Главы и Названия Сахих аль-Бухари
الأبواب والتراجم لصحيح البخاري
Исследователь
د. ولي الدين بن تقي الدين الندوي
Издатель
دار البشائر الإسلامية للطباعة
Номер издания
الأولى
Год публикации
١٤٣٣ هـ - ٢٠١٢ م
Место издания
بيروت - لبنان
Жанры
كلمة فضيلة الشيخ المحدِّث الأستاذ الدكتور تقي الدين الندوي حفطه الله ورعاه
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين محمد، وآله وأصحابه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان ودعا بدعوتهم إلى يوم الدين، وبعد:
فإن كتاب "الأبواب والتراجم للجامع الصحيح للبخاري"، تأليف شيخنا الإمام الحافظ شيخ الحديث والمحدثين، العلامة محمد زكريا الكاندهلوي المدني (المتوفى سنة ١٤٠٢ هـ بالمدينة المنورة - على صاحبها ألف ألف صلاة وسلام -) هو كتاب جامع للنفائس العلمية، والمباحث اللطيفة، والتحقيقات العجيبة، لبيان أسرار الأبواب والتراجم للجامع الصحيح للإمام البخاري، بيَّن فيه الربط بين الحديث الوارد في الباب والآثار الواردة في الأبواب وبين الترجمة.
ولا شك أن "الجامع الصحيح المسند المختصر من حديث رسول الله ﷺ"، للإمام أبي عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة البخاري، أصح كتاب بعد كتاب الله العزيز، وقام أعيان العلماء والمحدِّثون في كل عصر إلى اليوم بشرحه والتعليق عليه، وشرح تراجمه، وبيان أسراره وفوائده، ولطائفه، حديثًا وفقهًا وعربيةً وبلاغة وما إلى ذلك، ولم تعتن الأمة الإسلامية بعد الاعتناء بكتاب الله العزيز الحكيم مثل الاعتناء بـ "صحيح البخاري"، فبلغوا غاية الجهد في إبراز علومه ومعانيه من خزائنه.
1 / 5
قال سماحة الشيخ العلامة أبي الحسن الندوي في "مقدمة لامع الدراري": "لا نعلم كتابًا من كتاب البشر في المكتبة الإسلامية العالمية، تناوله العلماء والمؤلفون بالشرح والتحشية والتعليق مثل ما تناولوا هذا الكتاب".
وقد ذكر الشيخ عصام الحسيني ما تيسَّر به من الشروح والتعليقات على "صحيح البخاري"، فعدد ما بلغ (٣٧٥) مؤلَّفًا في كتاب له بعنوان "إتحاف القاري بمعرفة جهود العلماء على صحيح البخاري" (^١)، ربما يكون عددها أكثر من هذا، وفي الزوايا خفايا لم تقع عليها عين ولم تطلع عليها شمس.
ولا شك أنَّ لكل تأليف في الصِّحاح الستّة من المزايا والخصائص، ولكن كتاب الإمام البخاري "الجامع الصحيح" لا يلحقه غيره كائنًا من كان من أصحاب الأمهات.
قال العلَّامة ابن خلدون (المتوفى سنة ٨٠٨ هـ) في "مقدمة تاريخه"، (ص ٢٥٤): "قد سمعت كثيرًا من شيوخنا يقولون: (شرح كتاب البخاري دَين على علماء الأمة)، يعنون أن أحدًا من علماء الأمة لم يوف ما يجب له بهذا الاعتبار".
وادَّعى الإمام السخاوي في "الضوء اللامع" أنَّ شيخَنا شيخ الإسلام الحافظ ابن حجر العسقلاني (المتوفى سنة ٨٥٢ هـ) قد قضى هذا الدَّين بتأليف كتاب "فتح الباري".
وأما تراجم "صحيح البخاري" فأودع فيها الإمام البخاري من الأسرار والمعاني ما حُيِّرت به الأفكار وأدهشت العقول والأبصار، وإنما بلغت هذه المرتبة وفازت بهذه الحظوة لسبب عظيم أوجب عظمها أن الإمام البخاري حوَّل تراجم جامعه يعني بيَّضها بين قبر النبي ﷺ ومنبره، وكان يصلي لكل ترجمة ركعتين (^٢).
_________
(^١) طبع الكتاب في سنة ١٤٠٧ هـ في بيروت.
(^٢) انظر: مقدمة "فتح الباري" (ص ١٣).
1 / 6
ولأهمية هذه التراجم في "صحيح البخاري" وصعوبة فهمها، اعتنى شرَّاح البخاري بشرحها في مؤلفاتهم قديمًا وحديثًا، وقام بعض أجلَّة المحدِّثين وفحول العلماء بتأليف مؤلَّفات لبيان مقاصد التراجم (^١)، ولكن لم يكن منها كتاب شامل لجميع الأبواب والتراجم.
وذكر العلَّامة محمد يوسف البنوري في تقديم "لامع الدراري": كان شيخنا - هو العلامة المحدِّث محمد أنور الكشميري - يقول: إن دَيْن التراجم لا يزال باقيًا على رقاب الأمة لم يقضه أحد إلى اليوم، وكنت قديمًا أقول: إن كتاب "شرح الأبواب والتراجم" لشيخ الهند لو تم لقضي هذا الدَّين، ولكنه للأسف لم يتم.
وكانت الحاجة ماسَّة إلى تأليفٍ أكملَ وأشملَ وأجمع، يفي بالهدف المطلوب لأداء دَيْن شرح التراجم الباقي على علماء هذه الأمة.
فالله ﷾ وفَّق شيخنا الإمام المحدِّث محمد زكريا الكاندهلوي لهذا العمل الجليل، فألَّف كتابًا لبيان هذه التراجم وتحقيق مزاياها، وبيان ما وهبه سبحانه من العلوم والأسرار في هذا الصدد.
فقد فصل أصول التراجم في بداية الكتاب، واستفاد ما تبيَّن من كلام الشارحين المبعثر في الكتب من غير مظانِّها، وما وقف عليه من كلام مشايخه أو مشايخ مشايخه في الدروس، أو منَّ الله سبحانه على المؤلف، فشرح صدره لإبداعها، فبلغت أصول هذه التراجم إلى سبعين أصلًا، وقد استقصى هذه الأصول من الكتب المؤلفة في هذا الموضوع قديمًا وحديثًا، ومن شروح البخاري، وضمَّ إليها أصولًا جديدةً ألهمه الله إياها بطول ممارسته لهذا الفن الشريف، ومباشرته لتدريس هذا الكتاب الجليل مصداقًا لقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾ [العنكبوت: ٦٩].
_________
(^١) وقد ذكر شيخنا الشيخ محمد زكريا الكاندهلوي أسماء هذه المؤلَّفات في مقدمة هذا الكتاب.
1 / 7
ثم تصدَّى لشرح أبواب الكتاب وتراجمه بابًا بابًا، وترجمةً ترجمةً، ما ترك بابًا ولا أثرًا إلا تكلَّم عليه، وذكر غرض الباب ومناسبة الأثر بالترجمة، فأصبح هذا الكتاب موسوعة في ما يتصل بالأبواب والتراجم في "الجامع الصحيح".
لذا قال العلامة محمد يوسف البنوري في تقديم "لامع الدراري": إن هذه السعادة الأزلية كانت مقضية بأن يقوم الشيخ محمد زكريا، ويقضي هذا الدَّين، فأرجو أن يكون هذا الدَّيْن قد قُضي بخدمته لشرح "الأبواب والتراجم" إن شاء الله تعالى.
ولما اشتغلت بخدمة حاشية الإمام المحدِّث أحمد علي السهارنفوري مع المقارنة بعشر نسخ خطية، منها نسخة الصَّغاني (المتوفى ٦٥٠ هـ)، أردت أن أُدخل هذه الدُّرر والغُرر من "الأبواب والتراجم" لشيخنا في ثنايا شرح الأبواب، ولكني كنت خائفًا أن يثقل هذا الكتاب، وربما يقع الخلل في حاشية الكتاب، فلهذا قررت أن يُنشر هذا الكتاب مستقلَّا بحاله، وكلَّفت لهذا العمل ولدي العزيز الدكتور ولي الدين الندوي أستاذ الحديث وعلومه المشارك بكلية الدراسات الإسلامية بدبي، فبذل جهدًا كبيرًا في تحقيق وإخراج هذه الموسوعة العلمية الشاملة لشرح أبواب صحيح البخاري وتراجمه، وقام بهذا العمل الجليل تحت إشرافنا بالتعاون مع مركز الشيخ أبي الحسن الندوي للبحوث والدراسات الإسلامية.
وفي الختام، نسأل الله أن يتقبل منه ومن جميع من ساهم في إخراج هذا الكتاب، وأن يجعل هذا الكتاب نبراسًا للباحثين والدارسين.
والله ولي التوفيق
الأستاذ الدكتور تقي الدين الندوي
مدينة العين
٢٥/ ٢/ ١٤٣٢ هـ - ٣٠/ ١/ ٢٠١١ م
1 / 8
مقدمة الكتاب بقلم فضيلة الشيخ محمد الرابع الحسني الندوي رئيس جامعة ندوة العلماء، لكنهو (الهند)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فإن كلام الرسول ﷺ وعمله وتقريره مصدر ثان للشريعة الإسلامية بعد مصدرها الأول وهو كتاب الله العزيز والفرقان الحميد الذي هو وحي من الله متلو، وجاء على أثره الوحي غير المتلو الذي هو حديثُ آخِر رسل الله تعالى وأنبيائه محمد بن عبد الله الأمين، الذي أكمل الله عليه الدين، وأتم عليه نعمته التي ينال بها الإنسان خيري الدنيا والآخرة بالأخذ مما اشتمل عليه هذان المصدران للشريعة الإسلامية - كتاب الله تعالى، وحديث رسوله الكريم ﷺ، ويؤدي بذلك المسؤولية العظمى التي كلف الله تعالى بها الإنسان، وجعل فوزه وفلاحه تابعًا لأدائه الأمانة التي وضعها رب العالمين عِليه بقوله: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾ [الأحزاب: ٧٢].
وقد وعد الله تعالى بحفظ وحيه المتلو - القرآن المجيد - ليعرف الإنسان من كلامه الصراط المستقيم لحياته، وجعل المصدر الثاني - حديث الرسول الكريم ﷺ معاونًا له، وأمر اللهُ تعالى العمل به أيضًا مثل عمله بكتابه العزيز.
1 / 9
ولأهمية هذا المصدر الثاني أيضًا جعل الله تعالى حفظه تابعًا لحفظ المصدر الأول، وهيأ لحفظه أيضًا أسبابًا قوية مع تهيئته أسباب الحفظ للمصدر الأول القرآن الكريم، فقد سخَّر الله تعالى لحفظ هذا المصدر الثاني - الحديث النبوي الشريف - رجالًا من الأمة الإسلامية كرَّسوا حياتهم لخدمة روايات الحديث الشريف تحقيقًا وتنقيحًا ليكون موثوقًا كاملًا، ومصدرًا واسعًا جامعًا لهذا الدين؛ فاهتم العلماء بخدمة حديث الرسول ﷺ منذ وصوله إليهم، فجمعه الرواة الثقات في كتب من الصحاح عديدة، وكذلك قاموا بتنقيح رواياته وتحقيق متونه مهتمين بذلك اهتمامًا لا يوجد له نظير في أي دين أو أمة في التاريخ الإنساني.
وقد بلغ عمل تنقيح الروايات وتحقيق صحتها إلى أعلى مكانة الثقة والكمال في كتاب إمام المحدثين أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري الجعفي (١٩٤ هـ - ٢٥٦ هـ) من بين كتب الحديث الصحاح الموثوق بها الأخرى.
ولا شك أن لكل تأليف في الصحاح الست من المزايا والخصائص ما تستحق كل تقدير، ولكن كتاب الإمام البخاري الجامع الصحيح لا يلحقه في الصحة غيره من أمهات الكتب، فقد حل بذلك هذا الكتاب درجة أصح الكتب بعد كتاب الله تعالى.
والمنهج الذي اختاره الإمام البخاري في كتابه الصحيح امتاز بخصائص تمتاز على ما في كتب الأحاديث الأخرى، ومنها ذكر تراجم الأبواب لما رواه من أحاديث الرسول ﷺ، يشير بها إلى معان مفيدة، ويشرح مفهوم الحديث الشريف مدعمًا بآيات من كتاب الله العزيز، وقد أودع فيها الإمام البخاري من الأسرار والمعاني ما يحير العقول والأفكار، فالدارس لكتابه الصحيح يستفيد من تراجم أبوابه أيضًا كما يستفيد من متون الحديث الشريف وروايته.
1 / 10
وقد اعتنى العلماء بهذه التراجم لقيمتها العلمية، وألفوا كتبًا في شرحها وإيضاحها، فمنها كتاب العلامة الكبير المحدث الجليل سماحة الشيخ محمد زكريا الكاندهلوي ﵀ رحمة واسعة، الرئيس السابق لقسم علوم الحديث الشريف في جامعة مظاهر العلوم بسهارنفور، فإنه ألف كتابًا قيمًا في تراجم الأبواب لصحيح الإمام البخاري، ذكر فيه ما تبين له من خصائصها وفوائدها خلال تدريسه لصحيح الإمام البخاري مدة طويلة، وما اطلع عليه في كتب شروح الحديث ومؤلفات أخرى، فإنه ذكر أصول التراجم هذه في بداية الكتاب، ثم ذكرها بتفصيل، وجمع فيه كلام الشارحين لكتب الحديث المختلفة، وكذلك مما سمعه من مشايخه في الدرس، وما منّ الله به عليه وشرح صدره لفهمها، فشرح فيه أبواب الكتاب وتراجمه بابًا بابًا وترجمة ترجمة، وذكر فيه غرض الباب ومناسبة الأثر بالترجمة، وذكر أصول التراجم، وبَلغ عددها نحو سبعين أصلًا، فجاء كتابه كموسوعة في هذا الصدد.
واقتفى أثر سماحة الشيخ محمد زكريا الكاندهلوي في تحقيق الحديث تلميذه البار الباحث لعلم الحديث الدكتور تقي الدين الندوي، فصدرت بتحقيقه كتب عديدة في الحديث الشريف، وأراد إصدار أفضل نسخة لكتاب الإمام البخاري، فاعتنى بحاشية العلامة المحدث أحمد علي السهارنفوري، ولا يزال الدكتور الشيخ مشتغلًا في عمله على هذه النسخة الجليلة (^١)، وكان يريد أن يقوم أيضًا بعمل التحقيق والتعليق على كتاب العلامة المحدث الشيخ محمد زكريا الكاندهلوي في بحث الأبواب والتراجم لصحيح البخاري، فلم يجد في وقته فسحة لهذا العمل، فأسند العمل إلى نجله الدكتور ولي الدين الندوي أستاذ الحديث الشريف وعلومه بكلية الدراسات الإسلامية بدبي، وهو باحث محقق أيضًا، أدى أعمالًا علمية مختلفة،
_________
(^١) بحمد الله قد طبع الكتاب في خمسة عشر مجلدًا من دار البشائر الإسلامية - بيروت.
1 / 11
وصدرت كتب عديدة بتحقيقه، فقد تربى على والده المحدث الجليل فضيلة الدكتور الشيخ تقي الدين الندوي، فقام الدكتور ولي الدين بالتعليقات والتحقيقات المفيدة على هذا الكتاب تحت إشرافه، فجاء هذا الكتاب بتحقيق وتعليق مفيدين، فسيكون الانتفاع به انتفاعًا واسعًا.
أرجو أن يكون عمله هذا مساعدًا كبيرًا للاستفادة من كتاب سماحة الشيخ محمد زكريا الكاندهلوي في تراجم أبواب الصحيح للإمام البخاري، تقبل الله تعالى عمله هذا وجزاه خير الجزاء.
٢٠/ ٨/ ١٤٣٢ هـ - ٢٣/ ٧/ ٢٠١١ م
محمد الرابع الحسني الندوي
رئيس جامعة ندوة العلماء، لكهنؤ الهند
1 / 12
تقديم فضيلة الأستاذ الشيخ سعيد الأعظمي الندوي
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
ظلَّ الجامع الصحيح للبخاري موضع اعتناء واهتمام كبيرين منذ القرن الثالث الهجري من خلال البحث والتحقيق في مجال السُّنَّة ومكانتها، فقد توفي الإمام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم الجعفي في عام ٢٥٦ هـ، وكان قد وفِّق من الله تعالى إلى جمع الأحاديث الصحيحة في كتاب واحد، سمَّاه: "الجامع الصحيح" للبخاري ولا يخفى على علماء الحديث ومؤرِّخيه مكانة الإمام البخاري في تنقية الأسانيد والتحديث بما كان يتصل إلى النبي ﷺ، وتحقيق ما صدر من الرواة الأمناء والرجال الموفقين من الله تعالى لهذا العمل العظيم.
كان الإمام البخاري مُلْهَمًا من الله تعالى لإنجاز هذا المشروع الحديثي الجليل، وذلك هو السبب فيما وضعه الله تعالى له من القبول العام، وأحلَّه مكان الصدارة بين دواوين الأحاديث الصحيحة، والجوامع والسنن والمسانيد، قد اجتمع حوله جماعة كبيرة من التلاميذ الذين قرأوا عليه هذا الجامع الصحيح، وروَوه إلى الآخرين.
وكان من بين من قرأ عليه: المحدِّث الثقة أبو عبد الله محمد بن يوسف بن مطر بن صالح بن بشر الفِرَبري (ت ٣٢٠ هـ)، وقد سمع منه بطريق مباشر مرتين، مرة في مدينة فربر سنة ٢٤٨ هـ، ومرة ببخارى سنة ٢٥٢ هـ، وهو من أشهر رواة الجامع الصحيح، ومنه استفاد عدد كثير من المحدثين.
ونحن الآن في بيان "الأبواب والتراجم" التي وضعها الإمام البخاري لاستنباط المسائل والأفكار الحديثية، التي توجد عليها دلالة من أي جهة
1 / 13
وطريق، ولذلك نرى أنه يعقد الأبواب والتراجم بحسب ما يظهر له في الحديث من النواحي الفكرية والقضايا العلمية، ويذكر حديثًا واحدًا تحت تراجم وأبواب عديدة، وفق ما بدا له في حديث واحد من الدلالات المنوّعة والمعاني اللطيفة، لذلك نراه أنه يذكر حديثًا واحدًا في مواضع متعددة من الجامع الصحيح، وتحت أبواب وتراجم مختلفة.
وما هذا إلا على سبيل الذكر فحسب، فإن علماء الهند وغيرهم ممن كان لهم شغف كبير بدراسة وتدريس الجامع الصحيح للبخاري ألَّفوا شروحًا للجامع الصحيح مع الإشارة إلى أسرار الأبواب والتراجم للبخاري، ضمن الأبواب والتراجم.
هذا، والموضوع يتطلب التعمق في معاني الحديث ومفاهيم السُّنَّة النبوية، ويفرض على كل شخص يريد أن يبدي آراءه حول الأبواب والتراجم للبخاري، أن يكون على جانب كبير من التذوق والمناسبة الكاملة لدراسة وتدريس علوم النبوة وشرح مفاهيم السُّنَّة السَّنِيَّة.
وقد كان شيخنا الجليل علَّامة الهند المحدث الشهير، حضرة شيخنا محمد زكريا بن محمد يحيى الكاندهلوي - صاحب "أوجز المسالك إلى موطأ الإمام مالك"، ومؤلفات كثيرة أخرى، مما يتصل بموضوع الحديث، والتحقيق والتعليق لكتب الحديث ودواوينه - أكرمه الله تعالى بالتوفيق الكامل لدراسة وتدريس "الجامع الصحيح" للبخاري إلى حد أنه تفانى في خدمة أحاديث النبي ﷺ دراسة وتدريسًا وتعليقًا وشرحًا، وبيانًا، فكان ممن يُشد إليه الرحال لقراءة الحديث الشريف عليه، والحصول على الإجازة منه في رواية الحديث.
ثم لما سافر إلى المدينة المنوَّرة للاستنشاق من رياحها وعطرها الذي يملؤ الأجواء؛ جاء إليه العلماء وتلاميذ الأحاديث النبوية الشريفة لكي يتمتعوا برؤية محيَّاه والاستغراف من بحر العلم الذي يموج في جوانبه، ومن حبِّ النبي ﷺ الذي يشغل قلبه، ومن المعرفة والإحسان - «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك» - الذي يمثله بظاهره
1 / 14
وباطنه، وكلما رأيته أنا شخصيًّا ذكرت ما جاء في صفة النبي ﷺ: "من رآه بديهة هابه، ومن خالطه معرفة أحبَّه"، ولقد ألهم الله في قلبه أثناء إقامته في مدينة الرسول ﷺ تكميل "كتاب حجة الوداع وعمرات النبي ﷺ"، كما خطر بباله أن يعيد النظر على ما كان ألقاه على تلاميذه أيام تدريس الجامع الصحيح للبخاري حول تراجمه، فأتمَّ الله ﷾ بمجرد فضله ونعمته هذين الكتابين، وطُبعا في تلكم الأيام، وقد كان من حسن حظي أن الله ﷾ أسعدني وشرفني بطبع هذين الكتابين في مطابع ندوة العلماء بحروف حديدية واضحة جميلة.
إن كتاب "الأبواب والتراجم للبخاري" تم طبعه في عام ١٣٩١ هـ، الموافق ١٩٧١ م، ونال إعجاب العلماء والمحدثين في الهند وخارجها، ذاك أنه يحتوي على الأبواب والتراجم التي عقدها الإمام البخاري في الجامع الصحيح لغايات مهمة قد لا يتفطن إليها القارئ ما لم يتعمق في دراستها، وفي الإتيان بحديث واحد تحت أبواب وتراجم متعددة.
ولبيان أهمية الموضوع يسعدني أن أقتطف عبارة لشيخنا العلامة المحدث الكبير، والمربِّي الجليل، الإمام محمد زكريا بن يحيى الكاندهلوي من خلال ما كتب في هذا الكتاب في بيان التراجم فقال:
"إن موضوع التراجم من أهم مقاصد الإمام البخاري في صحيحه، حتى أجمع العلماء كلهم سلفًا وخلفًا أن معظم مقصود البخاري في صحيحه مع الاهتمام بصحة الأحاديث: استخراج المعاني الكثيرة من المتون؛ ولذا كرر الأحاديث في كتابه في الأبواب المختلفة، وذكر بعضًا من الأحاديث أكثر من عشرين مرة؛ كحديث عائشة في قصة بريرة وغير ذلك، وفي الكثرة على العشرة كثيرة، ولذا اشتهر قول جمع من العلماء: فقه البخاري في تراجمه.
وسيأتي في الفائدة الثانية عن الكرماني أن هذا قسم عجز عنه الفحول البوازل من الأعصار، والعلماء الأفاضل من الأمصار، فتركوها بأعذار، ولذلك اهتم جمع من السلف والخلف ببيان تراجمه وأفردوا لها التصانيف واجتهدوا في بيان المناسبات وإبداء الاحتمالات الكثيرة في التراجم.
1 / 15
وأخيرًا بدا لصديقنا الكريم العلَّامة المحدث، التلميذ المحبب للمحدِّث الإمام الشيخ محمد زكريا الكاندهلوي ﵀ الأستاذ الدكتور تقي الدين الندوي، أن يجدد طبع هذا الكتاب تحقيقًا وتخريجًا وتعليقًا، فأسند هذا العمل المهم إلى نجله العزيز فضيلة الأستاذ الدكتور ولي الدين الندوي أستاذ الحديث الشريف وعلومه المشارك بكلية الدراسات الإسلامية والعربية بدبي، فقام بذلك خير قيام، وتحدث في مقدمة الكتاب عن المؤلفات التي أفردت بتراجم وأبواب صحيح البخاري وهي تتجاوز ثلاثة عشر مؤلفًا، ومن أهمها كتاب شيخ المشايخ العلامة المحدث محمد زكريا الكاندهلوي المهاجر المدني، وذكر التميزات التي يتميز بها هذا المؤلَّف الجليل، وسيقرؤها القارئ الكريم في مقدمة المحقق.
والكتاب يتحلى بمقدمة ضافية لسماحة أستاذنا وشيخنا العلَّامة الإمام السيد الشيخ أبي الحسن علي الحسني الندوي يرحمه الله (رئيس ندوة العلماء سابقًا)، كتبها للطبعة الثانية لهذا الكتاب الجليل، كما قد وفق صديقنا الجليل العلامة المحدث تقي الدين الندوي لتقديم هذا الكتاب، وكتابة مقدمة نافعة، تكون نبراسًا للمشتغلين بالحديث، أساتذة وطلابًا.
وإنني إذ أهنئه ونجله الكريم على هذه المنزلة العالية الموهوبة من الله تعالى في مجال السُّنَّة الشريفة وعلوم الحديث، أتمنى على الله تعالى أن يوسع نطاق الإفادة والاستفادة والتعليم والدراسة عن طريق هذه المجهودات العلمية الحديثية التي أكرمهما الله تعالى بمجرد فضله وأتم عليهما نعمته، فقد قال الله تعالى: ﴿يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [البقرة: ٢٦٩].
كتبه العبد العاجز الضعيف
المفتقر إلى فضل الله تعالى
سعيد الأعظمي الندوي
مدير دار العلوم ندوة العلماء لكهنؤ
رئيس تحرير مجلة "البعث الإسلامي"
١٥/ ٤/ ١٤٣٢ هـ - ٢٠/ ٣/ ٢٠١١ م
1 / 16
مُقدّمةُ المُحَقِّق
إنَّ الحمدَ لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يُضلله فلا هادي له، وأشهد أن لا إله الله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
أما بعد:
فإن كتاب "الجامح الصحيح" لأمير المؤمنين أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري ﵀، يُعد أصحَّ الكتب بعد كتاب الله ﷿، لذا عني العلماء والمحدِّثون به عناية كبيرةً، وظهرت حوله دراسات كثيرة في مختلف الجوانب، ولا تزال هذه الدراسات قائمة وجارية، وقد ذكرت في بحثي المنشور في حولية كلية أصول الدين بالأزهر الشريف أن الكتب التي أُفردت بالتأليف حول تراجم وأبواب صحيح البخاري هي أكثر من ثلاثة عشر كتابًا، ومن أهم هذه الكتب كتاب شيخ مشايخنا، المحدث محمد زكريا الكاندهلوي المدني رحمه الله تعالى، الذي يتميز بعدة أمور من أهمها:
أولًا: إن المحدث الكاندهلوي جمع في كتابه هذا ما كتبه الأئمة، منهم: الحافظ ابن حجر في "فتح الباري"، والعيني في "عمدة القاري" والقسطلاني في "إرشاد الساري"، والإمام الشاه ولي الله الدهلوي في كتابه "شرح تراجم البخاري"، والشيخ محمود حسن الملقب بـ "شيخ الهند" في كتابه "الأبواب والتراجم"، وعمله هذا ليس مجرد نقل وتلخيص، وإنما تظهر شخصيته فيما يذكره من آراء العلماء، وما يناقشه مع ترجيح ما يراه صوابًا أو قريبًا منه.
1 / 17
ثانيًا: ألمَّ المحدِّث الكاندهلوي بجميع الأبواب والتراجم، لذا أصبح هذا العمل سِفرًا عظيمًا.
ثالثًا: يميطُ المحدِّث الكاندهلوي اللثام عن المسائل العويصة التي يتحير فيها كثير من المحدِّثين وشرَّاح الحديث، ويحيلون ذلك على خطأ النساخ، فبيّن فقهَ البخاري وحكمته في وضع هذه التراجم والأبواب كما صنع في "باب صلاة الليل".
نتيجة لهذه الأهمية الكبيرة، توجَّه والدي الجليل المحدِّث الأستاذ الدكتور تقي الدين الندوي حفظه الله لتحقيق هذا الكتاب، لكن حال دون عمله هذا تحقيق كتاب صحيح البخاري بحاشية المحدث السهارنفوري، فكلَّفني أن أقوم بخدمة هذا الكتاب، وساعدني على ذلك بعض الإخوان الذين يعملون في مركز الشيخ أبي الحسن الندوي للبحوث والدراسات الإسلامية بالهند، فجزاهم الله الخير في الدارين.
فعزمت وتوكلت على الله ربي، حامدًا ومصليًا، فهو حسبي ونعم الوكيل.
عملي في هذا الكتاب
١ - كتبت ترجمةً وافيةً للمحدِّث الدهلوي، وذكرت تعريفًا موجزًا لمؤلفاته في علم الحديث.
٢ - عزوتُ نصوصَ الكتاب لمصادرها بقدر الإمكان.
٣ - علَّقت على مواضعَ في الكتاب لمزيد من الفائدة.
٤ - خرَّجت الأحاديث التي تحتاج إلى التخريج.
٥ - صحَّحت الأخطاء المطبعية.
٦ - رتّبت الكتب والأبواب ورقّمتها على ترتيب وترقيم محمد فؤاد عبد الباقي.
كتبه
د. وليّ الدّين بن تقي الدّين النّدوي
يوم الجمعة - مدينة العين
١٨/ ٢/ ٢٠١١ م
1 / 18
الإمام المحدِّث
محمّد زكريا الكاندهلوي
وآثاره في علم الحديث الشريف
بقلم
د. وليّ الدّين النّدوي
1 / 19
مقدمة
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فهذه دراسة عن الإمام المحدث محمد زكريا الكاندهلوي، وعن مؤلفاته وآثاره في علم الحديث الشريف، ولا شك أن الهند أصبحت في العصور الأخيرة مركزًا كبيرًا للحديث الشريف، وعُرف علماء الهند بشغفهم بالعلوم الدينية، وانتهت إليهم رئاسة التدريس والتأليف في فنون الحديث وشرح متونه، حتى قال العلامة محمد رشيد رضا في تقديمه لكتاب "مفتاح كنوز السُّنَّة": "لولا عناية إخواننا علماء الهند بعلوم الحديث في هذا العصر لقضي عليها بالزوال في أمصار الشرق، وقد ضعفت في مصر والشام منذ القرن العاشر الهجري".
ولا شك أن الإمام المحدث محمد زكريا الكاندهلوي يُعد من أعلام المحدثين في الهند، وله إسهام كبير في خدمة السُّنَّة، فلذلك أردت أن أقدم دراسة عن حياته ومؤلفاته.
وقسَّمت هذه الدراسة إلى تمهيد وثلاثة مباحث:
تمهيد في عصره:
أ - الحالة السياسية.
ب - الحالة العلمية.
المبحث الأول: نشأته وحياته.
1 / 21
تتبعت فيه مراحل حياته؛ فذكرت اسمه ونسبه ولقبه ونشأته العلمية ووفاته والثناء عليه.
والمبحث الثاني: شيوخه وتلاميذه ومؤلفاته.
ذكرت فيه شيوخه الذين تلقى عنهم العلم أو حصل منهم على إجازات، ثم تلاميذه، ثم ذكرت مؤلفاته في علوم وفنون شتى مع بيان المخطوط منها والمطبوع.
المبحث الثالث: آثاره في علم الحديث الشريف.
ذكرت فيه مؤلفات هذا الإمام مع التعريف بكل منها.
وإني لأرجو الله ﷿ أن يحقق الغاية من البحث وينفع به، إنه خير مسؤول.
* * *
1 / 22
تمهيد في عصر الإمام الشيخ محمد زكريا الكاندهلوي
أ - الحالة السياسية:
عاش الإمام الشيخ محمد زكريا الكاندهلوي في الحقبة التي تعد من أخطر العصور في تاريخ الهند السياسي، حيث عاصر استقلال الهند من الاحتلال الإنجليزي الغاشم وتقسيم الهند إلى دولتين: الهند وباكستان.
ولقد اشترك المسلمون والهندوس في تحرير البلاد من سيطرة الاستعمار، وأقاموا لذلك ثورة عام ١٨٥٧ م لكنها باءت بالإخفاق. ثم لما قام المؤتمر الوطني عام ١٨٨٤ م شاركوا فيه، وشاركوا في حركة عدم التعاون، أو العصيان المدني عام ١٩٢١ م، التي نادى بها غاندي مع جميع الطوائف من شعب الهند، ورأت البلاد عهدًا من الألفة والمحبة والتعاون، لم يمر مثله في تاريخها (^١).
هنا اختار الإنجليز طريقة "فرِّق تسد"، وبثوا سموم التفرقة بين الهندوس والمسلمين وسلّطوا هذا السلاح الرهيب على الشعب حتى لا تعود البلاد إلى وحدتها (^٢).
يقول الشيخ أبو الحسن الندوي: أقنع الحاكم العام الإنجليزي ورجال الحكومة أحد الزعماء الوطنيين الهنادك بضرورة الدعوة إلى الديانة
_________
(^١) انظر: "كفاح المسلمين في تحرير الهند" (ص ١٣٩).
(^٢) انظر: المصدر السابق.
1 / 23
الهندوكية، وإرجاع من دخل من أهل البلاد في الدين الإسلامي إلى ديانتهم القديمة، وتنظيم الشعب الهندوكي على أساس ديني قومي حزبي، ومن هنا ظهرت الدعوة والتبشير بالديانة البرهمية والآرية، وانتشر دعاتهم في الهند، وظهرت إزاء ذلك حركة الدعوة إلى الإسلام وتنظيم المسلمين على أساس مستقل، وبدأت المناظرات الدينية والخطب العاطفية والحماسية، وانفجرت الاضطرابات الطائفية في شبه القارة الهندية، واستمرت الاضطرابات، وعنفت حتى كان في سنة ١٩٢٧ م في بضعة شهور فقط خمسة وعشرون اضطرابًا (^١).
وهنا بدأ المسلمون يبتعدون شيئًا فشيئًا عن المؤتمر باعتباره مؤسسة هندوسية، وإن كان فيها بعض عناصر من المسلمين، إلا أنها لم تستطع إيقاف الدافع العدواني على المسلمين من الهندوس (^٢).
وأما علماء الهند المسلمون فلم يكونوا بمعزل عن الاستقلال، بل شاركوا حركة التحرير مشاركة قيادية فعالة، فمن العلماء البارزين الذين شاركوا في التحرير العلامة محمود حسن الملقب بـ "شيخ الهند"، والعلامة حسين أحمد المدني، والشيخ عزيز كل - وقد أسرتهم الحكومة الإنجليزية ونفتهم وزملاءهم وتلاميذهم إلى جزيرة مالطا -، ومولانا عبد الباري الفرنجي محلي، ومولانا محمد علي، ومولانا شوكت علي، ومولانا أبو الكلام آزاد وغيرهم (^٣).
لكن لما حان وقت الاستقلال اختلف المسلمون والهندوس في التقاسم على السلطة، وأدى هذا الاختلاف إلى اضطرابات طائفية شديدة بين المسلمين والهندوس، ووقعت المذابح التي راحت ضحيتها الآلاف
_________
(^١) "المسلمون في الهند" (ص ١٦٤).
(^٢) "كفاح المسلمون في تحرير الهند" (ص ١٥١).
(^٣) انظر: "المسلمون في الهند" (ص ١٦٢)، وانظر: "مسيرة الحياة" لأبي الحسن الندوي (١/ ١٦٩).
1 / 24
من الطرفين، ولم يعد هناك مفر من التسليم بالأمر الواقع، والخضوع لفكرة التقسيم، التي أصبحت عقيدة المسلمين وحياتهم (^١).
واختلف العلماء والناس في قضية التقسيم، فبعضهم كان لا يرى تقسيم الهند مفيدًا وضروريًّا؛ بل سيكون أضرارًا وأخطارًا كبيرة على الدعوة الإسلامية، وسيُفقد المسلمين نفوذهم السياسي وتأثيرهم الديني في الهند.
ورأى البعض الآخر أن التقسيم لا بد منه؛ لأن السلطة ستكون للمسلمين فقط لا يشاركهم فيها غيرهم، ويعيش المسلمون فيه حياة العز والكرامة.
فمن العلماء الذين أيدوا فكرة التقسيم وبذلوا جهودًا كثيرة في تأسيس دولة إسلامية: شيخ الإسلام مولانا ظفر أحمد التهانوي، ومولانا شبير أحمد العثماني، والمفتي محمد حسن الأمر تسري وغيرهم (^٢).
فبدأ الناس يهاجرون من الهند إلى باكستان، ووقعت حينئذٍ الاضطرابات الطائفية الدموية التي تقشعر الجلود من سماع أحوالها في دلهي، وبنجاب الشرقية والمدن الأخرى.
واجتمع الشيخ المجاهد حسين أحمد المدني، والشيخ الرباني عبد القادر الرائي فوري، والشيخ محمد زكريا الكاندهلوي، وقرروا عدم الهجرة إلى باكستان وعزموا على البقاء في الهند والموت فيها، وكانوا يحثون الناس على الثبات والبقاء في الهند مهما كلّفهم ذلك من ثمن، وكانوا يحرِّضونهم على تحمل الشدائد والمكاره، والإيمان بالله، فقرر كثير من الذين آثروا الهجرة أن يتخلوا عن نيتها (^٣)، وأبدى هؤلاء العلماء ثباتًا لا نظير له، مع الهمة العالية والثقة الكاملة بوعد الله ﷾.
_________
(^١) انظر: "باكستان في ماضيها وحاضرها" (ص ٥١).
(^٢) انظر: "آب بيتي" (في الأردية) (٥/ ٢٦).
(^٣) انظر: "آب بيتي" (في الأردية) (٥/ ٢٩).
1 / 25