Революция современной поэзии от Бодлера до наших дней (Часть первая): Исследование
ثورة الشعر الحديث من بودلير إلى العصر الحاضر (الجزء الأول) : الدراسة
Жанры
أو حالات تقلب فيها العبارة بغير سبب واضح، أو يلغى الفرق بين المفرد والجمع، أو تستخدم الظروف استخدام الصفات، أو ترتب الكلمات على عكس التسلسل المعتاد، أو تستعمل أدوات التعريف والتنكير استعمالا جديدا ... إلخ.
والغريب أن هذه الأساليب كلها ترد في كتاباته النثرية أكثر مما ترد في أشعاره. ويشبه نثر مالارميه أن ينطبق عليه اصطلاح الموسيقى «الكونترا بونكتيه» الحديثة، فالفكرة تتداخل في العبارة الواحدة مع الفكرة، بل قد تتشابك مجموعة من الأفكار في عبارة واحدة وفي وقت واحد بحيث نسمع أكثر من صوت يعارض الآخر أو يكمله أو يوقفه، وبحيث نخرج من العبارة كلها بالإحساس بأن هناك «وحدة تأليفية متحركة» تجمع الأفكار المفردة كما تجمع الجملة الموسيقية أصواتا متعددة (هنا أيضا نلاحظ الصلة الوثيقة بين الأدب والموسيقى كما لاحظناها من قبل بينه وبين الرسم ...)
كل هذه وسائل وأساليب لا يمكن تقليدها أو نقلها. والواقع أنه لم يبق منها في شعر خلفاء مالارميه وأتباعهم إلا القليل، وبخاصة تلك الوسائل والأساليب التي يسخرها الشاعر لقلب النظام الطبيعي للأشياء، أو تجريد الواقع من ماديته وشيئيته كما أوضحنا من قبل وكما سيأتي تفصيله في الفصل القادم. والمهم أن هذا الشعر لم يخلق للقارئ ولا الناقد المتعجل. لقد قاوم هذا النوع من القراء والنقاد في عصره، وسوف يقاومهم في كل عصر؛ ذلك لأنه يخرج كما قلت عن حدود الفهم العادي، ويرتفع إلى أفق تستعيد فيه الكلمة أصالتها الأولى وبراءتها وثباتها. هناك تلمع الكلمة لمعان البرق أو الصاعقة، وهناك تقترب من الصمت لتقول ما لا يقال. والشيء الذي يستحق الملاحظة أن هذا الهدف لا يتم إلا بتجزئة الجملة أو تقطيعها إلى شذرات. وهكذا نجد الانفصال يحل محل الاتصال، والتجاور في مكان التسلسل. ونخطئ لو تصورنا أن هذه أساليب ظاهرية تريد أن تلعب باللغة لمجرد اللعب. إنها علامات على الانفصال الباطني في نفس الشاعر، على اللغة التي تقف عند حدود المستحيل. والغريب أن هذا التمزق إلى شذرات - وهو تمزق قائم في روح العصر وفي وجدان الشاعر على السواء - يسمح للشاعر أن يجعل الشذرة رمزا للكمال الذي يبحث عنه ويحس بالقرب منه: «الشذرات علامات عرس الفكرة » (ص387). وهي كلمة تعبر عن قضية أساسية من قضايا الإستيطيقا الحديثة. (9) في جوار الصمت
قلنا إن مالارميه يريد أن يقترب من المستحيل، أي من الصمت. كانت وسيلته إلى هذا هي «تكتم» الأشياء (التي يلغيها أو يحطمها أو يجردها من كيانها المادي الملموس)، وكانت هي اللغة التي ازدادت كلماتها مع الأيام إيجازا وهمسا (من هنا تستحيل ترجمة هذا الشعر بلغة خطابية زاعقة، هذا إن كان من الممكن ترجمته على الإطلاق). والصمت كلمة تتردد كثيرا في خواطر مالارميه وتأملاته.
فهو يقول مثلا إن الأدب تحليق صامت إلى المجرد، كما يقول إنه يخاف الثرثرة إلى حد الرعب (ص385)، وإن نصوصه «تنطفئ» على الصفحة المكتوبة (ص409) وإنها سحر لا يفهم معناه ولا يتذوق التذوق الكامل حتى تعود الكلمات إلى المعزوفة (الكونسير) الصامتة الوحيدة التي نبعت منها (ص380). من هنا تصبح القصيدة المثالية هي «القصيدة الصامتة من بياض تام»، أو هي التي تتحول كلماتها إلى ذبذبات عقلية أو روحية تذكرنا بالقصيدة السيمفونية الأولى التي كانت مستقرة في أعماق الإنسانية، قبل أن توجد اللغة وقبل أن تسمي الأشياء وتلتصق بها.
والواضح من هذا كله أن مالارميه يقترب من التفكير الصوفي، وأن تجربة «المتعالي» (الترانسندنس) أو بالأحرى تجربة الفشل في الوصول إليه هي التي تشعره بعجز اللغة، هذا التصوف في صميمه هو «تصوف العدم»، أي أنه قد خطا خطوة أبعد من تصوف «المتعالي الفارغ» أو المثالية الفارغة التي لاحظناها من قبل عند بودلير ورامبو.
عرف مالارميه بنفسه أن جوار الصمت أو القرب من المستحيل هو الحد الأخير الذي يطمح إليه إنتاجه ويقف عنده، وليس هذا مجرد استنتاج عقلي أو اجتهاد في التفسير، ولكنه ثمرة استقراء قصيدته التي يصدر بها مجموعة أشعاره، وهي قصيدة تحية
Salut . ويدلنا التحليل البسيط لهذه القصيدة على المحاور الثلاثة التي يدور حولها فكره وشعره؛ إنها الوحدة، وهي الموقف الذي يميز الشاعر الحديث بوجه عام، والصخرة التي تصطدم بها سفينته فيفشل ويخيب، والنجمة التي ترمز للمثالية البعيدة التي عجز عن بلوغها فرجع من رحلته باليأس والتمرد والمرارة أو بالرضى والزهد والاكتفاء.
صرح مالارميه في أحد أحاديثه مرة بقوله: «إن أدبي طريق مسدود.» والواقع أن عزلة مالارميه عزلة كاملة مقصودة، وقد كان في طبيعته من المرح وطيبة القلب ما عصمة من السخط والمرارة. إنه يشبه رامبو، وإن كان يسير على طريق آخر. ولقد بلغ بشعره إلى النقطة التي يلغي فيها نفسه بنفسه، لا بل يشير إلى نهاية كل شعر وكل أدب وكل كلام، والغريب أن هذه الرغبة الشديدة في الصمت أو النهاية تتكرر كثيرا في شعر القرن العشرين. ولا بد أنها تدل على حاجة ملحة في ضمير الإنسان الحديث. (10) الغموض
لا بد أن القارئ قد بذل جهدا غير قليل في فهم نصوص مالارميه التي قدمناها في الصفحات السابقة، ولا بد أنه التمس لنا العذر في الترجمة والتفسير اللذين لا يخلوان بالضرورة من العجز والقصور. والحقيقة أن شعر مالارميه - ونثره أيضا إلى حد بعيد - يبدو كأنما كتب لقارئ لم يوجد بعد، أو كأنه يحاول أن يخلق القارئ المتخصص لنصوصه المتخصصة. إنه يقوم كما قلنا على التجرد من النزعات البشرية أو طرح كل ما يتصل بالإنسان من عواطف وغرائز ورغبات. ومن شأن هذا التجريد المستمر للأشياء من واقعيتها وماديتها واستخدام الكلمات استخداما جديدا لتحقيق هذا الهدف أن يحطم المثلث المعروف الذي تتكون أضلاعه من المؤلف والعمل والقارئ، بحيث ينفصل العمل الشعري عن طرفيه البشريين. إن الكتاب - وهو رمز العمل الأدبي لديه - شيء غير شخصي، وبمجرد أن ينفصل عنه المؤلف لا يحتمل أن يقترب منه القارئ. إن من طبيعته أن يقف وحده، مخلوقا، موجودا (ص372). أضف إلى هذا أن رموز مالارميه وصوره واستعاراته ليست من ذلك النوع الذي يمكن أن يقال عنه إنه ملك مشاع بين المؤلف والقارئ. إنه إذا جاز أن نستخدم هذا التعبير، شيء مالارمي خالص. لقد وضع معظم هذه الرموز بنفسه ولا بد أن تفهم من خلال أعماله. وإذا كانت هناك استثناءات قليلة فهي ترجع إلى تراث أدبي قريب يتأثر فيه بودلير بوجه خاص. ومن هنا يختلف الغموض عند الشاعر الحديث مثل مالارميه عنه عند الشعراء القدامى. فهؤلاء كانوا يتعمدون تعقيد العبارة أو استخدام الصور والاستعارات النادرة والكلمات المهجورة، أو يعمدون إلى التلميحات الخفية والتصورات البعيدة عن عالم الواقع لكي يدهشوا القارئ أو يفوزوا بإعجاب نخبة من القراء «الأرستقراطيين» الذين يجدون متعة في حل رموزهم واستكشاف صورهم. ولكن عالمهم الرمزي كان يقوم على كل حال على نوع من الاتفاق الضمني بينهم وبين القراء ويستغل مجموعة مشتركة من الرموز والصور. أما الشاعر الحديث فهو يختلف عن ذلك؛ إن أسلوبه في الرمز يحول كل شيء إلى «علامة» على شيء آخر، دون أن يدخل هذا الشيء الآخر في معنى مقبول أو مفهوم أو متفق عليه من قبل، ولذلك فهو يخلق لنفسه رموزه الذاتية التي تظل بعيدة عن الفهم المحدود الذي اعتاد أن يربط الرمز بمعناه القديم المتوارث. على أن هذا كله ليس هو السبب الوحيد في غموض مالارميه؛ إنه يستمد شعره الغامض من الغموض «الأصلي» الذي يستقر في صميم الأشياء جميعا، والذي لا يتكشف قليلا إلا «في ليل الكتابة».
Неизвестная страница