Революция современной поэзии от Бодлера до наших дней (Часть первая): Исследование
ثورة الشعر الحديث من بودلير إلى العصر الحاضر (الجزء الأول) : الدراسة
Жанры
ومع ذلك فينبغي علينا أن نحذر من الخطأ الذي يمكن أن نقع فيه لو تصورنا هذا العدم من الناحية الأخلاقية أو فهمناه كما فهمه نيتشه على أنه «فقدان كل القيم لقيمتها». إن فكرة العدم عند مالارميه فكرة أنطولوجية تمتد جذورها بغير شك في الفلسفة المثالية. ولسنا في حاجة كما قدمت لأن ننسب للشاعر فلسفة معينة، ولكن يمكن أن نقول بوجه عام إن الشيء الذي يشغل مالارميه هو قصور الواقع وعجزه ، والاعتقاد بقصور الواقع وعجزه لا يصدر إلا عن فكر مثالي. فإذا كان المثال الذي يسعى إليه الشاعر ويقيس به الواقع من السمو والارتفاع بحيث لا يدركه التحديد بل يظل نوعا من عدم التحدد الخالص فلا بد في هذه الحالة أن يسمى بالعدم. وقد رأينا شيئا من هذا عند بودلير ووجدنا فيه تفسيرا لضيقه بالواقع والعصر والمدينة. ولا بد أن مالارميه قد تأثر بفكرته عن المثالية الفارغة ففهم من العدم أنه قوة عليا تقهر الروح وتسيطر عليها ولا بد أيضا أنه تأثر بذلك القدر العام الذي خيم على الروح الحديث فجعل الأدباء والشعراء يقفون من العقيدة والتراث موقف المعارضة أو الرفض في معظم الأحيان، فلا يتركون المثال الأعلى أو المتعالي كما سميناه فارغا أجوف فحسب (كما فعل بودلير ورامبو) بل يخطون خطوة أبعد فيحيلونه (كما فعل مالارميه نفسه) إلى عدم خالص.
إن عدمية مالارميه تعبر عن مطلب طبيعي للعقل الحديث الذي يستبعد كل المعطيات لكي يطلق العنان لحريته الخلاقة. إنها عدمية مثالية تنبع من تصميم هائل على التجريد، ورغبة في اعتبار المطلق جوهر الوجود الخالص (من كل المضمونات). ولو أن الأمر اقتصر على هذا لقلنا فلسفة كسائر الفلسفات. ولكن مالارميه حاول أن يقرب الأدب منها، ويجعل العدم حاضرا في اللغة نفسها، بقدر ما تسمح بذلك قدرته على تجريد الواقع أو تحطيمه واستبعاده.
المهم بعد هذا كله أنه لم يقدم لنا مجموعة من الأفكار النظرية التي يمكن الحصول عليها - وربما بشكل أدق وأكمل - في أي كتاب فلسفي، بل عبر عنها في شعر استطاع أن يحافظ على روحه الخالدة، ويبقي على خصائصه المميزة من غنائية وسحر وغموض وإيحاء. (ج) العدم واللغة
كيف استطاع مالارميه أن يحل هذه المشكلة؟
كيف أمكنه أن يعبر عن العدم بالكلمة؟
الواقع أن المشكلة الأنطولوجية الأساسية عنده تنصب على العلاقة بين العدم واللغة، وهي في نفس الوقت مشكلته كشاعر. وإجاباته عليها تحمل آثارا من فكرة اللوجوس (الكلمة، المعنى، الكل) عند الإغريق وان كانت مع ذلك لا تدل على أنه تأثر بهم بصورة مباشرة، وليس ببعيد - لمن يعرف شخصيته ومزاجه وأسلوب تفكيره - أن يكون قد فكر في المشكلة تفكيرا مستقلا. وليس ببعيد أيضا أن يكون قد تأثر - عن وعي أو غير وعي - بنظرية الرومانتيكيين في اللغة فسار بها إلى غايتها، دون أن يدري أن هذه النظرية تحمل أصداء بعيدة من التفكير اليوناني. مهما يكن من شيء فإننا نجده يكتب هذه العبارات في إحدى رسائله سنة 1867م: «أنا الآن غير شخصي. لم أعد أنا ستيفان الذي عرفته، بل استحلت إلى قدرة من قدرات العالم العقلي على رؤية نفسي وتفتيح طاقاتي وذلك عن طريق ما كانته ذاتي. لا زال في وسعي أن أنهض «بالتفتحات» التي لا بد منها حتما لأجل أن يجد العالم ذاتيته أو هويته في هذه الأنا.»
ومع أن هذه العبارات قد صيغت صياغة معقدة غير موفقة، فليس من الصعب أن نستشف معناها على وجه التقريب. يريد مالارميه أن يقول إن هناك «أنا» أو «ذاتا» أخرى قد حلت محل الأنا أو الذات التجريبية التي كان يعرفها في نفسه ويعرفها أصدقاؤه عنه. وهذه الأنا «غير شخصية»، وهي المكان الذي يحقق فيه العالم أو الكون «ذاتيته العقلية» والروحية، أو بمعنى آخر يصل إلى الوعي بنفسه.
ولنقرأ أيضا هذه العبارة التي كتبها في سنة 1895م: «إن جنسنا البشري قد وكل إليه شرف أن يعطي للخوف الذي تحس به الأبدية الميتافيزيقية المغلقة تجاه نفسها - والذي تحس به بطريقة تختلف عن إحساس الوعي الإنساني به - أن يعطي لهذا الخوف أحشاء» (ص391).
هذه العبارة المزدحمة بالصور الغامضة تكمل العبارات التي وردت في رسالته السابقة. وكلاهما يدور حول فكرة واحدة هي أن الموجود المطلق يتحقق في الإنسان باعتباره عقلا أي باعتباره لغة أو كائنا لغويا قبل كل شيء، بحيث يولد هذا المطلق في اللغة لا في أي مكان آخر. إن المطلق، أو العدم بتعبير مالارميه، يدعو اللغة - أو الكلمة اللوجوس - لكي يظهر فيها بصورته الخالصة، ولكي تكون المجال الوحيد الذي يتحقق فيه.
هذه الفكرة توضح كثيرا من الألغاز التي تحيرنا في أدب مالارميه، وفي مقدمتها تجريد الأشياء أو إحالة كل ما هو واقع إلى «الغياب»، أي التعبير عن الموجود الحاضر كما لو كان غائبا، على نحو ما بينا في بداية هذا الفصل. هذه الظاهرة التي نلاحظها دائما لديه ليست مجرد إدانة للواقع. إنها فعل ينبغي أن يفهم من الناحية الأنطولوجية؛ إذ تستطيع اللغة عن طريقه أن تحيل الشيء إلى «الغياب»، وأن تجعل هذا الغياب معادلا للمطلق (أو للعدم)، وتحقق الحضور الخالص (من كل صفات الشيئية والمادية) في الكلمة. أي أن ما يلغى ويتحطم من الناحية الموضوعية والواقعية عن طريق اللغة (وذلك عندما تعبر عن بعده أو غيابه أو عدمه، يعود فيتلقى من هذه اللغة نفسها وجوده العقلي، وذلك عندما تسميه).
Неизвестная страница