الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
Неизвестная страница
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
Неизвестная страница
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
ثورة في جهنم
ثورة في جهنم
تأليف
نقولا حداد
الفصل الأول
انتقلت إلى رحمة الله تعالى الراهبة التقية النقية القلب الورعة الأخت جوكوندا، وهي في منتصف العمر، فانبرى في الحال ملاكان من جند الله، وحملا روحها الطاهرة على جناحيهما، ومضيا بها إلى العلى.
Неизвестная страница
وكانت أفكار الراهبة البارة تسبح معها في الفضاء، ونفسها تتوق إلى دار البقاء، وكانت ترى ألوف الملائكة ناشطين في الطواف بين الأرض والسماء، وبعضهم يحملون أرواح الأبرار المنتقلين من الدنيا الفانية إلى الآخرة الباقية، وهي مبتهجة بهذه الرحلة الطيرانية.
وبعد برهة انتهرها أحد الملاكين وقال لها: فكري أيتها البارة بالسماويات؛ لأن تفكيرك بالأرضيات المادية يجعلك ثقيلة على جناحينا، فلا نستطيع الارتفاع بك، بل نخشى أن ننوء بك ونهبط إلى أسفل.
فقالت: إني أفكر بمجد الله وبرحمته وأسبحه. - واظبي على التسبيح والتمجيد أيتها الأخت البارة.
هذا الحديث الموجز بينها وبين الملاكين تكرر مرارا، وكانت أحيانا كثيرة ترى ملائكة يمرون بها حاملين أبرارا مثلها، فتناجي أولئك الأبرار تارة وتشترك معهم بالتسبيح أخرى.
ورأت الراهبة البارة المرحلة طويلة فملتها وتململت قائلة: متى نصل إلى السماء أيها الملاكان المحبوبان؟ - نصل متى كففت عن التفكير بالأرضيات.
فتعود إلى التسبيح والتمجيد والترنيم الروحاني إلى أن «هون الله»، ورأت بوابة السماء على مرمى بصرها فتهللت ومجدت الله، وانقذف بها الملاكان إلى الحديقة البهيجة التي لدى البوابة وألقياها فيها.
وتقدمت فرأت قديسا يتمشى أمام البوابة البديعة الزخرف التي تأخذ بالألباب؛ لأنها مبنية من حجارة كريمة متنوعة متعددة الألوان من ألماس وياقوت وزمرد ويشب ولازورد ... إلخ. فكانت مدهوشة ذاهلة من تلك البدائع.
تقدمت إلى القديس وقالت: السلام عليك يا سيدي القديس الكلي الطوبي. - وعليك السلام ورحمة الله وبركاته أيتها البارة.
ودخل معها إلى مدخل الجنة السماوية حيث رأت بوابة أخرى أبدع وأجمل من الأولى، وهي مفتوحة على مصراعيها، وكانت ترى القديسين يتمشون أفواجا في داخل جنة الله البهيجة، بعضهم يتحدثون بمجد الله، وبعضهم يسبحون جلاله مترنمين، وكانت مبهوتة مما تسمع وترى، والقديس ينظر إليها باسما لدهشتها، ولا يفوه ببنت شفة إلى أن ملكت وجدانها وقالت: تعلم يا سيدي الجليل أني جاهلة كل شيء إلا رحمة الله وقداسته، ولكن لي صديقا هنا، أؤمل أنه يستقبلني ويرشدني إلى المنزل الذي أعده الله الغفور لعبدته التائبة، فهل تتكرم بأن تستدعيه؟
فقال: من هو صديقك الذي تعنين؟ - هو الأب المحترم الراهب سلفاستروس.
Неизвестная страница
فاشمأز القديس وعطس وقال: لله من هذه الرائحة الخانقة. أهي من بقايا غازات الحرب الأرضية الأخيرة؟
فقالت مستغربة: أية رائحة هذه التي تشمئز منها يا سيدي؟ - رائحة الاسم سلفاستروس، ألا تعلمين أنه اسم لاتيني ومعناه النجم الكبريتي، أفما وجدت صديقا باسم أطيب عنصرا؟ أوما وجد هو اسما أزكى رائحة من هذا؟ - هذا ما قدر فكان يا سيدي، فأرجو أن تتكرم باستدعائه. - ليس عندنا هذا البار الذي تزعمين يا بنيتي. - لعله غير اسمه. - ولئن غير اسمه نعرفه؛ لأننا لا نعرف الأبرار هنا بأسمائهم، بل بأرواحهم وبرهم، فثقي أنه لم يأت إلى هنا. - عجبا! لقد اشتهر بتقواه وورعه ووعظه وإرشاده ودعوته الناس إلى التوبة والتقوى وعبادة الباري، وفي السنة الماضية كان في ديرنا رياضة روحية، انقطعنا بها عن كل ماديات العالم إلى العبادة والصلاة، وكان هو يعظنا كل يوم إلى أن انتهى زمن الرياضة، فكيف لا يأتي إلى هنا. - لعله لم يتم واجباته الدينية قبل انتقاله من الدنيا، فذهب إلى المطهر لكي يتممها هناك، ويكفر عن بقية الذنوب التي يعرفها والذنوب التي كان يجهلها.
فوجمت الأخت جوكوندا، ثم قالت: لعله لم يكن لديه متسع من الوقت لإتمامها، فقد مات منتحرا، ولكنه مع ذلك كان يدري أنه سيموت، فلا بد أن يكون قد تناول القربان. - مات منتحرا؟ كذا قولي : أما كان يعلم أن الانتحار خطيئة؟ فهذه الخطيئة وحدها كافية الآن لقطع السبيل بينه وبين السماء. - الانتحار خطيئة؟ لا أدري أنه خطيئة يا سيدي، أليس الإنسان حرا أن ينتحر، وهو بانتحاره لا يؤذي أحدا ولا يأثم لأحد؟ ألم يخلقنا الله أحرارا؟ أما قال الكتاب المقدس: أنتم أحرار؟! - أجل، إن الله تعالى قال إننا أحرار، والإنسان حر أن ينتحر، ولكن شريعتكم التي استنبطتموها تقول إن الانتحار خطيئة، فالديان يدينكم أحيانا حسب شريعتكم. - شريعتنا! ألنا شريعة غير شريعة الله؟ - نعم، شريعتكم غير شريعة الله، لقد ملأت شريعتكم المجلدات، وجعلتم لها أصولا وفروعا وشروحا وهوامش، وأما شريعة الله فغير مكتوبة، شريعة مختصرة جدا.
فبهتت الراهبة وقالت: ما هي شريعة الله غير المكتوبة يا سيدي؟ إني أجهل أن لنا شريعة غير مكتوبة. - شريعة الله هي الضمير يا بنيتي، والضمير النقي وحده كاف لإرشاد الإنسان إلى الصلاح وتجنب الخطيئة، فلو حفظتم هذه الشريعة المختصرة وأطعتموها لكانت وحدها كافية لأن تجعل الأرض في جوار السماء. الضمير الصالح الذي يقيم فيه الله لا يضل، ولكنكم طمستم شريعة الضمير، وجعلتم تتفلسفون في التشريع كأنكم نواب الله في دينونته، فملأتم كتبكم شرائع وقوانين، ولكنكم لم تستطيعوا أن تحفظوها، ولا أن تعملوا بمقتضاها، والديان يدينكم بحسب شرائعكم، فهل ظلمكم؟ - لا، حقا. لا، إن الضمير الصالح يغني عن كل شريعة، الله محبة والمحبة هي الناموس، والأنبياء كما قال سيدنا يسوع له المجد: في المحبة كل شريعة الله. - إذن، لا تستغربي يا بنيتي أن صديقك سلفاستروس لم يأت إلى هنا، وإن كان قد ذهب إلى المطهر فيكون الديان قد رحمه، وأخشى أن يكون غير مستحق المطهر.
فوجمت الأخت جوكوندا وتجهمت ثم قالت: أيحتمل أن يكون قد حرم المطهر أيضا، إني أتأسف جدا إن كان ظني فيه خائبا. - يلوح لي يا بنيتي أن صداقتكما كانت عظيمة جدا، حتى أنك تأسفين هذا الأسف الشديد. - نعم يا سيدي القديس الجليل، كانت صداقتنا متينة، ولها تاريخ طويل لا أخفيه عنك، أعترف لك به عسى أن تتشفع بصديقي عند الله الديان الرحيم الرحمن. - إني مصغ لروايتك يا بنيتي، والله غفور رحيم، قولي. - لقد أنعم الله الجواد علي بنعمة الجمال يا سيدي كما ترى.
فضحك القديس وقال: أجل، جمال القداسة أعظم نعمة يا بنيتي. - نعم، كنت جميلة جدا في أول صباي، وكانت أبصار الأنام تطوقني أينما ظهرت، إلى أن كان معرض للجمال، فقدمتني عشيرتي إليه، وثمة اصطفتني لجنة من المحكمين ملكة الجمال في كل العالم، وكان ابتهاجي عظيما بهذا اللقب الذي تفردت به.
فقال القديس باسما: بالطبع تبتهجين بهذا الحكم العادل، وربما كنت ترتابين بعدالة أي حكم غير هذا، ولا ريب أنك أيقنت أنك ملكة الجمال، هاه؟ - نعم، إذا كان الذين انتخبوني من بين ثلاثمائة فتاة جميلات لهذا الملك هم من خيار الناس وأصدقهم نظرا، وألطفهم ذوقا وأخبرهم فنا، أفلا أوقن أني ملكة الجمال.
فقال: طبعا، طبعا، يكفي اختيارهم إياك ملكة للجمال برهانا لك على أنهم من خيار الناس الصادقي النظر، اللطاف الذوق، الخبراء بالفن، ولكن لو أن لجنة أخرى من أناس آخرين اختارت سواك ملكة لأيقنت أن أولئك الآخرين بلا ذوق. ترى ماذا كان مقياس الجمال عند مختاريك الصادقي النظر؟ - مقياس الجمال؟ كان المقياس دقيقا جدا يا سيدي - بالمليمتر. قاسوا حدقتي وأجفاني وخدي وشفتي وأذني وعنقي وكتفي وصدري وقامتي وهيفها وضيق قدمي، قاسوا كل هذه بالمليمتر، فوجدوا كل شيء تماما.
فقهقه القديس وقال: تماما؟! لله درهم من محكمين مدققين، بالطبع وجدوا فيك عينين لا عينا واحدة، وأذنين فقط لا أربع آذان، ولسانا واحدا لا لسانين ...
فارتبكت جوكوندا، وقالت: هل يمكنهم أن يجدوا في خلق الله نقصا أو شذوذا؟! - طبعا لا، ولكن أما وجدوا عينا أحدق من الأخرى، وأذنا أطول وأعرض من الأخرى مثلا؟! - لا، بل وجدوا كل شيء تماما. - وإذن لم يجدوا في غيرك كل شيء تماما. - بل وجدوا في غيري كل شيء تماما، ولكن لم يكن كل شيء طبق قاعدة الجمال. - قاعدة الجمال! ما قاعدة الجمال هذه؟ - عندهم قاعدة للجمال. - من وضعها لهم ومن كتبها؟ - ليست مكتوبة، بل هي في أفكارهم. - ليست أفكارهم إلا شهواتهم، فشهواتهم كانت مقياس جمالك يا ملكة الجمال. ومن كانت رعيتك؟ - أوه، لا تسل يا سيدي، تألب حولي ألوف من الشبان الظرفاء الوجهاء الأغنياء ينظمون الأشعار في وصف جمالي، ويتبارون في تبجيلي، ويتفانون في استرضائي. - إذن، ما كان أسعدك في مملكتك! - آه، إلا السعادة يا سيدي، كنت أطمح إليها فلا أجدها إلا سرابا خلابا. - عجبا! أجمال بلا سعادة! إذن، لماذا الجمال؟ - لم يكن الجمال إلا مشقيا لي، كنت أحسد وردة الربيع؛ لأنها كانت تجد شابا أنيقا يضعها على صدره، وأما أنا فلم أجد ذلك الشاب الأنيق الذي يستحق أن يضع ملكة ورود الجمال على صدره، فمضت بضع سنين والطلاب يتوسلون وأنا الملكة أتمنع، والخطاب يتضرعون وأنا أتدلل، إلى أن تقدم لي نبيل سري غني وجيه ذو نفوذ، فألح على أهلي أن أقبله زوجا قبل أن تذهب نضرة شبابي سدى، فأذعنت وتزوجت ذلك النبيل واثقة أني سأكون سعيدة معه، وما لبثت أن وجدت نفسي في بيئة لا ينقصني فيها شيء من الرخاء والرفاه والعز والمجد، وإنما كان ينقصني شيء واحد ... - ما هو؟ - ملكي، شعرت أني فقدت ملكي، لم أعد أشعر أني ملكة، شعرت أني أصبحت أسيرة الزواج، شق علي الأمر جدا؛ لأني لم أستطع أن أكون ملكة ذات سلطان على زوجي، ذهب ملكي هباء، أدركت أن السعادة ليست بالجاه ولا بالمال ولا بالترف. - إلى الآن لم أفهم ما الذي كان ينقصك. - الحب، شعرت أن هناك شيئا آخر يكفل السعادة وهو الحب، ولكني لم أكن أحب زوجي كل الحب. - لماذا؟ - لم أجده مثلي الأعلى، لم أجده يقدر جمالي حق قدره، لم أجده يذعن لسلطان دولتي، لم أعد أشعر أني ملكة حتى ولا في بيتي، فصرت أتوق إلى الحرية التي تمتعني بالحب التام. وقع النفور بيني وبين زوجي وصرت أتمنى فراقه، ولكن بحسب شريعتنا لا فراق إلا بالموت، فما نجوت من أسري الزواجي إلا بموته، كأن الله أشفق على نفسي فعتقني منه، وصرت حرة، بحثت عن الشخص الذي كنت أشعر بحب له منذ حداثتي، وما حرمني إياه إلا تاج الجمال، بحثت عنه فقيل لي أنه انتظم في سلك الرهبنة؛ فيئست ولم أجد مفرا عن يأس إلا أن أترهب أنا الأخرى أيضا، فأويت الدير وعكفت على العبادة والتوبة.
Неизвестная страница
فضحك القديس وقال: أظن أن حبيبك هذا كان الأب الجليل سلفاستروس بعينه، وقد ترهب لما علم أنك تزوجت ذلك النبيل، فحذوت حذوه. - هو كذلك يا سيدي. - كيف عرفت أنه ترهب لهذا السبب؟ - لما كان يرشدنا في الرياضة الروحية باح لي بذلك حين كنت لديه في كرسي الاعتراف، وأخبرني أنه لأجلي ترهب لكيلا يدنس قلبه بحب امرأة أخرى، وبقي يحبني حتى بعد الرهبنة.
فقال القديس مستغربا: حتى بعد الرهبنة؟! - نعم، قال لي حينئذ بصراحة: «لا أزال أحبك.» فقلت له: «حرام يا أبانا؟» فقال: «ليس حراما؛ أما قال يسوع: «أحبوا بعضكم بعضا.» إني أحبك حبا طاهرا كما قال يسوع.» ثم قبلني، فاقشعر بدني وقلت: «حرام يا أبتي.» فقال: هي قبلة مقدسة يا ابنتي؛ أما قال بولس الرسول: «قبلوا بعضكم بعضا قبلات مقدسة؟» ثم مضيت عن كرسي الاعتراف، وأنا أفكر بالقبلات المقدسة، وبقيت القبلات المقدسة تلوح في مخيلتي إلى أن سمعت بانتحار أبينا الراهب سلفاستروس، فحزنت عليه حزنا عميقا، وبقي لي رجاء أن أجتمع به في السماء ولكن خاب أملي. - كفى، كفى يا بنيتي، إذا كان الديان قد رحمه، فهو في المطهر الآن يكفر عن قبلته المقدسة. - إذن، هل تسمح أن تستدعي بولس الرسول الموعز بالقبلات المقدسة، عسى أن يرشدني إلى منزلي في السماء. - أتأسف أن أقول لك يا بنيتي إنه لم يعد لك منزل هنا. - عجبا! لماذا؟ لقد أتممت واجباتي الدينية، حتى إني ساعة احتضاري سمعت الأخوات والأب الذي مشحني يقولون: «إنها ذاهبة إلى السماء قديسة.» وقد أبلغني بعض الأبرار الذين صادفتهم في الطريق أني تعينت قديسة منذ فراقي الدنيا، وظهرت عجائب باسمي، ولي في الدير مقام قديسة يزوره الناس بنذور حيث يتوقعون عجائبي فيهم.
فقال القديس مدهوشا: عجائبك! مرحى مرحى، إذن تشاركين الباري في قدرته. - كذا أخبرني الأبرار الذين صادفتهم في الطريق لاحقين بي بعدي. - عجبا أن يكون لك عجائب، ولا تدرين بها إلا بالخبر عن ألسنة الأبرار الذين تبعوك بعدك. فماذا كان من عجائبك؟ - قيل لي: إن امرأة كانت مريضة، وقد يئس من شفائها نطس الأطباء، فلما نذرت لي شفيت. - مسكينات المريضات الأخريات اللواتي يئس من شفائهن نطس الأطباء، ولم ينذرن لك. لا ريب أنهن قضين نحبهن مأسوفا على شبابهن. ثم ماذا؟ - نذرت لي امرأة أخرى حلية ذهبية إذا كان زوجها يتوفق إلى وظيفة يرتزق منها، فتوفق بعد عطلة عام.
فقال القديس باسما: لقد أحسنت زوجته في نذرها، وإلا لبقي زوجها بلا وظيفة كل عمره. ترى لأية القديسات الأخريات نذرت زوجات الأزواج الآخرين الذين توفقوا إلى وظائفهم؟ ثم ماذا؟ - ونذر آخر أنه يقدم لمقامي عشرة جنيهات إذا تزوج من يحبها وتحبه، فتزوجها.
فقهقه وقال: لقد انفرجت أزمة الزواج إذن. ما على العشاق إلا يسخوا بالنذور لك يا موحدة قلب الأحباب. ثم ماذا؟ - ونذرت امرأة حلية من حلاها المسروقة إذا ردت إليها، فعثر البوليس على السارق، واسترد لها حلاها. - مرحى مرحى، ما على البوليس إلا أن يعلق أيقونتك في دائرة الشرطة فتسهل عليه مهمته، ولكن إذا سرق لص بعض تلك النذور النفيسة من مقامك، فلمن ينذر أهل ذلك المقام بغية العثور على السارق يا ترى؟!
فترددت الأخت جوكوندا، ولم تحر جوابا، فسأل: وماذا كان من أعجب عجائبك أيتها القديسة؟ - حدث قيظ وتأخر المطر طويلا في فصل الشتاء، فنذر الفلاحون عدل الغلال لمقامي إذا نزل المطر، فأمطرت السماء. - لله درها من أعجوبة، لولاها لانقضى الشتاء بلا مطر. ثم ماذا؟ - روى لي الراوون كثيرا من عجائبي، لم أعد أتذكرها كلها. - إن أعجب عجائبك يا بنيتي أنك تفعلين العجائب، ولا تدرين بها إلا من الرواة الذين يأتون بعدك، وماذا كان مصير تلك النذور؟ - قيل لي إن سارقا سرقها. - سرقها سارق؛ عجبا! أما خاف غضب أيقونتك؟! - إذا كان لا يخاف غضب يسوع، فهل يخاف غضب أيقونتي؟! - لا يسوع ولا سائر الرسل والأنبياء فعلوا من العجائب ما فعلت يا بنيتي. - ويلك يا سيدي، لا تجدف، لقد فعل الرسل والأنبياء ويسوع عجائب لا يفعلها الخطاة مثلي. - لا، لا لم يفعلوا مثل هذه العجائب البتة. أعظم أعجوبة فعلها يسوع هي قوله:
أحبوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، أحسنوا إلى من أساء إليكم.
وأعظم أعجوبة فعلها محمد هي: نداء للعالم بوحدانية الله، وأعظم أعجوبة فعلها موسى أنه استطاع أن يقضي 40 سنة يقود بني إسرائيل لعبور برية سيناء إلى أرض الميعاد، على حين أن القافلة لا تطيق عبورها في أكثر من ستة أيام، والطيارة في سويعات والراديو في لحظة، فأين هذه العجائب من تلك التي رواها لك الرواة؟!
فبقيت جوكوندا مفكرة برهة، ثم قالت: إذن لم يعد لي منزل في السماء؟ هل القديسات اللواتي أعددتم لهن منازل فعلن عجائب أعظم من عجائبي؟ - كلا، لم يفعلن عجائب قط، ولا تعين قديسات على الأرض كما تعينت حتى، ولا عرف أحد أنهن قديسات. - إذن لماذا أحرم منزلا في السماء. - لا تحرمين منزلا، وإنما على الذين عينوك قديسة أن يعدوا لك منزلا في ملكوتهم. - ويحي! إذن لست قديسة من قديسات السماء، هل خدعني الذين قالوا إني قديسة؟ - بل أنت قديسة ساذجة القلب. - إذن لماذا لا تقبلونني في السماء؟ - لأنك تعتقدين أنك ملكة، والسماء لا تسع ملكين، بل يكفيها ملك واحد. - إذن لماذا جاء بي الملاكان إلى هنا؟ - لكي تسمعي حكم الديان عليك. - ماذا حكمه يا سيدي؟ - حكمه أن تذهبي إلى المطهر؛ حيث تخلعين عنك تاجك، وحيث تنتهين من عجائبك، ثم تعودين إلى هنا. - ويحي! لقد كنت مغرورة مخدوعة. أتوب عن تاج ملكي وعن عجائبي يا سيدي. - ليس هنا مكان التوبة يا بنيتي. - إذن أعود إلى الأرض. - لقد انتهى أجلك على الأرض، فتعودين إلى المطهر الذي أعده الديانون الأرضيون لأمثالك؛ فاذهبي إلى حيث حكم عليك ديانوك.
وفي الحال تقدم لها ملاكان وحملاها، وهبطا بها إلى المطهر، وألقياها عند بابه.
Неизвестная страница
الفصل الثاني
وجدت الأخت جوكوندا نفسها لدى باب قاتم بلا مصراعين، في سور شامخ مبني من حجارة قاتمة، فتقدمت إلى الباب، وأجالت نظرها وهي هالعة القلب، وإذا الأب سلفاستروس مقبل، فما وقعت العين على العين حتى أسرع إليها مرحبا: أهلا وسهلا أيتها الصديقة البارة، لقد أنبئت بقدومك فتعالي.
فقالت باكية: ويحي من عذاب المطهر يا أبي. - لا تفزعي، لا عذاب هنا إلا الملل والضجر. - الملل والضجر فقط! - نعم، وهو عذاب كاف، عذاب ألوف السنين. - ويحي! إن الراهبات في الدير يصلين لأجلي لكي تقصر سنو مطهري. - ويحهم! إنهم بصلاتهم يزيدون سني مطهرك، أما زعموا أنك قديسة عجائب، وأنك منتقلة إلى السماء؟ فلماذا الصلاة لأجلك إذا كنت في السماء؟ وهل أحكام الديان خاضعة لصلاتهم؟ - لقد انخدعت يا صديقي سلفاستروس، انخدعت. - وهنا عقاب الانخداع، فتعالي نصل ونتوسل إلى الله.
فطاف بها الأب سلفاستروس على جماعات المتطهرين، وهم يصلون ويتضرعون، واشتركا مع جماعة منهم. •••
انقضى زمان حتى ملت الجموع الصلاة، وتفرقت هنا وهناك أزواجا وفرادى، وسلفاستروس يقود صديقته جوكوندا بين الجموع إلى أن قال لها: ستعقد في جهنم غدا حفلة نادرة، فلنذهب ونشاهدها. - ويحك! كيف نذهب إلى جهنم حيث النار المتقدة والعذاب الذي لا يطاق؟!
فقهقه سلفاستروس وقال: لا تخافي ليس عذاب جهنم النار، بل عذابها الشر الأبدي. - لا، لا، بربك دعني في مطهري، دعني بعيدة عن شر جهنم. - نحن لا نشترك مع أهل جنهم بشرهم، بل نمكث في شرفة نطل بها على أهل جهنم ونشاهد الحفلة. - لا لا، لا أذهب، لا أذهب إلى هناك. - لا تخافي ليس في المشاهدة أذى، كثيرون يذهبون كل يوم من هنا إلى هناك للمشاهدة، حتى أهل السماء يزورون شرفات جهنم؛ لكي يروا الفرق بين شقاء جهنم وسعادة السماء، ألا تذكرين حكاية الغني الذي شاهد اليعازر في حضن إبراهيم، واستغاث بإبراهيم عسى أن يرسل اليعازر ليبل بطرف أصبعه لسانه بالماء، إن هذه المشاهدة تجعلنا نعجل بالتوبة لكي نصعد إلى السماء. تعالي لا تخافي.
وما زال يقنعها إلى أن اقتنعت، فتمشيا إلى بوابة أخرى للمطهر، حيث رأت جوكوندا رهطا من الجن يحفون حول منطاد عظيم جدا.
فقالت مذعورة: ما هذا يا سلفاستروس؟ - هذا هو أحد المناطيد التي تنقل أهل المطهر إلى جهنم، وهؤلاء الجن هم الذين يتولون أمر المنطاد. - عجبا! هل اخترع الجن مناطيد. - بل تعلموا صنعها من أهل الأرض، هلمي قبل أن يمتلئ المنطاد ولا يبقى لنا محل، فنضطر أن ننتظر منطادا آخر، وقد يفوتنا مشهد الحفلة.
ودخلا إلى المنطاد، وجلسا على مقعد واحد، فقالت له: ما هو شأن هذه الحفلة الجهنمية؟ - يقال إنها حفلة انتصار الشياطين في إثارة الحرب العظمى على الأرض وفوزهم فيها. - يا للعجب! إذن كان الحلفاء شياطين لأنهم انتصروا.
فقهقه سلفاستروس وقال: لم ينتصر الحلفاء، ولا ألمانيا وحلفاؤها انتصروا، بل جميعهم خسروا الحرب، والمنتصرون هم الأبالسة فقط. - لا أفهم ماذا تعني؟ - أعني أن الحرب انتصرت على السلم، والشياطين أعداء السلم وأنصار الحرب، أليست الحرب كارثة للجنس البشري وويلا للغالب وللمغلوب جميعا؟ - بلى. - إذن، نجح بها الأبالسة.
Неизвестная страница
ثم نهض المنطاد وانساب في الفضاء، وما هي إلا فترة حتى جعل يهبط إلى أن استقر عند شفا هاوية، وخرج الركاب إلى أرض صخرية كالحة سوداء، فتمشى سلفاستروس وجوكوندا إلى أن بلغا إلى صف طويل من الشرفات المطلة على الهاوية فمكثا فيها، وأطلت جوكوندا وقالت مبهوتة: ما هذا! إني أرى مدينة عظيمة وأبنية شامخة وشوارع؟ - هذه مدينة الأبالسة، عاصمة بعلزبول زعيم الشياطين. - يا للعجب! هل يحذق الشياطين فن البناء أيضا. - تعلموه من ضيوفهم الأشرار الأرضيين. - أرى سيارات وترامات وأسلاكا ... - نعم، ترين كما في جهنم كذلك على الأرض، لقد اقتبس الخطاة الأرضيون كل ما عرفوه على الأرض، فصنعوا مثله في جهنم، وكلما جاء فوج جديد من الأرض اصطنع في جنهم ما جد على الأرض من الاختراعات. - إذن هم يتمتعون بجميع محاسن الأرض، فكيف يتعذبون؟! - يتعذبون بشرورهم، واختراعاتهم تزيدهم عذابا، وهو عذاب أبدي. أليس أهل الأرض أيضا يزدادون بؤسا وشقاء بازدياد معارفهم واختراعاتهم؟ - إذن، رأيك أن العلم والمعرفة سبب الشقاء. - لا، بل رأيي أن سوء استعمال الناس العلم والمعرفة هو السبب؛ فالأفراد الذين يستخدمون العلم لاستثمار أتعاب الأفراد، والأمم القوية التي تستخدم العلم لاستعمار الأمم الضعيفة، هؤلاء هم الذين يسببون الشقاء والبؤس، وكما فعل هؤلاء على الأرض جاءوا يفعلون هنا، وجاءوا يستعمرون جهنم ويبتزون أهل جهنم.
ما اكترثت جوكوندا كثيرا بهذا الشرح كأنها لم تفهمه؛ ولذلك اقتضبته قائلة: ولكن أين الحفلة؟ - الحفلة ستعقد هنا تحت في هذا الميدان العظيم الذي نشرف عليه، ألا ترين هناك ديوان بعلزبول منصوبا؟ وسيمثل أمامه كبار الرجماء الذين قاموا بمهمة الحرب، والجموع تحف حول ذلك الديوان لتشاهد الحفلة.
الفصل الثالث
وكانت طلائع الموكب جوقة موسيقية يتقدمها سرب من الراقصات، فلما بلغ الموكب إلى أول الميدان اختلجت جوكوندا وقالت: الموسيقى أيضا وعهدي بالموسيقى أنها وجدت لتسبيح الباري تعالى وتمجيده.
فقال سلفاستروس: ولكن البشر جعلوها من جملة أسلحة الحرب، والشياطين اقتبسوها من البشر. - إن فؤادي يخفق لهذا اللحن، وأشعر برعشة في بدني، كما كنت أشعر حين تعزف الموسيقى في الكنيسة. - إنه لحن حماسي، هو لحن النصر في الحرب، ولعله مقتبس من ألحان الكنيسة. - تبا لهم وألف تب، يدنسون لحن الكنيسة الطاهر، أكره البقاء هنا يا عزيزي، هلم نرجع. - لماذا لا نحول نحن هذا اللحن إلى تسبيح الباري وتمجيده؟ «وكل يغني على ليلاه». - هذا الرقص يشبه الرقص الروماني الذي كنا نرقصه في المدرسة، كما رقصه داود النبي - عليه السلام - أمام تابوت العهد، فهل هؤلاء الراقصات كن راهبات فأثمن؟ - بل هن فنانات التاريخ اللواتي جعلن الرقص عبادة في هياكل الجمال البشري، معابد الشهوات البهيمية، فحرم لأجلهن الرقص في المساجد الدينية. - يتراءى لي أن تلك الراقصة الأولى تشبه القديسة تيودورة الملكة زوجة الملك جستين. - بل هي هي بعينها. - لا أصدق، لا يمكن أن تنزل قديسة إلى جهنم لكي ترقص فيها. - بالطبع لا، ولكن تيودورة هي التي أمرت بأن تعين قديسة، فنفذوا أمرها بعد موتها، وهي قديسة جهنمية. - هل تعرف تلك الراقصة الأخرى؟ - أظنها كليوبترا، وأظن الثالثة ... - تبا لهن جميعا، كان يجب أن يكن راقصات في السماء أمام العرش الإلهي للتمجيد والتسبيح. - أظن عرش بعلزبول أكثر احتياجا للرقص يا عزيزتي، وأما عرش الله فالكون كله تسبيح وتمجيد له. •••
ثم تلا جوق الموسيقى والرقص صفوف من جنود الزبانية، فدخلوا إلى الساحة، واصطفوا في جوانبها، ودخل الموكب البعلزبولي، فقالت جوكوندا: ويحهم! ما هذا الهودج العظيم على أكتاف هؤلاء المردة؟ - هو عرش بلعزبول ملك الشياطين، والذين يمشون وراءه هم الرجماء، كقولك وزراء الدولة والحكام والموظفون الكبار. - ويل لهؤلاء الملاعين؛ ملك ووزراء ودولة! كأنهم ذوو نظام. - طبعا نظام شيطاني تعلموه من أهل الأرض. - ويحهم من أشرار! أما كان أحرى بهم أن يكونوا رجال دولة السماء يسبحون الله؟ - وهل تريدين أن تكون جهنم بلا سكان. - نعم، نعم، كان يجب أن يكون جميع الخلائق في السماء يسبحون. - يظهر أن السماء لم تعد للجميع، فتعين منذ الأزل فريق للسماء وفريق لجنهم. - إذن لم يكن الناس أحرارا في اختيار إحداهما. - صه، صه، لا تدخلي في هذا البحث لئلا تكفري بنعمة الله. احمدي الله أنك ستكونين من الفريق الأول. •••
ووضع عرش بعلزبول في إيوانه المرتفع، وامتثل أمامه كبار الرجماء، ووقف وراءهم بعض مشاهير الأرضيين، وكان سلفاستروس يسمي بعضهم لجوكوندا؛ انظري ذاك نيرون، وذاك إسكندر الكبير، وذاك نبوخذ نصر، وذاك نابوليون، وهذاك رسبوتين، وذاك جزار عكاء، وسنرى من هم الآخرون. - كيف عرفت من ذكرت أسماءهم؟ - من أزيائهم ومن رسومهم التي شاهدتها. •••
وتكلم بعلزبول قائلا: النصر النصر، ما ألذ النصر! بعد جهاد ألفي سنة، ألفا سنة قضيناها في الاستعداد لهذه الحرب العالمية التي زعزعت أركان السلام، السلام الذي قال به رب السلام على الأرض، وكان نصرنا عن أيدي المنتمين إليه، فهل هناك نصر أعظم من هذا؟!
وكانت إلى جنب بعلزبول عقيلته المتوجسة، فقالت: إنه لنصر عظيم ولكنه ناقص ...
فسألت جوكوندا صديقها سلفاستروس: من هذه المتكلمة إلى جنب الملك الجهنمي بعلزبول؟
Неизвестная страница
فأجاب سلفاستروس: هي فينوموس زوجة بعلزبول الداهية، التي تزيت بزي أفعى، وأغوت جدتنا حواء، ألا تذكرين الحكاية؟ - وي، وي، لعنة الله عليها، هي سبب الشر كله، لا أطيق أن أراها، تتراءى لي أنها تتلوى كالأفعى الآن. - هو الغنج الذي اكتسبته بنات حواء من هذه الملعونة.
وكان جواب بعلزبول على قول زوجته: نعم، إنه نصر ناقص ولكنه سيتم بحرب أخرى لا تبقي ولا تذر، فصبرا يا عزيزتي، نعم تزلزلت أركان السلام، ولكن صرح السلام لم يتهدم بعد، يجب أن يتهدم وأن تتبعثر أنقاضه، ولي أمل عظيم بهمة فيرومارس وزير الحرب، وانفنتوروس وزير الاختراع، وجستوروس وزير القضاء، وأرجنتوس وزير المال، وسائر الوزراء النشيطين؛ أننا سنهدم مملكة السلام على الأرض، ونبني على أنقاضها مستعمرة جهنمية عظيمة، تناظر مملكة السماء، ونقيم إمبراطورية هائلة تغزو إمبراطورية السماء.
فصاحت جوكوندا: ويحك يا سلفاستروس! سيغزون ملكوت السماء، فإلى أين نهرب؟ - نبقى في المطهر، فلماذا أنت خائفة؟ - وأهل السماء إلى أين يهربون؟ - يرتفعون إلى سماء أخرى أعلى وأمجد؛ لأن أبانا الذي في السموات عنده سماوات كثيرة لأبراره.
فتنفست جوكوندا الصعداء، وقالت: لقد طمأنتني، وإنما ستصبح الشقة بين المطهر والسماء العليا أبعد. - وماذا يهمك إذا كانت الملائكة تحملك ولا تتعبين؟ على أني أطمئنك بأن أهل جهنم لا يقدرون أن يغزوا السماء حتى ولا الأرض، بل أهل الأرض يغزون جهنم، إن بعلزبول «يفشر ويمعر» لكي يستفز جنوده ليس إلا.
وكان بعلزبول لا يزال يتكلم ويقول: وما بغيتنا الرئيسية من هذا الاحتفال إلا أن نسمع تقارير رجالنا العظام، الذين جاهدوا في هذه الحرب الشعواء، ونترنم بأعمالهم البطلية المجيدة، ولكي نكافئهم على جهادهم الشريف المقدس.
فوكزت جوكوندا سلفاستروس، وقالت: ويحك! اسمع ما يقول هذا البعلزبول الملعون، جهاد شريف مقدس! كبرت كلمة خرجت من فمه النجس الرجس الدنس.
فضحك سلفاستروس وقال: أما سمعت مثل هذا الكلام من أهل الأرض كثيرا، أما سمعته ممن صاروا ضيوف جهنم، أما سمعت ساسة الأرض وحكامهم يستنفرون العامة الجهلة الساذجين إلى القتال وسفك الدماء وترميل النساء وتيتيم الأطفال بأغاني الجهاد الشريف المقدس؟ أما كان أحد الملوك يحمل أيقونة في مركبة، ويطوف بها في الشوارع لكي يستثير شعبه للحرب؟ أوما كان رجال الدين يرافقون الجنود إلى ساحة الحرب لكي يصلوا لهم ويدعوا لهم بالنصر، كأن الحرب عمل شريف مقدس. فبعلزبول لم يخترع الشرف والقداسة من عنده، إنما هو يقتبس لغة شياطين الأرض.
وتابع بعلزبول كلامه قائلا: وبعد ذلك نبحث في المشروع الأعظم الذي نقضي به على مملكة السلام الأرضية القضاء الأخير، ولا بد أن يكون وزرائي قد استفادوا في هذه الحرب اختبارات كثيرة، وعلموا من السياسيين والحربيين والعلماء الأرضيين فنونا جديدة، يمكننا استخدامها في الحرب القادمة، فلنسمع أولا تقرير عزيزي وزير الحرب فيرومارس، وكيف كانت براعته في التنكيل والتدمير.
فاعترض أرجنتوس وزير المال قائلا: أظن حسن الترتيب يقتضي يا سيدي الزعيم أن نسمع أولا تقرير مسبب الحرب.
فتلفت بعلزبول هنا وهناك وتلفت الجميع من حوله لكي يعلموا إلى من يشير أرجنتوس، إلى أن قال: من هو مسبب الحرب؟ لا أدري أن هنا رجيما خاصا لهذه المهمة، كلنا سعى إلى الحرب وهيأ أسبابها.
Неизвестная страница
فقال أرجنتوس: نعم، كلنا نسعى إلى هذه الغاية الشريفة، ولكن بيننا من اختص بالقسط الأكبر من هذا المسعى الحميد.
فقالت جوكوندا لصديقها: اسمع، اسمع، يقول هذا اللعين: «بالسعي الحميد»! وهل يعرف هؤلاء الأشرار شيئا حميدا؟!
فقال سلفاستروس: طبعا، وهل شيء أحمد من الوصول إلى الغاية المنشودة، أما كان سعي يسوع إلى الصليب حميدا؟ فلماذا لا يكون سعي اليهود إلى صلبه حميدا أيضا؟ إن الحميد شيء نسبي يا عزيزتي، وقد شرح أينشتاين النسبية لكي نفهم كيف يكون سعي الأبالسة إلى الحرب حميدا. - من أينشتاين هذا؟ - هو أعظم إبليس من أبالسة العلم والفلسفة، كاد يستكنه سر الوجود المادي، ويظفر بالمبدأ الأول الذي يتوارى الخالق عز وجل وراءه عن أبصارنا. - لله دره، إن الذي يعلن قدرة الله يجازى في السماء بأفضل منزل. - من قال لك أن الله يرضى أن يعلن عنه مخلوق، إن إعلان ذاتية الله لأعجوبة أعظم من عجائبك مليون مليون مرة. - إذن أيريد الله أن تبقى ذاتيته مجهولة؟ لا بد من مخلوق يختاره الله ليظهرها. - لقد اختار الله لإظهارها نبيا، ومع ذلك لم يستطع ذلك النبي أن يظهرها إلا بالإشارة. - من هو؟ - داود النبي القائل:السماوات تحدث بمجد الله، والفلك يخبر بعمل يديه. فهل لإعلان ذاتية الله أبلغ وأفصح من هذا الشعر البديع الفلسفي؟!
الفصل الرابع
وكانت فينوموس عقيلة بعلزبول تتلوى وتتغنج إلى جنبه، وتضحك صاهلة كالفرس البطراء حين أشار أرجنتوس إليها قائلا: هذه الملكة العظيمة هي ذات القسط الأعظم من السعي الحميد إلى حدوث الحرب، بل هي وحدها التي سببت الحرب، فنود أن نسمع تقريرها أولا.
فالتفت بعلزبول إليها باسما وقال: يا للتواضع الكلي! يا للوداعة! يا لإنكار الذات! أتقومين بأعظم مهمة في الحرب، ولا يدري بما فعلت أحد غير أرجنتوس يا عزيزتي؟!
فقال أرجنتوس: لقد دريت مصادفة يا مولاي؛ لأنها كانت تحتاج إلى المال في بعض الأحوال فأخلقه لخدمة غرضها. - مرحى، مرحى، يا ذات الدهاء، قصي علينا كيف أثرت الحرب، فإن حديثك سيكون أندر حديث وأفكه خبر في هذه الحفلة، إن صوتك العذب ترنيم مطرب، قصي فنترنم.
فوقفت فينوموس وهي تتمايل بغنج ودلال، فتمثل فتنة النساء للرجال، وعيناها تغامزان الأبطال، كأن نظراتها ومضات كهرباء تهز الأعصاب، وتحرك الأكف للتصفيق، ثم رفعت يديها كأنها تبارك، فخشع الجمع، وكفت الأكف عن التصفيق، ثم طفقت تتكلم بصوت معدني رنان: كيف يغزو البحر اليابسة فيفتت الصخور؟ بتلاطم الأمواج. وكيف تتلاطم الأمواج؟ بهياج البحار. وماذا يهيج البحار؟ عصف الرياح. وبماذا تعصف الرياح؟ بتغلغل الحرارة فيها، الحرارة شهوة في الهواء. فالشهوة علة العواصف التي تثير الأمواج؛ لذلك قبضت على عنان الشهوات، وجعلت أبذرها في القلوب، فإذا بأقوى القلوب أكثر نموا وخصبا، وإذا بالذكور أحر شهوة وأشواقا للإناث، وإذا بالإناث أوفر جمالا وأعطف على الرجال، وإذا بالجمال فتنة للرجال وبالبطولة فتنة للنساء.
الشهوات هاجت الرجال لاقتناء الجمال، والشهوات حمست النساء لابتداع الجمال، فالمرأة مصنع الجمال، والرجل مصنع المال، تلك تبيع وهذا يشتري، والشهوات تبتلع ولا تشبع، وعواصف الجمال تثير لجج المال، والفريقان يتصادمان بلا ملال.
في إبان ذلك الصدام العنيف وقعت القلوب الشديدة تحت سنابك خيل الفلوس، والقلوب الضعيفة تحت أقدام فنون الحسن، وأصبح الرجال عبيد الحسن، والنساء أسيرات الذهب.
Неизвестная страница
الرجال يقتتلون لأجل الثراء آسر النساء، والنساء يتنافسن في فنون الجمال فاتن الرجال.
هكذا نشأت الحروب بفعل فاعلين: المال والجمال. ومصدر الفاعلين واحد، وهو الشهوة.
عنان الشهوة في يدي.
فصاح بعلزبول: مرحى، مرحى يا ذات الدهاء ملهمة النساء!
عند ذاك دوى المكان بالهتاف: فلتحي فارسة الشهوات القابضة على عنان اللذات.
ثم ارتفع صوت من الجمع قائلا: الشهوة عاصفة ريح فكيف لربة الدهاء أن تقبض على الريح؟
فسرحت فينوموس بصرها في الجموع باسمة بسمة مكر ودهاء، ثم قالت: من أغوى أم البشر أن تقطف ثمرة من شجرة الخير والشر؟ ومن زين لها اللذة المودعة في تلك الثمرة؟ ومن أغوى أبا البشر أن يحمل رفيقته على عاتقه لكي تصل إلى الثمرة وتقتطفها؟ ومن زين له الفتنة المودعة في تلك الرفيقة؟ إن القوة والفتنة قد تعاونتا على اقتطاف اللذة، ذاقتها حواء ثم أذاقت آدم، فاستطاباها ثم تناهباها. من ذلك الحين أصبحت تلك الثمرة المشتهاة التي لا تجنى إلا بالقوة والفتنة معا، متنازع البشر، تلك الشهوة المزدوجة الفعل مالا وجمالا، أثارت سلسلة الحروب التي لا تنتهي، هكذا أثرت الحروب منذ مقتل قايين إلى مقتل الجندي المجهول.
وانبرى جستوس الفيلسوف وزير القضاء وقال: عفوا يا ذات السناء والذكاء، أما كان في طوقك أن تغري زميلتك أم البشر بثمرة غير التفاحة؟
فبدر القول على لسان فينوموس: وما عيب التفاحة؟ - بالتفاحة دخل الخير مع الشر إلى الإنسانية، أفما وجدت ثمرة ذات شر بلا خير كالجوز المقيء
Nux Vomica
Неизвестная страница
ذي السم الزعاف المسمى ستركنين أو كثمرة الأفيون مثلا؟
فتبسمت فينوموس ابتسامة استهزاء وقالت: لا بدع أن يغرب عن بال فيلسوفنا جستوس ما غرب عن بال الفيلسوف أرخميدس، حين طلب إلى العمار أن يبني كنا لكلبه وهرته المؤتلفين، فلما أنجز العمار بناء الكن انتقده أرخميدس بقوله: هذا كن بباب واحد فقط لدخول الكلب، فأين الباب لدخول الهرة؟ ... فأجاب العمار مستغربا: ألا تستطيع الهرة يا سيدي الفيلسوف أن تدخل من حيث يدخل الكلب؟ فضحك الفيلسوف من غفلة نفسه، فهل غفل فيلسوفنا جستوس عن أن ثمرة الجوز المقيء مرة المذاق دميمة النظر ومثلها ثمرة الأفيون، فكيف يمكن إغراء زميلتي أم البشر أن تأكل الجوز المقيء أو جوزة الأفيون؟! وهل غفل فيلسوفنا أيضا عن أن هاتين الثمرتين لا تخلوان من الخير؟! فتلك تقوي الفؤاد وهذه تسكن ثورة الأعصاب الأليمة، فلا أفضل من التفاحة للإغراء؛ لأنها جميلة للنظر شهية للنفس.
فقال جستوس مداعبا: ولكن للتفاحة تاريخا غلب فيه الخير على الشر؛ فالتفاحة فتقت ذهن نيوتن لاكتشاف ناموس الجاذبية، ذلك الناموس الذي وسع دائرة المعرفة وجعل قطرها ألف ضعف، فانبثق منه ألوف صنوف المعارف والاختراعات التي أغدقت الخير على الجنس البشري، فكأنك بإغرائك أم البشر بالتفاحة قد أتيت لنا بالخير خصما عنيدا وعدوا لدودا للشر.
فقهقهت فينوموس بالرغم من رزانتها وقالت: إني أحيل نظريتك هذه إلى الوزيرين فيرومارس وزير الحرب، وأرجنتوس وزير المال؛ فهما يفندانها لك، ويريانك كيف أن المعرفة التي يتبجح بها خلفاء نيوتن كانت خادمة الشر، وكيف أن مستحدثات العلم والاختراعات التي يفخر بها بنو الإنسان تحولت إلى أدوات قتال ودمار.
فقال جستوس: بالرغم مما تعنين فإن إله الخير شرع يطارد إله الشر منذ أكل أبو البشر التفاحة الأولى؛ لأنهما حالما تفتحت عيناهما وعرفا الخير والشر جعلا يخيطان من ورق التين مئزرا لهما؛ لكي يسترا عورتيهما احتشاما. فليتهما لم يأكلا التفاحة ولا احتشما؛ لأن احتشامهما كان أول طلائع الخير، ومنذ ذلك الحين أصبحنا منهمكين بمقاتلة الخير.
فقال فينوموس بقليل من الحدة: زه، زه، ما هذا المنطق المحذلق يا معلم، عذرا، أتريد أن يبقى آدم وحواء ساذجين يسرحان ويمرحان في الفردوس إلى الأبد؟! كيف تستطيع إذن أن تحارب ملكوت الإنسان وهو في الفردوس، وباب الفردوس يحرسه ملاكان مسلحان بسلاح لا يتقى، فإذا لم يخرجا من الفردوس فكيف نحاربهما، أليس من خداع الحرب أن تستدرج الخصم ليخرج من حصته، ثم تجاربه في ساحة الوغى! من طرد آدم وحواء من الفردوس؟ - خالقهما لأنهما عصيا وصيته. - لا، بل أنا طردتهما منه حيث سولت لهما هذه المعصية. - وما فرية طردهما وقد خرجا مؤتزرين مستتري العورة، وهل ستر العورة إلا حشمة، وهل الحشمة إلا فضيلة؟ وهل الفضيلة إلا ضرب من الخير؟ فكأنهما خرجا وفي قلبيهما حصن للخير لا يستطيع سلاح الشر فتحه. - بخ، بخ ... كيف تفسر ستر عورتهما بالحشمة يا معلم؟ - إذا لم تكن هي الحشمة فماذا تكون؟! - لم يكن مئزرهما إلا مولدا للفن، فمنذ طفق الإنسان يكتسي ولد الفن وجعل يترعرع، وهل أناقة الأزياء والحلي والحلل والرياش إلا شعاب من الفن؟ وهل الغزل الشعري والغناء والرقص إلا فروع من الفن؟ وهل التمثيل والتصوير والنقش والنحت إلا غصون من دوحة الفن؟ - إنها لكذلك.
وهل الفن إلا ثمرة الحكمة، وهل الحكمة إلا فضيلة؟ وهل خير أعظم من خير الفضيلة؛ إذن الفن خير أعظم الخير.
فقهقهت فينوموس، ثم قالت: وهل عري الترائب في الرقص ولف السواعد على الخصور، وإطباق النهود على الصدور حشمة ففضيلة فخير؟ وهل نحت تمثال فينوس عاريا حشمة؟ وهل التغزل بأعضاء البدن حشمة؟ أو هل ... إلى آخر ما تعلم من بدائع الفنون؛ هل في كل ذلك قصد الحشمة أم قصد إثارة الشهوة؟! فما في ضروب الفن إلا التفنن في إثارة الشهوات، فلله در التينة التي انبثق من خياطة أوراقها الفن، ولله در التفاحة التي انبثقت منها الحكمة، ورقة التين أم الفن وثمرة التفاح أم الحكمة، غذتا الفن، وكلتاهما تجندتا تحت راية الشهوة. فالحشمة التي حسبتها خيرا يا معلم ليست إلا ذئب الشر في جلد خروف الخير، كذلك كلما تقدم الفن خطوة نشطت الشهوات خطوات في ميدان الخلاعة والتهتك، أليس الإنسان أشد غلمة وشبقا من جده الحيوان ألف مرة وكرة؟! فكيف تريد أن تشب الحروب في ملكوت الإنسان إذا لم يكن في قلبه الخصمان الخير والشر؟!
أيد واحدة تصفق؟! أبشطر واحد من الكهرباء يحدث تيار؟! إذا كان أحد غيري يستطيع أن يبتدع شرا بلا خير فليتفضل، وأنا أتنازل له عن عرشي. - عفوا ومعذرة يا مولاتي، لا تستائي من اعتراضي، فما هو إلا قبس ضئيل من بارع دهائك وبالغ حكمتك. - أجل لا يمكن أن يبتدع شر محض لا يمازجه خير، ولقد ابتدعت الشر، فعليكم أن تتجندوا له لكي تقاتلوا الخير. تفضلوا أنبئونا ماذا فعلتم في حروب الشر والخير؟!
عند ذلك دوى المكان بالهتاف لملكة الدهاء.
Неизвестная страница
الفصل الخامس
وكان بعلزبول يترنح طربا من حديث عقيلته الفتانة فينوموس، فلما استوت على عرشها مزهوة تيها وافتخارا، قال بعلزبول: نسمع الآن تقرير صاحب الصولة فيرومارس وزير الحرب، لا بد أن يكون حديثا يشرح الصدر.
فوقفت فينوموس وقالت: أظن أن الترتيب الأنسب يقضي بأن نسمع صاحب الحنكة ميديوموس وزير الخارجية والمواصلات؛ لأني أعتقد أن مساعيه الحميدة بين الجحيم والأرض كانت من أهم العوامل في إثارة الحروب البشرية.
فوقف ميديوموس وطفق يتكلم: أرى لزاما علي أن أستهل خطابي بالثناء على سيدتنا المجيدة ذات الدهاء؛ لأن أعمالها الحكيمة فتحت لنا الطريق العريض للسعي والعمل، فقد قبضت على الشهوات وما زالت تبذرها في قلوب بني آدم وبنات حواء حتى خالطت منهم اللحم والدم، فأخرجت شظأها في صدور النساء وأزهرت زهور فتنة وإغراء أخاذ في ملامحهن وسائر تصرفاتهن، ونبتت في قلوب الرجال، فأمرعت وأينعت ثمار طمع وشره في ظاهرات نشاطهم، أما الفتنة فكانت ازورار الزور في كحل عيونهن، وخطوط المين في تزجيج حواجبهن، وتلون الغايات في تفاح خدودهن وعندم شفاههن، وحلاوة الخلاعة والتهتك في رمان نهودهن، ووقيد الشهوة في ميس قدودهن ونواحل خصورهن وارتجاج أردافهن، وإيماآت الإغراء في أزياء ملابسهن، وبواعث الغواية في حليهن، وعاصفات الأشواق في غمزاتهن وتمايل أعطافهن.
وأما نشاط الطمع والشره في الرجال فكان باديا في صلابة عضلاتهم، ومفتول سواعدهم، وحوافز الطموح في شوامخ أنوفهم، ومغاور النهم فيما لا حد له من أطماعهم، وقواضم الافتراس في جوارحهم، ومناسج الكيد في نزوات رءوسهم، ومعامل سلاح التنازع في خلايا أدمغتهم.
وصفوة القول أن فنون فتنتهن كانت عواصف تثير لجج نشاط الرجال اغتناما للمال بأي الوسائل؛ لكي يقايض الآدميون بذهبهم الرنان جمال الحواءات الفتان، وبهذه المقايضة تتغذى شهوات الفريقين ولكن بلا شبع .
إن شهوة الفريقين إذن هي المحرك لطلب المال والحرص عليه، إن هذه الشهوة التي زعزعت ملكوت الإنسان كانت من بذار سيدتنا المبجلة ذات الدهاء فينوموس. (وهنا دوى المكان بالتصفيق والهتاف لذات الدهاء)، هذا المحرك القدير للطمع بالمال مهد لنا الطريق للعمل، فشكرا لسيدتنا الموقرة (هتاف لها)، فمنذ خرج أبو الإنسان من الفردوس شرع الطمع يفعل فعله العجيب، شرع الراجم يستغل تعب المرجوم بألف أسلوب وأسلوب، ولا متسع لتعداد الأساليب، ومعظمها يرجع إلى استخدام النعرة الدينية للاستغلال. باستخدام حمير المطامع ابتدأ عملي.
فقال بعلزبول مقاطعا: هل تعني أنك جعلت المطامع حميرا يمتطيها الطامعون. - لا يا مولاي، بل بالعكس، جعلت الناس حميرا تمتطيها المطامع، فكل مطمع يستكد حماره بالموكز في حلبة السباق لكي ينال القسط الأوفر من الغنيمة؛ لذلك تجري حمر السباق، تتزاحم وتتصادم ويثب بعضها على بعض، ويدوس قويها ضعيفها، وينهش لاحقها سابقها؛ لكي تملأ بطون مطامعها من غنائمها.
فاعترض الفيلسوف جسنوف وزير القضاء قائلا: هذا يكون في حالة الفوضى، ولكن حميرك مارسوا النظام حتى صار خلة لهم، فكيف كنت تفسد نظامهم؟!
فأجاب ميديوموس: لم أفسد نظامهم، بل بالعكس كنت أزين لهم حسن النظام والانتظام في جماعات، لكي يتصادموا جماعات لا أفرادا؛ لأني لم أقنع بالربح القليل من «القطاعي»، بل بالكسب الوافر من «الجملة»، وهكذا جعلت النظام بين الأفراد والفوضى بين الجماعات لهذه الغاية.
Неизвестная страница
فقالت فينوموس: لله درك من سياسي محنك، تستنبط الفوضى الكبرى من الأنظمة الصغرى، إنك لصانع معجزة هي أغرب من لغز أبي الهول، فكيف حللت هذا اللغز؟! - ضربة واحدة على المقتل يا سيدتي حلت اللغز، وهل ثمة مقتل أضعف من الدماغ، مهما تكن الضربة هناك ضعيفة فهي تصرع. وماذا في الرأس غير العقيدة؟! لقد ضربت العقيدة ضربة واحدة فتفتت إلى عقائد، وبتفتتها انقسمت الأسرة الإنسانية إلى أقوام تزعم كلا منها زعيم، وكل زعيم يزعم أن عقيدته محض الحق والصواب، بل هي الشرط المستقيم المؤدي إلى النعيم الأبدي، وبهذه الدعوى أخذ كل زعيم يستفز قومه للجهاد في سبيل العقيدة التي يدينون بها، ومن هنا كان منشأ النزاع.
لقد كان لبني آدم إله واحد، ولكنهم بهذا الانقسام أصبحوا ولهم آلهة عديدة حجبت عنهم ذلك الإله القوي الجبار، كما تحجب السحب الشمس، الشمس تملأ رحاب الكون نورا ولكن الذين تحت السحب لا يرونها، بيد أنهم كانوا يغالطون أنفسهم ظانين أنهم يرونها وما هم راءون إلا أوهامهم وغيهم الذي فيه يعمهون.
وكان الملكوت السماوي ميراثا للنوع البشري كله، فلما تفتت الأسرة البشرية بتفتت عقيدتها صار كل زعيم يدعي الملكوت لقومه وحدهم، فراحت الأقوام وهي على الأرض تتنازع مملكة السماء، ويقاتل بعضها بعضا لامتلاكها، حتى إذا غلبت أمة أمة أخرى احتلت الملكوت، ونصبت رايتها فيه، وطردت الأمة المغلوبة منه.
فالجنة التي أعدها الله في السماء، وجعل الأنهار تجري من تحتها، واصطفى لها الأبرار من عباده، أنزلها العباد إلى الأرض، وجعلوها ساحات للوغى تجري فوقها الدماء.
والملكوت السماوي الذي ملأه الله منازل لقديسيه اغتصبه وكلاؤه الأرضيون المزعومون، وعرضوه للمساومة في سوق البيع والشراء.
فقالت فينوموس ضاحكة: أما قيل كما في السماء كذلك على الأرض؟ وكان الأصوب أن يقال كما على الأرض كذلك في السماء. - لكلا القولين مفاد واحد يا سيدتي؛ لأن تقسيم ملكوت السموات حصصا للعباد ألهى حمير العامة عن تقاسم الخاصة الملكوت الأرضي، ففيما كان وكلاء الله من كهان وحكام يتناهبون أمتار الأرض، كان حميرهم منهمكين بتقاسم أشبار السماء، والمحبة التي أقامها الله ناموسا للإنسانية أطلقها عباده على البهيمة، فإذا بها تصبح ثوبا قشيبا للرثاء، وإذا بحبل المحبة الذي يربط القلوب يصبح في أيدي الأسياد قيدا لإرهاب العبيد وسوطا لتعذيبهم، وإذا بالتسامح يصبح تمثالا والمغفرة جمرة حقد.
ولكن مهما طال الشتاء فالصيف وراءه يطارده، والسحب لا تستطيع الثبات تحت حر الشمس، فانقض الشتاء وانقشعت سحب الغباوة، وامتدت شمس المعرفة تجلو الحقائق ...
فانبرى صاحب الصولة فيرومارس قائلا: ويحك! حديثك ينذرنا بالفشل؛ لأن المعرفة خير يمحق الشر الذي نحن جنوده.
فأجاب صاحب الحنكة ميديوموس: مهلا مهلا يا صاح، لقد سبق حديث سيدتنا ربة الدهاء أن الخير والشر توءمان منذ الأزل، لا ينفصل أحدهما عن الآخر، فإذا لم يكن ثمة خير ونحن جنود الشر فمن نحارب؟! - إذن، ماذا نفعل حين تمحق حرارة شمس المعرفة سحب الغباوة فتنجلي الحقائق؟! - إن زفرة واحدة من أنفاسي ملأت الفضاء قتاما، جعل أشعة الشمس الذهبية حمراء كالدماء. - لله درك، أما كان في وسعك أن تجعل ذلك القتام كثيفا يصد أشعة الشمس صدا ويعيد الظلمة إلى سطح الأرض، فتغيب المعرفة وتبقى الغباوة. - متى ظهرت المعرفة وانجلت الحقائق، عندئذ لا تستطيع قوة أن تقصيها عن فضاء العقول، فليس لي إذن إلا أن أستخدم المعرفة نفسها سلاحا لي لا سلاحا علي.
احمرت صفحة الشمس غضبا لمكر الذين عاثوا في الملكوت فسادا، وإذا أولئك الحمير العميان قد انفتحت أعينهم، وجعلوا يتبينون الملكوت في الكون، فإذا هم لا يرون ملكوتا لا في السماء ولا في الأرض.
Неизвестная страница
رصدوا الأكوان كلها، وإذا الملكوت الذي مناهم به أسيادهم وقادتهم في الجهاد، إن هو إلا ظلهم يهرب أمامهم كلما أسرعوا وراءه.
رصدوا جنة السماء، فإذا هي قصية عنهم لا يبلغ إليها نور الشمس إلا بعد ألوف ملايين السنين، وإذا جنة الأرض جرداء ليس فيها غرس للهناء، وإذا هم لا يملكون إلا مساحة متر مربع سبقهم الدود إليه.
وهنا حدث رد الفعل، فقد صار الاحترام احتقارا، والعبادة تجديفا، والغيرة على الدين إلحادا، والطاعة تمردا، والجهاد ثورة.
فقال الفيلسوف جستوس: لله منها نفخة نفختها يا أستاذ فأغضبت الشمس، إن ذلك القتام الذي نفخته لسر عجيب. - ما هو سر يا عزيزي الفيلسوف، إن هو إلا دخان القلوب التي أحرقتها الشهوات النابتة من بذار سيدتنا ربة الدهاء في الصدور، إن هذه الشهوات لهي المعدن العجيب الذي نصنع منه أسلحتنا كلها.
فقال صاحب الصولة فيرومارس: وكان المنتظر أن تقوض تلك الثورة ملكوت الإنسان على الأرض؛ لكي نشيد على أنقاضه ملكوتنا، ولكن خاب الرجاء.
فقال ذو الحنكة ميديوموس: لم تكن تلك الثورة لتقويض الملكوت الأرضي بل لتقويض المثل الأعلى الذي شيد في قلب الإنسان - الملكوت السماوي - ولذلك وجهت الضربة إلى العروش والكراسي التي كانت أنصابا لهذا المثل الأعلى، فدكتها الثورة دكا، ولكن النوع البشري لا يكف عن طلاب مثل أعلى يوجه أبصاره إليه، فلكيلا يعود فاشلا، ينحت تماثيل أخرى لمثله الأعلى - الملكوت السماوي - جعلت أوري زناد القرائح بالشهوات لكي تقدح شرر مثل أعلى آخر يقوم مقام ذاك.
فقال جستوس: طبعا لم يعد مهماز التحريض يستكد غيرة الدين للجهاد، فكيف يثير الأسياد عبيدهم للقتال في سبيل المغانم؟ - لما زهدت الأقوام في الملكوت السماوي صارت تطمع بالملكوت الأرضي، ولما جابت شهوة النفوس ثارت شهوة البطون، فقام الفتح والاستعمار مقام الغزو والسلب، وانتهز الزعماء اضمحلال المثل الأعلى، ونصبوا بدلا منه مثلا أعلى آخر، أقاموا تمثال الوطن مقام تمثال الدين، أصبح الوطن دين الناس الجديد، وصار شعارهم «حب الوطن من الإيمان». حل الوطن محل الإله، وتحول الجهاد في سبيل الدين إلى جهاد في سبيل الوطن.
ارتفعت راية الوطن وانخفضت رايات العقائد الدينية، وصار ترنيم مختلفي العقائد «الدين لله والوطن للجميع»، فتأبط الله تعالى دينه وتوارى غاضبا، واحتضن الوطن قومه لكي يتغذى بضحاياهم من غير شبع.
خمدت حروب الأديان، واحتدمت حروب الأوطان، وصارت أناشيد الوطن «تنازع البقاء»، وترانيمه «البقاء للأفضل»، وأغانيه الحربية «السيادة للسوبرمان».
تقيأ الجنس البشري «الملكوت السماوي»، وهو يغص الآن بالملكوت الأرضي، ولم يبق لنا إلا ركلة واحدة لكي ندحرجه من ملكوت سعادته إلى جحيم شقائه الأبدي. (هتاف وتصفيق حادان).
Неизвестная страница
ثم انبرى صاحب الصولة فيرومارس وقال: لا تتسرعوا يا إخوان، لم نزل في أول الجهاد، لم يزل النصر للمستقبل.
فقال ميديوموس: لم أعن أن جهادنا قد انتهى هنا، ولا أن مهمتي قد انتهت؛ لأن عملية الاستعمار لو نجحت لباء وزراؤكم بالفشل، ولكن يستحيل أن تنجح ما دام نجاحها لقوم لا يكون إلا على حساب هلاك قوم آخرين؛ ولذلك كاد حمير المطامع يفطنون إلى أن الوطن المعبود إن هو إلا آلة في أيدي القادة، كما كان الدين المفسود آلة في أيديهم؛ لأن إله الوطن ولد إلها جديدا أقوى من كل إله؛ إله المال، والفضل في ولادته لدهاء زميلنا صاحب الأبهة أرجنتوس وزير المال، وهو يشرح لكم لاهوته.
فوقف أرجنتوس وقال: أشكر لصديقي صاحب الحنكة ميديوموس تنويهه هذا، فهو قد استمر بتمهيد الطريق الذي شقته لنا سيدتنا ذات الدهاء، وأرجو أن لا تظنوا أن عمله قد انتهى هنا.
فقالت فينوموس: إني عالمة أن صاحب الحنكة ميديوموس لم يشرح لنا تفاصيل عمله، وإنما أجمل نقطه الأساسية، فأرجو منه أن يتم شرحه.
فقال ميديوموس: كنت أعتمد في عملي دائما على سلاح الشهوات، ولم يبق من نقطه الأساسية شيء غير مشروح سوى نقطة واحدة، وهي أني كنت أقيم من أمكر أهل الأرض سفراء لنا ينفذون دسائسنا؛ ولذلك أنشأت نظام الجاسوسية، ووكلت أمره لهؤلاء السفراء الذين خدموا جهادنا جليل الخدم، ولا متسع لذكر أبطالهم وخدمهم، وإنما أذكر واحدا منهم كان أدهى الدهاة، وقد استشهد في سبيل خدمه، وجاء إلينا يستقيل من منصبه بالرغم منه، فأقدمه لكم عسى أن تكافئوه جزاء عمله وتشجيعا لغيره، هو الأخ رسبوتين الراهب الروسي الداهية العظيم.
وأومأ ميديوموس إلى رسبوتين، فتقدم هذا، وقدمه إلى الرئيس بعلزبول قائلا: بارك يا سيدي عبدك الأمين.
فبسط بعلزبول يده قائلا: مرحى مرحى يا عزيزي رسبوتين، باسم دولة جهنم أشكرك وأمنحك الجنسية الجهنمية وأرقيك إلى رتبة رجيم، وأقلدك حسام الرجامة، فأنت منذ الآن في مصف الرجماء، ولك جميع حقوق الرجامة الجهنمية.
فقبل رسبوتين يدي بعلزبول وغمغم بكلمة شكر، ورمق فينوموس بنظرة حادة، فبسطت له يدها فقبلها قبلة حارة.
عند ذلك قال بعلزبول: نسمع الآن تقرير عزيزنا صاحب البهاء أرجنتوس وزير المال.
الفصل السادس
Неизвестная страница
انبرى صاحب الصولة فيرومارس وقال ساخطا: أنا صاحب الحول والطول، أنا الذي أقام قيامة الحرب العظمى، وأنا الذي تحاولون أن تغمطوا فضله وتحقروا فعله.
فقال بعلزبول: ما الداعي لهذا التشكي يا فيرومارس. - كلما جاءت نوبتي في الكلام انتدبتم غيري، فما معنى هذا إلا التحقير لجهادي. - أنت مخطئ، نحن نتتبع أنواع الجهاد بحسب تسلسلها، ومساعي ميديوموس كانت تمهيدا لمساعي أرجنتوس.
فانبرى انفنتورس وزير الاختراع وقال: ومساعي أرجنتوس تمهيدا لمساعي التي هي تمهيد لمساعي فيرومارس.
فقال فيرومارس متمرمرا: أرأيت يا سيدي الملك كيف يجعل العامل الفعال آخرا؟ هذا ما لا أطيقه، أحتج وأنسحب وأتنازل عن المكافأة.
فقال فينوموس: معاذ الله أن نقبل انسحابك يا صاحب الصولة، بإذن جلالة الرئيس تكلم.
فهدأت حدة فيرومارس وطفق يتكلم: ما دامت بزور الشهوات تنبت فنبتها يزهر وزهورها تثمر وثمارها العداء والخصام، فالنزاع طبيعة في الإنسان، والقتال حتم عليه سواء كان لأجل الأديان أو في سبيل الأوطان، والعبرة في أساليب القتال التي تسقي الأرض دماء، ولا تشبع منها الأرض مهما أمطرت منها السماء إلى أن ينضب معين الملكوت الأعلى، ويتخم بطن الملكوت الأسفل.
تعددت الأسباب والحرب واحدة، فإذا لم يقتتل البشر لأجل الدين اقتتلوا لأجل المال، اقتتلوا لأجل الحب، وإن لم يقتتلوا لأجل الحب اقتتلوا لأجل البغض، فهم يقتتلون على كل حال، والعبرة في درجة احتدام القتال وفي اندفاع الجماهير إلى ساحة النزال، وفي حصد الرءوس «بالجملة» لا «بالقطاعي»، وهذا ما فعله خادمكم المطيع.
جندت الذكور شبانا وكهولا، وشغلت النساء والأطفال والشيوخ في مصانع السلاح، فجميع النساء استخدمت في الحرب.
حولت معامل السلع إلى معامل سلاح وذخائر.
حولت الاختراعات إلى أدوات الهلاك: الحديد للمدافع والدبابات والقطرات المصفحة والغواصات والبوارج والنسافات والأسلاك الشائكة والقنابل، وحولت الكيمياء التي يفاخر بها العلماء إلى مفرقعات وقذائف وغازات سامة ومكروبات فتاكة، والكهرباء إلى صوارع،
Неизвестная страница
1
وغذيت الطيارات في بدء طفولتها فترعرعت عاجلا؛ لكي تصب الهلاك من فوق، كما تقذفه النيرات من تحت.
مددت خطوط القتال ألوف الأميال لكي تتقابل فيها ملايين الرجال، والردى بينها يتهادى ذات اليمين وذات الشمال، والأشلاء تتساقط كالنيازك في بطون الخنادق.
فانبرى انفنتورس بلا استئذان وصاح مقاطعا: ها، ها، صه، مه، حتى ما هذا الافتئات يا فيرومارس! تدعي لنفسك كل عامل من عوامل الحرب، وأنت لم تضرب إلا بسلاح غيرك، ولم تهجم إلا بساعد سواك. إذا كانت الاختراعات الحديثة أفتك آلات الحروب، فلأني أنا الذي كنت أوسوس لوزراء الحرب أن يحولوا كل اختراع جديد إلى أداة دمار وهلاك، فلولا وسوستي هذه لكان كل اختراع جديد لفائدة الجنس البشري وهنائه لا لتدميره وإفنائه.
فأجاب فيرومارس محتدا: ولو لم أوسوس لرجال الحرب أن القتال رياضة الرجال، وأن النصر فخر، وأن أكاليل الغار تنتظر القواد الكبار، لما تواثب الأبطال للنزال.
فقال انفنتورس: وهل تحارب الجنود بلا سلاح وبلا بنود؟
فقال فيرومارس: وهل تحارب الجيوش إذا لم تستفزها للحرب! فهل اختراعاتك استفزتها؟ - وهل تحارب الجنود لتتصارع كتصارع الثيران يا شيطان؟ - نعم، يكفي أن تتصارع ولا لزوم لاختراعاتك. - خسئت.
وكادا يشتبكان في صراع عنيف لو لم ينتهرهما بعلزبول زاجرا: صمتا وكفا عن الخصام أيها الغبيان، أفي موقف تناظر وتناحر نحن يا أحمقان؟! ماذا تركتم للبشر من صنوف العداء والخصام! نحن نعترف لكل من الرجماء الفخام بقيمة جهاده. الحرب لم تتم بعمل واحد لكي يحتكر هذا الواحد الفضل فيها لنفسه، بل كان جهاد كل واحد لازما.
عند ذلك نبهت المؤتمر ضجة من بعيد فوجهوا أنظارهم إليها، وإذا جمع لا يحصى عدده قادم، فقال بعلزبول: ما هذا؟ ما هذا؟
فقال انفنتوروس: أظنها مظاهرة.
Неизвестная страница
بعلزبول: مظاهرة! حفاوة بأبطالنا؟ هتاف لهم؟
انفنتوروس: أظنها مظاهرة تذمر وشكايات، يا ذا الجبروت. - تذمر وشكايات! لماذا؟! - لا أدري تمام الدراية بالحقيقة، وإنما سمعت لغطا بأن الحرب الكبرى كانت فشلا.
فقال فيرومارس: إذن كانت اختراعاتك يا انفنتوروس نكبة لنا لا لأهل الملكوت.
فقال انفنتوروس: ألا تخبرنا ماذا كانت قيادتك لبني البشر في الحرب.
فصاح بعلزبول: صمتا يا خبيثان، أخلافكما أعالج الآن أم هذه المظاهرة المقلقة؟ هل لك يا ميديوموس أن تقابل هؤلاء المتظاهرين وتصدهم بالتي هي أحسن؟
فقال ميديوموس: من يستطيع يا مولاي أن يقف في سبيل السيل العرم؟ - لعل أوجستوس يستطيع أن يصرف هذا السيل في أقنية يمينا وشمالا حتى لا يصل إلينا إلا نزيز منه.
فقال أرجنتوس: لا يمكن حفر الأقنية في حالة الفيضان يا مولاي، إني أرى فيضانا متدفقا.
فالتفت بعلزبول إلى يمينه مكفهر الوجه كأنه يسترشد بدهاء عقيلته فينوموس، فنظرت فيه باسمة : لا تخف يا عزيزي دع السيل يتدفق في مجراه ولا تعترضه، لقد اصطنعت سفينة نركب فيها متن هذا الطوفان، إني أحسب حساب هوج الشعب في حالة هياجه، فمهما كان الفرد متعقلا فالجمهور أرعن، مهما تلاطمت الأمواج، فلا تتحطم السفينة إذا كانت بعيدة عن صخور الشواطئ، هلم نقابل الشعب قبل أن يصل إلى هنا. - ويحك! أتريدين أن نوقد ثورة جنونية بتهجمنا عليه. - لا نتهجم عليه بل نشترك معه بالمظاهرة. - سياسة هوجاء لا أفهمها. - لم يبق وقت للجدال، هلموا اتبعوني في الحال؛ فإني لكم قائدة في هذه المباغتة، هلموا.
ونزلت فينوموس عن عرشها ومشت نحو الجمع القادم، فلم يسع بعلزبول إلا أن يسير إلى جنبها، ولم يسع الرجماء إلا أن يتبعوهما.
وفي بضع دقائق لم يبق بين الجمع المتظاهر والجماعة المستقبلة إلا مسافة سمع الهتافات، فإذا جميع المتظاهرين يهتف: لتسقط الوزارة، لتسقط دولة الرجماء، لتحي الديموقراطية، لتحي الجمهورية، لتسقط الدكتاتورية.
Неизвестная страница
فغمغم بعلزبول قائلا: هذا ما اكتسبه شعبي من أشقياء الأرض الملاعين.
وصاحت فينوموس: ليحي الشعب، ليحي الاتحاد، لتحي راية الأمة الجهنمية، لتحي حكومة الشعب.
وكان الرجماء من ورائها يرددون هذه الهتافات.
وما أصبح المجال بين الفريقين على قاب قوسين حتى توقفت المظاهرة، ورفع قادة الجمع أكفهم يعنون إسكات الجمع وتهدئة ثائره؛ لكي يفهموا ماذا يهتف الرجماء.
عند ذلك تقدمت فينوموس إلى مقدمة المظاهرة وأمسكت بطرف العلم الأول، وقبلته قبلات عديدة وهي تصيح: «(ليخفق) علم الشعب متعاليا»، فردد الجمهور هتافها، وقابله قادة المتظاهرين بالهتاف: لتحي ذات الدهاء فينوموس، ليحي ذو الجبروت بعلزبول.
ثم زجت فينوموس نفسها بين القادة وهي تقول: الدولة تشكر للشعب مظاهرته الابتهاجية في حفلة النصر، وتمتن لما أبداه من العواطف نحو الوزارة التي بسطت اليوم تقارير أعمالها المجيدة في حرب الملكوت البشري.
فتصدى لها كبير القادة وقال: ليست هذه مظاهرة ابتهاج يا سيدتي الموقرة، بل هي مظاهرة شكوى وتذمر. - أتذمر من جهاد عظيم لم يسبق له نظير؟ أشكوى من نصر باهر لم نكن نحلم به؟ - بل هي شكوى من أماني موعودة لم تحقق، وتذمر من تبجح بنصر وهمي. لقد سئم الشعب الانتظار عدة أدهار على أمل الانتصار، وضجر من آمال كالآل (السراب)، ولم يعد يطيق صبرا على هذه الحال، بل يبتغي تقرير المآل. - حسن ما يبتغيه الشعب، فليتفضل بانتخاب لجنة عنه تشترك مع جماعة الرجماء في تقرير المصير، فالحكومة تستند إلى الشعب، والوزارة لا تستغني عن مشورة الأمة، هلموا أيها الزعماء الأبطال معنا إلى دار الدولة لكي نتشاور في الأمر، اجمع زملاءك واتبعونا وفدا من قبل الشعب.
وارتدت فينوموس إلى جماعة الرجماء وقالت: لقد سكنت العاصفة، ولم يبق إلا النسيم يهب بتؤدة، فلنعد إلى الدار حيث نتنسم نسيم أخبار هذه الثورة، ولكل مقام مقال.
فقال بعلزبول: لا عدمتك داهية يا حبيبة القلب، هل أنت واثقة من أن النسيم الباقي ليس ريح سموم؟ - لكل سم ترياق يا عزيزي، فتشجع. - سمعت الهتاف للجمهورية، فهل الدولة دائلة؟ - وماذا يضيرك أن تسمى الدولة جمهورية، وأن يسمى ملك الدولة رئيسا للجمهورية؟ فالدولة تبقى دولتك، ولا يتغير إلا الأسماء.
فسري عن بعلزبول وتنهد الصعداء.
Неизвестная страница