Революция современной поэзии от Бодлера до наших дней (Часть первая): Исследование
ثورة الشعر الحديث من بودلير إلى العصر الحاضر (الجزء الأول) : الدراسة
Жанры
والعنف في حياته يتفق تمام الاتفاق مع أدبه. إن إنتاجه قليل، ولكن لعل الكلمة الوحيدة التي تصدق عليه أنه أشبه بالانفجار. لقد بدأ بالقصائد التقليدية، وانتقل منها إلى الشعر الحر، ثم انتهى إلى قصيدة النثر الموقعة غير المتساوقة مثل قصائده الطويلة «الإشراقات» (1872-1873م) و«فصل في الجحيم» (1873م)، وفي هذه الأشكال المختلفة التي مر بها - ومهد لها السابقون عليه - تسري عاصفة من الشعر النابض المفعم بالحركة، الذي يستغل الموضوعات والأشياء على هواه ليؤكد حريته قبل كل شيء. ونستطيع في الصفحات القادمة أن نهمل التقسيم المألوف لهذا الإنتاج إلى شعر ونثر، لنعتمد على تقسيم آخر لعله أقرب إلى روح هذا الإنتاج وحقيقته: وهو النظر إليه في المرحلة الأولى التي تنتهي في حوالي منتصف سنة 1871م وهي مرحلة الشعر المفهوم، ثم المرحلة الثانية التي يتصف شعره فيها بالغموض والإغراب.
نستطيع أن نقول بوجه عام إن أدب رامبو يحقق الأفكار النظرية التي خطط لها بودلير في ترجماته وكتاباته النقدية. ومع ذلك فهو يقدم صورة مختلفة كل الاختلاف. إن ألوان التوتر الحاد التي عرضنا لها عند الكلام على «زهور الشر» وقلنا إنها بقيت بغير حل على الرغم من إحكامها وترتيبها قد بلغت أشدها عند رامبو وأصبحت ألوانا من النشاز المطلق. فالموضوعات التي يطرقها شعره لا تكاد تتصل ببعضها إلا على نحو قد يحدس به القارئ ولكنه لا يستطيع أن يقطع فيه بالرأي اليقين، وهي في معظم الأحيان تختلط ببعضها البعض أشد الاختلاط وتمتلئ بالثغرات والفجوات. إن حقيقة هذا الشعر لا تكمن في موضوعاته، بل في غليان انفعالاته، وهو منذ سنة 1871م لا يقدم للقارئ أفكارا أو معاني مفهومة، بل مجرد شذرات، وخطوط متكسرة، وصور حسية حادة، ولكنها في نهاية الأمر صور غير واقعية. ثمة اختلاط شامل يسري في نغم هذا الشعر الذي تتألف من ألحانه المتناغمة أو المتنافرة وحدة تتجاوز المعنى والمفهوم. إن الشاعرية أو الفعل الشعري يتحول عن المضمون والعبارة إلى نوع من الرؤية الديكتاتورية المتسلطة التي تستلزم بدورها تكنيكا غير عادي في التعبير. وليس من الضروري أن يترتب على هذا التكنيك تحطيم بناء العبارة ونظامها المألوف. فالغريب أن رامبو (على عكس مالارميه) يلجأ نادرا إلى هذا، على الرغم من طبعه الانفعال المتفجر. إنه يكتفي بإفراغ مضموناته المضطربة المشوشة في جمل قد تصل في بساطتها إلى حد بدائي. (2) ضياع وضلال
لا غرابة إذن في أن يحير هذا الشعر ويربك. إن رسالة رامبو - كما قال الكاتب الناقد جاك ريفيير في سنة 1920م - هي أن يحيرنا ويضلنا. وأجمل ما في هذه العبارة هو اعتراف صاحبها برسالة رامبو. وليس ريفيير هو الوحيد الذي قال هذا. إن شاعرا كبيرا آخر - هو بول كلوديل - يقول في رسالة وجهها إليه بعد قراءاته لقصائد رامبو «الإشراقات»: «أخيرا استطعت أن أخرج بنفسي من العالم المنفر، عالم «تين» و«رينان»، من هذه الآلية البشعة التي تسيرها قوانين صارمة وهي مع ذلك قوانين يمكن معرفتها وتعليمها. لقد كانت هذه القراءة إلهاما كشف لي عن وجود يسمو فوق الطبيعة.» وكلوديل يهاجم هنا النزعة الوضعية العلمية التي قامت على الاعتقاد بأن في الإمكان معرفة العالم والإنسان معرفة كاملة، فأدت من حيث تدري أو لا تدري إلى خنق الطاقات الفنية والنفسية التواقة للبحث عن الأسرار. ولذلك فليس عجيبا أن يكون الشعر الغامض الذي ينطلق بقارئه من عالم جرده العلم من الألغاز والأسرار إلى عالم المخيلة الذي يموج بهذه الألغاز والأسرار بمثابة رسالة تعين المتلقي على التحليق في سمائه، ولعل هذا هو سر تأثير رامبو على الشعراء الذين جاءوا بعده. إن عالمه غير الواقعي المضطرب يحمل لهم الخلاص من الواقع الضيق. صحيح أنه لا ينتهي بهم إلى حقيقة عالية تسمو فوق هذا الواقع بل إلى مثالية فارغة أشد تطرفا من تلك التي وجدناها عند بودلير وأكثر عدمية. ولكنه كان ولا يزال نوعا من التحرر والخلاص على كل حال، مهما كان من ضباب الألغاز والأسرار التي أغرقها فيها.
ويزداد إحساس القارئ لرامبو بالضياع والضلال كلما تبين له أنه ينطلق من لغة لا تستطيع أن تجرحه وتصدمه وتروعه فحسب، بل تملك كذلك القدرة على أن تشجيه بالنغم العذب الساحر. ولقد يبدو له في بعض الأحيان وكأن الشاعر يهيم في ملكوت سماوي رائع، أو كأنه ينحدر من عالم آخر، تحيط به هالة من النور والفرح والصفاء ... يقول عنه «جيد» إنه غابة شوك متوهجة ، ومالارميه يصفه بأنه ملاك يعيش في المنفى. وتختلط أحكام الكتاب والنقاد على إنتاجه الزاخر بالعناصر الشاذة المتنافرة.
ويغالي البعض فيصفه بأنه أعظم الشعراء، ويحط البعض الآخر منه فيجعل منه مراهقا شاذا نسجت حول حياته وشعره الأساطير. ولا شك أن الدراسة المنصفة تستطيع أن تتجنب هذا التطرف من كلا الجانبين، ولكنها لا تملك أن تقف موقف الحياد من المبالغات التي وقع فيها الفريقان، ولا بد أن تفسرها بأنها نتيجة ضرورية للتأثير القوى الذي انبعث من شعر رامبو. ومهما يكن حكمنا عليه فلن نستطيع أن نتجاهل ظاهرة رامبو الذي أضاء واختفى كالشهاب القصير العمر، ولم يزل نوره يضيء سماء الشعر. (3) رؤية في رسالتين (شذوذ مقصود، موسيقى نشاز، فراغ)
كتب رامبو في سنة 1871م رسالتين دون فيهما برنامجه عن شعر المستقبل. وتدور الرسالتان حول الفكرة القديمة المعروفة التي تعتبر الشاعر شخصا ملهما يتنبأ بالمستقبل ويتحدث عنه بلسان الساحر والعراف والحكيم. ولذلك جاءت تسمية هاتين الرسالتين باسم «الرائي أو البصير
Lettre du voyant » (ص251 وما بعدها)، واتفق النقاد على أنهما تعبران عن بداية المرحلة الثانية في إنتاج رامبو التي تعتبر قصائده النثرية أو اعترافاته الرائعة «فصل في الجحيم» خاتمة لها. والرسالتان تؤكدان ما قلناه من أن الشعر الحديث يسير يدا في يد مع التأمل في طبيعة هذا الشعر.
والدعوة التي تحملها الرسالتان تتلخص في أن الشاعر ينبغي أن يجعل من نفسه رائيا أو بصيرا، ولكن كيف يصبح الشاعر كذلك؟ كيف يتسنى له أن يستحضر الرؤى؟ يجيب رامبو إجابته المشهورة: بإحداث بلبلة متصلة حادة في حواسه، بالانغماس «الديونيزي» المقصود في كل تجربة حسية ووجدانية ممكنة. وما غايته من بلبلة الحواس وتعمد تشويهها؟ الغاية هي معرفة الحقيقة الجوهرية الكامنة وراء الظواهر الخارجية والتعبير عنها. إن الرائي يستنفد كل سم وكل شراب لكي يحافظ على الجوهر واللباب، إنه يصبح بين الناس المريض الأكبر والمجرم الأكبر والملعون الأكبر، والعارف والرائي الأعظم! ذلك لأنه يصل إلى المجهول! وعندما يصيبه مس الجنون ويبوء بالعجز عن فهم رؤاه تكون هذه الرؤى قد أصبحت ملكة لديه؛ هو إذن بروميثوس جديد سرق النار الخالدة حقا لا خيالا، أو مسيح جديد منتظر يتوقف على ظهوره مستقبل الحياة ومستقبل الإنسانية.
لعل هاتين الرسالتين أن تكونا تنويعات على فكرة بودلير عن التماثل الشامل التي سبق الكلام عنها. بل إن رامبو يرى أن بودلير نفسه هو «الرائي الأول، ملك الشعراء إله حقيقي». وطبيعي أن مثل هذا الهدف الطموح لا يقاس إلا بالشعر الذي ألهمه وقد كانت «السفينة السكرى» - التي ستجد نصها فيما بعد - هي أعظم إلهام تمخض عنه خطاب الرؤية.
وليس جديدا على الشاعر أن يطمح إلى منزلة الرائي والبصير والعراف. فالفكرة كما قلت فكرة قديمة انحدرت إلينا عن الإغريق.
Неизвестная страница