السيرة النبوية - راغب السرجاني
السيرة النبوية - راغب السرجاني
Жанры
الحكمة من الدعوة السرية
لا شك أن الرسول ﷺ كان يريد أن يصل بدعوته لكل إنسان في مكة، بل لكل إنسان على ظهر الأرض، وربما تصور المرء أن أسهل وسيلة لهذا أن يقف وسط الكعبة من أول يوم أُمر فيه بالبلاغ ويعلن للناس أمر الإسلام، لكن هذا لم يحدث، فماذا فعله ﷺ؟ كان ﷺ ينتقي رجلًا من رجال قريش، ثم يخبره سرًا عن الإسلام، وكان يعلم أصحابه أن يفعلوا هذا، وقد ظلت الدعوة السرية فترة طويلة جدًا بالقياس إلى عمر الدعوة الإسلامية، فالدعوة السرية امتدت حوالي ثلاث سنوات، والدعوة كلها (٢٣) سنة.
قد يتصور البعض أن الرسول ﷺ عندما وقف على جبل الصفا وقال للناس: (أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلًا بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدّقي؟)، يظن أن هذه المقولة كانت في بادئ الدعوة، لا.
بل كانت بعد ثلاث سنين كاملة من نزول الوحي.
وهي فترة كبيرة جدًا أيضًا في حق مجتمع صغير كمكة، لكن لماذا هذا الوضع؟ ولماذا هذا التخفي؟ قد يتحمس المرء ويقول: دعوة الإسلام دعوة جميلة ومقنعة وعقلية، ولو وقف الرسول ﷺ في وسط مكة وأعلن عنها لسوف يسلم أكبر عدد من الناس في أقل وقت ممكن، لكن هذا لم يحصل ولم يفعله الرسول ﷺ؛ لأنه يعرف أن دعوة الإسلام وإن كانت جميلة ومقنعة، إلا أنها ستتعرض إلى معارضة وحرب، ليس فقط من قريش، بل من العالم كله.
ثم لو أتى سائل يسأل: هل الرسول ﷺ كان خائفًا على نفسه من قريش؟ سأقول له: لا شك أن الرسول ﷺ يعلم أن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، لكن كانت هذه هي الحكمة، كل خطوة في حياته ﷺ كانت محسوبة، تستطيع أن تقول: إن السرية في الدعوة في هذه المرحلة لم تكن اختيارًا نبويًا، ولكنها كانت أمرًا إلهيًا، فالله ﷾ يريد أن يعلم الرسول ﷺ، ويريد أن يعلمنا منهج التغيير في مثل هذه الظروف، كيف يمكن للأجيال التي ستأتي بعده أن تغير في غياب الرسول ﷺ؟ إذا توافقت الظروف مع ظروف رسول الله ﷺ في هذه المرحلة كيف يتصرف؟ والله ﷾ قادر أن يحمي الرسول ﷺ فلا يصل إليه أي أذى من قريش، ومع ذلك هو يريد أن يرسم الطريق الصحيح للمسلمين لإقامة هذا الدين، مهما اختلفت الظروف، ومهما كثرت المعوقات؛ ولهذا ربنا ﷾ وضع الرسول ﷺ في كل الظروف التي من الممكن أن تمر بها أمته بعد ذلك، وعلّم الرسول ﷺ كيف يتعامل مع كل حدث؟ كيف يصل بدعوته إلى الناس في وجود أي معوق؟
5 / 3