فأجاب باقتضاب أن لا. وقال خالد عزوز: الإباحية، الإباحية، هي العلاج لذلك كله.
وإذا بأنيس يقول: يا أوغاد! أنتم المسئولون عن تدهور الحضارة الرومانية!
وضحكوا في صخب، وقال له أحمد: أنت الليلة عصبي على غير عادتك. - المعسل زفت! - لكنه كثيرا ما يكون كذلك. - والقمر! تذكرني دورته بالمهزلة. - المهزلة؟ - مهزلة المهازل!
ودارت الجوزة بلا توقف. ولزموا الصمت ليستحضروا الأرواح الشاردة. ووشى المجلس بعدم التهم التاريخ والمستقبل. وقال لنفسه إنه الصفر. لا ناقص ولا زائد ولكنه الصفر. معجزة المعجزات. وانكشف المجهول تحت ضوء القمر. وترامى صوت عم عبده من الخارج وهو يرطن بكلام لم يميزه أحد. وضحك البعض، وقال آخر إن الوقت ينقضي بسرعة مذهلة. وتجلت وشوشة الموج وهو يرتطم بأسفل العوامة. أجل دورة القمر. والثور المغمى. ويوما قال لي شيخ: «إنك تحب الاعتداء، والله لا يحب المعتدين.» وكان الدم يسيل من أنفي، ولعل الشيخ قال ذلك للآخر، ولعل الدم سال من الآخر. كيف يمكن الثقة بشيء بعد ذلك؟ وعاد الصوت يقول: «انقضى الوقت بسرعة مذهلة.» وتنهد أحمد نصر قائلا: «آن الأوان.» هكذا نعى إلينا الجلسة. وتمطت حركة متكاسلة، ثم ذهب أحمد ومصطفى معا، وتبعهما خالد وليلى، أما علي وسنية فتسللا إلى الحجرة المطلة على الحديقة. وجاء عم عبده ليعيد المكان إلى أصله. شكا إليه رداءة المعسل، فقال الرجل إن كل ما في السوق رديء. وجاءت من الشرفة عطسة فذكر من توه سناء. زحف على أربع نحو الشرفة، ثم أسند ظهره إلى ضلفتها، ومد ساقيه إلى الداخل وهو يتمتم: «مساء الجمال.» انحسر عنهما ضوء القمر الذي أوغل فيما وراء العوامة ناحية الطريق، ساحبا وراءه فوق سطح الماء لآلئه. - أتظن أنه يعود؟ - من؟ - رجب. - ما أتعس المسئول إذا عجز عن الجواب! - قال إنه ربما جاء آخر السهرة. - ربما. - هل أضايقك؟ - معاذ الله. - أترى أنه يجب أن أنتظر؟
فضحك ضحكة خفيفة وقال: ينتظر قوم إمامهم منذ ألف سنة! - أتسخر مني مثلهم؟ - لم يسخر منك أحد، ولكن تلك طريقتهم في الكلام. - على أي حال فأنت ألطفهم جميعا. - أنا! - لا يخرج من فمك سوء. - ذلك أنني أخرس. - ويجمع بيننا شيء واحد. - ما هو؟ - الوحدة. - المسطول لا يعرف الوحدة. - لماذا لا تغازلني؟ - المسطول الحق يتمتع باكتفاء ذاتي! - ما رأيك في نزهة في قارب شراعي؟ - قدماي لا تكادان تحملانني.
وهي تتنهد: لم يبق إلا أن أذهب، ولا يوجد أحد ليوصلني إلى الميدان! - عم عبده يوصل من لا يجد أحدا ليوصله .
تردد في تيار النسيم بعض من أنفاس الليل الرطيبة، ومن وراء باب الحجرة المغلقة همهمت ضحكة. والسماء صافية تماما تزدهر بآلاف النجوم، ومن مكان يتوسطها تراءى وجه مطموس المعالم وهو يبتسم. وداخله شعور لم يجد مثله إلا وهو يسجل رقما قياسيا في الدورة الأوليمبية. ولما كان الوقت ينقضي بسرعة مذهلة فقد تجلت لعينيه المأساة على حقيقتها في ميدان المعركة؛ إذ يجلس قمبيز على المنصة ومن خلفه جيشه المنتصر، إلى يمينه قواده المظفرون، وإلى يساره فرعون يجلس جلسة المنكسر، والأسرى من جنود مصر يمرون أمام الغازي. وإذا بفرعون يجهش في البكاء، فيلتفت قمبيز نحوه سائلا عما يبكيه، فيشير إلى رجل يسير برأس منكس بين الأسرى ويقول: هذا الرجل! طالما شهدته وهو في أوج أبهته، فعز علي أن أراه وهو يرسف في الأغلال!
9
قد أعدت الجلسة بكل ما يلزمها، وها هو عم عبده يؤذن لصلاة المغرب، ولكن ثمة محنة حقيقية في الانتظار، انتظار سحر الفنجان المسحور. والانتظار شعور مؤرق ولا شفاء منه إلا ببلسم الخلود. وقبل ذلك فلا النيل يؤنسك، ولا أسراب الحمام الأبيض. وترى بعين قلقة تقوض المجلس كما ترى جميع النهايات. والقمر البازغ فوق أغصان الأكاسيا يؤكد هذه الوساوس ولا يلطفها. وما دام ذلك كذلك؛ فحتى فعل الخير يعقبه الندم. ويضيق الصدر بأي حكمة إلا حكمة تنعى جميع الحكم. فليذهب العذاب المتراجع أمام السحر إلى غير رجعة. وعندما نهاجر إلى القمر فسنكون أول مهاجرين يهاجرون هربا من لا شيء إلى لا شيء، فوا حسرتا على نسيج العنكبوت الذي غنى ذات مساء في قريتنا مع نقيق الضفادع! وقبيل القيلولة سمعت إلى نابليون وهو يتهم الإنجليز بقتله بالسم البطيء. ولكن ليس الإنجليز وحدهم الذين يقتلون بالسم البطيء. وراح يتمشى ما بين الشرفة والبارافان، وأضاء المصباح الأزرق، وفي أثناء ذلك شعر بأنامل الرحمة وهي تلاطف باطنه.
واهتزت العوامة وارتفعت الأصوات مؤذنة بالعمران.
Неизвестная страница