Революция современной поэзии от Бодлера до наших дней (Часть первая): Исследование
ثورة الشعر الحديث من بودلير إلى العصر الحاضر (الجزء الأول) : الدراسة
Жанры
وقد فهمنا من القصائد التي ناقشناها في بداية هذا الفصل أن التجريد من الواقع أو نفي صفة الحضور عن الأشياء هو من أهم الظواهر أو الأفعال الأساسية في شعر مالارميه. ونستطيع أن نعده استمرارا لنزعة الانفلات والبعد عن الواقع «الضيق» التي رأيناها في كتابات بودلير النظرية وفي شعر رامبو. كما نستطيع أيضا أن نقول إنها ترتبط ارتباطا وثيقا بروح العصر على نحو ما أشرنا في الفصول السابقة (كغلبة النزعة العلمية التي هددت بطرد الأسرار من العالم، وسيطرة الروح التجارية على الطبقات البرجوازية الزاحفة، وظهور تيارات جديدة في الأدب رأى الشعراء فيها تهديدا لهم كالواقعية والطبيعية ... إلخ). على أن الشيء الذي يميز مالارميه هو تعمقه لكل هذه الظواهر والأسباب وتأمله الطويل في موقف الشعر والشعراء والأدب بوجه عام من طوفان العلم والتجارة والصحافة. ولذلك فليس غريبا أن يكون التجريد من الواقع عنده نتيجة للتنافر بين الواقع واللغة، وأن يفهم هذا التنافر فهما أنطولوجيا.
ومن الصعب بل من المستحيل أن نجد عند شاعر من الشعراء نسقا فلسفيا بمعنى النظام المرتب المتكامل التام من الأفكار، ومن الخطأ أيضا أن نحاول البحث عنه. وكل ما سنجده هو مجموعة من الأفكار أو الأفعال الرئيسية التي نحاول نحن أن ننسقها لغرض الفهم والتقريب فحسب، لا لنجعل من صاحبها فيلسوفا رغم أنفه! ولن يزيد ما سنجده في كتابات مالارميه النظرية عن بعض العبارات التي تفسر هدفه من الشعر والفن، وهو كما قلت الابتعاد عن الواقع أو تجريده. يقول مالارميه في بيتين من إحدى قصائده:
هكذا أغنية الحب، تطير على الشفاه،
إن بدأتها فاطرد منها الواقع، لأنه منحط.
وهو يقول في أحد أحاديثه التي ألقاها في أكسفورد (ص642 وما بعدها) إن الطبيعة موجودة أمامنا، ولن نستطيع أن نضيف إليها سوى بعض الاختراعات المتصلة بحياتنا المادية كالمدن والسكك الحديدية، أما العمل الوحيد الذي يدل على الحرية الحقيقية فهو إدراك العلاقات الخفية المتعددة بفضل حالة باطنية تمتد حسب تقديرها فوق العالم وتبسطه. هكذا تكون طبيعة الخلق: «إيجاد الكلمة التي تدل على شيء غير موجود» (ص647).
وحذف الواقع الموضوعي أو استبعاده يرتبط بعمل المخيلة الخلاقة ويؤدي هذا إلى عمليات مختلفة ومتعددة، منها على سبيل المثال استخدام المواد غير العضوية أو غير الطبيعية استخداما رمزيا. فنرى مثلا - كما رأينا عند بودلير من قبل - كيف تصبح المعادن والجواهر النفيسة والأحجار الكريمة علامات ترمز للحياة العقلية والروحية التي تسمو على الطبيعة. من هنا نفهم دور هذه الأشياء في القصيدة الحوارية «هيرودياد» كرمز معادل للمرحلة التي تريد هذه العذراء الغريبة أن تصل إليها وهي كما قدمنا مرحلة قتل الحياة الطبيعية والغريزية فيها.
ومن هنا أيضا نفهم غرام مالارميه بوصف الحلي والملابس وقطع الزينة في مجلته «آخر مودة» التي أشرف على تحريرها وظهر أول أعدادها في السادس من سبتمبر سنة 1874م - تحت اسم مستعار هو ماراسكان - وأكملت ثمانية أعداد قبل أن تنتقل إلى سيدة اهتمت بتفاهات الزواج وفضائح باريس. وكان يشارك في تحريرها أصدقاؤه من الشعراء والقصاصين والموسيقيين، كما كانت تهتم بالملابس والحلي والأثاث وأخبار المسرح. والغريب أن أول مقال كتبه مالارميه فيها كان عن الحلي، ويقال إنه كان يعد بحثا عن الأحجار الكريمة لم يعثر له على أثر! على أن تجريد الواقع كان يتجلى أقوى وأوضح ما يكون في تصوير مالارميه للأشياء في صورة الغائبة، وفي تلافي كل معنى لغوي محدد أو كل معنى واحد وثابت، بغية الإيحاء بمعاني مختلفة للكلمة الواحدة. وكان من وسائله إلى ذلك ما يسمى بال
أي المواربة أو الدوران حول المعنى (كأن تسمي القمر مصباح الليل أو كوكب الظلام، أو تسمي العصفور رسول الربيع ... إلخ). وهنا يلاحظ النقاد أن أسلوب مالارميه في طمس معالم الواقع وإخفائها يشبه إلى حد كبير أسلوب أدب عصر الباروك - وبخاصة في فرنسا - الذي كان ينزع إلى الزخرف والتزين والتصنع. كانت وظيفة المواربة أو الدوران حول المعنى هي تخليص الشيء من ماديته الغليظة، وتحرير الكلمة من معناها العادي المستهلك. ولكنه كان يذهب إلى أبعد من هذا فيحلل الشيء الموصوف إلى خصائص أو كيفيات تتصل بحالات النفس الباطنة. ونضرب لذلك مثالا بيتين من قصيدة «هيرودياد» التي أشرنا إليها. تقول العذراء مخاطبة مربيتها: «أشعلي أيضا هذه الأضواء، حيث يبكي الشمع في ناره الخفيفة ووسط الذهب العقيم دمعة غريبة» (ص48).
تدور هذه الأبيات كما ترى حول الشمعة، ولكن الشيء المحدود يدخل في أفق غير محدود من العلاقات الرمزية. فهناك البكاء والغربة والعقم أو الإحساس بالعبث والزوال، وكلها تكون المضمون الحقيقي للأبيات. لقد انقطعت صلتها بالشمعة، وأصبحت ترتبط بالحالة الوجدانية التي تعيش فيها هذه العذراء التي تريد أن تميت جسدها وجمالها (وهو فعل صوفي أصيل وقديم) كما ترتبط بالموضوعات الأساسية التي تشغل فكر مالارميه وأدبه. (ب) المثالية، المطلق، العلم
تلتقي نزعة البعد عن الواقع بنزعة أخرى إلى المثال. وقد يبدو مالارميه في بعض الأحيان في صورة أفلاطونية. وقد تؤكد هذا بعض عباراته التي توحي لأول وهلة بأنه أفلاطوني صميم. فهو يقول مثلا في إحدى قطعه النثرية التي سماها «ميداليات وشخصيات»: إن التغيير الإلهي، الذي يحيا الإنسان لتحقيقه، يسير من الواقع إلى المثال (ص522). هذا الاتجاه من الواقع إلى المثال، أو من أسفل إلى أعلى، هو في حقيقته شيء غير أفلاطوني؛ فليس للمثال هنا أي وجود ميتافيزيقي مستقل، كما أن كل الأوصاف الإيجابية التي يصفها به تظل غامضة كل الغموض.
Неизвестная страница