أبي هريرة عن النبي ﷺ أنه قال: «مَنْ
_________
(١) سورة آل عمران آية: ١٨٧.
(٢) سورة البقرة آية: ١٥٩-١٦٠.
(٣) سورة البقرة آية: ١٧٤-١٧٥.
1 / 17
سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ فَكَتَمَهُ أُلْجِمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ» (١) (٢) .
وهذا الوعيد الشديد لما ينشأ عن ترك هذا الواجب العظيم -الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- من الفساد والشر، إذ كيف يصلح الناس، وكيف ينزجر الناس عن المعاصي، وكيف تعظم المعصية في قلوب الجاهلين، وكيف يقفون عند الحدود، وكيف يتورعون عن الشبهات، والعلماء يرونها فلا ينكرونها؟!
فما أعظم واجب العلماء؟ وما أشد خطر تقصيرهم في القيام به. (٣)
_________
(١) ابن ماجه: المقدمة (٢٦٤) .
(٢) الحديث رواه أحمد وأصحاب السنن الأربعة والحاكم عن أبي هريرة، وعلم عليه السيوطي بالصحة، كشف الخفاء للعجلوني جـ٢، ص٣٥٢ مطبعة الفنون - حلب.
(٣) انظر تفسير الإمام ابن كثير جـ٢ ص٣١٥ طبعة الحكومة المجموع فيها تفسيري ابن كثير والبغوي، وانظر أيضا تفسير الشيخ عبد الرحمن السعدي ج٢ ص١٤٨.
1 / 18
قال الإمام أحمد ﵀ في رسالة الصلاة ما نصه: (فرحم الله رجلًا رأى أخاه يسبق الإمام، فيركع أو يسجد معه، أو يصلي وحده فيسيء في صلاته، فينصحه ويأمره وينهاه، ولم يسكت عنه، فإن نصيحته واجبة عليه لازمة له، وسكوته عنه إثم ووزر، وإن الشيطان يريد أن تسكتوا عن الكلام فيما أمركم الله به، وأن تدعوا التعاون على البر والتقوى الذي أوصاكم الله به، والنصيحة التي عليكم بعضكم لبعض، لتكونوا مأثومين مأزورين، وأن يضمحل الدين ويذهب، وأن لا تحيوا سنة ولا تميتوا بدعة، فأطيعوا الله بما أمركم به من التناصح والتعاون على البر والتقوى، ولا تطيعوا الشيطان؛ فإن الشيطان لكم عدو مبين، بذلك أخبركم الله ﷿ فقال تعالى: ﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا﴾ (١) وقال تعالى: ﴿يَابَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ﴾ (٢) .
_________
(١) سورة فاطر آية: ٦.
(٢) سورة الأعراف آية: ٢٧.
1 / 19
واعلموا أنه ما جاء النقص إلا من المنسوبين إلى الفضل، المكبرين في الجماعات فيمن بالمشرق والمغرب من أهل الإسلام؛ لسكوت أهل العلم والفقه والبصر عنهم، وتركهم ما لزمهم من النصيحة، والتعليم، والأدب، والأمر، والنهي، والإنكار، والتغيير، فلم يروا آمرًا ولا ناهيًا، ولا ناصحًا، ولا مؤدبًا، ولا معلمًا، ولا منكرًا ولا مغيّرًا، إلا ما شاء الله، فجرى أهل الجهالة على المسابقة للإمام، وجرى معهم كثير ممن ينسب إلى العلم والفقه والبصر والنظر استخفافًا منهم بالصلاة.
1 / 20